حول إحدى الساحات العامة في مدينتي و هي مدينة من مدن العالم العربي و الإسلامي تمتد منبسطات خضراء جميلة يلجأ إليها سكان المدينة صيفا هربا من الحرارة محولين إياها لمنتزه عام و خصوصا يوم الجمعة و عليه فان عملا شاقا دؤوبا ينتظر عمال البلدية صباح السبت و هم يقضون ساعات طويلة في تنظيف الأعشاب من القمامة - بقايا الأطعمة و العلب الفارغة و كل ما يخطر على البال - و كأن جنا و ليس إنسا مرت بالمكان ناقلة إليه كل فضلات بيوتها لرميها حول اللافتات الموزعة في المكان و الداعية للحفاظ على النظافة و المصممة بعبارات تستنهض الإحساس بالمسؤولية بطريقة الاستجداء و التعطف او بتأنيب ضمائر الناس للحفاظ على نظافة هذه المنبسطات الخضراء و لما لم يجدي كل ذلك نفعا كان ان فرزت البلدية عددا من عمال النظافة للمرور يوم الجمعة على الناس المفترشين للعشب و توزيع أكياس القمامة عليهم و الطلب إليهم جمع قمامتهم بها و تركها في المكان ليتولى أمرها بعد ذلك عمال البلدية و لكن النتيجة كانت ان احتفظ الناس بأكياس القمامة الموزعة عليهم لاستخدامها على ما يبدو في أمور أخرى و تركوا قمامتهم و فضلاتهم بين الأعشاب و مضوا , فهل يجب فرز شرطي لكل مواطن لمخالفته عند رميه الأوساخ ,و ما أكثر التفسيرات التي تتناول هذا السلوك العجيب و بعضهم يفسر ذلك بالعلاقة غير السوية بين هذه الشعوب و حكوماتها مما يولد سلوك عدائي و لا مبالي تجاه الممتلكات العامة و لكنهم لا يفسرون لماذا تتحول حدائق البيوت الأرضية التي تطل عليها شرفات الجيران إلى مجمع للقمامة إذا أهملت يوما واحدا , و كذلك الشوارع و مداخل الأبنية الذين ليسوا ملكا للحكومة إنما هم ملك مشترك لكل الساكنين , ان هذا السلوك يتعلق بكل ما لا يملكه الفرد ملكية شخصية يضمنها سند تمليك و كل ما عدا ذلك هو عرضة لهذا السلوك المشين الذي يحمل معنى محدد مفاده نحن ندخل الأماكن النظيفة لنستمتع بها ثم نرمي بها قذارتنا و نتركها ليأتي غيرنا لينظف قذارتنا نحن.
إنَّ هذا المجتمع الذي يمارس هذا السلوك هو المجتمع الذي يدَّعي الوطنية و القومية عند كل حدث خارجي و يعبر عنه بتحدي الآخر و تحقيره و هذه مشاعر عصبية و نزق جاهلي و لا علاقة لها بالشعور القومي لأنها تتعلق بالوطن كرمز مجرد مفرغ من أي معنى محسوس او معاش أو حياتي فالوطن رمز يتم التغني به و تمجيده و لا يُحس إلا في تحدي الآخر عند الشعور بتفوقه , و لكن أليس الشارع و الحديقة العامة و بيت الجيران من الوطن حتى نرمي قذارتنا عليهم ؟
لقد عاشت الكثير من الشعوب الحديثة في فترة من تاريخها مرحلة البداوة و الترحال كالشعوب الآرية قبل تحركها إلى مراكز الحضارات حيث المستقرات الزراعية في منتصف الألف الثالث قبل الميلاد و الشعوب السامية قبل تحركهم في نفس الفترة الزمنية و المغول قبل تحركهم في العصور الميلادية و التتار في القرن الحادي عشر كما عاشت تلك المرحلة القبائل العربية قبل تحركها باتجاه المراكز الحضارية و المستقرات الزراعية في القرن الثامن الميلادي ,و لقد تميزت كل تلك الثقافات الرعوية قبل استقرارها بالأرض و تعايشها مع الشعوب الزراعية تميزت ثقافاتها بسمات متشابهة تطغى عليها عناصر الذكورة و تغيب فيها عنا صر الأنوثة ,لان الاستقرار بالمكان و تكوين علاقة معه هو سمة أنثوية و قد ظهرت واضحة في ثقافات المستقرات الزراعية الأولى في تاريخ البشرية مع شعوب ما يسمى رواد البحر المتوسط و هذا المكان - الأرض في الثقافة الزراعية هي مصدر الحياة لاعتمادها على الزراعة المستقرة و لهذا كانت العناية بالمكان هي عناية بالحياة بينما في ثقافة الترحال البدوية الذكورية لا قيمة للمكان إلا قبل استنفاذ خيراته قبل الرعي و يصبح لا شيء بعد استهلاكه ,و شعوب عديدة عبر التاريخ انتقلت من الحياة البدوية إلى الحياة الزراعية و تفاعلت ثقافاتها مع ثقافة الشعوب الزراعية و أخذت منها و بالتالي تطورت ثقافتها مع تغير أسلوب معيشتها و مع الأسف ان شعوبنا العربية الإسلامية و رغم استقرارها في الأرض منذ ألف عام إلا انَّ ثقافتها لم تتطور بالتوازي مع تطور أساليب معيشتها بالانتقال لحياة الاستقرار ِلعلَّة في هذه الثقافة تمنع تطورها , فما تزال مفاهيمها الاجتماعية تنهل من ارث بدوي ذكوري على كل الأصعدة من العلاقة مع المكان إلى المرأة و إلى كل المفاهيم التربوية التملكية و العلاقات العائلية و تحيا بازدواجية ما بين الواقع المُعاش المحسوس و الثقافة المصابة بالجمود على كل المستويات بدءا من اللغة و حتى العلاقات العائلية و مفهوم الحب و العلاقة مع الخالق , و تصير القومية رمز يتم استحضاره فقط لمعاداة الآخر و يصير الوطن رمز مقطوع عن أي واقع محسوس و يعادى كل وطن سواه رغم استمرار رجال هذا الوطن بالتبول على شوارعه .
ان كل محاولات نشر الوعي البيئي لن تجدي نفعا ما لم تقترن بالعمل على تطوير هذه الثقافة و نقلها من ثقافة استغلال المكان البدوية إلى ثقافة الاستقرار بالمكان و هذا يرتبط بتغيير كل المفاهيم الاجتماعية السائدة .