أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - يحيى محمد - القراءة الوجودية للنص والفهم السائب















المزيد.....



القراءة الوجودية للنص والفهم السائب


يحيى محمد

الحوار المتمدن-العدد: 3128 - 2010 / 9 / 18 - 02:17
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


هناك خطان مختلفان حول الموقف من العلاقة بين النص الديني والقبلية الوجودية، الاول منهما يمتاز بالاتساق، وهو ما يمثل خط الفلاسفة الذين رأوا ان النص الديني لا يرقى الى البرهان واليقين، ومن ثم حكموا عليه بالتبعية للقبلية الوجودية، وذلك لاجل التوفيق بين المسلكين عبر الممارسة التأويلية. وهذا هو المقصود من المصالحة بين الظاهر والباطن، حيث اللجوء الى هذا الاخير لتأويل الاول. أما الخط الاخر فانه على خلاف سابقه يمتاز بعدم الاتساق، حيث هناك مفارقة بين الممارسات التطبيقية وبين ما يُعلن من المبدأ النظري العام. فهذا هو خط العرفاء ومن تأثر بهم من الاشراقيين. فمن حيث الموقف النظري لهذا الخط نجد انه يعترف بقبول ظاهر النص كمرجعية معرفية لا تقر التأويل، بل ويقدمه على غيره من المرجعيات بما فيها تلك التي تستند الى الاعتبارات الكشفية والعقلية. لكن من حيث الممارسات التطبيقية فان هذا الخط لا يلتزم عادة بالمبدأ النظري المزعوم. والاسوء من ذلك انه يمعن بالمباطنة الرمزية لادنى مناسبة، مثل تلك التي لجأت اليها الاسماعيلية، خاصة عند اولئك الذين امتازوا بموسوعة الديانة الوجودية وعلى رأسهم الشيخ ابن عربي.
نعم، ان من العرفاء من لا يقر بمرجعية النص صراحة، بل ويرى ان من الواجب ترجيح الحالة الكشفية عليه، كالذي يعلنه محمد بن عبد الجبار النفري (المتوفي سنة 354هـ)، اذ يؤكد بأن ‹‹الشريعة لم تُجعل الا للمحجوبين››‮، وان ‹‹فراسة العارف الباطنة تحدد له اي مظاهر الدين اليق به››‮. وما يراه النفري هو ان الدين يصور الحقائق على انها متعددة في الخارج، في حين ان المعرفة العرفانية تكشف عن وحدة الحقيقة . لكن مع هذا فان عدداً غير قليل من العرفاء البارزين لا يقرون هذا المبدأ الذي يؤكد عليه النفري، وان كان اغلبهم ينساق اليه عملياً.
فمن حيث الاعلان المبدئي للعرفاء، انهم يقرون بالتمسك بحبل النص وهجر كل ما يتعارض معه، سواء كان فكراً او كشفاً. ومن ذلك ما قاله الجنيد (المتوفي سنة 297هـ): إن علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة . وان ‹‹علمنا مشّيد بحديث رسول الله (ص››‮). وان: ‹‹كل الطرق مسدودة على الخلق الا من اقتفى اثر رسول الله واتبع سنته ولزم طريقته، فان طرق الخيرات كلها مفتوحة عليه››‮. وقال اخر: كل فتح لا يشهد له الكتاب والسنة فليس بشيء . كما قال النوري: ‹‹من رأيته يدعي مع الله حالة تخرجه عن حد العلم الشرعي فلا تقربنّ منه››‮. وقال ابو حمزة الخراساني: ‹‹لا دليل على الطريق الى الله الا بمتابعة الرسول (ص) في احواله واقواله وافعاله››‮ . وقال ابو الحسين الوراق الملامتي (المتوفي سنة 320هـ): ‹‹لا يصل العبد الى الله الا بالله وبموافقة حبيبه (ص) في شرائعه››‮. والصدق عنده هو ‹‹استقامة الطريقة في الدين واتباع السنة في الشرع››‮ . وقال القشيري: ‹‹الشريعة امر بالتزام العبودية، والحقيقة مشاهدة الربوبية، وكل شريعة غير مؤيدة بالحقيقة فامرها غير مقبول، وكل حقيقة غير مقيدة بالشريعة فامرها غير محصول. والشريعة جاءت بتكليف من الخالق، والحقيقة انباء عن تصريف الحق، فالشريعة ان تعبده، والحقيقة ان تشهده. والشريعة قيام بما امر، والحقيقة شهود لما قضى وقدر، واخفى واظهر››‮ . وقال ابو الحسن الشاذلي (المتوفي سنة 656هـ): كل علم يسبق اليك فيه الخواطر وتميل اليه النفس وتلذ به الطبيعة فارمِ به وإن كان حقاً، وخذ بعلم الله الذي انزله على رسوله واقتدِ به وبالخلفاء والصحابة والتابعين من بعده وبالائمة الهداة المبرئين عن الهوى، وبمتابعته تسلم من الشكوك والظنون والاوهام والدعاوي الكاذبة المضلة عن الهوى.. واذا عارض كشفك الكتاب والسنة فتمسك بالكتاب والسنة ودع الكشف، وقل لنفسك ان الله تعالى قد ضمن لي العصمة في الكتاب والسنة ولم يضمنها لي في الكشف والالهام والمشاهدة››‮ . وقال عبد القادر الجيلاني (المتوفي سنة 561هـ): ارجع الى حكم الشرع والزمه، ودع عنك الهوى، لأن كل حقيقة لا تشهد لها الشريعة فهي باطلة او زندقة . وقال ابن عربي: ‹‹طريقنا طريق السلف، جعلنا الله لهم خلفاً بمنّه››‮ . وقال: ‹‹لا وصول الى حقيقة الا بعد تحصيل الطريقة، ولا طريق لنا الى الله الا ما شرعه، فمن قال بأن ثم طريقاً الى الله خلاف ما شرع فقوله زور، فلا يقتدى بشيخ لا ادب له وإن كان صادقاً في حاله››‮ . وقال: ‹‹كل علم من طريق الكشف والالقاء او اللقاء والكناية بحقيقة تخالف شريعة متواترة لا يعول عليه››‮. وقال: ‹‹كل علم حقيقة لا حكم للشريعة فيها بالرد فهو صحيح، والا فلا يعول عليه››‮ . وقال: ‹‹تخيل من لا يعرف؛ ان الشريعة تخالف الحقيقة وهيهات لما تخيلوه، بل الحقيقة عين الشريعة، فان الشريعة جسم وروح، فجسمها علم الاحكام وروحها الحقيقة، فما ثم الا شرع››‮ . وقال: إن ورد على احد من اهل الكشف امر الهي يحل له ما ثبت تحريمه في الشرع المحمدي؛ وجب عليه جزماً ترك هذا الامر او الوارد لانه تلبيس، ووجب عليه الرجوع الى حكم الشرع الثابت. وقد ثبت عند اهل الكشف جميعاً انه لا تحليل ولا تحريم لاحد بعد انقطاع الرسالة والنبوة . وان الاولياء والعرفاء الوارثين لا يحدثون شريعة ولا ينسخون حكماً. او على حد تعبير ابن عربي: ‹‹ان الوارث لا يحدث شريعة ولا ينسخ حكماً مقرراً، لكن يبين فانه على بينة من ربه وبصيرة في علمه››‮.
تلك كانت جملة من نصوص العرفاء التي تستنكر التأويل ولا ترضى بتعطيل النص الديني واهماله، بل وترفض ترجيح بعض الدلالات عليه، مثل الدلالة الكشفية. لكن كما قلنا ان هذا المبدأ الذي يعلنه العرفاء لا يجد اتساقاً مع الكثير من الممارسات التطبيقية، فهم لا يقومون بتأويل النصوص الدينية فحسب، بل يضيفون اليه ما هو اسوء من ذلك، حيث الممارسة الاستبطانية التي تحول النصوص الى رموز كاشفة لامور اخرى لا يدل عليها ظاهر هذه النصوص. كل ذلك ليتيح للعارف ان يقول كل شيء يريده من النص بلا حدود.
ولقد كان ابن عربي شديد اللهجة بالانكار على المتأولين - خاصة العقليين - رغم ان ممارساته تدل على كونه يمارس التأويل، بل ويعمل على شاكلة ما تفعله الباطنية من قلب الظاهر وتحوير مجال النص لأدنى مناسبة، مثلما سيتضح لنا ذلك فيما بعد. فقد ابدى هذا العارف موقفاً صارماً اتجاه التأويل العقلي للايات، خاصة فيما يتعلق بالتشبيه، حيث وصم هذا الاسلوب بانه عبارة عن انكار للنبوة ورد مبطن لها. ذلك ان علة اضطرار العقليين اليه هو منعهم الطعن في الادلة العقلية المعارضة؛ وذلك لحاجتهم الى مثل هذه الادلة في اثبات الرسالة. وقد توخى ابن عربي ابقاء النصوص الدينية، وعلى رأسها الايات القرانية، على حالها من دون تأويل. كما عمل على الاخذ بما وصف الله نفسه من دون ان يُطلق على ذاته تعالى الصفات الاجنبية، مثلما فعل الفلاسفة واهل الكلام، حيث اولئك وصفوه بعلة الكائنات، وهؤلاء وصفوه بالذات التي لا يمكن ان تكون جسماً او عرضاً او جوهراً . بل قد عجب ابن عربي من طائفة المؤولين بحسب النظر العقلي كيف انهم هربوا من التشبيه فوقعوا بالتشبيه، ذلك انهم عدلوا من التشبيه بأنفسهم الى التشبيه بالمعاني المحدثة القائمة في هذه الانفس . لهذا فانه يخاطب هؤلاء بضمير المخاطب المفرد قائلاً: انتَ ‹‹تركتَ التشبيه بالمخلوق المركب واثبته بالمخلوق المعقول، وانى للممكن ان يجتمع مع الواجب بالذات في حكم ابداً››‮ . وعليه نهى عما يقوم به هؤلاء، والتزم لنفسه طريق الكشف في معرفة مراد النص، حيث يقول: ‹‹اترك تأويل الاخبار الواردة بالتشبيه لمن وصف بها نفسه اذا لم تكن من اهل الكشف والتحقيق››‮ . وعلى رأيه ان الله قد وصف نفسه بما لا مزيد عليه، وأقرّ بأن الفرقة الناجية هي تلك التي آمنت بما جاء به الوحي مع نفي المماثلة بين العبد والرب، فنسبت الى الله العين واليد والسمع والبصر والغضب والتردد والتعجب و ما الى ذلك من اوصاف، حيث لاسماء الله حقائق ورقائق، وانه بامتداد هذه الرقائق المعنوية المنزهة يظهر في الناس سلطانها . وهو يرى ان للحق سرياناً بالوجود في الصور الطبيعية والعنصرية بحيث لا تبقى صورة الا ويرى الحق عينها، وهذه هي المعرفة التامة الكاملة التي جاءت بها الشرائع السماوية، والتي تبرر التشبيه مثلما يصدق التنزيه بها ايضا.
لكن رغم ان ابن عربي كان شديد الانكار على المتأولين للنصوص الدينية؛ الا انه يتقبل احياناً الممارسة التأويلية ويقرها ضمناً؛ دفاعاً عن الكشف المعارض لبعض ظواهر النصوص القرآنية . ناهيك عن ان هذا العارف كان يمارس الواناً عديدة من القراءات الرمزية التي لا تبقي للظاهر من دور ولا معنى الا بالقدر الذي تريده له الباطنية، كالذي سنطلع عليه.
وقد سلك صدر المتألهين سبيلاً مشابهاً لموقف ابن عربي، فذم التأويلات العقلية واقر ابقاء ظواهر النصوص الدينية على حالها، وذكر يقول ‹‹ان الدين والديانة ابقاء الظواهر على حالها، وان لا يأول شيئاً من الاعيان نطق به القرآن والحديث الا بصورتها وهيئتها التي جاءت من عند الله ورسوله، فان كان الانسان ممن خصه الله بكشف الحقايق والمعاني والاسرار واشارات التنزيل ورموز التأويل، فاذا كوشف بمعنى خاص او اشارة وتحقيق، قرر ذلك المعنى من غير ان يبطل ظاهره فحواه، ويناقض باطنه مبناه، وتخالف صورته معناه، لان ذلك من شرائط المكاشفة وهذه من علامات الزيغ والاحتجاب››‮.
وفي صدد رده على الصوفية والباطنية اعتبر التأويل حراماً فقال: ‹‹واما كونه حراماً في الشرع، فلأن الالفاظ اذا صرفت عن مقتضى ظواهرها بغير اعتصام فيه بنقل عن صاحب الشرع، ومن غير ضرورة تدعو اليه من دليل العقل، اقتضى ذلك بطلان الثقة بالالفاظ. كيف ولو جاز صرف الالفاظ الفرعية من مفهوماتها الاولى مطلقاً من غير داع عقلي لسقطت منفعة كلام الله وكلام رسوله (ص). فان ما يسبق منه الى الفهم لا يوثق به››‮ . وفي محل اخر اقرّ بانه اذا لم يكن هناك داع شرعي او عقلي فلا يجوز تأويل ظاهر الايات، كما هو الحال في قضية المعاد . بل اكثر من هذا اعتبر ان من تأول من غير داع فهو إما ان يكون كافراً او مبتدعاً.
وحقيقة انه ليس هناك من الفلاسفة من هو اعظم اهتماماً من صدر المتألهين في محاولاته التوفيقية بين العينتين الوجودية والدينية. ومبرره في هذا الجمع هو ان كلا العينتين عنده تمثل الحقيقة، والحقيقة لا تعارض الحقيقة الاخرى، وبالتالي فان ما يأتي عن طريق العقل البرهاني او الكشف الذوقي لا يمكنه ان يعارض ما يأتي عن طريق البيان الديني. فكلاهما يبعثان على القطع واليقين، وكلاهما ينبعان من مصدر واحد هو العقل الاول او الحقيقة المحمدية، وبالتالي فانهما ينبعان من المبدأ الحق. لكن رغم ان صدر المتألهين لا يفتأ عن التذكير بمثل هذه المبررات التي تجعل المصدرين المعرفيين يبعثان على تطابق الحقيقة ووحدتها، الا ان ما قدمه في محاولاته التوفيقية لا يخلو من التلفيق والمفارقة احياناً، والتأويل والمباطنة احياناً اخرى.
ومن ذلك موقفه من المعاد الجسماني، حيث اعطاه شكلاً صورياً عينياً، فكأنه بهذا وافق العينة الدينية في كون المعاد عين الموجود في الدنيا، كما وافق القبلية الوجودية في احتفاظه بالشكل الصوري مع نفيه للعنصر المادي. فهذا الاتجاه لصدر المتألهين قد احتل وضعاً وسطاً بين ما أملته عليه نزعته الوجودية القبلية وما اظهرته النصوص الدينية من بيان في بعض المواقف. فهو قد خالف جمهور الفلاسفة واتباع المشائين في نفيهم المعاد الجسماني ونكرانهم لظواهر الايات، كما خالف الاشراقيين القائلين بعالم المثل الخارجية، وصرح بوجود بدن اخروي هو بعينه المشخص في الدنيا وبجميع اجزائه واعضائه، متماشياً بذلك مع ظواهر الايات، لا بمثله على ما آل اليه الاشراقيون. ومع ذلك لم يكن البدن الذي تحدث عنه هذا العارف الحكيم بدناً عنصرياً كالذي ذهب اليه الغزالي في بعض كتبه، بل انه بدن صوري مثالي يتصف بالثبات والفعلية والبقاء وليس فيه الاستعدادات والمواد والحركات، مثلما اطلعنا على ذلك من قبل. اذن رغم ان صدر المتألهين توسط فعلاً بين الرؤية الوجودية الموروثة وبين ما عليه النصوص الدينية، وانه بهذا قد اقترب من مضمون هذه النصوص، لكنه لم يصب كبد الظاهر الذي تبديه، وهو الظاهر الدال على ان المبعوث من الابدان هو الشكل العنصري الطبيعي، كالذي ذهب اليه جمهور المسلمين، كعلماء السلف واهل الحديث والكلاميين، وليس في الايات القرآنية ما يشير الى المعنى الصوري الذي تحدث عنه ذلك الحكيم تبعاً لمنطق السنخية والقبلية الوجودية التي توجب رجوع كل شيء الى اصله.
كذلك الحال مع مسألة حدوث العالم ككل، اذ خالف الفلاسفة بحدود قدم الافلاك والانواع الكلية للحوادث، مؤيداً النص الديني في حدوثها جميعاً، ومن ذلك قوله تعالى:{خلق السماوات والارض وما بينهما} السجدة/ 4، وايضاً قوله تعالى: {خلق السماوات والارض وما بينهما في ستة ايام} الفرقان/59. لكنه رغم قوله بالحدوث فانه لم يأذن باعطاء بداية محددة للخلق والابداع، وأصر على ازلية الصنع والحدوث، وكذلك اثبات افلاك سماوية اخرى ازلية. اذ عدّ للسماوات والارض نوعين، احدهما حسي والاخر عقلي، واعتبر النوع الاول حادثاً ومفتقراً الى الزمان، وهو الذي دلّت عليه العديد من النصوص والايات، بخلاف الثاني الذي حسبه قديماً يفتقر اليه كل من النوع الاول والزمان والحركة . اي انه لاجل التوفيق بين العينتين الدينية والوجودية صرح بوجود سمائين وارضين، احداهما عقلية قديمة وهي السابقة على الزمان، فوافق بها الفلاسفة، واخرى حسية مبدعة ومتأخرة عنه، وهي محل اتفاقه مع النص، وخلافه مع من تقدمه من جمهور الفلاسفة.
وهو مع هذا التحوير للرؤية الوجودية التي ورثها ممن سبقه من الفلاسفة، فانه لم يخرج عن روح التفكير الوجودي واصله المولد، حيث ان ما قدمه هو ايضاً مما يناسب منهج القبلية الوجودية في تناسق طبقات الوجود وتشاكلها تبعاً لمنطق السنخية، كما انه يتفق مع ما عليه نظرية المشاكلة التي تم وضعها لاجل فهم النص. لكن رغم ذلك ترد بعض الاستفهامات حول موقفه الجديد هذا، فهو في تفسيره لسورة الحديد وفي بعض كتبه قام بتحديد المدة الزمنية لخلق السماوات والارض وفقاً لنص الاية {خلق السماوات والارض وما بينهما في ستة ايام}، اذ اعتبر ان خلقهما هو خلق تدريجي الوجود، لا يختلفان في ذلك عن بقية الاجسام الطبيعية، وقد استغرقت العملية مدة ستة الاف سنة، اذ بدأت منذ زمن خلقة آدم الى زمن البعثة النبوية ونزول القرآن، وحيث ان {يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدّون} الحج/47، فان عدد السنين التي استغرقه خلقهما وما فيهما هو ستة الاف سنة . والاستفهام الذي يرد بهذا الصدد هو: ما طبيعة الوجود قبل تلك المدة الزمنية؟ فما يتسق مع منهج التوليد الوجودي هو اثبات ان تكون هناك دورات ازلية وابدية غير منتهية من خلق السماوات والارضين، وكذا بالنسبة للادميين والبعثات النبوية المحمدية، اذ ان انقطاع هذه الدورات لا يتسق مع ثبات اربابها من العقول المفارقة، وبالتالي كان لا بد من التواصل والاستمرار ابد الدهر من غير تغيير. كذلك يلاحظ ان هذا العارف الحكيم ذكر في تفسيره لتلك السورة مكاشفة تحدد المقصود من خلق السماوات والارض، وهو بمعنى حجب الحق، اي ان الحق اختفى بهما واظهرهما وبطن، فكان ظهورهما بالاسماء، وذلك اتباعاً لما جاء ذكره في التفسير المنسوب لابن عربي ، لكن دون ان ينافي ما اكد عليه من الخلق التدريجي لهما، حيث طالت مدته ستة الاف سنة حتى البعثة النبوية، وانه بقي من الامر الف سنة لينكشف الحجاب وتقع الواقعة . وهذان الموقفان ليسا متعارضين عنده، حيث فيهما الاقرار بالخلق التدريجي، وكذلك القول بالاحتجاب. الامر الذي لا يتناقض مع ما اعترض عليه - في محل اخر - حول ما جاء في التفسير المنسوب لابن عربي من تأويل اية {خلق السماوات والارض وما بينهما}، اذ ورد فيه ان الخلق بمعنى الاحتجاب، لذا فقد اعترض عليه صدر المتألهين بقوله: ‹‹وانت خبير بأن خروج الالفاظ القرآنية عن معانيها المتعارفة المشهورة توجب تحير الناظرين فيها، والقرآن نازل لهداية العباد وتعليمهم وتسهيل الامر عليهم مهما امكن، لا للتعقيد والاشكال، فيجب ان تكون اللغات محمولة على معانيها الوضعية المشهورة بين الناس، لئلا يوجب عليهم الالتباس››‮ .
مع هذا فقد أورد صدر المتألهين بعض التصريحات التي لا تتفق مع منهجه الوجودي، مثل اقراره بان الله كان قادراً على خلق السماوات والارض في لحظة واحدة، ولم تكن المدة الزمنية التي خلقها الا لكونها اصلح واليق بحال الكائنات، وكذا انسب بنظام المخلوقات . وكذا تصريحه بان لله القدرة والارادة من ان يفني السماوات والارض متى شاء وفي اي وقت اراد . بل تصل المفارقة معه انه أدان غيره من العرفاء في اتباعهم ذات المسلك الذي سلكه، حيث انتقد الممارسة الاستبطانية ووصفها بانها تفضي الى هدم الدين او الشريعة، وكما قال: ان ‹‹الباطن لا ضبط له، بل تتعارض فيه الخواطر، ويمكن تنزيله على وجوه شتى وانحاء تترى. وهذا ايضاً من المفاسد العظيمة الضرر والبدع الشايعة عند المتسمين بالصوفية. وبهذا الطريق توسلت الباطنية الى هدم جميع الشريعة بتأويل ظواهرها وتنزيلها على رأيهم››‮ . مع ان ممارسات هذا العارف الفيلسوف يكثر فيها مثل ذلك الدور الطليق، حيث تحولت عنده عملية الجمع والتوفيق بين ظاهر النص وباطنه الى فنون عديدة من المباطنة التي هي اخطر من التأويلات العقلية الشائعة. وكما سنرى ان قاعدة الاعتبار المعمول بها والتي تأسست عليها نظرية المشاكلة؛ قد تحولت الى ذريعة للمباطنة الرمزية السليبة الضوابط. فما من لفظة تشير الى جانب حسي الا ويمكن حملها على ما يناسب الاعتقاد الصوفي من القضايا العقلية والمصادرات الغيبية، ولكن على تأويل بعيد لا يتفق مع السياق. وقد امتد ذراع التأويل والاستبطان حتى الى الحروف ومطلق الكلمات من دون تقييد.
وبذلك فان صدر المتألهين لم يفِ بالمبدأ الذي تعهد به في التفسير. بل رغم انه كان ينكر التأويل، وانه قد نقد احد العارفين الكبار في بعض المواقف لكونه لم يلتزم الاخذ بظاهر الالفاظ في النصوص القرآنية، الا انه رغم ذلك اضطر في بعض المناسبات الى الاعتراف بضرورة ممارسة هذا النهج، وذلك عندما استشكلت امامه بعض القضايا الدينية. فقد اضطر الى تأويل معنى كلمة (العذاب) في قوله تعالى: {لا يخفف عنهم العذاب} البقرة/162، معتبراً انها تفيد معنى (النار)، وذلك اعتماداً على رأيه في انقطاع العذاب، قبل ان يعود مرة اخرى الى القول بالعذاب المؤبد الدائم في رسالته (العرشية)، مخالفاً ما كان عليه في كتبه الفلسفية الاخرى ، مثلما سبق لابن عربي ان حوّل كلمة (العذاب) في الاية الى معنى (العذوبة) . ورغم ان صدر المتألهين قد ادرك خطورة هذا العمل، وانه يعود به الى ذلك الاتجاه التقليدي الذي عد ظاهر الشرع ليس بحجة، لكنه مع هذا اعتذر بما رجحه من ‹‹كشف صريح وبرهان صحيح››‮، وذكر يبرر داعي هذا التأويل بنفيه ان يكون هناك نص قاطع الدلالة، وكما قال: ‹‹أما النص: فما من لفظ الا ويمكن حمله على معنى اخر ما هو الموضوع له باحد الدلالات، وان كان الاصل والمعتبر هو المعنى المطابقي، لكن الكلام هنا ليس في الاصل والترجيح، كما في الفروعات الظنية التي يكفي للعمل بها مجرد الاصل والرجحان، بل في اليقينيات التي لا ينجح فيها الا العلم بالبرهان والشهود بالعيان››‮ . وقال ايضاً: ‹‹ان (العذاب) كما قد يراد منه المعنى المصدري - اي التعذب - كذا يراد منه اسم ما يتعذب به كالنار مثلاً، وهذا غير مستلزم لذاك، فالنصوص الواردة في الخلود في العذاب لو كانت مثل قوله تعالى: {لا يخفف عنهم العذاب} يمكن ان يأول فيها (العذاب) بالمعنى الاسمي لا المصدري، وان كان الثاني اظهر بحسب اللفظ››‮.
وعلى هذه الشاكلة اضطر احياناً الى حمل النص على المجاز شبيهاً بذلك المبدأ الذي اتخذه اصحاب نظرية التمثيل من الفلاسفة التقليديين. فمثلاً انه لم يتقبل ظاهر النصوص التي تتحدث عن خطيئة آدم وعلة اخراجه من الجنة، وذلك لمعارضتها لمفاهيم القبلية الوجودية. فقد انكر ان يكون ادم قد عصى ربه، كما وانكر ان تكون النفس قد اخطأت، حيث لا يوجد في ذلك العالم - وهو عالم العقل المقدس - سنوح لخطيئة واقتراف معصية، بل المقصود هو ان هناك جهة امكان النفس وحصولها عن مبدئها ونقصها الموجب لتعلقها بالبدن. وبالتالي فقد اعتبر ان ما ورد في نصوص القرآن والحديث بخصوص ادم انما هو من التجوزات والرموز، وذلك مداراة لضعفاء العقول . مع ان هذا الكلام لصدر المتألهين يناقض ما سبق ان ادان الفلاسفة التقليديين عليه، حيث اعتبر طريقتهم في حمل النص على المجاز وانه لا حجة له وانما جاء لمداراة عوام الناس، كل ذلك يفضي برأيه الى ان يكون الدين جاء لايهام الناس، مما قد يؤدي الى اضلال الصالحين والدفع بهم الى النار والعذاب، نتيجة الجهل بالحقيقة.
***
ولو عدنا الى طريقة العرفاء في التعامل مع النص الديني، فالملاحظ انه حتى لو سلمنا معهم بما يقولونه من انهم لا ينكرون ظاهر النص، فمع ذلك انهم من حيث الممارسة الفعلية قد شددوا على استنباط ما يريدونه منه من الابعاد الباطنية التي لا يحدها حد، وقد وظفوا لتبرير هذا العمل العديد من الروايات والاحاديث التي تؤكد تلك الابعاد. ومن ذلك ما يروى عن النبي من ان لكل اية ظاهراً وباطناً ومطلعاً الى سبعة ابطن او سبعين. ويروى عن الائمة ان للقرآن بطناً وللبطن بطناً، وظهراً وللظهر ظهراً. وكذا في القرآن ظاهر وباطن وحد ومطلع، فالظاهر هو التلاوة، والباطن هو الفهم، والحد هو الاحكام، والمطلع هو مراد الله من العبد. كما يروى عن الامام الصادق انه قال: ‹‹كتاب الله على اربعة اشياء: العبارة والاشارة واللطائف والحقائق. فالعبارة للعوام، والاشارة للخواص، واللطائف للاولياء، والحقائق للانبياء››‮ . وكذا يروى عن الصادق ايضاً: ‹‹إنا نتكلم في الكلمة الواحدة سبعة اوجه، فقال البعض متفكراً: سبعة يا ابن رسول الله؟ فقال: نعم.. وسبعين››‮ .
فبمثل هذه النصوص فتح العرفاء لانفسهم المجال لايجاد كل ما يمكن من المعاني التي يريدونها لادنى مناسبة، ومن ذلك ما قاله ابن عربي وهو يصف علمه الموهوب: ‹‹وأنا استمد علمي من كلمات الله التي لا تنفد {قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل ان تنفد كلمات ربي} الكهف/109، {ولو ان ما في الارض من شجرة اقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله} لقمان/27››‮ . ومثله ما قاله حيدر الاملي: ‹‹والله ثم والله لو صارت اطباق السماوات أوراقاً، واشجار الارضين اقلاماً، والبحور السبعة مع المحيط مداداً، والجن والانس والملك كتّاباً، لا يمكنهم شرح عشر من عشير ما شاهدتُ من المعارف الالهية والحقائق الربانية الموصوفة في الحديث القدسي: (اعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر)، والمذكورة في القرآن: {فلا تعلم نفس ما اخفي لهم قرة اعين جزاء بما كانوا يعملون} السجدة/17››‮ . وعلى هذه الشاكلة قال البعض: ‹‹لكل اية ستون الف فهم، وما بقى من فهمها اكثر››‮. وقال اخر: ‹‹القرآن يحوي سبعة وسبعين الف علم ومائتي علم، اذ كل كلمة علم، ثم يتضاعف ذلك اربعة اضعاف، اذ لكل كلمة ظاهر وباطن وحد ومطلع››‮ . ويحكي الشعراني عن استاذه علي الخواص انه قال عن نفسه: انه يستطيع ان يستخرج من سورة الفاتحة وحدها ما لا يقل عن (240999) علم .
ومن الناحية المبدئية قد يقال ان علم العرفاء إما ان يكون مأخوذاً عبر الكشوف الذوقية التي يتحدثون عنها، او انه مأخوذ من النص، لكن النص في حد ذاته لا يفضي الى مثل هذه الكثرة التي يتحدث عنها العرفاء، ولا الى الاختلاف الحاصل في تحصيل المعاني الباطنية فيما بينهم. واذا قلنا ان معارفهم الدينية موقوفة على علومهم الكشفية، فكيف يدّعى انهم مقيدون بحدود ما عليه الوحي والنص؟ بل وكيف يسوغ لهم ادعاء ترجيح النص على الكشف، رغم ان الاول متوقف على الاخر؟
وواقع الحال ان العرفاء يصبغون المعرفة الدينية بالقبلية الوجودية، او انهم يجعلون تلك المعرفة تابعة ومحددة طبقاً لما عليه منهج التوليد الوجودي. فالكشف المدعى هو كشف وجودي موروث، سواء من حيث الياته واصوله المولدة، او من حيث مضامينه المفصلة في كثير من الاحيان. ومنه يمكن ان نتفهم تلك الممارسات المتنوعة من المباطنة والتأويل لادنى مناسبة، ومنها المباطنات التي تتوخى اشتقاق الفكرة الباطنية من مفردات اللفظ حتى لو كان ذلك معارضاً لسياق النص ومجاله.

مبدأ الاعتبار والتشعبات الاستبطانية
لمبدأ الاعتبار اهمية خاصة في تنويع انماط الممارسة الاستبطانية مع النص. ويدخل ضمن هذا الاطار ما سبق بحثه في نظرية المشاكلة، حيث ان مبررها من حيث القبلية الوجودية هو منطق السنخية، ومبررها من حيث الاطار النظري في التعامل مع النص هو مبدأ الاعتبار. فما هو هذا المبدأ؟
المقصود بمبدأ الاعتبار هو ذلك المنهج الداعي الى العبور من ظاهر النص الى باطنه لقرينة مناسبة دالة على هذا الامر او منبهة عليه، فهو لا يلغي الظاهر، كما انه لا يتوقف عنده. وسمي بالاعتبار تبعاً لقوله تعالى: {فاعتبروا يا اولي الابصار} الحشر/ 2، او قوله: {ان في ذلك لعبرة لاولي الابصار} آل عمران/13. ومن الناحية التاريخية يبدو ان الغزالي هو اول من قدم لهذا المبدأ قوة تنظيرية، وذلك ليبرر من خلاله بعض الممارسات الاستبطانية في التعامل مع النص، بما في ذلك تبريره لنظرية المشاكلات الوجودية كالتي عرضناها سابقاً. أما قبل الغزالي فقد كان التعامل مع النص يتكئ على هذه الظاهرة عملياً، وذلك من حيث الانتقال من النظير الى النظير، او من الشيء الى شبيهه او الى ما يناسبه، كالقياس التمثيلي والقياس بالاولى. فمثلاً سئل الشبلي (المتوفي سنة 334هـ) عن قوله تعالى: {قل للمؤمنين يغضوا من ابصارهم} النور/30، فقال: ‹‹ابصار الرؤوس عن محارم الله تعالى وابصار القلوب عما سوى الله تعالى››‮. كما قال الشاه كرماني بصدد الاية القرآنية {الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين واذا مرضت فهو يشفين} الشعراء 78ـ80: ‹‹الذي خلقني فهو يهديني اليه لا الى غيره، وهو الذي يطعمني الرضا ويسقيني المحبة، واذا مرضت بمشاهدة نفسي فهو يشفيني››‮ . كما جاء في تفسير ابن حيون الاسماعيلي لقوله تعالى: {وثيابك فطهر} المدثر/ 4، ان الظاهر من النص هو تطهير وتنظيف هذه الثياب مما يعلق بها من اوساخ وقاذورات، والباطن هو تطهير النفس من الذنوب التي كنى عنها بالثياب.
لكن قد نتساءل: هل كانت مثل تلك الممارسات الانتقالية قبل الغزالي تشكل ظاهرة تفسيرية للنص لدى العرفاء - من غير الاسماعيلية - ام انها مجرد استنتاجات ذاتية تدخل في مدار الكشوف والاسترسالات الوجدانية؟
فقد جاء ان بعض العرفاء كان يقول ان المراد في قوله تعالى: {يا ايها الذين امنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار} التوبة/123؛ هو النفس، اي اننا امرنا بأن نقاتل النفس باعتبارها اقرب شيء الينا. وذكر ابن الصلاح الشهرزوري (المتوفي سنة 643هـ) في فتاويه: وجدت عن الامام ابي الحسن الواحدي ان ابا عبد الرحمن السلمي صنف كتاب (حقائق التفسير) وقال: ان اعتقد السلمي ان ذلك تفسير فقد كفر. ثم اردف ابن الصلاح قائلاً: الظن بمن يوثق به من الصوفية انه اذا قال شيئاً من امثال ذلك انه لم يذكره تفسيراً، ولا ذهب به مذهب الشرح للكلمة في القرآن العظيم، فانه لو كان كذلك كانوا قد سلكوا مسلك الباطنية، وانما ذلك منهم ذكر لنظير ما ورد به القرآن، فان النظير يذكر بالنظير، فمن ذلك مثال النفس في الاية المذكورة، فكأنه قال: أُمرنا بقتال النفس ومن يلينا من الكفار، ومع ذلك فياليتهم لم يتساهلوا في مثل ذلك، لما فيه من الابهام والالتباس .
وقد يكون عنوان كتاب السلمي الانف الذكر له دلالة على ان ما اراده هو التفسير الباطني كالذي يدعو اليه الغزالي ومن جاراه من العرفاء. فالغزالي لا ينكر ضرورة الاعتماد على هذا المنهج في التفسير، خلافاً للحشوية الذين يتوقفون على الظاهر فحسب، وكذا الباطنية الذين ينكرون حقيقة الظاهر. ومبدأ الاعتبار عنده هو الجمع بين الامرين معاً. فمثلاً انه بصدد تفسير قول النبي (ص): ‹‹لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب››‮، ذكر يقول: ‹‹القلب بيت هو منزل الملائكة ومهبط اثرهم ومحل استقرارهم. والصفات الرديئة مثل الغضب والشهوة والحقد والحسد والكبر والعجب واخواتها كلاب نابحة فأنى تدخله الملائكة، وهو مشحون بالكلاب، ونور العلم لا يقذفه الله تعالى في القلب الا بواسطة الملائكة.. ولست اقول المراد بلفظ البيت هو القلب وبالكلب هو الغضب والصفات المذمومة، ولكني اقول هو تنبيه عليه وفرق بين تعبير الظواهر الى البواطن وبين التنبيه للبواطن من ذكر الظواهر مع تقرير الظواهر. ففارق الباطنية بهذه الدقيقة، فان هذه طريق الاعتبار وهو مسلك العلماء والابرار، اذ معنى الاعتبار ان يعبر ما ذكر الى غيره فلا يقتصر عليه››‮ . وعلى شاكلة هذا النموذج ما ذكره الغزالي بالنسبة الى قوله تعالى في حق موسى: {اخلع نعليك} طه/12، فقد رفض ابو حامد إبطال الظواهر كالذي عليه الباطنية، كما رفض إبطال الاسرار الباطنية كالذي تذهب اليه الحشوية، واعتبر ان من يجمع بين الظاهر والباطن هو الكامل ذو العينين، حيث يكون المعنى هو بحسب الظاهر عبارة عن خلع النعلين الذين يشكلان ملبس القدمين للانسان، وبحسب الباطن عبارة عن طرح الكونين او العالمين. وبالتالي فان المثال في الظاهر حق، وأداؤه الى السر الباطن حقيقة، ولكل حق حقيقة، فهذا هو الاعتبار او العبور من الظاهر الى السر الباطن، او من الشيء الى غيره.
ويشابه هذا النهج طريقة الفلسفة اليهودية الهلنستية، فكما يعبر الفيلسوف اليهودي فيلون الاسكندراني (المتوفي سنة 40م) عن هذه الطريقة بقوله: ‹‹هي في الوقت الذي تذهب فيه الى جعل المأثورات الجافة سائغة مقبولة عن طريق الرمزية والتأويل؛ تتمسك مع ذلك بالحقائق والاوامر على ظواهرها››‮.
ورغم ان العرفاء يعدون الباطن اهم من الظاهر فانهم مع هذا لا يبطلون الاخير، خاصة وان ذلك يفضي الى اسقاط الاحكام الشرعية، كالذي ينقله الغزالي من ان البعض قد يترك الصلاة ويزعم انه دائم الصلاة بسره.
مع هذا يمكن القول ان التفرقة بين العرفاء والباطنية تبعاً للاخذ بمنطق الظاهر وعدمه، حيث ان العرفاء يعولون على الظاهر والباطن معاً بخلاف ما تتهم عليه الباطنية من انها تعول على الباطن فحسب.. هذه التفرقة التي ذكرها الغزالي واصبحت رائجة لدى غيره من العرفاء هي تفرقة غير صحيحة. ذلك لان العديد من المحسوبين على الباطنية يتقبلون الظاهر ويضيفون اليه الباطن كالذي يصنعه العرفاء قدماً بقدم. فهناك جماعة من الاسماعيلية تعترف صراحة بضرورة الاستناد الى كل من الظاهر والباطن، حيث كلاهما حق عندها ، بل واقرت عدم جواز مخالفة الظاهر بالباطن ، وعولت على ايات ضرب الامثال لتبرير معتقداتها الباطنية، ومن ذلك قوله تعالى: {ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون} الزمر/27، اذ اعتقدت ان الله جعل للناس مثلاً دالاً على ممثوله فعرفوا الممثول بمثله . ومن ذلك ما قاله ناصر الدين خسرو، وهو من اسماعيلية القرن الخامس الهجري: ‹‹تفسير النص بالظاهر هو بدن العقيدة، بيد ان التفسير الاعمق يحل منه محل الروح، واين يحيا بدن بلا روح››‮ . وقال ايضاً: ‹‹الشريعة هي المظهر الخارجي للحقيقة، والحقيقة هي الوجه الداخلي للشريعة.. انها الرمز (او المثال)، والحقيقة هي المرموز اليه (الممثول). والمظهر الخارجي في تقلب مستمر مع حقب وادوار العالم، واما الوجه الباطن فطاقة الهية غير خاضعة للصيرورة››‮ .
اذن، من الناحية المبدئية، ان هولاء لا ينكرون ظاهر النص ولا يعولون على الباطن فحسب، بل يعترفون بأن للنص ظاهراً وباطناً، وانه لا يجوز عندهم مخالفة الظاهر للباطن، حيث كلاهما حق، وإن اختلف المطلب، اذ الظاهر وإن كان حقيقة، الا ان حقيقته لا تنبعث من حيث ذاته بدلالة كونه مثالاً يشير الى تلك الحقيقة التي هي اعمق منه، وهي الباطن. مع هذا فهم من حيث التطبيق ليسوا - في الكثير من الاحيان - من اصحاب الظاهر ولا من اصحاب نظرية المثال والمشاكلة، فتفسيراتهم باطنية من نوع آخر لا تختلف في جوهرها عن تلك التي تعود الى العرفاء الذين هم ايضاً يعولون على كل من الظاهر والباطن تبعاً لمنطق مبدأ الاعتبار.
ورغم ان مبدأ الاعتبار قد شكل الغطاء الشرعي لما قام به الغزالي من الممارسة الاستبطانية، الا انه لم يذهب به في التطبيق ذلك المدى الذي ذهب اليه كل من جاء بعده من العرفاء. ولعل ابن عربي هو اول من بسط تطبيقات هذا المبدأ المأخوذ عن الغزالي، فقد جعله غطاءً لتشكيل موسوعة دينية لا يعرف لها اول ولا اخر، ولا قيد ولا ضبط. لذلك انه علّق على اية الاعتبار {فاعتبروا يا اولي الابصار} الحشر/ 2؛ معتبراً انها تعني: ‹‹جوّزوا مما رأيتموه من الصور بأبصاركم الى ما تعطيه تلك الصور من المعاني والارواح في بواطنكم فتدركونها ببصائركم ››‮. وهو الباب الذي اغفله العلماء، لا سيما من وصفهم بأهل الجمود على الظاهر. واكد بان المبرر في ذلك هو ان الله ‹‹قد ربط بكل صورة حسية روحاً معنوياً، بتوجه الهي عن حكم اسم رباني››‮ الامر الذي برر له اعتبار خطاب الشارع في الباطن على حكم ما هو في الظاهر قدماً بقدم، فالظاهر في الخطاب هو صورته الحسية، اما الباطن فهو الروح الالهي المعنوي لتلك الصورة الحسية، والانتقال من الظاهر الى الباطن، او من الصورة الحسية الى الروح المعنوي هو ما يطلق عليه الاعتبار.
وهذا هو لب نظرية المشاكلة التي تعترف بوجود المطابقة بين الكتابين التدويني والوجودي، فالتدويني يعبر تعبيراً مطابقاً لما هو عليه الوجود الخارجي. والعبور الذي يتحدث عنه العرفاء هو مجاوزة الظاهر الى الباطن عبر الاشتراك بينهما في روح المعنى، اي ان للمعنى ظاهراً وباطناً، وإن كان في حد ذاته عبارة عن امر واحد متفاوت القيمة والدرجة. فمثلاً ان التطهير واحد للثياب من حيث الظاهر وللنفس بحسب الباطن، وكذا الاطعام بالطعام وبالرضا، والسقاية بالشراب والمحبة، ومحاربة الكفر، سواء كانت المحاربة للعدو الخارجي، او للنفس ذاتها باعتبارها الامارة بالسوء... الخ. مما يعني ان هناك خيط صلة بين نظرية المشاكلة التي استخدمها العرفاء في التفسير، وبين منهج الاعتبار.
مع هذا لا يمكن ان نعد كل ما اعتمده العرفاء في مبدأ الاعتبار هو مما يتفق ونظرية المشاكلة، بل ظهرت انماط مختلفة من الممارسات الاستبطانية في التعامل مع النص، كتلك التي نجدها لدى ابن عربي، والذي وضع مبرره في ذلك بما دعا اليه من جواز كون العارف يفهم من النص ما يريده المريد، وحيث المريد لا يريد غير القبلية الوجودية، لذا فان فهم النص يكون تابعاً ومنقاداً الى هذه القبلية بغض النظر إن كان هناك مناسبة وقرينة كافية دالة على المطلوب ام لا. فهو يذكر في (الفتوحات المكية) كيف ان الله ينزل كلامه ‹‹على قلوب اولياء الله تلاوة فينظر الولي ما تلي عليه مثل ما ينظر النبي فيما انزل عليه، فيعلم ما اريد به في تلك التلاوة كما يعلم النبي ما انزل عليه، فيحكم بحسب ما يقتضيه الامر››‮ . وهو يرى ان من ينزل على قلبه القرآن فانه يفهم ما ينزل وان كان بغير لسانه ولغته فيعرف معاني ما يقرأ، رغم ان هذه الالفاظ لا يعرف معانيها في غير القرآن باعتبارها ليست بلغته. وبالتالي فان كل موجود يمكنه ان يجد فيه ما يريد. وهو يستشهد بقول الشيخ ابي مدين: ‹‹لا يكون المريد مريداً حتى يجد في القرآن كل ما يريد، وكل كلام لا يكون له هذا العموم فليس بقرآن››‮ . وبالتالي يقرر بان نزول القرآن على القلب، وهو صفة الهية لا تفارق موصوفها، يعني نزول الحق في القلب، وفي الحديث ان الحق وسعه قلب عبد مؤمن، وبذا ان الحق يكلم هذا العبد من سره في سره، وهو قولهم حدثني قلبي عن ربي من غير واسطة .
ولا شك ان هذا الذي ذكره ابن عربي يبرر فتح باب الرمزية والاستبطان على مصراعيه، كما هو حاصل سواء بالنسبة الى تعامل هذا العارف مع النص، او الى تعامل غيره معه، حيث كل مريد يريد من النص كل ما يبتغيه من التعبير عن القبلية الوجودية. وبذا يصبح القرآن كتاباً وجودياً حاكياً لما عليه الوجود، وذلك تبعاً لمبدأ الاعتبار، وهو الاداة الموظفة لتطبيق الرؤية الوجودية واسقاطها على النصوص الدينية بدعوى العبور من الظاهر الى الباطن. لكن يظل كل عارف يعبر عما يصل اليه خياله من استرسال يتعلق بالوجود، وهو بهذا الاسترسال لا يضمن الاتفاق والمطابقة مع غيره من العرفاء، رغم ان المفاهيم التي يدلون بها هي مفاهيم متقاربة باعتبارها محكومة بنفس المنطق من القبلية الوجودية.
وتجدر الاشارة الى ان البعض يطلق على هذه العملية من الاعتبار او اسقاط الرؤية الوجودية على فهم النص بالتطبيق، كما هو الحال مع ما جاء في التفسير المنسوب الى ابن عربي، حيث يرى المعاني الباطنية الوجودية لفهم النصوص إن هي الا تطبيقات الرؤية الوجودية منزلة على هذا الفهم. ومع ان لفظة التطبيق كانت تستخدم قبل العرفاء لدى الكيسانية الا انها لم تأخذ هذا المعنى، وانما كانت مقيدة باجراء التماثل وسحب الرؤية المستمدة من الوجود الخارجي واسقاطها على الانفس البشرية، وذلك تبعاً لمنطق السنخية والمشاكلة بين العالمين، لكن النص الذي ورد عن الكيسانية بهذا الخصوص يحمل تشابهاً مع ما يريد فعله العرفاء من اسقاط الرؤية الوجودية وتطبيقها على مختلف المجالات ومنها مجال النص والتنزيل. فقد نُقل ان محمد بن الحنفية افضى الى ابنه ابي هاشم واطلعه على مناهج تطبيق الافاق على الانفس، وتقدير التنزيل على التأويل، وتصوير الظاهر على الباطن، حتى قال الحنفية بأن لكل ظاهر باطناً، ولكل شخص روحاً، ولكل تنزيل تأويلاً، ولكل مثال في هذا العالم حقيقة في ذلك العالم، والمنتشر في الافاق من الحكم والاسرار مجتمع في الشخص الانساني . ولا شك ان هذا التصوير المجمل جاء على شاكلة المزاعم المفصلة لكل من الفلاسفة والعرفاء والباطنية الاسماعيلية.
الخلاصة
نستخلص مما سبق الامور التالية:
* رغم اقرار العرفاء بمرجعية النص، الا ان ممارساتهم قد غلب عليها طابع التأويل والاستبطان. ورغم ان عباراتهم تدين كل تأويل وفكرة تخالف النص، الا ان فهمهم للنصوص قائم على اسقاط القبلية الوجودية، ومن ثم العمل بالتأويل والاستبطان. وبعضهم واقع في تردد من حيث انه تارة ينكر التأويل وتارة اخرى يعترف به.
* ان لمبدأ الاعتبار اهمية خاصة في تبرير العمليات الاستبطانية التي يتم فيها اسقاط الرؤية الوجودية على فهم النص. فالاعتبار هو العبور من الظاهر الى الباطن لمناسبة ما، لذلك يمكن توظيف اي مناسبة لفظية لاجل اسقاط الرؤية الوجودية وجعلها تمثل باطن ما يظهره النص. وكما عرفنا انه قد تحول هذا المبدأ الى ما يطلق عليه التطبيق، اي تطبيق الرؤية الوجودية على فهم النص، ومنه يتضح حجم موسوعة الديانة الوجودية.
* لا شك ان ما يبرر التطبيق لدى العرفاء هو حالة المطابقة بين العوالم تبعاً لمنطق السنخية، ومن ذلك ان عالم النص مطابق لما عليه عالم الوجود، وبالتالي كان من المبرر له على هذا الضوء ان يجري انتزاع العلاقات والمفاهيم عن العالم الاخير وتطبيقها على الاول.
* رغم محاولات بعض الوجوديين المخلصة لاجل التوفيق بين النص والقبلية الوجودية، الا ان الحاصل من ذلك كان تلفيقاً اكثر من كونه توفيقاً، كالذي تشهد عليه محاولات صدر المتألهين.



#يحيى_محمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العقل والإجتهاد
- فهم النص ومعايير التحقيق (5)
- فهم النص ومعايير التحقيق (4)
- فهم النص ومعايير التحقيق (3)
- فهم النص ومعايير التحقيق (2)
- فهم النص ومعايير التحقيق (1)
- نظرية الاحتمال ووجهة النظر الجديدة (5)
- نظرية الاحتمال ووجهة النظر الجديدة (4)
- نظرية الاحتمال ووجهة النظر الجديدة (3)
- نظرية الاحتمال ووجهة النظر الجديدة (2)
- نظرية الاحتمال ووجهة النظر الجديدة (1)
- موقف الفلاسفة التقليديين من فهم النص
- نظرية المقاصد ونقدها
- موقف الخطاب الديني من غير المسلمين
- عقل: عربي أم إسلامي؟
- الخطاب الديني والتفكير الوقائعي
- التراث المعياري وصراع الأصول المولّدة
- الاصول المولدة في علم الكلام
- كيف نقرأ التراث؟
- أربعة مواقف للفلاسفة والعرفاء من النص الديني


المزيد.....




- العراق.. المقاومة الإسلامية تستهدف هدفاً حيوياً في حيفا
- المقاومة الإسلامية في العراق تعلن ضرب -هدف حيوي- في حيفا (في ...
- لقطات توثق لحظة اغتيال أحد قادة -الجماعة الإسلامية- في لبنان ...
- عاجل | المقاومة الإسلامية في العراق: استهدفنا بالطيران المسي ...
- إسرائيل تغتال قياديًا في الجماعة الإسلامية وحزب الله ينشر صو ...
- الجماعة الإسلامية في لبنان تزف شهيدين في البقاع
- شاهد: الأقلية المسلمة تنتقد ازدواج معايير الشرطة الأسترالية ...
- أكسيوس: واشنطن تعلق العقوبات على كتيبة -نيتسح يهودا-
- آلام المسيح: كيف حافظ أقباط مصر لقرون على عادات وطقوس أقدس أ ...
- -الجماعة الإسلامية- في لبنان تنعي قياديين في صفوفها قتلا بغا ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - يحيى محمد - القراءة الوجودية للنص والفهم السائب