أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - يحيى محمد - موقف الخطاب الديني من غير المسلمين















المزيد.....



موقف الخطاب الديني من غير المسلمين


يحيى محمد

الحوار المتمدن-العدد: 3101 - 2010 / 8 / 21 - 21:29
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


نرى انه لا غنى عن المعالجة المنهجية في الكشف عن طبيعة تعامل الخطاب الديني لقضايا الواقع، ومنه التعامل الخاص مع المشركين وأهل الكتاب.
فمن الناحية المنهجية هناك مسلكان مفترضان للتعامل، أحدهما نطلق عليه المسلك الماهوي، والآخر المسلك الوقائعي. ونقصد بالأول أن يكون التعامل مع قضايا الواقع تعاملاً كلياً ثابتاً عبر جزئيات النص الديني دون مراعات للتغيرات الحاصلة في الوقائع الخارجية، أي أنه تعامل اسقاطي أحادي التأثير. وعلى خلافه المسلك الآخر الذي يأخذ بعين الإعتبار مسألة التغيرات الحاصلة في الواقع، مع اعتبارات المقاصد الكلية للتشريع، وهو على ذلك ثلاثي أو رباعي التأثير، حيث يتمثل التأثير بكل من النص والمقاصد والواقع فضلاً عن الاعتبارات الوجدانية.
والسؤال المطروح: هل تعامل الخطاب – كما يتمثل بالقرآن الكريم - مع قضايا الواقع ومنها قضايا الشرك والكفر من منطق المسلك الماهوي الذي يكون فيه النص هو الحاكم والمؤثر بإطلاق، أم أنه تعامل معها وفقاً لتغايرات الواقع وتحولاته؟
وبعبارة أخرى، لقد دعا الخطاب القرآني إلى محاربة المشركين وقتالهم، كما دعا أهل الكتاب إلى الإلتزام بدفع الجزية وفرض (الصغار) عليهم، فهل أن هذه الأحكام صدرت طبقاً للعناوين العامة الكلية كالشرك والكفر، بحيث كلّما وُجِد الشرك والكفر طُبّق عليهما مثل تلك الأحكام، أم أنها صدرت بالنظر الى ملابسات الواقع المشكّل من مثل تلك الصفات مع غيرها من الصفات الأخرى لم يُعلن عنها صراحة؟
لعلنا نجد هنا مسلكاً للخطاب هو غير ذلك المسلك الذي تبّنته طريقة الإجتهاد التقليدية. فقد عوّلت هذه الأخيرة على النهج الماهوي في اتخاذها النص كمؤثر يكاد يكون وحيداً في التعامل مع مجريات الواقع ومنه واقع المشركين وأهل الكتاب. في حين تعامل الخطاب الديني مع هذه المجريات تعاملاً قائماً على النهج الوقائعي وليس الماهيات.
فهناك فارق جذري بين طريقة الإجتهاد التقليدية وبين تلك التي سلكها الخطاب الديني. إذ تعامل الأخير مع المشخصات الخارجية طبقاً للوقائع. في حين حولت الطريقة التقليدية هذا التعامل مما هو وقائعي إلى شكل ماهوي ثابت؛ استناداً إلى الظهور الإطلاقي الذي اعتمده الخطاب. الأمر الذي ساقت بإتجاهه مقولتها التي تنص بالعبرة في عموم اللفظ لا في خصوص السبب. وهي تظن أنها بذلك تتبع نفس النهج الذي عليه الخطاب، وهو النهج الماهوي في تحويل جزئيات النص الى كليات قابلة للتطبيق والاسقاط على مختلف الظروف والأحوال.
مع أنه ليس لدى الطريقة التقليدية من مؤشر يؤيد مسعاها في الكشف عن حقيقة تعامل الخطاب سوى الظهور الإطلاقي. أما النهج الوقائعي فيحضى بنوعين من المؤشرات المؤيدة والكاشفة عن فحوى تعامل الخطاب، أحدهما وجود التعارض بين الإطلاقات الحكمية في النص، وهو ما لا يتفق مع التعامل الماهوي، لكونه يفضي إلى التناقض، إذ كيف يمكن أن تكون الماهية الواحدة عرضة لحكمين متضادين؟! لذلك لا مجال لإفناء هذا التعارض إلا بتحويل الإطلاقات الحكمية إلى موارد نسبية تبعاً للعلاقة مع الواقع، وهو مبدأ ما يستند إليه النهج الوقائعي.
أما النوع الآخر من المؤشرات فهو أن الخطاب قد تعامل مع الواقع بالملامسة والتفاعل وليس الاستعلاء والتجريد. فهو لم يُنزّل إسقاطياً، بل تنزّل سياقياً بمراعاته لظروف الواقع وملابساته. الأمر الذي يتسق مع التعامل الوقائعي دون الماهوي.
وعلى العموم ندرك أن الخطاب لا يميل إلى التعامل الماهوي إلا ضمن دائرة الكليات العامة من الثوابت والمقاصد، وهي التي تتخذ صفة توجيه الأحكام بما يناسب الوقائع دون التأثر بها.
على ذلك فالمهمة التي سنقوم بها هي تعرية منهج الطريقة التقليدية وإبطال نهجها الماهوي كما خلعته على الخطاب الديني طبقاً للإطلاقات التي أبداها الأخير. إذ سنعرض ثلاثة نماذج تفي بصيغة الظهور الإطلاقي، لكنها تحمل عدداً من الإشكاليات التي لم تستطع الطريقة التقليدية علاجها.
فالظهور الإطلاقي في أول هذه النماذج يستبطن التعارض، وهو ما جعل الطريقة التقليدية تضطرب في معالجته إضطراباً شديداً وفقاً للنهج الماهوي، الأمر الذي كشف عن ضعفها وقوة ما يقابلها من النهج الوقائعي.
أما النموذج الثاني فسنكرسه للكشف عما أصاب تلك الطريقة من تناقض ومصادمة لمقاصد التشريع، تبعاً لممارستها النهج الماهوي. كما سنكشف من جانب آخر عن حالات الخرق التي حدثت للظهور الإطلاقي وعدم الإلتزام به حتى من قبل المشرع الإسلامي ذاته، مما يؤكد الطبيعة المرنة للخطاب في إنفتاحه على الواقع وما يبديه الأخير من تأثير على فاعلية الأول.
في حين سنعالج في النموذج الثالث مسألة غير فقهية، وهي تتعلق بالتوصيفات والأحكام الغيبية التي تلوح بعض المشخصات الخارجية. وسنرى أنها تستبطن تعارض الإطلاقات أيضاً؛ مما يستعصي حلّه على النهج الماهوي.
وجميع ما سنستعرضه من نماذج مستمد من فهمنا لموقف الخطاب الديني من غير المسلمين (المشركين وأهل الكتاب)، وذلك بحسب الفقرات التالية:

النموذج الأول
تبدي آية السلم التي تتحدث عن الصلح مع المشركين ((وإن جنحوا للسلم فاجنح لها..)) ؛ إطلاقاً لقبول السلم عند ميل المشركين إليه. لكن نجد في قبالها آية أخرى تأمر بقتل المشركين من غير شرط، وهي المسماة بآية السيف، حيث يقول تعالى في سورة التوبة: ((فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد..)) . فهذه الآية تتحدث بنفس المعيار من الإطلاق، لكنها تعارض إطلاق الأولى. وقد فتح هذا التعارض على الطريقة التقليدية باباً من الإضطراب والتشويش تبعاً لتبنيها النهج الماهوي. إذ وقف المفسرون القدماء موقفاً يشوبه الإختلاف الشديد للتوفيق بين النصين دون مراعاة لظرفية كل منهما غالباً، كما يتضح من الآراء المضطربة التالية:
1ـ قال بعضهم إن آية السيف نسخت آية السلم، ومنهم إبن عباس ومجاهد وزيد بن أسلم وعطاء الخراساني وعكرمة والحسن وقتادة والربيع والجبائي. وقال عنها الضحاك بن مزاحم: أنها نسخت كل عهد بين النبي وبين أحد من المشركين وكل عقد وكل مدة. ونقل العوفي عن إبن عباس قوله: فيها لم يبق لأحد من المشركين عهد ولا ذمة منذ نزلت سورة براءة (التوبة). كما ونقل علي بن أبي طلحة عن إبن عباس قوله أيضاً: أمره الله أن يضع السيف فيمن عاهد إن لم يدخلوا في الإسلام ونقض ما كان سمي لهم من العهد والميثاق .
2ـ جاء عن طائفة من المفسرين ما أفزع بعض المفكرين المعاصرين المهتمين ببحث التراث ، وهو أن آية السيف قد نسخت مائة وأربعاً وعشرين آية من الآيات التي تأمر بالإعراض عن المشركين والصفح عنهم، كما هو المنقول عن أبي بكر بن العربي ، وما نقله إبن الجوزي عن بعض ناقلي التفسير ، بل ذكر إبن حزم بأن آية السيف نسخت مائة وأربع عشرة آية موزعة في ثمان وأربعين سورة ، خاصة وأن هناك روايات معتبرة ترى أن سورة التوبة هي آخر سورة نزلت من القرآن.
3ـ هناك من يرى أن آية السلم ليست منسوخة بآية السيف، فلكل مجالها، إذ الأولى في الموادعة لأهل الكتاب خاصة، بينما خصّت الثانية عبدة الأوثان. ومن الذين نُقل عنهم قولهم أنها غير منسوخة عمر بن عبد العزيز، كما نُقل عن إبن عباس ومجاهد مثل ذلك؛ خلافاً لما سبق نقله عنهما قبل قليل .
ويميل الشيخ الطوسي في تفسيره إلى عدم النسخ، وذلك بإعتبار أن آية السيف نزلت في سنة تسع، وبعث بها رسول الله (ص) إلى مكة ثم صالح أهل نجران بعد ذلك على ألفي حلة: ألف في صفر وألف في رجب. وهو بهذا يفرّق بين أهل الكتاب من الكفار وبين المشركين منهم، ففي كتاب (النهاية) صرح بأنه لا يجوز أن يقبل من الكفار إلا الإسلام أو القتل، لكنه استثنى من ذلك أهل الكتاب ومن على حكمهم كالمجوس، استناداً إلى ما روي عن النبي أنه قال: سنوا بهم سنة أهل الكتاب . ومع هذا فإنه لا يرى في آية السلم ما يدل على أن الكفار إذا مالوا إلى الهدنة وجب إجابتهم إليها مطلقاً، لإختلاف الأحوال، فتارة تقتضي الإجابة، وأخرى لا تقتضيها، كما إذا وتروا المسلمين بأمر يقتضي الغلظة مع حصول العدة والقوة .
وهناك جماعة أشكلوا على القائلين بالنسخ، ومنهم الزركشي وإبن كثير الذي يرى أن تلك الآية دالة على الأمر بقتال المشركين إذا أمكن ذلك، أما لو كان العدو كثيراً فإن من الجائز مهادنتهم طبقاً لآية السلم، وكما فعل النبي يوم الحديبية، فلا منافاة ولا نسخ ولا تخصيص .
4ـ يرى البعض أنه يقصد بآية السيف تخصيصاً كل من حارب أو كان مستعداً للحرابة والإذاية، وكأنها تقول: اقتلوا المشركين الذين يحاربونكم، كما هو رأي أبي بكر بن العربي ، رغم ما نُقل عنه خلاف ذلك كما عرفنا.
5ـ كما هناك من يرى أن آية السيف ذاتها قد نُسخت بآية ((فإما منّاً بعد وإما فداءً حتى تضع الحرب أوزارها)) ، وهو القول المنسوب إلى الضحاك والسدي، أي على عكس ما يقوله قتادة وغيره بأن هذه الآية منسوخة من قبل الأولى.
6ـ يضاف إلى تلك الخلافات القائمة بصدد إعتبار آية السلم؛ إن كانت تخص أهل الكتاب أم تعم المشركين، وإن كانت قد نُسخت بآية السيف أم لم تنسخ، وإن كانت الأخيرة بدورها نُسخت أم لا.. فهناك خلاف آخر يتعلق بحدود المشركين الواجب قتلهم، فهل كل مشرك واجب قتله باستثناء ما نصّ عليه النبي كأهل الكتاب ومن على شاكلتهم كالمجوس، أو أن المشركين الواجب قتلهم لا يتعدون دائرة العرب فحسب؟ فهناك خلاف بين أئمة المذاهب الفقهية الذين ينقسمون إلى من يجوّز معاملتهم كمعاملة أهل الذمة، والى من يمنع ذلك ويحرمه.
***
هكذا يتضح مدى الإضطراب في مواقف الطريقة التقليدية بحكم نهجها الماهوي. مع أن وجود تعارض إطلاقي، هو في حد ذاته، كاشف عن المسار النسبي للأحكام المتخذة في هذا الشأن، وذلك بضرب الإطلاقات بعضها بالبعض الآخر. فآية السلم تعكس حالة الإنشداد إلى ظرف بصيغة المطلق، وكذا الحال في ما يعارضها من آية السيف، وأن الذي يتحكم في هذين المطلقين المتعارضين هو حد ‹‹المفصلية››، ففيه يتبدل جدل المطلقين إلى لون من النسبية. وعليه جاءت الآيات الكريمة التي تلت آية السيف كاشفة عن ذلك الحد لما تبينه من الظرف والعلة في القتل، وهي قوله تبارك وتعالى: ((كيف يكون للمشركين عهد عند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين. كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلّاً ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون. اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً فصدوا عن سبيله إنهم ساء ما كانوا يعملون. لا يرقبون في مؤمن إلّاً ولا ذمة وأولئك هم المعتدون)) .
مهما يكن فإذا فُهم أن بعض الآيات السابقة قد أبطل حكم ما قبلها إبطال المطلق للمطلق؛ سنقع في تعارض مطبق مع نفس المبادئ الثابتة التي حملها الإسلام؛ بذات الدلالات التي تتخلل نفس الآيات التي تقع معها موقع المعارضة بشكل مباشر أو غير مباشر، والتي منها العدل وعدم الإعتداء أو القتال من غير ضرورة، وكذا عدم الإكراه في الدين، وغير ذلك من المؤشرات التي تؤكدها الآيات القرآنية كموازين تدخل في صميم المثل والمبادئ التي حملها الإسلام، كأمثال قوله تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار)) .. ((وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إنّ الله لا يحب المعتدين. واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم، والفتنة أشد من القتل، ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه، فإنْ قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين. فإنْ انتهوا فإنّ الله غفور رحيم. وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله، فإنْ انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين. الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص، فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين)) .. ((وقل الحق من ربك فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)) .. ((ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً، أفأنت تُكره الناس حتى يكونوا مؤمنين)) .. ((لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي)) ... الخ.
فالذي يرى جميع تلك الآيات منسوخة بآية السيف، يصطدم مع ما فيها من دلالات ثبوتية تلوح هدف الشريعة وما تقوم عليه من مبدأ، وهي دلالات تفوق حد الحكم ذاته. فالمقصد على خلاف الحكم ليس قابلاً للنسخ، إذ تتكشف به علة الحكم ومبرر وجوده، وبالتالي فإن الحكم مقيد بهذه العلة وجوداً وعدماً. وهو أمر ينطبق على ما نحن بصدده من آية السيف، حيث تمتلك الدلالة الواضحة لعلة الحكم، وعليه لا بد من تخصيص الحكم فيها بموارد العلة رغم عموم اللفظ. وبعبارة الأصوليين أن العلة يمكن أن تخصص مورد المعلول وإن كان عاماً بحسب اللفظ، كما في قول القائل: ‹‹لا تأكل الرمان لأنه حامض››، فيخصصه بالأفراد الحامضة .
هكذا فبقدر ما تتصف به الأحكام من نسبية وإنشداد بالواقع الخاص وظروفه، بقدر ما يعكس هذا الأمر من وجود مقاصد مطلقة ثابتة تعمل على تغيير تلك الأحكام وتوجيهها بالشكل الذي لا يتناقض معها.

النموذج الثاني
لقد كشف لنا النموذج السابق عن عدم تماسك النهج الماهوي في مواقفه من النصوص المتعارضة والتوفيق بينها. أما النموذج الثاني الذي سنقدمه فسيكون خلواً من مثل الإضطراب وعدم التماسك السابق. فما سنطرحه يشهد انسجاماً من حيث المبدأ، وإن اختلفت الأنظار واضطربت في تفاصيل فهمه، لكن دون الإخلال بالإتفاق العام حول أصل الموضوع. مع هذا فسنعرف أن الطرح الماهوي لهذا النموذج متناقض ومتصادم مع مقاصد التشريع وقيمه العامة. ومن الأمثلة عليه ما يتعلق بمسألة فرض الجزية والصغار على أهل الكتاب، وذلك كالتالي:
تعتبر آية الجزية من أواخر الآيات التي نزلت بشأن أهل الكتاب، وقد ذُكر بأنها نزلت حين أمر النبي (ص) أصحابه بغزوة تبوك مع الروم ، إذ يقول تعالى: ((قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أُوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون)) . ولا ريب أن نص الآية يفيد وجوب دفع الجزية وجوباً لازماً.
مع هذا فالسؤال الذي يرد بهذا الصدد: هل أن الوجوب المشار إليه يفيد الإطلاق أم لا؟ وهو سؤال يمكن تقسيمه إلى جانبين، أحدهما من حيث ظهور النص، والآخر من حيث الحقيقة. فمن حيث الظهور يمكن التوقف عند حرف الجر (من) الوارد في النص، فهل دلالته بحسب السياق تفيد البيان الجنسي أم التبعيض؟ فلو قلنا أنها تفيد التبعيض لانتفى الإطلاق، واعتبرنا ظاهر النص يريد الحكم على جماعة من أهل الكتاب وليس كلهم. وعلى العكس لو قلنا أنها تفيد البيان الجنسي، إذ يكون ظاهر النص بصدد جميع أهل الكتاب وليس فئة منهم .
والذي اعتبره المفسرون هو أن دلالة (من) تفيد البيان الجنسي لا التبعيض. وكما قال الآلوسي بأن (من) هي ‹‹بيانية لا تبعيضية حتى يكون بعضهم على خلاف ما نعت..›› . وذكر القرطبي أن معنى ((من الذين أُوتوا الكتاب)) هو ‹‹تأكيد للحجة لأنهم كانوا يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والانجيل›› .
لكن ربما يقال بأن الحكم في الآية جاء معلقاً على من وصفهم الله تعالى بأنهم ((لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق))، فهل يُقصد منه إرادة جميع أهل الكتاب لعدم إيمانهم الصحيح بالله واليوم الآخر فضلاً عن عدم تحريمهم ما حرمه الله ورسوله، وكذا ديانتهم بدين الحق.. أو أن المراد جماعة منهم تنطبق عليهم كل تلك المواصفات، لتمييزهم عن غيرهم ممن لم يصدق عليهم جميعها وإنْ صدق البعض منها؟
قد يقال أن أقرب الإحتمالين هو الإفادة الأولى، سيما وأن واقع السيرة يشهد على عدم وجود تمايز يذكر بهذا الشأن حول معاملة أهل الكتاب، إذ كانت المعاملة بالجزية والصغار شاملة للجميع بلا تمايز قائم على العقيدة وما شاكلها من المواصفات الأخرى المذكورة في النص. وبهذا يفيد ظاهر النص الإطلاق.
مع هذا قد يكون التشديد الوارد في النص لا علاقة له بالإعتقاد الصرف أو المجرد، بدلالة ما ورد من نصوص أخرى تبدي تسامحاً في هذا الأمر؛ مثل آية الإكراه أو الرشد، مما قد يجعل فهم النص مشروطاً بأخذ إعتبار الظرف الذي نزلت في ظله الآية مورد البحث، حيث انها، وكما أشرنا، نزلت في سياق الظرف المتعلق بغزوة تبوك مع الروم، وهم الذين اتصفوا بالعداء والكيد خلافاً لما نصّ عليه دينهم من السلام والتسامح وعدم مشروعية القتال.
يظل الجانب الأهم من الموضوع هو البحث عن دلالة الإطلاق في الوجوب من حيث الحقيقة. ويمكن صياغة السؤال الخاص بهذا الجانب على النحو التالي:
هل الوجوب المشار إليه يفيد الإطلاق على نحو الحقيقة مثلما هو ظاهر النص؛ بحيث كلما وجدت المصاديق من أهل الكتاب لزم مطالبتهم بالجزية مع الصغار؟ وذلك طبقاً للقياس المنطقي المستفاد من النهج الماهوي. إذ تتخذ صورة هذا القياس الشكل التالي:
إن فرض الجزية والصغار واجب على الكتابيين.
إن هؤلاء الجماعة من أهل الكتاب.
إذاً يجب أن يدفعوا الجزية مع الصغار.
تلك هي الصورة القياسية المحددة تبعاً للنهج الماهوي كما تبنتها الدائرة البيانية للنظام المعياري كأصل أساس. ففرض الجزية لدى هذا النظام هو قانون يتحكم في مصير أهل الذمة تحكماً صارماً لا يدفعه إلا بعض الاستثناءات المستندة بدورها إلى بعض الصور البيانية المعارضة. لكن رغم اتفاق العلماء على هذا القانون إلا أنهم اختلفوا حول من تؤخذ منهم. فقد جاء أن أبا حنيفة يرى أن الجزية تؤخذ من جميع الأعاجم سواء كانوا من أهل الكتاب أو من المشركين ولا تؤخذ من العرب إلا من أهل الكتاب. ونقل الشوكاني الزيدي أن هذا الرأي هو رأي عترة أهل البيت أيضاً. إلا أن الماوردي صاحب (الأحكام السلطانية) نقل بأن أبا حنيفة رفض أخذ الجزية من العرب ‹‹لئلا يجرى عليهم صغار››، وربما قصد بذلك المشركين منهم لا غير. أما الشافعي فيرى أن لا تؤخذ الجزية إلا من أهل الكتاب أو من هم على شاكلتهم كالمجوس، سواء كانوا عرباً أو أعاجم، ونُقل أن هذا هو رأي إبن حنبل أيضاً. في حين نُقل عن الإمام مالك قوله: يجوز أن تضرب الجزية على جميع الكفار من كتابي ومجوسي ووثني وغير ذلك إلا المرتد . وعند الإمامية الإثنى عشرية ـ باستثناء من شذ منهم ـ فإن الجزية لا تؤخذ إلا من الفرق الثلاث اليهود والنصارى والمجوس، أما غيرهم فيخيرون بين السيف أو الإسلام، بلا فرق سواء كانوا عرباً أو أعاجم .
وكذا فإن صورة القياس المنطقي التي مرت معنا تنطبق على مبدأ الصغار لدى الدائرة البيانية وعموم النظام المعياري. إذ يُعتبر الصغار الوارد في الآية واجباً كالجزية بنص صريح القرآن. فالحكم في الآية دالّ على أن الدافعين لضريبة الجزية يجب أن يكونوا ‹‹صاغرين›› أو ذليلين.
مع هذا فقد ذكر العلماء بأن الناس اختلفوا في معنى الصغار المفروض على أهل الذمة وقت أداء الجزية، فقال عكرمة أن يدفعها الذمي وهو قائم، ويكون الآخذ جالساً. وقالت طائفة أن يأتي بها الذمي ماشياً لا راكباً، ويطال وقوفه عند إتيانه بها، ويجرّ إلى الموضع الذي تؤخذ منه بالعنف، ثم تجرّ يده ويمتهن . كما نقل صاحب (التذكرة) عن الشافعي قوله: ‹‹هو أن يطأطأ رأسه عند التسليم فيأخذ المستوفي بلحيته ويضربه في لهازمه، وهو واجب في أحد قوليه، حتى لو وكّل مسلماً بالأداء لم يجز، وإنْ ضَمُن المسلم الجزية لم يصح، لكن يجوز إسقاط هذه الإهانة مع اسم الجزية عند المصلحة بتضعيف الصدقة›› .
كما ذكر إبن كثير أن معنى صاغرين هو ذليلون حقيرون مهانون، فرتّب على ذلك حكمه بأنْ ‹‹لا يجوز إعزاز أهل الذمة ولا رفعهم على المسلمين بل هم أذلاء صغرة أشقياء›› وعزز ذلك ببعض الأحاديث، كما عن أبي هريرة في صحيح مسلم عن النبي (ص) أنه قال: ‹‹لا تبدأوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه›› . وأيد إبن كثير موقفه السابق تعويلاً على ما جاء في قوله تعالى: ((ضُربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس)) .
ونجد هذا المعنى ذاته مقرراً من قبل الكثير من علماء الإمامية. فقد ذكر المحقق الحلي في (شرائع الإسلام) بأنه يجب على أهل الذمة وهم في دولة الإسلام أن ‹‹لا يضربوا ناقوساً، ولا يطلوا بناءً ويعزرون لو خالفوا..››. كما قال: ‹‹لا يجوز استئناف البيع والكنائس في بلاد الإسلام، ولو استجدت وجب ازالتها، سواء كان ذلك البلد مما استحدثه المسلمون أو فتح عنوة أو صلحاً، على أن تكون الأرض للمسلمين. ولا بأس بما كان قبل الفتح وبما استحدثوه في أرض فتحت صلحاً على أن تكون الأرض لهم.. وكل ما يستجده الذمي لا يجوز أن يعلو به على المسلمين من مجاوريه ويجوز مساواته على الأشبه›› . وأضاف: ‹‹ويكره أن يبدأ المسلم الذمي بالسلام ويستحب أن يضطره إلى أضيق الطرق››. وقد سار على هذا المنوال العديد من العلماء .
فهذا هو الموقف الغالب لدى المفسرين والفقهاء. وقد أورد الماوردي خمسة أقوال في تفسير الصغار، هي كالتالي:
الأول: أنْ يكونوا قياماً والآخذ لها جالساً، قاله عكرمة.
الثاني: أنْ يمشوا بها وهم كارهون، قاله إبن عباس.
الثالث: أنْ يكونوا اذلاء مقهورين، قاله الطبري.
الرابع: إنّ دفعها هو الصغار بعينه.
الخامس: إنّ الصغار أن تجري عليهم أحكام الإسلام، قاله الشافعي .
وهو في محل آخر ذكر بأن هناك تفسيرين لآية ((وهم صاغرون))، أحدهما أنهم أذلاء مستكينين، والثاني أن تجري عليهم أحكام الإسلام .
على أن بعض الأقوال الآنفة الذكر تتنافى مع التفسير الذي يشير إلى لزوم إجهاد أهل الذمة وتعذيبهم. ونفى إبن القيم أن يكون هناك نقل عن النبي وأصحابه يدل على فعل مثل هذا الإجهاد والتعذيب. وفسّر الصغار ‹‹هو إلتزامهم لجريان أحكام الملة عليهم واعطاء الجزية، فإن إلتزام ذلك هو الصغار››. وهذا التفسير للصغار هو الذي نقله الشافعي في (الأم) عن عدد من أهل العلم، حيث قال: ‹‹سمعت عدداً من أهل العلم يقولون الصغار أن يجري عليهم حكم الإسلام›› . وهو الرأي الذي تبناه بعض رجال الإمامية، كالشيخ الطوسي، إذ نقله عن بعض الناس وارتضاه ، وهو نفس المعنى الذي سبق إليه إبن الجنيد على ما نقله صاحب (التذكرة) .
لكن التفسير عند إبن القيم، وربما عند غيره ممن نقلنا، لا ينفي معنى إرادة ‹‹الإستخفاف بهم وإذلالهم››، فالصغار ليس منفكاً عن الإذلال . رغم أن هذا الإذلال لا يصح عنده بالضرب أو التعذيب أو غير ذلك من الممارسات التي فُسّرت بها آية الصغار كما عرفنا. لذا فهو يرى الجزية مجعولة للصغار والإذلال للكفار وليست أجرة عن سكنى الدار كما يقول بذلك أصحاب الشافعي . الأمر الذي يماثل ما اعتبرته أغلب المذاهب الإسلامية من أن الجزية من باب العقوبات، ولم تُجعل كرامة لأهل الكتاب.
وقد استدل إبن القيم على رأيه بأنه لو كانت الجزية أجرة لوجبت على النساء والصبيان والزمنى والعميان، ولو كانت أجرة لما أنفت منها العرب من نصارى بني تغلب وغيرهم، والتزموا ضعف ما يؤخذ من المسلمين من زكاة أموالهم. ولو كانت أجرة لكانت مقدّرة المدة كسائر الإجارات. ولو كانت أجرة لما وجبت بوصف الإذلال والصغار. ولو كانت أجرة لكانت مقدّرة بحسب المنفعة... وما إلى ذلك .
هكذا فمن منطق ‹‹العقوبة›› إتخذ إبن القيم وأغلب الفقهاء موقفاً متشدداً إزاء الحرية الشخصية والدينية لأهل الكتاب، ففرضوا المغايرة ببعض الممارسات الحياتية كالملبس والتنقل ، كما حددوا ممارساتهم العبادية، واعتمدوا في ذلك على ما روي من الشروط التي كتبها عمر بن الخطاب في هذا الشأن. فقد إشترط عمر بحسب هذه الوثيقة ضرورة وجود مغايرة بين أهل الذمة وأهل الإسلام في كثير من القضايا التي تمس الحريات الشخصية والدينية، فألزم الغيار على أهل الذمة في المركب والملبس والتسمية والتكنية والتكلم باللغة، كما فرض عليهم ربط الكستيجات ـ وهي الزنانير العريضة المدورة ـ في أوساطهم وأمر بختم أعناقهم ، ومنعهم من لبس بعض الألبسة الخاصة بالعرب ومن بعض الممارسات . وثمة رواية تقول أن عمر قد أمر عمرو بن العاص أن يختم في رقاب أهل الذمة في مصر بالرصاص، وفرض عليهم بعض القيود الخاصة في الملابس والمظهر لغرض تمييزهم .
والواقع أن أغلب الفقهاء فهموا الصغار بالشكل المحدد حسب الوثيقة العمرية، دون الأخذ بالصورة الوصفية الواردة في الآية؛ كإن يكون دفعها هو الصغار على ما رآه البعض. وبالتالي أصبحت هذه الوثيقة أهم تطبيق للمنطق الماهوي كما لجأ إليه الفقهاء وهم يحددون معنى الصغار وموقفهم العام من أهل الذمة. فللوثيقة تأثيرها الكبير على القرارات الفقهية التي انتهجها الفقهاء. وهي أيضاً كانت سلكاً يتسلك بها الملوك والسلاطين بين الحين والآخر؛ كلما رأوا الحاجة الزمنية تبعث على ذلك.
فمن خلال هذه الوثيقة بنى الفقهاء شروطاً في عقد الذمة قُسمت إلى صنفين أطلق عليهما المستحق والمستحب. فالمستحق ستة شروط كالتالي:
1ـ أنْ لا يذكروا كتاب الله بطعن فيه ولا تحريف.
2ـ أنْ لا يذكروا رسول الله (ص) بتكذيب له ولا ازدراء.
3ـ أنْ لا يذكروا دين الإسلام بذم له ولا قدح.
4ـ أنْ لا يصيبوا مسلمة بزنا ولا بإسم نكاح.
5ـ أنْ لا يفتنوا مسلماً عن دينه ولا يتعرضوا لماله ولا دينه.
6ـ أنْ لا يعينوا أهل الحرب ولا يودّوا أغنياءهم.
فهذه الشروط الستة هي ما يجب أن يُلزم بها أهل الذمة بلا قيد. وهي تشترط عليهم لأجل الإشعار والتأكيد بتغليظ العهد عليهم بحيث أن تجاوزها يعد نقضاً لعهدهم.
وأما الصنف المستحب فهو ستة أشياء أيضاً كالتالي:
1ـ تغيير هيئاتهم بلبس الغيار وشد الزنار.
2ـ أنْ لا يعلوا على المسلمين في الأبنية ويكونوا - إنْ لم ينقصوا - مساوين لهم.
3ـ أنْ لا يسمعوهم أصوات نواقيسهم ولا تلاوة كتبهم ولا قولهم في عزير والمسيح.
4ـ أنْ لا يجاهروهم بشرب خمورهم ولا بإظهار صلبانهم وخنازيرهم.
5ـ أنْ يخفوا دفن موتاهم ولا يجاهروا بندب عليهم ولا نياحة.
6ـ أنْ يُمنعوا من ركوب الخيل عناقاً وهجاناً ولا يُمنعوا من ركوب البغال والحمير.
وتعد هذه الأمور الستة غير ملزمة في عقد الذمة، ولا يكون تجاوزها بعد الإشراط (المستحب) نقضاً لعهدهم، لكن يؤخذون بها إجباراً ويؤدبون عليها زجراً إن تمّ الإشراط بها .

ملاحظات نقدية
نخلص مما سبق إلى وجود فهم ممطلق جرى تثبيته حول الموقف من أهل الكتاب بلا تمايز ودون لحاظ السياق الظرفي للنص وملابساته. مع أن هناك ثلاث حقائق تتعارض مع النتائج المتولدة عن ذلك الفهم ومنطقه الماهوي، وهي كالتالي:

أولاً:
إن النتائج المتولدة عن الفهم الماهوي للصغار - كما لدى الغالبية - وكذا بعض الشروط (المستحبة) التي سطرها الفقهاء؛ هي نتائج وشروط تتصادم مع أخلاقيات الإسلام ولا تتفق مع ما يتسم به من العدل والرحمة. ولكونها ذات صبغة إطلاقية أو ماهوية فقد وُظفت من قبل الملوك والسلاطين لتلعب دوراً في الحياة السياسية والإجتماعية بين الحين والآخر، مداً وجزراً. فكلما كان الذميون يستعلون على المسلمين أو يضاروهم أو يغترون بملبسهم ومركبهم أو غير ذلك؛ فانهم يقابلون بمرسوم صادر من قبل السلطة تلزمهم بنوع من الغيار يجد تبريره في الوثيقة العمرية. إذ كان تجديد المراسيم الخاصة في الغيار اسلوباً متبعاً، تارة يظهر المرسوم وبعد مدة تختفي آثاره أو تخف، وذلك بحسب الأوضاع التي عليها البلاد الإسلامية. وأغلب الظن أن وضع الغيار في بادئ الأمر كان لمجرد التمييز بين الذمي والمسلم، تسهيلاً لعملية جلب الجزية من جانب، ولحفظ النظام من جانب آخر. إلا أنه مع تقلبات الحياة السياسية والإجتماعية أخذ الغيار يُفرض كعقوبة رادعة تستخدم وقت الحاجة . فقد كانت العادة جارية بإعطاء براءة لمن يدفع الجزية، وفي العصور السيئة كانت تُعلّق على رقاب الذميين علامة البراءة، وتختم أيديهم .
مع هذا فإن فتاوى الفقهاء بشأن أهل الذمة لم يكن لها ذلك الأثر الحاسم أو الغالب في الحياة السياسية والإجتماعية للبلاد الإسلامية، سيما وأنهم لم يتولوا مناصب الحكم والسلطة. كما أن التاريخ الإسلامي لا يحدثنا عن وجود ظاهرة عامة للمعاملة السيئة لأهل الذمة، ولا عن كبت يمس حرياتهم الدينية الخاصة. بل على العكس فإن الوضع الذمي لم يمنع من نفوذهم داخل السلطة السياسية وتقليدهم أرقى المناصب في عدد من الأجهزة الحكومية، سيما جهازي الادارة والمالية، مثلما هو واضح من العهود التي مرت بها مصر على وجه الخصوص. الأمر الذي أثار حفيظة الفقهاء ، حتى كثرت المؤلفات التي كُتبت حول الشكوى من الذميين، ومن ذلك كتاب (المذمة في إستعمال أهل الذمة) لأبي إمامة محمد بن علي النقاش (المتوفى سنة 773هـ)، وكتاب (الكلمات المهمة في مباشرة أهل الذمة) لجمال الدين أبي محمد عبد الرحيم الأسنوي (المتوفى سنة 772هـ)، وكتاب (شروط النصارى) للشيخ أبي محمد عبد الله بن زين القاضي، وغيرها. فقد عبّر هؤلاء عن موقفهم الرافض لاستخدام الذميين في الوظائف العامة من خلال حشد الآيات والأحاديث وما هو مأثور عن السلف مما له دلالة على رفض إستعمالهم والإستعانة بهم .
وما يهمنا من ذلك مبدئياً هو أنه ليس من المقبول تأسيس النظرية الفقهية على أصل مصادم لروح القرآن وأخلاقه، أو لمبادئه ومقاصده، تبعاً للتمسك بالنهج الماهوي. فحسب النهج الوقائعي إن من الممكن أن تكون بعض المواقف حازمة وشديدة كردّ على ما يبادره المقابل من فعل عدائي، دون أن تتخذ الشكل المبدئي الدائم استناداً للنهج الماهوي.
وبعبارة أخرى، إن إعتبار الأحكام مفتوحة نسبياً بعيداً عن الإطلاق والإغلاق؛ لا يعني تجاوزها لمبادئ القيم ومقاصد التشريع، وعلى رأسها مبدأ العدل الذي هو الأصل المتفق عليه في جميع العقود، ومنه عقد الذمة. فتبعاً لهذا الأصل الذي قامت به السماوات والأرض وأُنزلت لأجله الكتب السماوية؛ لا يمكن تقبل ما يتحدث عنه النظام المعياري من تعذيب أهل الذمة وتعريضهم للإرهاق والإهانات الجسدية والنفسية. فعلى الأقل كان الأولى بهذا النظام أن يتحفظ ويحتاط من أن يفتي بخلاف ما عليه العدل ومقصود الشرع، كإن يعتبر بعض ما ورد من الأحاديث الدالة على جواز تعذيب أهل الذمة أو ظلمهم بأنه إما أن يخصّ جماعات معينة نصبت العداء والأذى على الدوام، أو أنه من المتشابه الذي لا يقف معارضاً لأصل العدل أو يزاحمه، بل يُترك أمره لله تعالى ويُعمل بما هو محكم وبيّن، وهي طريقة تتفق - في المبدأ - مع ما يراه الشاطبي من أن الشاذ لا يقف معارضاً لما هو مطرد وإنما يُحسب من المتشابه الذي لا يعلم أمره إلا الله تعالى . وعليه فلو اكتفينا بهذه الدلالة لكان وضع الأحكام السابقة المسطّرة من قبل الطريقة التقليدية في غير محلها.

ثانياً:
يلاحظ أن ما آل إليه الموقف الفقهي من أهل الذمة بحسب النهج الماهوي هو السقوط في المفارقة والتناقض. فهو من جانب يلتزم بالشروط العمرية أو ما يشاكلها بحسب فهم الغالبية للصغار، لكنه من جانب آخر يسوق ما بوسعه من الأحاديث التي تأمر بعدم ايذاء الذميين وظلمهم. ومن ذلك ما ذكره الفقهاء من النصوص الكثيرة عن النبي وصحابته الموصية بالمعاملة بأهل الذمة خيراً، كتلك التي نقلها أبو يوسف وإبن سلام وغيرهما؛ مثل قول النبي (ص): ‹‹من ظلم معاهداً.. فأنا حجيجه›› ، وقوله أيضاً: ‹‹ملعون من ضارّ مسلماً أو غيره›› . ونُقل عن عمر (رض) أنه قال ‹‹اوصي الخليفة من بعدي بأهل الذمة خيراً، أن يوفي لهم بعهدهم وأن يقاتل من ورائهم وأن لا يكلفوا فوق طاقتهم››. كما كتب هذا الخليفة إلى أبي عبيدة يأمره أن يمنع المسلمين من ظلم أحد من أهل الذمة . ومثل هذا ما جاء عن الإمام علي في كلمة له مضيئة يقول فيها: ‹‹واشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق›› . ونُقل عنه قوله أيضاً: ‹‹إنما بذلوا الجزية لتكون أموالهم كأموالنا، ودماؤهم كدمائنا›› .
لكن مع كل ما ذُكر نرى الفقهاء لا يمانعون من اخضاعهم تحت بند الإعتبارات الأخرى المضادة، كتلك المسماة بالوثيقة العمرية. فمثلاً أن بعض الفقهاء القدماء كأبي يوسف يذكر الكثير من النصوص التي توصي بعدم ظلمهم، لكنه يستدرك بعد اطالته الذكر ويرى رغم ذلك أنه ينبغي أن يعاملوا طبقاً لما جاء في تلك الوثيقة من ختم الرقاب والغيار وغيرها. وكأن ما جاء في تلك النصوص لا يناقض الوثيقة المزعومة على ما فيها من غلظة وعدم تسامح يبعثان على الشك في صدورها. وربما دفعاً للشعور بالتناقض والمفارقة قد يحتج البعض بما نُقل عن عمر أنه قال في حق أهل الذمة: أهينوهم ولا تظلموهم ، وبالتالي يصبح كل ما جاء في الوثيقة من فظاعة يمكن طيّه في ملف الإهانة لا الظلم .

ثالثاً:
لو غضضنا الطرف عما آل إليه النظام المعياري في مثل تلك النتائج التي لا تتفق مع روح الإسلام وأخلاقه، واتجهنا صوب القضية المحورية من الكشف عن صحة المسلك الوقائعي في فهمه للخطاب، بدلالات مستمدة من الخطاب وشرعه، فسنجد قرائن عديدة تشير إلى ما نحن بصدده كالآتي:
1ـ هناك بعض الإطلاقات المعارضة كالتي نصّت عليها جملة من الآيات القرآنية؛ من قبيل قوله تعالى: ((لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين)) . إذ يمكن أن يقال بأن الشطر الأخير من هذا النص لا يتسق مع ما جاء في آية الجزية من الأمر المطلق بقتال أهل الكتاب أو دفع الجزية مع الصغار، سيما إذا ما حملنا معنى الصغار على الإذلال كما هو موقف النظام المعياري في الغالب. إذ كيف يمكن التوفيق بين الأمر بالبر والقسط من جهة، وبين قتالهم أو إذلالهم من جهة أخرى؟!
فلو قيل أن آية الجزية نسخت ما قبلها؛ لقلنا أن النسخ لا يلوح دلالات المبادئ والمقاصد، بل ولا يتحقق اعتباطاً من غير تغاير للواقع والأحوال، الأمر الذي يتسق مع ما عليه النهج الوقائعي من جعل الأحكام بحسب ما يبديه الواقع من تغايرات.
2ـ هناك بدائل مختلفة ومفتوحة قد مارسها النبي الأكرم (ص) وأصحابه دون الإلتزام بصرامة الإطلاق الظاهر في نص آية الجزية، مما يتسق تماماً مع النهج الوقائعي. فقد ورد عن النبي (ص) أنه كان يأخذ من بعض الذميين الجزية ويصالح البعض الآخر بعد أن شُرّعت في السنة الثامنة أو التاسعة من الهجرة على قولين، حيث نزلت الآية كأول نص يأمر بقتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية، ومع ذلك فقد صالح بعضهم من دونها، كمصالحته لأهل نجران كما عرفنا، إذ فُتحت نجران سنة عشر، وصالح النبي أهلها على الفيء وعلى أن يقاسموا العُشر ونصف العشر . وكتب رسول الله (ص) بهذا الصدد قائلاً: ‹‹ولنجران وحاشيتها جوار الله وذمة محمد النبي رسول الله على أموالهم وأنفسهم وأرضهم وملتهم وغائبهم وشاهدهم وعشيرتهم وبيعهم وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير›› . مع ذلك فقد قيل بأن أهل نجران هم أول من أعطى الجزية من أهل الكتاب . ولو صح هذا الأمر لكان حكم الآية لم ينفذ إلا بعد أن فتحت هذه البلاد، وذلك بعد سنة أو سنتين من نزولها، وهو أمر يستبعد حدوثه، كما أنه على فرض ذلك تكون المصالحة عقدت بعد تنفيذ حكم الجزية.
ومثل ذلك ما فعله الخليفة الراشد عمر بن الخطاب في مصالحته لبني تغلب من النصارى وغيرهم، فبدل أن يأخذ منهم الجزية ضاعف عليهم الصدقة وأعفاهم عنها، وقد جاء هذا الأمر في ظرف يكشف عنه قول النعمان لعمر: يا أمير المؤمنين أن بني تغلب قوم عرب، يأنفون من الجزية، وليست لهم أموال، إنما هم أصحاب حروش ومواش، ولهم نكاية في العدو، فلا تعن عدوك عليك بهم. فصالحهم عمر وضاعف عليهم الصدقة . كما نُقل أن هذا الخليفة أعفى يهودياً من اعطاء الجزية كمكافأة على حسن مشورته في تحسين الوضع الإقتصادي. ففي عام المجاعة المسمى بعام الرمادة أشار يهودي من أهل مصر إلى قناة تربط نهر النيل بالبحر الأحمر، فتمكن الوالي عمرو بن العاص من ارسال السفن مشحونة بالميرة من مصر إلى أقرب مرفأ من المدينة، وسُرّ بذلك عمر وكافأه على مشورته هذه بإعفائه من الجزية .
وشبيه ما حدث مع الجزية في عدم الإلتزام النبوي بالتطبيق الشامل؛ ما نجده حول التخميس. فرغم أن مفاد آية الخمس هو الإطلاق؛ إلا أن النبي الأكرم (ص) لم يطبق هذا الحد في عدد من المواقف، كما في غزوات حنين وخيبر وبني النضير وغيرها. وكذا فعل الخليفة عمر بن الخطاب في أراضي سواد العراق ومصر. الأمر الذي يجعل من مثل هذه المسائل مفتوحة غير مغلقة خلافاً لما تصوره لنا الدائرة البيانية للنظام المعياري ونهجها الماهوي.
3ـ من ناحية أخرى، لم يكن مقدار الجزية محدداً بقدر معين، حتى نقل إبن القيم وغيره بعض الحوادث الدالة على أن الجزية غير مقدرة في الشرع تقديراً لا يقبل الزيادة والنقصان، كما أنها غير معينة بالجنس، بل يعود أمر ذلك إلى المصلحة وإجتهاد ولي الأمر، كما هو رأي العديد من السلف، الأمر الذي يفسر علة ما سلكه عمر بن الخطاب من جعل الجزية على ثلاث طبقات مختلفة؛ هم الأغنياء والمتوسطون والفقراء. ولم يكن هذا التصنيف حادثاً، لا في عهد النبي ولا في عهد صاحبه أبي بكر . كما نُقل أن التقسيم الثلاثي للجزية تكرر فعله على يد الإمام علي أيام خلافته، بل ذُكر أن ما فعله عمر (رض) إنما كان باستشارته عليه السلام .
لذلك فقد اختلف الفقهاء في تقدير الجزية، بل لجأ العديد منهم إلى تحديدها تحديداً ممطلقاً طبقاً للنهج الماهوي. إذ ذهب أبو حنيفة إلى تصنيف الذميين إلى ثلاثة أصناف: اغنياء يؤخذ منهم ثمانية وأربعون درهماً، وأواسط يؤخذ منهم أربعة وعشرون درهماً، وفقراء يؤخذ منهم إثنا عشر درهماً، فجعلها مقدرة الأقل والأكثر، ومنع من إجتهاد الولاة فيها. وخالفه في ذلك مالك الذي لم يُجز تقديرها، وإنما أوكلها إلى إجتهاد ولاة الأمر لتحديد الأقل والأكثر. في حين ذهب الشافعي إلى أنها تُقدّر بدينار فما فوق دون أقلّ منه، لكنه منع تقدير الأكثر واعتبر ذلك راجعاً إلى إجتهاد الوالي ليرى رأيه في التسوية بين الجميع أو التفضيل فيما بينهم بحسب الحال، ولو اجتهد رأيه في عقدها على مراضاة أُولي الأمر من أهل الذمة فإنها تصير لازمة لجميعهم ولأعقابهم قرناً بعد قرن، ولا يجوز لوال بعده أن يغير ذلك إلى نقصان أو زيادة، فإن صولحوا على مضاعفة الصدقة عليهم؛ ضوعفت كما ضاعف عمر بن الخطاب مع تنوخ وبهراء وبني تغلب بالشام .
4ـ إن المستفاد من معاملة النبي الأكرم وخلفائه الراشدين لأهل الذمة هو أن ما فُرض عليهم من جزية إنما كان كضريبة بدل النصرة والحماية التي توفرها الدولة لهم. فهي لم تُفرض على العجزة والنساء والشيوخ والأطفال والمرضى ورجال الدين عندما لا تكون لهم خلطة مع الناس . بل وكانت تلغى فيما لو تطوع الذمي في الجيش الإسلامي. فمثلاً في معاهدة سراقة بن عمرو مع ارمينيا (سنة 22هـ) إشترط عمر على أهلها الاشتراك في الجهاد نظير اعفائهم من الجزية ، كما جاء في صلح آخر له مع الجراجمة كالسابق . وجاء في صلح خالد بن الوليد مع صلوبا بن نسطونا صاحب قس الناطف في منطقة الحيرة قوله: ‹‹إني عاهدت على الجزية والمنعة.. فإن منعناكم فلنا الجزية وإلا فلا حتى نمنعكم›› . وجاء أن أبا عبيدة بن الجراح عندما أعلمه نوابه على مدن الشام بتجمع الروم كتب اليهم: ردوا الجزية على من أخذتموها منه. وأمرهم أن يقولوا لهم: إنما رددنا عليكم أموالكم لأنه قد بلغنا ما جمع لنا من الجموع وأنكم إشترطتم علينا أن نمنعكم وأنّا لا نقدر على ذلك وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم ونحن لكم على الشرط وما كتبنا بيننا وبينكم إن نصرنا الله عليهم . كما جاء في كتاب سويد بن مقرن أحد قواد عمر بن الخطاب لرزبان صول بن رزبان وأهل دهستان وسائر أهل جرجان: ‹‹إن لكم الذمة، وعلينا المنعة على أن عليكم الجزاء في كل سنة على قدر طاقتكم، على كل حالم، ومن استعنا به منكم فله جزاؤه في معونته عوضاً عن جزائه، ولهم الأمان على أنفسهم وأموالهم وشرائعهم ولا يغير شيء من ذلك›› . ومثل ذلك ما جاء في بعض كتب حبيب بن مسلمة وغيره من قواد الخلافة الراشدة .
لهذا حكى إبن حزم في مراتب الإجماع أن من كان في الذمة وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه وجب علينا أن نخرج لقتالهم بالكراع والسلاح ونموت دون ذلك صوناً لمن هو في ذمة الله تعالى وذمة رسوله (ص)، فإن تسليمه دون ذلك إهمال لعقد الذمة. واعتبر أن في ذلك إجماع الأمة . كما ذكر إبن قدامة في (المغني) بأنه ‹‹إذا سبي المشركون من يؤدي إلينا الجزية ثم قُدر عليهم؛ رُدوا إلى ما كانوا عليه ولم يسترقوا، وما أخذه العدو منهم من مال أو رقيق رُد اليهم››. واعتبر ذلك قول عامة أهل العلم، ومنهم الشعبي ومالك والليث والأوزاعي والشافعي واسحاق وغيرهم مما لا يعلم لهم مخالف .
وأقرب المذاهب الفقهية في تفسير الجزية طبقاً لمبدأ النصرة والحماية هو المذهب الحنفي، رغم أنه أضاف جهة أخرى متممة لتفسيرها. فللجزية عند الحنفية جهتان، فهي من جانب تعد بدلاً عن حقن دم أهل الذمة، وبالنسبة للمسلمين فإنها بدل عن نصرتهم لدار الإسلام. فعلى رأيهم أن الذميين لما صاروا من أهل دار الإسلام بقبولهم عقد الذمة، ولهذه الدار دار معادية؛ وجب عليهم القيام بنصرتها، لكن لما كانت أبدانهم لا تصلح لهذه النصرة لأنهم يميلون ظاهراً إلى أهل الدار المعادية لإتحادهم في الإعتقاد لذا أوجب الشرع عليهم الجزية لتؤخذ منهم وتصرف على المقاتلين المسلمين فتكون خلفاً عن النصرة، لهذا قال إبن همام الحنفي: ‹‹إن الجزية إنما وجبت بدلاً عن القتل حتى لا تجب على من لا يجوز قتله بسبب الكفر كالذراري والنسوان.. ولأنه وجب نصرة للمقاتلة فتجب على التفاوت›› . كما ذكر السرخسي بأن الجزية في حق المسلمين هي خلف عن النصرة . وكذا جاء عن بعض العلماء أنها كانت بدلاً عن النصرة بالجهاد واختاره القاضي أبو زيد كما ذكر إبن العربي في (أحكام القرآن). في حين أن المذاهب الفقهية الأخرى لا تعدها بدلاً عن النصرة والحماية. فهي عند المالكية والزيدية إنما وجبت بدلاً عن القتل بسبب الكفر، وعند الشافعية والحنابلة والشيعة الإمامية وجبت بدلاً عن القتل والإقامة في دار الإسلام . وقال المفيد من الإمامية بهذا الصدد: إن وجوب الجزية عقوبة من الله تعالى للكافرين لكفرهم وعنادهم، وقد جعلها الحق حقناً لدمائهم ومنعاً لاسترقاقهم ووقاية لما عداها من أموالهم .
***
بعد هذا الإستعراض ندرك أننا أمام صيغ شرعية مختلفة لأساليب التعامل مع أهل الذمة، سواء من حيث الإعتبارات المعنوية، أو من حيث الجزية كضريبة مادية. إذ نقف أمام تعارض بين ما رأيناه من الإطلاق اللفظي للنص والذي يبدي وجوب الإلتزام بدفع الجزية مع الصغار، وبين ما شهدناه من سيرة مغايرة تثبت حقيقة عدم الإطلاق. وهو أمر إنْ دلّ على شيء فإنما يدل على الأثر العميق الذي تحدثه تمايزات الواقع من نتائج وأحكام مختلفة. وعليه لا يمكن فهم الخطاب الديني فهماً صحيحاً ومتسقاً ما لم يتم الأخذ بإعتبارات النهج الوقائعي، وهو النهج الكاشف عن أثر الدلالات الواقعية العاملة على فك الإطلاق اللفظي للنص وتحويله إلى نمط من الإجراء النسبي. مما يؤكد خطأ النهج الذي سارت عليه الدائرة البيانية للنظام المعياري، إذ أن ما صوّرته هذه الدائرة من تحنيط لقضايا الأحكام لا يدل عليه نهج الخطاب وممارسته أبداً.
نعم يمكن أن يقال بهذا الصدد أن ما شهدته السيرة النبوية من تنويعات هي حالات مقررة لا تعارض الأصل العام من الجزية والصغار، كما يحصل في حالات التخصيص والتقييد. الأمر الذي يبعث على التوقف عند دائرة ما شهدته السيرة وما نطقت به النصوص كما هو لازم النهج الماهوي.
لكن حقيقة الأمر أنه لولا تجددات الواقع وتغايراته ما ظهر التنويع والمغايرة للأحكام المخالفة للأصل المعتمد كالجزية والصغار. فلولا مثل هذه التجددات ما كنّا نرى تنويعاً ولا مغايرة للأحكام.
والقاعدة العامة المستمدة من هذا المبدأ هي أنه يجب أن يكون الواقع أساس بناء الأحكام وتنويعها، سيما عند حدوث تحولات جوهرية ينقلب فيها الحال من حضارة إلى أخرى، لكن شريطة أن يتم ذلك تحت مظلة المقاصد العامة للتشريع.
وعليه نتسائل: كيف يُسند الحكم ويستصحب من حضارة إلى أخرى مغايرة؛ كالذي يتبناه النهج الماهوي؟! فعلى سبيل الفرض، لو قُدّر للنبي (ص) أن يعيش بيننا اليوم، فهل سيحافظ على نفس الأحكام المنزلة قبل أكثر من (1400 سنة)، رغم عمق التطور الحضاري؟ وهل أن التغيرات التي حدثت خلال عصر النص لا علاقة لها بأثر الواقع؟ وإذا كان الأمر هكذا فما هو مبرر التغاير والعمل بالأحكام المعارضة ونسخها أو تأجيلها؟
ونعتقد بأن هذه التساؤلات لا تملك إجابة شافية لدى الدائرة البيانية أو النظام المعياري. فأقصى ما يمكن أن يجاب عليه هو التركيز على النهج التعبدي، ولو بمصادرة الواقع وإلغاء كل من العقل والوجدان.
ونحن إذا ما عوّلنا على ما سلّم به العديد من العلماء طبقاً لما نصّ عليه إبن حجر العسقلاني في (فتح الباري) من أن الحكمة في وضع الجزية تكمن في ‹‹أن الذل الذي يلحقهم يحملهم على الدخول في الإسلام مع ما في مخالطة المسلمين من الاطلاع على محاسن الإسلام›› ، فإذا ما عوّلنا على ذلك الإعتبار من الحكمة والقصد؛ يصبح من الجلي أن المسلك الذي تحدث عنه العسقلاني ليس مسلكاً ثابتاً يحقق من خلاله الحكمة المذكورة. إذ لا يمكن الإدعاء والطمأنينة بأن وضع الجزية وما يلحق أهل الذمة من الذل سوف يحملهم على الدخول في الإسلام بشكل دائم مهما كانت الظروف. فإذا ما كان هذا الدواء ينفع في سياقات تاريخية معينة؛ فإنه لا ينفع في ظروف أخرى؛ كحياتنا المعاصرة. وبالتالي كيف يصح الإطلاق وتعميم الوسائل على حالات الواقع المتجدد والمتغاير بلا نهاية أو حدود؟! فمثلاً ماذا نتوقع أن تكون النتيجة فيما لو أُجري مثل هذا التمايز بين المسلمين وأهل الذمة في أوطاننا الحالية، مع شيوع فكرة الأوطان والمساواة والحريات العامة وأخذ سائر إعتبارات الظروف الإجتماعية والسياسية بعين الإعتبار؟!
بقي أن نقول بأن فكرة التمايز طبقاً للحدود العقائدية هي فكرة مبررة تماماً في زمن الرسالة وما قبلها وبعدها. فهي إحدى الأساليب الإجرائية التي حافظت على تماسك الجماعة وديمومتها، لكنها ليست الاسلوب الوحيد للتعامل والتطبيق. فمثلاً كان التمايز القبلي هو التمايز الشائع في الوسط العربي وعدد من الأوساط قبل عصر الرسالة. وحالياً نجد فكرة الأوطان بحدودها الجغرافية هي الاسلوب المتبع للحفاظ على وحدة الجماعة. وهو اسلوب لا بد أن يقوم بدوره على التمايز في الحقوق والواجبات بين ذلك الذي ينتمي إلى البلد وغيره من الغرباء الوافدين. مع هذا فليس بوسعنا الادعاء بأن هذا الاسلوب أو ما سبقه هو أفضل الأساليب المتبعة، فذلك يتوقف على الإعتبارات التاريخية وما يلزمها من إمكانات وقدرات. وكما هو ملاحظ فإن مثل هذه الأساليب تظل تمايزية ليس بمقدورها إنهاء التغاير والقضاء عليه. وحتى لو قدرنا إمكانية أن تكون هناك وحدة بشرية تتجاوز فكرة الأوطان كما يتمناها الكثير منّا؛ فلا بد من أن تحصل جملة من التمايزات تفرضها تغايرات الظروف والإعتبارات الثقافية من منطقة لأخرى.
مع هذا فقد عرفنا بأن الخطاب الديني لم يتخذ أساليب (ممطلقة) للتمايز. فالممارسة المطروحة، كما في الجزية والصغار، وجدتْ لها خرقاً من ذات التشريع، وذلك عند لحاظ الولاء وعدم العداء من الطوائف الدينية الأخرى، مثلما دلّت عليه حالات انخراط الذميين في صفوف الجيش الإسلامي. فهي ظاهرة دالة على الولاء والنصرة والمودة، لذلك قوبلت برفع الجزية والصغار.
وتشير هذه الدلالة إلى أنه من غير الممكن إتخاذ حكم الجزية والصغار بمعزل عن فهم الواقع. بمعنى أن هذين الحكمين قد تشكلا بفعل طبيعة ما كان عليه السياق الظرفي أو التاريخي. وبالتالي فلا ضرورة تقتضي الحفاظ عليهما أو على الجمع بينهما. فلا مانع - إذاً - من أن يُكتفى بالجزية كضريبة قبال الحماية من غير صغار؛ إن قدّرنا معنى الأخير بأنه شكل من الإذلال كما هو الظاهر، وذلك عند ضمان الولاء وعدم العدوان.
وبعبارة أخرى، أننا لو اعتبرنا الجزية تفرض تبعاً للحماية التي تقوم بها الدولة الإسلامية لرعاياها من الذميين كما اتضح لنا من قبل؛ فإن الأمر مع الصغار شيء مختلف. إذ ورد الحكم الأخير كردّ على ما بدأه أهل الكتاب من محاربة وتربص وعداء، كالذي تشير إليه العديد من نصوص الخطاب فضلاً عن السيرة.
فقد نزلت الآية في الظرف الخاص بغزوة تبوك مع الروم، وهم الذين رفعوا شعار المسيحية من غير الإلتزام بها. صحيح أنه ورد في الآية تنديد بالصفات العقائدية التي التزم بها أهل الكتاب، لكن من الواضح أنه لا يراد من ذلك ذات العقائد، بدلالة أن أهل الشرك أخس حالاً منهم ومع هذا فإن مقاتلتهم كانت لأغراض وقائية أو دفاعية كما عرفنا، فكيف الحال مع أهل الكتاب الذين تربطهم بالمؤمنين وشائج عقائدية من الإيمان بالتوحيد – إجمالاً - والرسل واليوم الآخر؟
لهذا قدّم المفسرون وجهين من الجواب عن علة كون الآية وصفتهم بأنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، كما يطلعنا على ذلك الماوردي: أحدهما هو أنهم وإن أقروا بالله وباليوم الآخر إلا أنهم لم يقروا بحقوقه، فكانوا كمن لم يقر به. والآخر هو لأجل الكفر بنعمته تعالى فوصفهم بذلك . أما وصفهم بأنهم لا يحرمون ما حرم الله ورسوله ففيه وجهان كما أشار الماوردي: أحدهما ما أمر الله تعالى بنسخه من شرائعهم. والآخر ما أحله لهم وحرمه عليهم بحسب ما جاء في كتبهم. وكذا فإن وصفهم بأنهم لا يدينون دين الحق، والمقصود بالحق هنا هو الله، ففي الآية وجهان: الأول العمل بما في التوراة والانجيل، والثاني الدخول في دين الإسلام .
فقد يفهم مما سبق، أن الآية كانت بصدد إظهار تناقض ما عليه أهل الكتاب، أي التناقض بين إعتقاداتهم التوحيدية من جانب، وبين ممارساتهم السلوكية من جانب آخر. فقد يُقصد بعدم الإيمان بالله واليوم الآخر هو الإيمان الذي يمنعهم من العدوان والإعتداء تبعاً للخوف من حسابه وعقابه. وكذا حيث وصفتهم الآية بأنهم لا يحرمون ما حرمه الله ورسوله، وهو أنهم لم يحرموا الإعتداء بمثل ما عليه المسيحية من الصفاء؛ كإتخاذها مبدأ (من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الايسر)، وليس القتال مشروعاً في ملتهم. كما أن الآية وصفتهم بأنهم لا يدينون بدين الحق، وذلك بإعتبارهم لا يدينون بدين الله من الإستقامة والإعتدال وعدم الإعتداء كالذي سلكته الديانات التوحيدية. لذا فالاية بصدد الكشف عن عورة أولئك الذين ادعوا الإيمان بالمسيحية وهم غارقون بالوثنية والجاهلية، فحالهم حال أحفادهم من الصليبيين الذين رفعوا شعار الحرب المقدسة ظلماً وزوراً، خلافاً لوصايا دينهم. أما ما يخص اليهود فالأمر أوضح من أن يدوّن في مقال، لشدة ما ظهر منهم من عداء ونكث وتولي للمشركين، فكانوا بذلك على خلاف ما جاء عندهم في التوراة، كما أشارت إليه الكثير من الآيات فضلاً عن السيرة النبوية .
لهذا ظهرت بعض الآثار من النصوص تحذر من توليهم والتودد اليهم، كما هو الحال في قوله تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين، فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين)) ، وقوله: ((يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً من الذين اوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء، واتقوا الله إن كنتم مؤمنين)) ، وقوله: ((يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون اليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم..)) .
ولا شك أن هذا التحذير يدل على مواصفات الشر التي أبدتها جماعات أهل الكتاب والمشركين ضد دين الحق وأهله، كالذي يشير إليه ما جاء من ذكر لأسباب نزول تلك الآيات على ما نقلته التفاسير الإسلامية . لهذا فهو لا يعد حكماً مطلقاً غير قابل للإنفتاح كما حاول النظام المعياري تصويره، وذلك بتحويل ظاهر الإطلاق اللفظي للنص إلى شكل مغلق من المعنى بحسب النهج الماهوي، كالذي ذكره القرافي محاولاً الجمع بين ما ورد من النص في منعه للموالاة والمودة للكافرين، ومنهم أهل الكتاب، وبين ما دلّ عليه نص آخر يأمر ببرّهم، مثل قوله تعالى: ((لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم)).. وقال النبي: استوصوا بأهل الذمة خيراً. واعتبر أن الجمع بين مثل هذه النصوص هو أن الإحسان لأهل الذمة مطلوب، وأن التودد والموالاة منهي عنهما، أي أن نبرهم بكل أمر لا يكون ظاهره دالاً على مودة القلوب .
وهو أمر غير حاسم لدى علماء السلف، إذ جاء في قوله تعالى: ((لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حادّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو اخوانهم أو عشيرتهم)) ، وقيل فيه ثلاثة أوجه: أحدها من حارب الله ورسوله، كما قاله قتادة والفراء. والثاني من خالف الله ورسوله كما قاله الكلبي. والثالث من عادى الله ورسوله كما قاله مقاتل . كما ورد في آية الممتحنة قوله تعالى: ((عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة)) ، أي يجعل محبة بعد البغضة، ومودة بعد النفرة، وإلفة بعد الفرقة ، وورد أن المقصود بهم قولان: أحدهما أهل مكة حين أسلموا عام الفتح فكانت هي المودة التي صارت بينهم وبين المسلمين، كما قاله إبن زيد. والثاني أنه إسلام أبي سفيان. وفي مودته التي صارت منه قولان: أحدهما تزويج النبي (ص) بأم حبيبة بنت أبي سفيان فكانت هذه مودة بينه وبين أبي سفيان، كما قاله مقاتل. والثاني أن النبي (ص) استعمل أبا سفيان على بعض اليمن فلما قبض رسول الله أقبل فلقى ذا الحمار مرتداً، فقاتله فكان أول من قاتل في الردة وجاهد عن الدين، فكانت هذه المودة، كما قاله الزهري .
فكما نلاحظ أن هذا الخلاف في التفسير يجعل من الحكم الخاص بعدم المودة لأهل الكتاب والمشركين أمراً غير حاسم . مع أن بعض الآيات لا تبدي عتاباً أو نهياً للحب الذي يكنه المؤمنون لبعض الكافرين والمنافقين رغم كيدهم وبغضهم، ومن ذلك قوله تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بِطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً، ودّوا ما عنتم. قد بدت البغضاء من أفواههم وما تُخفى صدورهم أكبر، قد بيّنا لكم الآيات إن كنتم تعقلون. هاءَنتم أُولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله، وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضّوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور)) ، وهي من الآيات التي ذكر العديد من المفسرين أنها نزلت في اليهود المجاورين للمسلمين في الحجاز . فأي عظمة وتسامح أبلغ من هذا؟!
بل ماذا نقول فيما تصرح به آية (آل عمران/ 67) من حب الله للمتقين وهي بصدد الحديث عن أمانة بعض من أهل الكتاب، حيث يقول عزّ من قائل: ((ومن أهل الكتاب من أن تأمنه بقنطار يؤده اليك ومنهم من أن تأمنه بدينار لا يؤده اليك إلا ما دمت عليه قائماً ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون. بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين)) ؟! وماذا نقول في تحليل القرآن للزواج من الكتابيات كما في قوله تعالى: ((اليوم أحلّ لكم الطّيّبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حلّ لكم وطعامكم حلّ لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهنّ أجورهنّ محصنين غير مسافحين ولا متّخذي أخدان)) ، مع أن من شأن الزواج أن تسود فيه المودة والرحمة بصريح قوله تعالى: ((ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون)) ؟!
هكذا يتضح مما سبق بأن مورد النفرة التي دلت عليها بعض النصوص كان بصدد ما جاء من جحود وعداء ومحاربة للمسلمين من قبل المشركين وأهل الكتاب، وهو أمر يختلف فيه الحال من وضع إلى آخر، ومن واقع إلى غيره.
ونفس الأمر ينطبق على الموالاة. فلعل من الواضح أن ما تنهى عنه الآيات السابقة من الموالاة إنما هو لإعتبارات العداء لا لمجرد الإعتقاد، بدلالة ما ورد من نص بعد آية البرّ، وذلك بقوله تعالى: ((لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين... إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تَوَّالوهم، ومن تولَّهم فأولئك هم الظالمون)) . فالأمر بعدم الموالاة جاء مخصوصاً بالفئة الثانية دون الأولى. أما من حيث السيرة فمن المسلّم به أن النبي قد اعتمد على بعض من المشركين الموثوقين في نقل الأخبار، لذلك أجاز بعض العلماء، ومنهم إبن القيم، الإستعانة بالمشرك المأمون في الجهاد عند الحاجة، لأن فيه من المصلحة بكونه اقرب إلى الإختلاط بالعدو، وأخذ أخبارهم .
أخيراً نتساءل: هل يُعقل وجداناً القول بعدم جواز الإستعانة ببعض من أهل الكتاب عند الشروع بإزالة حاكم طاغية مسلم، إذا ما احتيج اليهم وأبدوا أمانتهم وصدقهم في الإعانة؟! كما هل يعقل أن يقال أنه لا يجوز اللجوء والإحتماء بفريق من أهل الكتاب رغم مسيس الحاجة لإنقاذ جماعة مؤمنة من بطش سلطان مسلم جائر ؟!
***
ننتهي مما سبق إلى عدد من النتائج كالتالي:
1ـ إن قانون الجزية ليس إلزامياً، حيث أنه في عصر النص لم يكن ملزماً فكيف الحال بما بعده من العصور.
2ـ إنه إذا فهم من الجزية بأنها ضريبة بدل النصرة والحماية، فإن قوانين المواطنة الحالية التي تقرها الدول يمكن أن تكون عوضاً عنها.
3ـ إن التمايز بحسب الإعتبارات الدينية في المجتمعات وقت عصر النص كان عرفاً سائداً تترتب عليه الكثير من النتائج، في حين أصبح التمايز في الوقت الحاضر قائماً على المواطنة، حيث يترتب عليها هي الأخرى الكثير من النتائج، وبحسب الإعتبارات الحالية يصبح التعويل على التمايز الديني اسلوباً لا يتسق وطبيعة التطورات التي أفرزها الواقع الحديث، فهو يلقي بكثير من المشاكل الإجتماعية والسياسية ولا يخدم الفكرة الدينية ومقاصدها. وربما أول قرار بهذا الشأن هو قانون الجنسية العثماني (عام 1869م)، والذي ينصّ على أن المسلم غير العثماني يعد أجنبياً وفق للبعد الوطني.
4ـ إن ما يفسر حكم الجزية والصغار، مع غيره من الأحكام المعارضة، هو تمايزات الواقع وما يتحكم بها من مقاصد الشرع وعلى رأسها مبدأ العدل. وعليه تتمثل المحاور الرئيسية للتعامل مع الأحكام بكل من النص والواقع والمقاصد، وهو الأمر الذي يستهدفه النهج الوقائعي خلافاً لنظيره الماهوي. فرغم تعدد الفهم الذي تقيمه الدائرة البيانية حول التعامل مع أهل الكتاب طبقاً لقانون الجزية ومبدأ الصغار؛ إلا أنها غارقة في المعنى الماهوي الذي يجعل من دلالة النص دلالة مستغلقة ومطلقة لا تقبل الفك ولا الإنفتاح. فليس في الأفق ما يعوّل عليه من دلالة أخرى، كتلك المستمدة من الواقع مثلاً.
مع هذا فقد تجاوز العصر الحديث تلك الأحكام المتبناة من قبل النظام المعياري أو الدائرة البيانية، لضغط الحاجات الزمنية والواقع، بل أخذت التصورات الحديثة تشيد بالمواطنة والمساواة بين المسلم وغيره، سيما وقد أصبح المجتمع ليس دينياً خالصاً كما في السابق، فلروح العصر أثرها على التفكير كما أشرنا من قبل، الأمر الذي جعل الكثير يتحرك نحو إعادة النظر والتخفيف من الحدة التي رسمها ذلك النظام، والتي أصبحت اليوم من أعظم المعيقات التي تواجه حركة البناء الإجتماعي.
وسبق للآلوسي أن ذكر الآراء الفقهية حول الصغار ورآها تؤكد على الإذلال والإهانة، ثم قال بالحرف الواحد: ‹‹وكل الأقوال لم نر اليوم لها أثراً، لأن أهل الذمة فيه قد امتازوا على المسلمين والأمر لله عز وجل. حتى أنه قبل منهم ارسال الجزية على يد نائب منهم، وأصح الروايات أنه لا يقبل ذلك منهم، بل يكلفون أن يأتوا بها بأنفسهم مشاة غير راكبين، وكل ذلك من ضعف الإسلام...›› .
كما سبق للحكومة العثمانية أن سحبت قرارها جول عقد الذمة وإيجاب الجزية، خلافاً لصراحة النص القرآني وقطعيته. ففي (عام 1839م) اصدر السلطان عبد الحميد أول بيان للتسوية بين جميع الخاضعين إلى حكم السلطنة من أتباع الأديان، وفي أثناء حرب القرم (عام 1856م) أصدر السلطان بياناً إضافياً أكد فيه عزمه على تحقيق السعادة لأجل الجميع بتكريس الضمانات الممنوحة بموجب القرارات السابقة وجميع الامتيازات الروحية للطوائف غير المسلمة. لذلك منع التفرقة والتمايز في الدين واللغة والعرق لكل من: توزيع وظائف الدولة والالتحاق بالمدارس والخدمة العسكرية ودفع الضرائب . وقد نحت مختلف دساتير الدول الإسلامية في عصرنا الحالي إلى الإقرار بهذه المساواة طبقاً لمفهوم المواطنة التي حلّت محل التمايزات الدينية، بما فيها تلك التي سعت إلى تطبيق الشريعة الإسلامية، مثل ايران والسودان.
وظهرت الكثير من الكتابات التي تبرر لهذا المنطق الجديد، رغم خلوها من التنظير الخاص بعلاقة الخطاب بالواقع. وأصبح من الطبيعي أن يتخلى المحدثون عن منطق (الصغار) المتضمن للإهانة والتحقير كما تنص علية آية الجزية وتمسك به السلف طيلة القرون الماضية. كما من الطبيعي أن نجد جملة من المفكرين يبحثون عن المبررات التي تلغي التمايز بين المسلمين وغيرهم. فبعض المفكرين يبحث عن الوثائق التي تثبت المساواة والمواطنة بين المسلم وغيره من أهل الكتاب ، وبعض آخر يرى أن عدم المساواة بين المسلم وغيره في حقوق المواطنة ليست من جوهر الدين وضروراته، بل هي مسألة إجتهادية . كما يرى بعض ثالث أن الجزية مجرد مقدار من المال يصالح عليها أهل الكتاب في بلدهم، فهي بالتالي ليست أكثر من ضريبة المواطنة يؤدونها معترفين بسيادة المسلمين وبدخولهم تحت سلطة دولة الإسلام . كما يشيد بعض رابع بالمواطنة والمساواة في الحقوق مع المسيحيين في الوقت الحاضر .
ومن المفسرين المعاصرين من سعى إلى توظيف بعض المعاني اللغوية للصغار ليخرج بنتيجة ليس فيها ما يقتضي الإذلال والتحقير، كالذي لجأ إليه العلامة الطباطبائي في (الميزان)؛ خدمة للحاضر وتبريراً للواقع الحديث، وذلك على خلاف ما استقر عليه علماء كل من الإتجاهين السني والشيعي. فقد قام بتفسير آية الصغار ((وهم صاغرون)) طبقاً للمعنى اللغوي وبعيداً عن السياق الدلالي فنقل ما يقوله الراغب الاصفهاني: يقال صِغَر صِغراً يعني فيما هو ضد الكبير، لكن صَغَر صغاراً فإن له معنى في الذلة. من هنا اعتبر الطباطبائي أن ظاهر الآية هو المعنى الأول ‹‹لا أهانتهم والسخرية بهم من جانب المسلمين أو أولياء الحكومة الدينية، فإن هذا مما لا يحتمله السكينة والوقار الإسلامي››. وبالتالي فمعنى صغار أهل الذمة هو ‹‹خضوعهم للسنة الإسلامية .. فلا يكافؤوا المسلمين ولا يبارزوهم بشخصية مستقلة حرة..›› . وقريب من ذلك ما رآه الشيخ المنتظري، حيث اعتبر أن ما مذكور من فتاوى وتفاسير تتضمن الإهانة لأهل الذمة هو مما لا يناسب ثقافة الإسلام، ولا كان معروفاً عن النبي والأئمة .
ويلاحظ أن ما أورده الطباطبائي يقترب من المعنى الذي أراده إبن القيم كما عرفنا، سوى أن إبن القيم فسّر الصغار بما لا يخرج عن معنى الإذلال والإستخفاف، والذي تجاهله المرحوم صبحي الصالح في مقدمته وتعليقه مكتفياً بما نصّ عليه إبن القيم من معنى لا يفضي إلى امتهان كرامة الذمي. فمثلا أنه علّق على كلام إبن القيم الذي سبق ذكره فقال: ‹‹رحم الله إبن القيم، فقد أدرك بثاقب فكره وفهمه الصحيح للإسلام، أن امتهان الذمي ينافي سماحة هذا الدين؛ فلم يفسّر الصغار إلا بإلتزام أحكام الله، وصرح بأن كثيراً من أقوال الناس في تفسير الصغار هو مما لا دليل عليه›› .
مع ذلك فمثلما لا يمكن أن نستصحب حكم النظام المعياري وهو يحاول أن ينزع على الخطاب الديني طابعاً ‹‹منطقياً›› صارماً بحسب النهج الماهوي؛ فكذلك لسنا على استعداد لأن ننجر نحو التبريرات التي أفرزتها الظروف الحالية والتي تضيف هي الأخرى أحكاماً مطلقة في قبال الأحكام المطلقة للنظام المعياري. فلا يمكن فهم الموقف إلا بفهم الخطاب والواقع معاً. إذ كان تقصير النظام المعياري يتمثل عادة بتجاهله لإعتبارات الواقع ودلالات المقاصد التي تحيط بالنص عموماً وخصوصاً، هنا وهناك. بينما كان تقصير أغلب التيارات الجديدة التي أفرزها التطور الحضاري الحديث هو أنها لم تنشغل بفهم الخطاب من ذاته، إذ لجأت بحكم تأثرها بالواقع المعاش إلى إسقاط التبريرات وفق ما صادفته من حاجات زمنية ملحة.
5ـ تبعاً لما مرّ معنا يعد الكفر، من حيث كونه ماهية كلية، مصدراً قد قصده الشرع بالمحاربة المطلقة. لكنه لما كان ملتبساً بعناوين أخرى تتحد معه على أرض الواقع، لذا تلونت المعاملة الشرعية معه وتباينت تبعاً لعناوين الإتحاد. فقد يتحد بالعدوان والتحريض، أو بعدمهما، كما قد يتحد بالنسوة والشيخوخة، أو الأبوة والأُمومة، وكل ذلك يبعث على مغايرة التعامل، كالذي لجأ إليه الخطاب الديني، ومن ذلك قوله تعالى: ((وإن جاهداك على أن تُشرك بي ما ليس لك به علم فلا تُطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً)) .
ويمكن أن يقال الأمر نفسه في التمييز بين الكفر الملتبس بالإستغلال والفساد وسائر ضروب الظلم، وبين ذلك الساكن الذي لا يؤدي مثل هذا الدور، فشتان بين رؤوس الكفر من الطغاة الجبابرة، وبين غيرهم من المستضعفين من الناس. هكذا يلاحظ أن تعامل الخطاب مع الماهيات المجردة هو تعامل ثابت لا يتغير، إلا أنه من حيث الواقع يراعي ملابساتها الخارجية، بإعتبار أن وقائع الماهيات (المصاديق) غير معزولة عن الوقائع الأخرى التي تتحد معها وتجعلها مورداً للمواقف المتغيرة بحسب ما عليها من تغايرات. وهو ما نعنيه بالظاهرة النسبية لتعامل الخطاب الديني، مما يؤكد خطأ التصور التقليدي الذي ‹‹يمطلق›› الظرف ليطبّق عليه ظاهرة القياس أو ‹‹الإستصحاب›› التي تثبت عين الحكم بإطلاقه وإغلاقه.

النموذج الثالث
إن حلّ التعارضات الإطلاقية لا يصدق فقط على الأحكام التكليفية التي نطق بها الخطاب كما رأينا، بل يصدق أيضاً على ما ذُكر من أوصاف وأحكام غيبية تلوح المشخصات الخارجية. ولعل أبرز مثال على ذلك ما جاء في قوله تعالى: ((ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين)) . ففي الآية مستويان من الإطلاق، أحدهما ما جاء في الشطر الأول من الآية، وهو قوله تعالى ((ومن يبتغ غير الإسلام ديناً))، والآخر قوله تعالى: ((فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين)). ويمكن معالجة المستويين من الإطلاق، من خلال البحث في محورين، ترد في كل منهما بعض الإحتمالات التي تقابل الإطلاق المناط به كالتالي:
المحور الموضوعي: إذ يمكن أن نتساءل: هل يجوز التمسك بالإطلاق الوارد في الآية وتطبيقه على كل من لم يدخل الإسلام بأي نحو كان، أو لا يصح التمسك بهذا الإطلاق، مما يجعل المصاديق ليست عامة وكلية وإنما عبارة عن جماعات لم تعينهم الآية بالتشخيص؟ وبعبارة أخرى هل أن الحكم بالخسران وعدم القبول يلوح كل من لم يدخل الإسلام أم بعضهم؟
المحور الحكمي: إذ قد يقال أنه سواء فرضنا أن الآية تصدق على جماعات بعينها أو على كل من لم يدخل الإسلام قاطبة، لكن هل يصح التمسك بالإطلاق الحكمي من الخسارة وعدم القبول، أم أن هناك دلالة أخرى تجعل من الخسارة وعدم القبول نسبيين، كإن يصدقان في موارد دون أخرى؟



المحور الموضوعي
يلاحظ في هذا المحور أن هناك عدداً من الآيات تعارض الإطلاق الوارد في النص الآنف الذكر، كتلك التي تبدي أن الله يتقبل الأعمال الصالحة بإطلاق تارة، ومن غير المسلمين بالتحديد تارة أخرى.
دعنا في البداية نذكر مستويات من التصوير الخطابي لغير المسلمين. فهناك آيات تبدي مدحاً لبعض من الكتابيين لِما يمتازون به من صفات، أهمها قبول الحق والتصديق به عند سماعه. فالمدح عام ومقصود للصفات ذاتها، بغض النظر عن علة نزول هذا المدح وهو إيمان البعض من أهل الكتاب بالدين الجديد. ومن ذلك قوله تعالى: ((لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا، ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى، ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون. وإذا سمعوا ما أُنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق، يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين. وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين. فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين)) ، وقوله تعالى: ((ولو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون. ضُربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا.. ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون. ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله إناء الليل وهم يسجدون. يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين)) ، وكذا قوله تعالى : ((ولو أنهم أقاموا التوراة والانجيل وما أُنزل اليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم، منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون)) .
والملفت للنظر في مثل هذه الآيات هو أن الخطاب الديني أولى خصوصية لذكر التمايزات الحاصلة بين أهل الكتاب أنفسهم، إذ أن بعضهم يتصف بالصدق والإيمان والمودة والخشوع.. فمع أن الثناء قد يلوح أولئك الذين آمنوا منهم بالدعوة الجديدة، إلا أن عنونتهم ضمن الإنتساب السابق؛ يوحى وكأنهم ما زالوا غير خارجين عن دينهم وأنهم مكرمون بنظر الدين الجديد. فهذه الخصوصية لا نجد لها ذكراً لسواهم من المشركين أو عبدة الأوثان. وعليه هل يُفهم من ذلك أن الخطاب يريد الكشف عن وجود جماعات آمنت بالرسالة الجديدة إلا أنها لم تنخرط ضمنها فبقيت على ما عليه من التعامل المزدوج، حيث الإيمان بالرسالة الجديدة والعمل وفق ما عليه الدين السابق؟ أي أنها رغم عدم انضمامها ضمن الجماعة المؤمنة فإنها حظيت بالتقدير والثناء ونُسبت إلى ما هي عليه من الدين الأول، كما هو الحال مع النجاشي الذي قيل أنه أسلم عن بعد، ومثل ذلك فرقة النصارى الموحدين (الآريوسيين). فربما يشير إلى هذا المعنى ما جاء في قوله تعالى: ((وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أُنزل اليكم وما أُنزل اليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً أولئك لهم أجرهم عند ربهم، إن الله سريع الحساب)) .
أو أن الأمر يفسّر على نحو آخر أقرب، وهو أنّ مردّ تلك الخصوصية يعود إلى أن الرسالة الجديدة كانت تستهدف في الأساس عبدة الأوثان من المشركين العرب لأنهم يشكلون أغلب سكان الجزيرة العربية، في حين أن غيرهم لم يكن مستهدفاً بمثل ما عليه أولئك، لقلتهم ولكونهم ينطلقون مع المؤمنين من منطلق المنافسة بإعتبارهم ذوي أساس وهدف مشتركين، مما يجعل الداخل في الإسلام منهم يحظى بذلك الإمتياز من الثناء وذكر ما ينتسب إليه.
او ربما كان الثناء والمدح لأولئك الذين بقوا على دينهم، لإخلاصهم واتباعهم التعاليم الصحيحة التي يجدونها في كتبهم، فهم يتلون ما عندهم من مناجاة الله ودعائه، ويقيمون صلاتهم التي عهدوها أو يتذللون لله تعالى بما عبّرت عنه الآية: ((وهم يسجدون)). وهذا ما اختاره الشيخ محمد عبده وتلميذه رشيد رضا .
وهناك نمط آخر من الآيات تبدي بإطلاقها قبول ما يصدر عن أهل الكتاب من الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح دون قيد ما تستلزمه الرسالة الجديدة وما تقتضيه. ومن ذلك ما جاء في قوله تعالى: ((إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون)) . وعلى شاكلتها قوله تعالى: ((ان الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون)) . فالآية بحسب ذاتها مطلقة وعامة غير مخصوصة بجماعة دون أخرى، لذلك عدها البعض منسوخة بآية (آل عمران/85)؛ تقديراً لما وجده فيها من تعارض مع الآية الأخرى كما هو ظاهر، رغم أن القضية ليست من قضايا التكليف أو الأمر والنهي، بل من موارد الوعد والإخبار . لكنها برأي الكثير من المفسرين تخص الأزمنة القديمة قبل مجيء الرسالة الجديدة، كل جماعة بحسب ما كُلّفوا به من دين. مما ينفي التعارض.
على أن الإطلاق الوارد في الموضعين يبقي المعارضة قائمة بينهما ما لم يتم حلها من خلال الإستعانة بدلالة أخرى مستقلة. لذا فهل هناك من ضرورة تلجأنا إلى الحل بما أشار إليه المفسرون من أن آية الوعد بالثواب لأهل الكتاب إنما كانت بصدد الأزمنة السابقة على الإسلام دون غيرها من الأزمنة الأخرى؟ فعلى هذا الفرض كيف نفسّر أمثال قوله تعالى: ((ومن أهل الكتاب من أن تأمنه بقنطار يؤده اليك ومنهم من أن تأمنه بدينار لا يؤده اليك إلا ما دمت عليه قائماً ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون. بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين)) ؟ فالآية الأخيرة تتجاوز خصوصيات الزمان والمكان، وتبدي ذلك المعنى من المعارضة الإطلاقية مع آية (آل عمران).
وعلى هذه الشاكلة قوله تعالى: ((وقالوا لن يدخل الجنّة إلا من كان هوداً أو نصارى تلك أمانيّهم قل هاتوا برهانكم إنْ كنتم صادقين، بلى من أسلم وجهه للّه وهو محسن فله أجره عند ربّه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وقالت اليهود ليست النّصارى على شيء وقالت النّصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب كذلك قال الّذين لا يعلمون مثل قولهم فاللّه يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون)) .
وفي قبال ما سبق هل يسعنا حل الإطلاق الوارد في آية (آل عمران) تبعاً للمعنى الوارد في النص بعدها مباشرة؟ حيث يقول تعالى: ((كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين. أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)) ؛ فيكون قصد الآية هو أولئك الذين خرجوا عن الإسلام وطلبوا غيره، دون علاقة بمن كان في الأصل خارج دائرة الإنتماء الإسلامي؟
ويعد هذا التوجيه في قصد الآية قوياً جداً للسياق المتصل بين الآيات، وهو ينسجم تماماً مع المنهج الوقائعي. إذ كما عرفنا بأن النص يظل حاملاً لإنعكاسات الواقع الخاص بالتنزيل وتأثيره، ومن ثم يمكن التعرف على معنى النص وفقاً للسياق الدلالي للأخير نتيجة نقله لأخبار هذا الواقع.
وقد يقال إن الإسلام شامل لبقية الديانات السماوية بدلالة قوله تعالى: ((إنّ الدّين عند اللّه الإسلام)) . لكن يُضعِفه ما جاء بعد هذه الآية، وهو قوله تعالى: ((وقل لّلّذين أوتوا الكتاب والأمّيّين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وّإن تولّوا فإنّما عليك البلاغ واللّه بصير بالعباد)) .
مهما يكن فالمشكلة لم تحل بعد، فهناك نصوص أخرى تؤيد الإطلاق الظاهر في آية آل عمران على ما يبدو. لذا نتساءل: هل من الممكن حل مشكلة هذه الإطلاقات المتعارضة بدلالة أخرى تستمد هذه المرة لا من نص الخطاب فقط؛ وإنما من الواقع وإعتبارات المقاصد والوجدان أيضاً؟
قصد الآية هو أولئك الذين خرجوا عن الإسلام وطلبوا غيره، دون علاقة بمن كان في الأصل خارج دائرة الإنتماء الإسلامي؟
ابتداءاً دعنا نسلم جدلاً بأن فك الإطلاق وحلّه إنما يأتي من طرف آية (البقرة/62) وذلك فيما لو خصصناها بما قبل رسالة الإسلام. بل ودعنا نطرح سائر ما ورد من آيات تدعم آية آل عمران وتؤيدها، فلعلنا نجد فيها حلاً للمشكل. إذ هناك الكثير من الآيات التي تتوعد بالعذاب لأهل الكتاب والمشركين والكافرين، كما هو الحال في قوله تعالى:
((إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية)) . وقوله: ((لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح إبن مريم، وقال المسيح يا بني اسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرّم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار. لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة، وما من إله إلا إله واحد، وإنْ لم ينتهوا عما يقولون ليمسنّ الذين كفروا منهم عذاب أليم)) . وكذا قوله تعالى: ((إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً ولو افتدى به، أولئك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين)) . وقوله: ((إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم يُنظرون)) .
فهذه الآيات تدعم وتؤيد بوضوح الإطلاق الوارد في آية (آل عمران). لكن في القبال هناك دلالات من نصوص أخرى تبدي القيود التي يصح عندها مثل تلك الأحكام أو النتائج الأخروية. فالكثير من نصوص الخطاب الديني تشير إلى عدد من المواصفات والملازمات التي تبرر حكم الذم والوعيد. فالقرآن الكريم يصف أهل الكفر بأوصاف ذميمة من الجحود والعناد والمحاربة والتكذيب والصد عن سبيل الله، إذ كذبوا النبي وناصبوا له العداوة والبغضاء من غير حق ولا حجة، مع علمهم وشهادتهم بصدق الرسالة الجديدة لما أُلقي عليهم من الحجج والبيانات التامة، كيف وقد قال تعالى: ((وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً)) ؟! وهو أمر يتفق مع الوجدان والمقاصد، مما يدل على أن ما أراده الخطاب من أحكام ووعيد إنما كان بصدد من اتصف بتلك الصفات والملازمات، مثلما يشير إلى ذلك عدد كبير من الآيات الكريمة، نذكر منها ما يلي:
((يا أهل الكتاب لِم تكفرون بآيات الله وانتم تشهدون. يا أهل الكتاب لِم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وانتم تعلمون)) .
((والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون. يا بني اسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أُوفِ بعهدكم وإياي فارهبون. وآمنوا بما أنزلت مصدقاً لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً وإياي فاتقون. ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون)) .
((إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون. إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم)) .
((ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب)) .
((إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يُغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون.. قل للذين كفروا إنْ ينتهوا يُغفر لهم ما قد سلف وإنْ يعودوا فقد مضت سنة الأولين)) .
((إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئاً وسيحبط أعمالهم.. إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم)) .
((ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدفعوا به الحق واتخذوا آياتي وما أُنذروا هزواً)) .
((ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يَغْرُرْك تقلبهم في البلاد. كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب. وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار)) .
((وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضاً. الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعاً. أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء، إنا اعتدنا جهنم للكافرين نُزلاً. قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً. الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً. أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً. ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزواً)) .
((لُعن الذين كفروا من بني اسرائيل على لسان داود وعيسى إبن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون. كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون)) .
***
يتبين من الآيات السابقة أن الكفر غير منفصل عن ملازمة العدوان والجحود والتكذيب. ولعل أهم الملازمات المعنية هي الجحود والإنكار في قبال ما أُنزل من القاء الحجة وانكشاف العلم وشهود الحق. الأمر الذي يبرر العقاب والوعيد.
لكن هل يمكن أن نعتبر الصفة المشار إليها هي صفة كل من لم ينتم إلى الإسلام قديماً وحديثاً؟ وإذا كان الأمر يصدق غالباً في عصر التنزيل؛ فهل يصح لنا تعميم ذلك ليشمل ما عليه حاضرنا ومستقبلنا كذلك؛ رغم إختلاف المقاييس والإهتمامات والمتبنيات وإعتبارات الحجة والبيان؟ وبالتالي هل يمكن إعتبار الوعيد بالعذاب لكل من لم يختر الإسلام ديناً على إطلاق، سواء كان غير المسلم جاحداً معانداً مع علمه وشهادته، أو كان جاهلاً قاصراً أو حتى مقصراً وإن لم يكن من أهل الجحود والعناد.. وسواء كان معاصراً لرسول الله (ص) وشاهداً للحقائق العلوية وما جاء في الكتب السماوية المتداولة آنذاك من البشارة للرسول الجديد، أو أنه ممن جاء بعده دون أن يعرف من الحقيقة شيئاً، خاصة إذا ما جهل اللغة العربية والثقافة الإسلامية عموماً.. وسواء كان ينصب للإسلام العداوة والبغضاء، أو أنه ممن يتودد إلى المسلمين وإن لم ينخرط في الإسلام لظروف وإعتبارات مختلفة.. وكذا سواء كان يمقت النبي (ص)، أو كان ممن يكنّ له التقدير والإحترام دون أن ينفي نبوته وإنْ بقي على دينه.. وسواء كان ممن يوصف بالفساد والإجرام والفجور، أو كان موصوفاً بالزهد والأمانة والطيب وحسن النية والعشرة والمعاملة..؟ فهل يعقل أن كل هذه التمايزات التي يبديها الواقع تخضع إلى حكم إطلاقي واحد؟ رغم أن تجاوز الإطلاق الظاهر من الآية له ما يبرره، وذلك لما ألفناه من طريقة الخطاب في إبداء الإطلاقات، ومنها الإطلاقات المتعارضة، مع أن المعاني المنتزعة عنها لا يمكن أن تكون مطلقة.
وبعبارة أخرى، قد يحق لنا أن نتساءل عن مصير ذلك الشخص الذي لا يتصف بالجحود والعناد ولا بالشر والفساد، بل هو من أهل الصلاح وحسن النية وإنْ ضلّ السبيل بجهله، إجتهاداً أو تقليداً كما هو حال غالبية الناس، وسواء نتج ذلك عن قصور أو تقصير، فكيف يعقل أن يكون أمثاله ساقطاً بمثل ما يسقط به أهل الطغيان والفساد ؟ وكيف يمكن المواءمة بين مثل هذه الحالة وما تتصدره مقاصد الخلق والتشريع من ضرورة العدل؟ ثم ألا يكون للآيات الأخرى ذات الإطلاقات المعارضة شيء من الحساب مما يتفق مع المقاصد وتمايزات الواقع؟ وكذا كيف يصح التمسك بالإطلاق السالف الذكر من غير إعتبار للشروط المناطة بضرورة إلقاء الحجة والعلم والبيان الوافي، مثلما يشير إليه قوله تعالى: ((وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً))؟ وهو ما يؤكد بأن الوعيد وعدم القبول إنما يخص أولئك الذين اتصفوا بالجحود والنكران وما يلازم ذلك من صفات مضادة للحق.
بل قد يستفاد من ذكر الملازمات بأن مصطلح الكفر كمفهوم لا يستقل عن تضمنه للأُولى واستبطانها، سيما فيما ذكرناه عن الجحود بإعتباره أحد معاني الكفر، بل هو أقرب معانيه، وأن ما يقابله هو التسليم والخضوع للحق عند معرفته، وبه يتحقق معنى الإسلام. فالكفر قائم على الجحود مثلما أن الإسلام قائم على التسليم. وأن الكفر بهذا المعنى مدعاة لسائر الصفات الأخرى من التكذيب والصدّ والعدوان وغيرها، وقد قال تعالى: ((والكافرون هم الظالمون)) . الأمر الذي يتقرر عليه وجود دائرة غير محددة بالكفر والإسلام، فلا هي من دائرة الكفر، ولا هي من دائرة الإسلام. وبالتالي ليس بالضرورة أن يتصف كل من لم ينتم إلى الإسلام بالكفر، أو أن يكون كافراً ، سيما إذا عرفنا بأن للمفهوم استخدامات مرنة دون التقيد بحدود الدائرة غير الإسلامية، أو بحدود الإعتقاد البحت. فقد أطلق المفهوم على تارك الصلاة رغم الإعتراف بإسلامه، كما أطلق على من لم يحكم بما أنزل الله، مع أن الحاكم قد يكون مسلماً.
هكذا فبقدر ما يُسمح لمفهوم الكفر أن يُستخدم بمرونة وبمواضع تدخل دائرة الإنتماء الإسلامي، بقدر ما يمكن أن يُرفع من بعض المواضع خارج دائرة هذا الإنتماء. وقد وصف القرآن الكريم أقواماً غير مسلمين بوصف لا يمكن ادراجه ضمن الكفر، كالذي مرّ علينا في بعض الآيات، مثل آية (المائدة/66) و(آل عمران/75ـ76) وغيرها من الآيات.
إذاً من غير الممتنع وجود نوع من التداخل بين دائرتي الإنتماء وعدم الإنتماء، فقد يلوح الكفر دائرة الإنتماء الإسلامي مثلما قد ينتفي عن الدائرة الأخرى. شبيه بما هو مقرر حول مفهوم الفسق الذي شاع استخدامه ضمن دائرة الإنتماء الإسلامي، مع أنه استخدم أيضاً خارج هذه الدائرة، فعلم أن دائرة غير الإنتماء هي كدائرة الإنتماء تنطوي على مصاديق جزئية للفسق وإن لم ينطبق ذلك كلياً على جميع افراد الدائرة، مثلما جاء في قوله تعالى: ((قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منّا إلا أن آمنا بالله وما أُنزل الينا وما أُنزل من قبل وأن أكثرهم فاسقون)) ، وقوله: ((ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أُوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون)) .
لذلك انتقد رشيد رضا جمهور المفسرين بما اقتضته تفاسيرهم من نفي أن يكون من أهل الكتاب ‹‹أحد متمسك بدينه مخلصاً فيه، عاملاً بأوامره ونواهيه››، معتبراً ذلك غير معقول ولا موافق لطبيعة البشر من ميل بعض الناس للمغالاة في الدين وبعضهم للإعتدال وبعض ثالث للفسوق والعصيان. ويزداد الأخير بعد طول الأمد كما أشارت إليه الآية الأخيرة. لهذا لم يحكم القرآن على أمة بالضلال والفسق بنص عام يستغرق كافة الأفراد. ويعزو رشيد رضا السبب في عدم إدراك المفسر لإيمان وإخلاص وتقوى أولئك الذين لا ينتمون إلى دينه أو ملته؛ إلى الإلفة وعدم العلم بطبائع الملل وحقائق الإجتماع البشري . وقد صادفنا أناساً من ذوي العلم الديني ينكرون حصول الإيمان والإخلاص والتقوى لدى من هم خارج طائفتهم، خلافاً لما استهدفه القرآن الكريم من مقاصد تتعلق بقيم الأفراد وصفاتهم دون إنتماءاتهم، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: ((يا أيّها النّاس إنّا خلقناكم من ذكر وأُنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند اللّه أتقاكم إنّ اللّه عليم خبير)) .
ونخلص مما سبق إلى أن النهج الماهوي يعجز عن حل مشكلة التعارضات الإطلاقية كتلك التي أشرنا إليها. فافتراض وجود ما يخصص بعض النصوص كما في آية (البقرة/62) دون الإشارة إلى دليل منفصل سوى ما يعارضها من نصوص إطلاقية أخرى؛ ليس حلاً للمشكل، إنما هو إضطرار لجعل المخصص من غير دليل. مع أن هذه الآلية من التخصيص لا تعالج نصوصاً أخرى معارضة كتلك التي أشرنا إليها في آيتي (آل عمران/75ـ76)، وتلك التي تؤكد جزاء الإحسان بالإحسان، وأن الله تعالى لا يضيع عمل عامل من ذكر وأُنثى، وأن الله يُطلع الخلق على كل ما يعملونه من خير وشر، وغيرها..
يضاف إلى أنه مهما تمّ القيام بعملية التوجيه والتخصيص وسائر الآليات البيانية المقننة الأخرى لفهم الخطاب؛ فإن ذلك لا يجعل منه نسقاً قادراً على الإتساق مع ما يبديه الواقع من التلونات والتغايرات التي تأبى الإجتماع تحت مظلة حكم ماهوي واحد، إذ يفضي الأمر إلى الصدام مع العدل الذي يتربع على رأس مقاصد الخلق والتشريع.
أما لو اتبعنا النهج الوقائعي فالأمر مختلف، إذ يمكننا في هذه الحالة استخلاص معنى النص وتفسيره بدلالة الواقع وتلوناته تحت ظل التوجيه المستمد من الوجدان والمقاصد. أي أن ما سبق من معارضات إطلاقية لعدد من الآيات، وما يشهد به الوجدان وما تشير إليه تمايزات الواقع فضلاً عما ينبغي مراعاته من المقاصد، كلها يشير إلى تعذّر إخضاع الخطاب تحت هيمنة النهج الماهوي، وبالتالي لا بد من اللجوء إلى فهم نسبوي يستعين بدلالات أخرى تكشف عن حقيقة ما يريده الخطاب من معنى، أو ما يقترب منه على الأقل.

المحور الحُكمي
أما بخصوص المحور الحُكمي من الآية موضع البحث، وهو المحور المتعلق بالإطلاق الخاص بالخسارة وعدم القبول، فيلاحظ أنه يتعارض أيضاً مع إطلاقات أخرى، وأن هذه التعارضات لا تُحلّ إلا بدلالة الوجدان والمقاصد مع لحاظ تمايزات الواقع. فمن النصوص الإطلاقية المعارضة قوله تعالى: ((هل جزاء الإحسان إلا الإحسان)) ، وقوله: ((فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره)) .
ولأجل التوفيق بين هذه الإطلاقات المتعارضة يرد إحتمال أن يكون بعضها حاكماً على البعض الآخر ومخصصاً له فيما هو خارج عن دائرته، كإن تكون آية الخسران هي الحاكمة بحيث تخصص الجزاء بالمسلمين فقط، أو تكون الآيات المقابلة هي الحاكمة فتخصص الخسران وعدم القبول بما هو خارج دائرة الإحسان وعمل الخير. فلو أن التردد وارد بهذا الشكل من التعارض؛ لقلنا أن الوجدان شاهد على أن آية الخسران ليس بوسعها أن تخصص الجزاء بالمسلمين، وبالتالي ليست هي الحاكمة على ما يقابلها من الآيات المشار إليها. في حين أن العكس هو مما يشهد به الوجدان ويتفق مع مقاصد الخلق والتشريع. أي أن الآيات الأخيرة هي التي ينبغي أن تكون حاكمة على ما قبلها.
لكن لو قيل أن الموضع محسوم بآيات الإحباط التي تصرح بأن الله تعالى يحبط أعمال الكافرين جزاء ما كفروا وأشركوا، والتي تتسق مع آية الخسران.. لقلنا أن ذلك ليس مستقلاً عن الملازمات التي ذُكرت بشأن الكفر والشرك كما عرفنا. أي أنه لا يمكن فصل الإحباط عما يلازم الكفر من الصفات التي أشارت إليها الآيات الكريمة في مواطن عديدة، كقوله تعالى:
((إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئاً وسيحبط أعمالهم)) .
((قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً. الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً. أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً. ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزواً)) .
((والذين كفروا فتعساً لهم وأضل أعمالهم. ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم)) .
((إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم. أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين)) .
***
لكن لا يمتنع أن يكون ما قصدته آية (آل عمران) هو اقتضاء الوقوع في الخسارة بفعل دواعي الشر وعدم الانضباط بموازين العدل والتقوى عند إتباع غير الإسلام، دون أن يتحتم ذلك، مثلما كان المنطق الأرسطي يقول على لسان إبن سينا بصدد ما يفعله نبات السقمونيا، وهو أن من شأنه تسهيل الصفراء، لكنه لا يحتم ذلك، فمن الممكن أن تكون هناك موانع تمنع الإسهال، ناهيك عن أن الحكم خاص بما لوحظ بحسب الظروف المحسوسة وليس على سبيل الإطلاق . ويؤيد هذا المعنى ما دلت عليه الكثير من الآيات ذات الظهور الإطلاقي، مع أنها بشهادة الواقع لا تدل على المعنى الشمولي أو الاستغراقي، بل على وجود الميل واقتضاء النتيجة وإن لم يتحتم ذلك، مثل الآيات التي تبدي الإطلاق بأن الله لا يهدي الظالمين والكافرين، ومثل قوله تعالى على لسان نوح: ((إنك إنْ تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً)) .
كما لا يمتنع أن يكون ما قصده الخطاب من الخسارة وعدم القبول إنما هو ذلك المتعلق بموارد العبادات بالخصوص، من حيث أنها حق الله تعالى من جهة، وبإعتبارها من الموارد المخصوصة لكل دين، وبالتالي فلا علاقة لذلك بالمعاملات التي تتصف بالعمومية وعدم التخصيص، وهي مما يدركها العقل إبتداء وتأسيساً. ولا شك أن هذا التمييز مبرر، إذ أن نسخ شريعة لشريعة أخرى لا يمكن أن يكون على إطلاق، وإنما ضمن موارد التعبد والعبادات مع أخذ إعتبار تجددات الواقع. وبالتالي فمن المعقول أن لا يتقبل الله تعالى تلك العبادات المنسوخة، وكذا المعاملات التي تحتاج إلى تغيير بحسب تجددات الواقع، أما غيرها من موارد السلوك والمعاملات المبنية على الفهم العقلي العام فليست مستخلصة في الأصل من البيان الشرعي، بل أنها مدركة سلفاً بما أودعه الله تعالى في نفس الإنسان من فهم وإدراك، وقد أمضاها الشارع الحكيم لصدقها وسلامتها، مثل موارد القبح كالسرقة والقتل بدون حق والظلم والعدوان والغصب والاستلاب وغيرها، وكذا موارد الحسن كالصدق والأمانة والمروءة والإخلاص وحسن المعاملة وغيرها؛ فإنها جميعاً ليست مؤسسة من حيث الأصل بحسب البيان الشرعي، بل أنها مدركة سلفاً بما أودعه الله تعالى في نفس الإنسان من فهم وإدراك، وقد أمضاها الشارع الحكيم لصدقها وسلامتها. فهي بالتالي حجة باطنة وشرعاً من الداخل، وأنه مما يعبد بها الرحمن ويكتسب بها الجنان .
لكن مع ذلك فهذا التخصيص والتوجيه لقصد الآية يبقى مجرد إحتمال وهو ليس قوياً. فالمعنى الذي ذكرناه وإن كان في حد ذاته صحيحاً إلا أن انطباقه على فهم الآية يفتقر إلى الدليل.
وطبقاً للنهج الوقائعي فإن الدليل الأقوى يتعلق بالمخاطب الأصلي، وهو الشاهد الحاضر الذي شافهه الخطاب وقصده بالمعنى، كالذي مرّ علينا من قبل.
هكذا نصل في النهاية إلى طرح التساؤل التالي:
هل يصح أن نلقي أحكاماً ونصف أفراداً وجماعات محددة بمثل ما فعله الخطاب؟ وبعبارة أخرى إذا عرفنا بأن الأخير لم ينهج المنهج (المنطيقي) الذي تبناه أصحاب المسلك الماهوي، فهل يخولنا ذلك إصدار ذات الأحكام تبعاً للمسلك المذكور؛ رغم ابتعاد قصد الخطاب وطريقته عن هذا الإتجاه؟!
كل ما يمكن قوله بهذا الصدد، هو أن قضايا الواقع تتلون بتلونات متباينة، فتبدأ صارخة عند الطرفين المتعارضين ثم تتناقص شيئاً فشيئاً حتى يلتبس الأمر عند الوسط وما يقاربه. وعلى هذا الأساس يكون إدراكنا للقضايا واضحاً وبيناً عند الطرفين وما يقاربهما وإنْ إختلفت النتيجة فيهما سلباً وإيجاباً، في حين يتلاشى هذا الوضوح والبيان عند الإقتراب من الوسط. فالوسط هو الحد الذي يستعصى فيه إتخاذ ما في إزائه من حكم وإتصاف، بإعتباره موضعاً جامعاً للتضاد وملتقى التقابلات، فيقتضي الأمر مراعاة الحيطة خلافاً للطرفين.



#يحيى_محمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عقل: عربي أم إسلامي؟
- الخطاب الديني والتفكير الوقائعي
- التراث المعياري وصراع الأصول المولّدة
- الاصول المولدة في علم الكلام
- كيف نقرأ التراث؟
- أربعة مواقف للفلاسفة والعرفاء من النص الديني
- بين الفهم المجمل والمفصل للدين
- ديفيد هيوم ومشكلة الاستقراء
- الوضعية المنطقية وقضايا المعرفة
- إشكالية تغيير الأحكام الشرعية
- التشريع الديني وتغايراته
- شواهد لأثر الواقع على تغيير فهم النص الديني
- نظرية كارل بوبر والقضايا العلمية
- التغيير الفقهي وأنماطه الواقعية
- مصادر المعرفة الإسلامية: النص.. الواقع.. العقل
- ظاهرة النسخ في الخطاب الديني ودلالاتها
- الجابري والتصنيف الثلاثي للعقل العربي
- الفهم الديني وغياب علم الطريقة
- السؤال عن فهم الخطاب الديني وعلم الطريقة
- محددات الفكر الإسلامي وعلم الطريقة


المزيد.....




- “عيد مجيد سعيد” .. موعد عيد القيامة 2024 ومظاهر احتفال المسي ...
- شاهد..المستوطنين يقتحمون الأقصى في ثالث أيام عيد -الفصح اليه ...
- الأردن يدين سماح شرطة الاحتلال الإسرائيلي للمستوطنين باقتحام ...
- طلاب يهود بجامعة كولومبيا: مظاهرات دعم فلسطين ليست معادية لل ...
- مصادر فلسطينية: أكثر من 900 مستعمر اقتحموا المسجد الأقصى في ...
- مئات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى تحت حراسة إسرائيلية مش ...
- سيبدأ تطبيقه اليوم.. الإفتاء المصرية تحسم الجدل حول التوقيت ...
- مئات المستوطنين يقتحمون باحات الأقصى في ثالث أيام عيد الفصح ...
- أوكرانيا: السلطات تتهم رجل دين رفيع المستوى بالتجسس لصالح مو ...
- “خليهم يتعلموا ويغنوا ” نزل تردد قناة طيور الجنة للأطفال وأم ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - يحيى محمد - موقف الخطاب الديني من غير المسلمين