أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - يحيى محمد - فهم النص ومعايير التحقيق (4)















المزيد.....



فهم النص ومعايير التحقيق (4)


يحيى محمد

الحوار المتمدن-العدد: 3117 - 2010 / 9 / 6 - 22:48
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


5ـ معيار المنطق
للمنطق أهمية خاصة كمعيار، وهو انه يجعل فهم الخطاب الديني فهماً متماسكاً ومتسقاً، سيما اذا كان هذا المنطق يتضمن دور الكاشف دون ان يحمل نتائج مسبقة او قبليات مضمونية خاصة. ويعد مبدأ الاستقراء أهم المبادئ المنطقية التي تؤدي مثل هذا الدور الكاشف، وهو من القبليات المحايدة.
ولهذا المعيار عدد من القواعد، بعضها يستخدم للكشف عن قيمة الفهم والنظرية المعرفية، أما البعض الآخر فيستخدم كشروط أولية تُفرض عليهما ابتداءاً. وتستمد طبيعة هذه الشروط من مبدأ عدم التناقض، وبالتالي فهي شروط (سلبية)، ذلك لأنها لا تدعو الى الكشف عن شيء محدد بقدر ما توصي بأن لا يتصف الفهم والنظرية بالتناقض. ويمكن تقسيم هذه الشروط الى ثلاث قواعد كالتالي:

قاعدة عدم التناقض الذاتي:
وتعني هذه القاعدة أن لا يحمل الفهم او النظرية تناقضاً مع الأصول المولدة وسائر مترتبات المنظومة المعرفية. فمن التناقضات مثلاً ما ورد عن بعض الأشاعرة - ومن على هذه الشاكلة - أنه جمع بين الأصل المولد المتمثل بمنطق حق الملكية، وهو أن لله حق التصرف بملكه باعتباره المالك المطلق الحقيقي، وبين نظرية الحسن والقبح العقليين. فقد اعترف جماعة من اصحاب هذا المنطق بالواجبات العقلية كما يراها أتباع منطق (الحق الذاتي) او المعتزلة ومن على شاكلتها، وأقروا بأن الخطاب الديني قد أمضى ما في العقول من تلك الواجبات، وعدوا الاستدلال على معرفة الصانع واجباً عقلياً قبل ورود السمع به ودعوة الشرع إليه. ومن هؤلاء القفال الشاشي وأبو بكر الصيرفي وأبو بكر الفارسي والقاضي أبو حامد وأبو العباس بن القاص وأبو عبد الله الزبيري وأبو علي السقطي بن القطان وأبو علي بن أبي هريرة، ومن المتأخرين الحليمي وغيره. وقد قيل ان هؤلاء لما نظروا إلى أسئلة المعتزلة - ومن ذلك قولهم بإيجاب الشكر عقلياً - أذعنوا لها، فاعتقدوا أن كلاً من شكر المنعم ومعرفة حدوث العالم وأن له محدثاً ومنعماً تعد واجباً بالعقل قبل الشرع . كما أن الكثير من معتزلة بغداد والإمامية الاثنى عشرية وقعوا بمثل ذلك التناقض. فرغم أنهم تبنوا قاعدة قبح العقاب بلا بيان، الا انهم في الوقت ذاته اعتبروا الحكم العقلي المستقل، سواء قبل ورود النص او بغض النظر عنه، يدل على الحظر في قضايا فقه الانتفاع بالأشياء. ومن ذلك ما ذهب اليه المفكر الصدر، مع عدد من اصوليي الإمامية، من الأخذ بالقاعدة العقلية لإشغال الذمة لكل ما هو محتمل عقلاً، لكنهم من حيث النتيجة تمسكوا بالبراءة بسبب تسامح التشريع الديني . ولا شك ان موقفهم من الأخذ بالقاعدة العقلية لإشغال الذمة يناقض قاعدة قبح العقاب بلا بيان، ومن ثم فهو يناقض البداهة الاولية لمنطق الحق الذاتي والتي تشترط ضرورة الإعلام ووجوبه كالذي فصلناه في (العقل والبيان والاشكاليات الدينية).

قاعدة الاتساق مع الواقع:
وتعني هذه القاعدة أن لا يتضارب الفهم او النظرية المعرفية مع حقائق الواقع المؤكدة، كالحال الجاري في الكثير من تفاسير القرآن القديمة المخالفة للحقائق العلمية الثابتة، او كتضارب الفهم مع مصالح الواقع العامة، كالفهم الحديث الذي يعتبر رباط الخيل من الواجبات الشرعية التي يجب إعدادها في الجهاد، كالذي دعا اليه محمد رشيد رضا استناداً الى قوله تعالى: ((وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل..)) (الأنفال /60) .

قاعدة الاتساق مع الحقائق الأصلية للنص:
وتعني هذه القاعدة أن لا يتناقض الفهم او النظرية المعرفية مع الحقائق الأصلية للنص، كما تدل عليها قاعدة الاستقراء، وعلى رأس ذلك مبدأ التكليف. وهنا نواجه مشاكل مع بعض المنظومات الفكرية، كالمنظومة الاشعرية والمنظومة الوجودية لكل من الفلسفة والعرفان، حيث لا يظهر لدى هذه الاتجاهات اتساق مع هذا المبدأ .

الكشف المعرفي وأشكال التحقيق
من الناحية الابستمولوجية تنقسم المنظومات المعرفية الى قسمين، فهناك المنظومات المغلقة، وفي قبالها المنظومات المفتوحة التي تتقبل التمحيص والفحص الخارجي، كما تتقبل منطق الترجيح والاحتمال، كالذي عليه المنظومات العلمية.
والسؤال المطروح: ما معنى كون المنظومات مغلقة او مفتوحة؟ وما هي المعايير المتبعة في التعامل والتحقيق مع هذين النوعين من المنظومات؟
إن ما نقصده من المنظومات المفتوحة هو ان تكون قابلة للبحث والفحص خارج اطار ما تعارف عليه من المسلمات الضمنية الخاصة، وسحبها الى ساحة خارجية تتصف بالقبول باعتبارها موضع ثقة الجميع. ومن ابرز المعايير المتفق عليها معيار الواقع وحسابات الاحتمال. فكل منظومة تتقبل مثل هذا الاختبار الخارجي فانها تكون مفتوحة، والا فهي مغلقة، مما يجعلها موضع جدل ونقاش لا ينتهي، لعدم القدرة على تمحيصها بنحو محايد وبعيد عن الاعتبارات المعرفية الخاصة. والحوار فيها يصبح كحوار الصم والطرشان. فهي كمن يدعي ان عنده علماً بعدد النجوم ويتحدى من يكذبه على علمه هذا. مع أنه لا يمكن اثبات صحة دعواه او نفيها. وبالتالي لا يمكن التفاهم ما لم يتم الاستناد الى المشتركات، سواء كانت هذه المشتركات عبارة عن حقائق معرفية مستنتجة، او عبارة عن قواعد واعتبارات معرفية يتم التفاهم على ضوئها.
على ان هذا التقسيم لا يوازي تقسيم القضايا الى تجريبية وميتافيزيقية، ذلك ان بعض القضايا الميتافيزيقية تتقبل الاختبار عبر منطق حسابات الاحتمال والواقع، وعلى رأسها المسألة الالهية، وفي القبال هناك قضايا واقعية لا تقبل الاختبار، ولو من الناحية العملية، مثل حساب عدد النجوم في الكون، وحجم الفضاء .
وبعبارة اخرى، هناك شكلان من التحقيق المنطقي، احدهما مباشر والآخر غير مباشر. ويتصدى التحقيق الأول للنظريات المعرفية مباشرة فيقوم بفحصها من الداخل، ليقرر إن كانت النظرية ذات مضمون قوي من الناحية المعرفية أم لا؟ في حين يمتاز التحقيق الثاني بأنه لا يتمكن من القيام بفحص النظرية مباشرة او من الداخل، لذا يلجأ الى طريقة اخرى غير مباشرة. فلو فرضنا أننا أمام منظومة معرفية تتقبل التفكيك الى نسقين، أحدهما يقبل الفحص والتحقيق المباشر بخلاف الآخر، ففي هذه الحالة يمكننا فحص النسق الأول لنستخلص منه النتائج المعرفية ومن ثم تقديرها كقيمة احتمالية على النسق الثاني. وتشابه هذه الطريقة ما يطلق عليه في علم الكلام بقياس الغائب على الشاهد، وهو الدليل المستخدم للكشف عن القضايا الخارجية دون أن تكون له علاقة بتقييم النظريات المعرفية كما هو الحال في طريقتنا. واذا أردنا أن نعبّر تعبيراً يتسق مع القاعدة الكلامية الآنفة الذكر؛ فيمكن أن نقول بأن طريقتنا تعمل على اختبار الغائب بالشاهد المعرفي. حيث يتم قياس النسق الذي لا يقبل التحقيق المباشر (كغائب) على النسق الآخر الذي تمّ اختباره وفحصه مباشرة (كشاهد).
وتفصيل الحديث عن شكلي التحقيق سيكون كالتالي..

التحقيق المباشر
ويعتمد هذا التحقيق أساساً على قاعدة الاستقراء والمنطق الاحتمالي، اذ يمكن تطبيقها على النظريات التي تتعامل مع جزئيات النص الديني ومقاطعه. فكلما كان النسق المعرفي يحقق قدراً أعظم من القرائن الاستقرائية باتجاه محور معين من تفسير النص باتساق؛ كلما حظي هذا النسق بقيمة معرفية عالية، أي أنه نسق مقبول وموافق عليه. إذ أن كثرة الشواهد الدالة على المحور المشترك تزيد من احتمالات التوافق، خصوصاً إذا لم يكن في القبال شواهد معارضة تتجمع نحو محور مشترك منافس. فمن الأمثلة على ذلك الدلالات المتجمعة من ظواهر النص على كل من الجبر والاختيار، ومثلها الدلالات المتعاضدة باتجاه محور نفي الشمول في عصمة الأنبياء. وبحسب قاعدة الاستقراء أنه ما لم يعوّل على القيم الاحتمالية المتجمعة باتجاه المحور المشترك؛ فإن تفسير جزئيات النص، او مقاطعه وجمله، سيتعرض الى حكم «المصادفة»، اذ يفسّر كل مقطع وجملة تفسيره الخاص بمعزل عن غيره، وهو تجاهل للجامع المعرفي المشترك والمستنبط من معاني تلك المقاطع والجمل، وبالتالي يكون وجود هذا الجامع الكلي وجوداً صدفوياً رغم كثرة الشواهد عليه، او أن ارتباط المعاني المتعلقة بالمقاطع والجمل هو ارتباط قائم على الصدفة. وهو أمر غير معقول ويتنافى مع البداهة الخاصة بالقيم الاحتمالية والدليل الاستقرائي.
فعلى سبيل المثال لو وجدنا ورقة تحتوي على كتابة منتظمة ومفهومة المعنى، وأردنا أن نعرف إن كان مصدر كتابتها يعود الى شخص عاقل يعرف الكتابة أم لا؟ ففي هذه الحالة نجد التفسير طبقاً للافتراض الأخير يقوم على تجمع المصادفات، إذ ارتباط الأحرف ببعضها على ذلك الشكل لا يفسر الا بتجمع المصادفات العشوائية، اذ لا علة مشتركة تجمع بين الحرف الأول مع الحرف الثاني ثم مع الثالث وهكذا... وبالتالي فانها جميعاً قد اجتمعت بصورة عشوائية. في حين أن التفسير طبقاً للافتراض الأول يجعل من وجود ارتباط الأحرف بهيئتها المنظمة معللاً بوجود محور مشترك يفسرها جميعاً، وهو افتراض وجود شخص يعرف الكتابة. ولا شك أن هذا الافتراض يحظى بقيمة احتمالية كبيرة جداً تتحول من الناحية العملية الى اليقين والقطع، بخلاف ما هو الحال في الافتراض الأول القائم على حكم المصادفات العشوائية، حيث أنه يكسب قيمة احتمالية متناهية الضآلة تتحول من الناحية العملية الى الصفر أو النفي.
وكذا هو الحال فيما يتعلق بدلالات مقاطع الخطاب وجمله، اذ تتجه نحو محور مشترك من غير منافس، فوجود عشرات الشواهد الدالة على محور الجبر والاختيار معاً، ومثلها الشواهد الدالة على محور نفي الشمول والاطلاق في العصمة وغيرها من القضايا.. كل ذلك لا يمكن اغفاله وتجاهله. مما يعني أن التعامل التجزيئي لفهم تلك الشواهد، كما تمارسه الاتجاهات التأويلية، يعرّض نصوص الخطاب الى خطر “التعليل الصدفوي”، شبيهاً بذلك الذي مر علينا مع الأحرف المنتظمة بحسب أحد الفرضين الآنفي الذكر، وهو مما لا يتقبله منطق الاحتمال بحسب الدليل الاستقرائي. فبحسب هذا المنطق لا بد من تجميع قيم الاحتمالات الدالة على المحور الكلي المشترك، باعتباره يحظى بتعليل وجود الكثرة من الدلالات الظاهرة من غير منافس . وبغير ذلك تصبح مقاطع الخطاب وجمله رموزاً وألغازاً لا تُستكشف الا بالنهج الذي تثيره الباطنية، وهو ما يبرر عدم الالتزام بالأحكام والضرورات الدينية، كالصلاة والصيام والحج والجهاد وغيرها. ويكفينا أن نعرف بأن العديد من العلماء حكموا على الفلاسفة بالكفر لتأويلاتهم الخاصة بالمعاد الجسماني والخلود في العذاب، مع ان ما ورد حول ذلك من ظواهر الخطاب المختلفة قليل للغاية ولا يقاس بما ورد بخصوص عصمة الأنبياء مثلاً .
وتفيدنا قاعدة الاستقراء في التحقيق العلمي لاكثر من سبب، فلها مواصفات خاصة لا نجدها في غيرها من القبليات، ففضلاً عن انها تشكل قانوناً للفهم، فانها تستخدم ايضاً كقاعدة له، كما يمكن الاستعانة بها في الكشف وتحقيق النظريات؛ كالذي يمارس في قضايا تحقيق الفروض من خلال القواعد الاربع الانفة الذكر. فلدينا قاعدة التأييد الاستقرائي، وعلى شاكلتها الاستبعاد الاستقرائي، كما لدينا قاعدة الاثبات الاستقرائي وعلى شاكلتها النفي الاستقرائي، وهناك قاعدة المعارض او المكذب، سواء كان بخصوص التأييد والاستبعاد او الاثبات والنفي. ونقصد بالمعارض ورود شاهد يعارض مضمونه ما يستقر عليه الدليل الاستقرائي.
فمثلاً انه من خلال الاستقراء البياني يتأيد النسق الذي يذهب الى أن من صفات الله تعالى الذهاب والمجيء والاستواء وما الى ذلك، لكن يعارضه شاهد قوله تعالى: ((ليس كمثله شيء))، وتدل هذه المعارضة على أن الحد الأقل من المعنى هو أن الصفات الإلهية المذكورة وإن كانت مقررة لكنها ليست شبيهة بصفات الخلق، وهو المعنى الذي لجأ اليه العديد من رجال السلف وأتباعهم، وتبريره أنه يجمع بين التعارضين من النصوص. أما الحد الأقصى من المعنى فهو أن الشاهد المعارض يبطل ذلك التأييد، وتصبح الصفات الإلهية المذكورة يراد بها شيء آخر غير ذلك الظاهر، كالذي لجأ اليه رجال التفويض التام من السلف، وكذا أصحاب الدائرة العقلية؛ استناداً الى قبلياتهم الذهنية.
كما أنه طبقاً لقاعدة الاستبعاد الاستقرائي يستبعد - مثلاً - النسق الذي يذهب الى نفي المعاد الجسماني (المادي) كالذي يذهب اليه الفلاسفة المسلمون. كذلك طبقاً لقاعدة الاثبات الاستقرائي يثبت - مثلاً - مضمون النسق الذي يؤكد تأثير كل من الفعل الالهي والارادة البشرية على الانسان في القضاء والقدر. كما يثبت ان للتشريع الاسلامي مقاصده المتعلقة بمصالح الناس، وإن عارض هذا التعميم ما يرد من القضايا التعبدية. كذلك بحسب هذه القاعدة يثبت بأن قضايا الحسن والقبح العقلية تجد تصديقاً لها بحسب الاستقراء البياني من القرآن. لكن هذا الإثبات رغم كثرة الشواهد المختلفة عليه يجد معارضة من شواهد محدودة، مثل الشاهد المتعلق بمسألة الرق. وبالتالي قد يطرح هذا الشاهد كمكذب للإثبات الاستقرائي، او أنه يوجه توجيهاً آخر كالذي فصلنا الحديث عنه في (فهم الدين والواقع).
أما طبقاً لقاعدة النفي الاستقرائي فيُنفى - مثلاً - النسق الدال على العصمة المطلقة للانبياء، وإن عارضه الشاهد القرآني: ((وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى)) (النجم/3ـ4)، لكن ليست هذه المعارضة تامة، اذ يظهر من هذا الشاهد بأن ما يوحى الى النبي هو القرآن وما على شاكلته، ولا يبدو منه الإطلاق في كل ما يصدر عن النبي، سيما وأنه سبق النص المذكور خصوصية معينة وهي قوله تعالى: ((ما ضلّ صاحبكم وما غوى)) (النجم/2) .


التحقيق غير المباشر
ويتعلق هذا التحقيق بالمنظومات المغلقة، أي تلك التي لا يمكن التحقيق فيها مباشرة لكونها مجردة عن الواقع، كما لا يعلم عن حقيقتها شيء من خلال البحث الديني. ومع ذلك يمكن اختبار مثل هذه المنظومات عبر منطق الاحتمالات، وهو ذات المنطق الموظف للتحقيق في المنظومات المفتوحة. لكن يشترط في ذلك أن تكون لها القابلية على التجزئة والتفكيك، بحيث يمكن تقسيمها الى منظومتين: مفتوحة ومغلقة، فنستعين بالأولى على الثانية، وذلك بأن نكشف عن حقيقة ما تتضمنه المنظومة المفتوحة من قيم معرفية لنطبقها على المنظومة المغلقة، على شاكلة اختبار الغائب بالشاهد. وكلما كانت المنظومتان متفقتين على أصول مشتركة او طرق استدلالية متقاربة فذلك يجعل من التحقيق أكثر دقة. أما المنظومات التامة الإغلاق، اي تلك التي لا يتوفر فيها عنصر القابلية على التفكيك ولا يمكن اجتزاء منظومة مفتوحة منها، فسوف لا يمكن إخضاعها للتحقيق، سواء المباشر منه او غير المباشر. لكن توجد طريقة اخرى للتعامل معها، وهي ايضاً قائمة على منطق القيم الاحتمالية.
وكمثال بسيط على القضايا التي تتقبل التحقيق غير المباشر عبر منطق التفكيك، ما نلاحظه في حياتنا اليومية من شواهد كثيرة، فمثلاً لو علمنا بزيد من الناس أنه يكذب علينا في قضايا معينة، لكنا لا نعلم مدى صدقه في غيرها من القضايا، فهل يحق لنا منطقياً توقع كذبه في هذه الأخيرة؟ بمعنى هل يؤثر علمنا في الحالة الأولى على شكنا في الثانية أم لا؟
وكذا قد نعكس المسألة، وهو أن نعلم بأن زيداً كان صادقاً معنا في قضايا معينة، لكننا لا نعلم عنه شيئاً في غيرها، فهل ينبغي علينا توقع صدقه في غيرها أم لا؟
لقد حصلت مثل هذه الحالة مع النبي الأكرم، فالذي جعل الكثير من الناس يؤمن برسالته هو ما عُرف بصدقه وأمانته قبل نزول الوحي، وأن الناس استدلوا من هذا الصدق والأمانة في الحياة العامة على صدقه في ادعاء النبوة.
وتتعلق هذه المسألة بالقيم الاحتمالية، وحولها ترد مسألتان كالتالي:
1ـ هناك نوعان من الاحتمالات، منطقي وذاتي. فمثلاً على النوع الاول لو كنا نعلم بانه لا توجد في الصندوق سوى ثلاث كرات مختلفة الالوان، كإن تكون بيضاء وسوداء وحمراء، فإن الاحتمال المنطقي لأي من هذه الكرات عند السحب العشوائي هو الثلث، ويظل هذا الاحتمال ثابتاً لا يتغير الا بتغير شروط السحب وعدد الكرات. لكن غالباً ما نواجه في الحياة الصنف الاخر من الاحتمال (الذاتي)، فهو يشكل اغلب اعتباراتنا من الاحتمالات. ويتميز هذا النوع بكونه يتقبل التعديل والتغيير خلافاً للنوع الاول المنطقي. كما أنه مفيد في الحياة العملية، وتعتمد عليه شركات التأمين وغيرها، كما تستفيد منه البحوث العلمية في مختلف المجالات. وهو المعني في بحثنا عن علاج الأدلة والحكم عليها بالضعف او القوة من الخارج فيما لو لم نكن على علم بها من الداخل، استناداً الى قضايا اخرى نتخذها كمقاييس معتبرة الدلالة، رغم أن الدقة تأتي عبر البحث المباشر من الداخل.
اذ تشابه هاتان الطريقتان – من البحث المباشر وغير المباشر - القيام بحساب الاحتمال في تشخيص مرض السرطان - مثلاً - لشخص محدد، فتارة نقدر احتمال اصابته بالسرطان وفق حساب عدد المصابين بهذا المرض مقسوماً على عدد السكان، فيكون ناتج القسمة يمثل الاحتمال المتعلق بالمرض لأي شخص نجهل حاله وسط عدد السكان المفترض. لكن تارة اخرى يمكننا تقدير نسبة احتمال اصابته من خلال الفحص والاختبار المباشر. ولا شك ان العملية الثانية دقيقة خلافاً لما قبلها، لكن الطريقة الأولى ضرورية عند التعامل مع المجاميع الكبيرة، كالذي يجري استخدامه في شركات التأمين وغيرها، والنتيجة المقدرة تكون مقدرة على الكل وليس على فرد لحاله، بخلاف الطريقة الثانية التي تتعلق بالفرد ذاته، وهي دقيقة لكنها ضيقة الأُفق. وكذا ان من الضروري البحث في المنظومات المعرفية تبعاً لهذه المعدلات ونسب الاحتمالات اعتماداً على المماثلات والنظائر التي يمكن الاطلاع على حقيقتها، وفق قاعدة أُفق التوقع والانتظار. ويشابه هذا التحقيق البحث الجاري في العلوم الطبيعية، اذ تمثل المنظومة المعرفية المغلقة الفرض الذي ينبغي التحقيق فيه تبعاً لما يترشح عنه من لوازم، وهذه الأخيرة هي التي تخضع للتنبؤ والفحص المباشر دون الفرض. وكذا الحال في المنظومة المعرفية، حيث لا يمكن اخضاع المغلقة منها للفحص المباشر والتجريب، بل ما ينوب عنها من المنظومة المفتوحة المقترنة بها او المجتزئة عنها.

2ـ لقد اختلف الغربيون حول معالجة الحالة التي نحن بصددها من تأثير بعض الاحتمالات على البعض الاخر، عندما ينكشف لنا العلم بالاول. وأبرز مثال على ذلك حقيبة لابلاس الذي افترض وجود حقيبة ذات خمس كرات، ونملك حولها ثلاثة احتمالات متساوية، فهي إما ان تحتوي على اربع كرات بيضاء، او ثلاث كرات بيضاء، او جميعها بيضاء، وقد صادف ان سحبنا عشوائياً ثلاث منها فظهرت كلها بيضاء. ولعل من الطبيعي في هذه الحالة ان نتوقع ان تكون الحقيبة ذات خمس كرات بيضاء، ولو سحبنا كرة رابعة لتوقعنا - ايضاً - أن تكون بيضاء. وتعرف هذه الطريقة بمبدأ التعلم من التجارب السابقة، وقد اختلف حولها المفكرون، فمنهم من لم يعوّل عليها كالمفكر الصدر ، وكذا العديد من الغربيين، مثل بيرس (سنة 1883) وفتجنشتاين wittgenstein (سنة 1921)، بل وحتى كينز في احد فصول كتابه (رسالة في الاحتمال)، رغم انه في الفصول الأخرى أكد ببلاغة تامة على ضرورة التعلم من التجربة والخبرة . وبحسب هذه الطريقة انه لو كانت لدينا حقيبة تحوي ألف كرة وكنّا نتردد باحتمالين متساويين فيما اذا كانت الكرات كلها بيضاء او ان واحدة منها - فقط - سوداء، فعلى ذلك الرأي يفترض انه لو سحبنا - عشوائياً - كل الكرات عدا واحدة، وتبين انها بيضاء جميعاً، فسوف لا يؤثر ذلك على احتمال لون الأخيرة المقدر بـ (1-2)، وهو خلاف الوجدان والواقع.
وقد ذهب أحد الباحثين الى ان هناك اختلافاً حول نتائج هذه الحسابات الاحتمالية بين صاحب النظر الموضوعي للاحتمال وصاحب النظر الذاتي له. فمثلاً لو كان لدينا جرة فيها كرات غير معلومة اللون، فإن سحب واحدة منها عشوائياً ومن ثم ارجاعها سيجعل من احتمال سحب الاخرى موضع اختلاف في تحديد القيمة الاحتمالية لها. فصاحب النظر الموضوعي يرى ان احتمال سحب الثانية مستقل عن واقعة سحب الأُولى، ولنفرضها كانت سوداء، بتبرير مستمد من عدم وجود علاقة سببية بين لوني الكرتين، او انه لا يوجد اتصال سببي او تجريبي بين الحادثتين للسحب، وبالتالي فإن احتمال سحب الثانية لا يختلف عن احتمال سحب الاولى. لكن الأمر مع صاحب النظر الذاتي للاحتمال مختلف، كما هو الحال مع الاستاذ (فنتي) الذي يرى بأن الحوادث في تعاقب السحب ليست مستقلة كلياً، فهي ليست مستقلة بالنسبة الى المعرفة، او الى درجات الاعتقاد. فتتابع الحوادث يزودنا بالدليل على نتائج الحوادث المستقبلية، او انه يقوم بالتأثير على درجات الاعتقاد حول الفرضيات المستقبلية . ونعتقد بأن مبررات الاعتماد على مبدأ التجارب السابقة قوية لا يمكن اغفالها، وانها تقبل التموضع منطقياً، ومن ثم الاعتماد عليها في الحسابات المتأثرة بتلك التجارب .
ويمكن تطبيق هذا المبدأ على الجوانب المعرفية بإخضاعها الى منطق الاحتمالات، أي تطبيقه على المنظومات المغلقة شرط أن تتقبل التفكيك وإجتزاء المنظومات المفتوحة منها.
وتتجسّد ضرورة النتائج التي نحصل عليها في البحث غير المباشر في حالتين: إحداهما عند الشك البيّن في الاطروحة التي تتضمنها المنظومة المغلقة. أما الأخرى فلا تتعلق بمثل هذا الشك الظاهر. فقد يصادف أن نعرّض ما يصلنا من نتائج البحث التقليدي للتحقيق المنطقي، فحتى لو كنّا على ثقة – نسبياً – بالبحث التقليدي؛ فإن النتائج التي نحصل عليها بالتحقيق المنطقي ستؤثر فيها، سواء كان ذلك بخصوص المنظومات المفتوحة او المغلقة.
ويحضرنا بهذا الصدد نموذجان، احدهما مقتبس من علم الرواية والحديث، والآخر من المنظومة الفلسفية الوجودية.
ففي علم الرواية والحديث، يوجد كم كبير من الروايات التي تتوزع على موضوعات متعددة؛ كالفقه والعقائد والتفسير والإخبار عن القضايا التي لها علاقة بالشؤون العلمية والطبيعية وما الى ذلك، وقد يكون مصدر هذه الموضوعات المتعددة واحداً، فمثلاً قد نجد راوية، او سلسلة رواة معتمدين يروون موضوعات مختلفة، ومن ذلك الرواية في الشؤون الفقهية والعقائدية والإخبارية. لكن حيث أنه لا يمكن التحقيق في قضايا الروايات الفقهية والكثير من القضايا العقائدية مباشرة لغرض التعرف على دقة النتائج التي نحصل عليها، اذ تعجز مباضع الاختبار ان تطولها باعتبارها لا تخبر بشيء عن واقع الحياة وامور الطبيعة، وبالتالي ليس بوسع الاختبارات العقلية والحسية والعلمية ان تفعل شيئاً ازاءها، لذا سنلجأ الى التحقيق فيها بصورة غير مباشرة؛ وفق أُفق التوقع والانتظار، وذلك عبر التحقيق المباشر في الروايات الخاصة بالشؤون الإخبارية، سيما ما يتعلق بعلوم الطبيعة. ونحن نزاول هذا الإختبار في حالتين، فإما أننا نشك فعلاً في سلسلة الرواة المعتمدين وفي الطريقة المعتمدة في الرواية، او كنّا لا نشك بذلك، اذ في كلا الحالين أن نتائج البحث غير المباشر ستؤثر سلباً او ايجاباً على ما نتوصل اليه في البحث المباشر. فلو أظهر البحث نتيجة ايجابية فإن ذلك سيرفع من قيمة توقعاتنا لصدق الحديث، والعكس بالعكس. وهذه النتيجة تشابه ما جرى مع نظرية نيوتن للجاذبية. فقد كانت هذه النظرية موضع ثقة العلماء، ثم ظهرت بعض الظواهر الشاذة، فخيبت أُفق التوقعات وقللت من احتمال صدقها، لكن عندما تبين ان هذه الظواهر متأثرة بعوامل اخرى تتفق مع منطق الجاذبية، فإن ذلك قد زاد من القيمة الاحتمالية للنظرية مقارنة بما كانت عليه من قبل. وكذا هو الحال في الرواية والحديث. فمثلاً روى أصحاب الصحاح في الوسط السني عن بعض المكثرين الكثير من الروايات المتعلقة بالجوانب الفقهية والعقائدية والإخبارية العلمية، ومثل ذلك فعل الكليني في الوسط الشيعي، اذ اعتمد على عدد من المكثرين من مشايخه في رواية الكثير من الاحاديث المتعلقة بتلك الجوانب. ومع ذلك فقد كان الغالب في الروايات المتعلقة بالجانب العلمي مصاباً بالاسطورة والبعد عن الحقيقة. لهذا فإن القيمة الاحتمالية لسائر الروايات المعنية بالجوانب العقائدية والفقهية ستتأثر سلباً بهذه النتيجة .
أما ما يخص المنظومة الفلسفية الوجودية، فيمكن تفكيكها الى أربع منظومات: منطقية ورياضية وطبيعية وميتافيزيقية. وتعد المنظومة الميتافيزيقية منظومة مغلقة، اذ لا يمكن التحقيق فيها مباشرة خلافاً للمنظومات الثلاث الاخرى. وأقرب المنظومات التي تساعدنا على الكشف عن هذه المنظومة المغلقة هي منظومة العلوم الطبيعية، فهي تشترك مع المنظومة الميتافيزيقية بكونها تتحدث عن الامور الخارجية، خلافاً للمنظومتين المتبقيتين، كما أن هناك نوعاً من الاشتراك بين المنظومتين، فأحياناً تتحدث المنظومة الطبيعية عن امور غير محسوسة مثلما هو الحال مع المنظومة الميتافيزيقية، كما قد تتحدث عن امور لم تكن الوسائل القديمة كفيلة بفحصها واختبارها بدقة، وكل ذلك قد يسهّل علينا تعريضها للكشف والتحقيق، بفضل العلوم الحديثة.
أما المنظومتان الرياضية والمنطقية فهما لا يخبران بشيء عن الوجود الخارجي، وان قابليتهما على الصدق والدقة هي قابلية كبيرة مقارنة مع المنظومتين الاخريتين. وهذا يعني ان صدق هاتين المنظومتين لا يرفع الكثير من درجة التوقع في صدق المنظومة الميتافيزيقية. لكن كذبهما او كثرة الكذب فيهما يحدث توقعاً بغياب الدقة واعتباطية العلم فيما تبقى من المنظومات.
هكذا فأقرب المنظومات التي تساعدنا على التحقيق في المنظومة الميتافيزيقية المغلقة هي المنظومة الطبيعية، سيما في القضايا غير المحسوسة او تلك التي لم تتضح منها التجارب المباشرة، حيث يمكن اخضاعها لقاعدة أُفق التوقع والانتظار، خصوصاً اذا ما كان الاستدلال عليها يقارب في روحه وطريقته الاستدلال على القضايا الميتافيزيقية، كما هو الحال في المسائل الخاصة بالأفلاك السماوية، او المسائل الأرضية غير الخاضعة للتجريب المباشر.
اذ تشكل القضايا الطبيعية لوازم تساعدنا على رفع درجة احتمال المجموعة الميتافيزيقية او خفضها، وحيث نعلم مثلاً ان المجموعة الطبيعية لم تكن صادقة في اغلب ما قدمته؛ فإن ذلك سيبعث على الشك فيما يتعلق بالمجموعة الميتافيزيقية، لكن هذه الامور تجري ضمن اعتبارات منطقية، فكلما كانت الأدلة المقدمة في القضايا الطبيعية تتقارب روحاً مع الأدلة المستخدمة في القضايا الميتافيزيقية، كلما كانت القيمة الاحتمالية أكثر دقة. كما لا بد من لحاظ ان النتائج الاحتمالية التي نحصل عليها لا تختص بفكرة ما او اخرى، بل لها علاقة بالثقة فيما يطرح من افكار، أي أن لها علاقة بروح التفكير ومنهجه. فهذه الروح هي التي تتعرض للاختبار ويقام عليها التقييم المعرفي. فهي الفرضية المطروحة للتحقيق غير المباشر بما يشابه الكشف عن النظريات العلمية، باعتبارها لا تخضع للتحقيق المباشر ، بل يجري التحقيق مع لوازمها القابلة للتنبؤ او أُفق التوقع والانتظار.
فمثلاً نواجه في المنظومة الوجودية مجموعة من الاعتقادات تخص قضايا الطبيعة، كتكوّن عناصر الأرض والأفلاك. فبحسب هذه المنظومة تعتبر العناصر او الأسطقسات الأربعة – الماء والهواء والنار والتراب - الأصل في جميع الأشياء والمواد الجسمية، وهي تتكون تبعاً لحركة الفلك المستدير، حيث للجرم تعقلات كلية وجزئية قابلة لنوع من التغير الخيالي الذي تتولد عنه حركة الجرم، فيكون اتصال التخيلات سبباً لاتصال تلك الحركة. لكن لما كان الجسم يدور على شيء ثابت في حشوه، فانه يلزم من محاكته له التسخين والحرارة، مما يفضي الى الخفة التي تمثل صورة النار، في حين ان ما يبعد عن ذلك الدوران والاحتكاك يظل ساكناً، فيفضي به الأمر الى البرد والتكثف فيكون أرضاً. أما الوسط بين هاتين المنطقتين فهي أقل حرارة وكثافة، وهما يوجبان الترطيب، وهذه الرطوبة من حيث قربها من الحرارة مما تلي النار؛ تكون خفيفة فتتحول الى هواء، ومن حيث قربها في الجهة الأخرى من الأرض؛ تكون باردة فيحصل الماء. وبهذا يكون الجرم السماوي في حركته سبباً لتكون العناصر الأربعة . فهذه هي فكرة المنظومة الفلسفية عن تكون العناصر الأرضية، لكنها ليست صحيحة من الناحية العلمية، وبالتالي فإن ذلك يضعف من القيمة الاحتمالية لما تقدمه هذه المنظومة بخصوص القضايا الميتافيزيقية.
ونشير الى أن هناك من نفى ان يكون للعلم الحديث تأثير على براهين الفلسفـة الكلية، كالذي ذهب اليه العلامة محمد حسين الطباطبائي . لكننا نعتقد بأن هناك حالتين يمكن للعلم ان يؤثر فيها على الأفكار والبراهين الفلسفية. الأولى كونه يرفع او يزعزع الثقة بالاستدلالات الفلسفية. فطبقاً لما سبق أن من الممكن التأثير على توقعاتنا بالنتائج الفلسفية عموماً، سيما اذا كان هناك اسلوب متقارب في صياغة الأدلة لكل من قضايا الطبيعة والفلسفة. فاذا ما كنّا محايدين لا نعرف شيئاً عن قيمة الاستدلال الفلسفي بصورة عامة، او حتى لو كنّا ننحاز الى الأدلة الفلسفية، فإن بالإمكان النظر الى قيم النتائج النهائية ومقارنتها بالحقائق العلمية عند الإمكان، حيث ستتأثر ثقتنا قوة او ضعفاً بقدر ما نرى من توافقات واختلافات بين الطرفين، اذ كلما تفاقمت الحقائق العلمية توافقاً مع النتائج الفلسفية؛ فإن ثقتنا ستزداد حتماً، والعكس بالعكس، والتالي فإن ذلك يؤثر على ما سماه الطباطبائي (براهين الفلسفة الكلية).
أما الحالة الثانية، فهي أن العلم قد يفضي الى تأييد او إبطال الفكرة الفلسفية مباشرة او غير مباشرة. فإكتشاف العلم لإنقراض بعض الأنواع من الكائنات الحية كالديناصورات وغيرها، يفضي الى إبطال نظرية المثل والعقول العرضية التي تبناها الاشراقيون. وحتى في هذه الحالة فإن الإكتشاف العلمي كإنقراض بعض الأنواع يؤثر على ما اطلق عليه الطباطبائي البراهين الكلية للفلسفة، ومنها تلك المتعلقة بثبات العقول الطولية كالذي فصلنا الحديث عنه في (الفلسفة والعرفان والاشكاليات الدينية).

قاعدة عدم تكافؤ النفي والاثبات
وتتعلق هذه القاعدة بالمنظومات والأنساق المغلقة التي لا يمكن تفكيكها والتحقيق فيها مباشرة وغير مباشرة. وخلاصتها أنه عندما تكون هناك إمكانات متعددة، اكثر من اثنين، فإن نفي أي من هذه الإمكانات سيكون أكثر توقعاً من اثباته، ويزداد توقع هذا النفي باضطراد كلما زاد عدد الإمكانات المحتملة. وعلى عكسه تضعف قيمة احتمال الاثبات أكثر فأكثر كلما زادت تلك الإمكانات. فمثلاً لو أردنا أن نقدر حساب عدد النجوم في مجرتنا السماوية، فسنتوقع خطأ أي رقم نختاره، بل إن اثبات أي عدد نختاره هو بحكم المستحيل تقريباً، فالنفي في هذه الحالة هو المتوقع، بل المتعين تقريباً، ذلك أن حالة الاثبات مترددة بين عدد ضخم من الأرقام، ويُقدّر احتمال أي رقم نختاره بواحد مقسوماً على العدد الاجمالي الكلي، فلو كانت الأرقام مترددة - مثلاً - من مليون الى مليوني نجم، فإن احتمال أي رقم نختاره هو واحد من مليون، وهو احتمال في غاية الضعف والضآلة، في حين يكتسب النفي ما يقابله من احتمال، اذ يصبح في غاية القوة وأقرب ما يكون الى اليقين، وهو مليون الا واحد مقسوماً على مليون.
هكذا يترجح محور النفي على الإثبات عند الشك والتردد بينهما، وذلك لتعدد إمكانات النفي خلافاً لمحور الاثبات. لكن لا بد من حذف حالات النفي التي تم التأكد منها. ففي مثالنا السابق عن عدد النجوم لا يصح أن نضع ضمن محور النفي تلك الأعداد التي من المؤكد أنها كاذبة تبعاً للحس او التجربة. فهي أعداد منفية قطعاً ولا تدخل ضمن الإمكانات والاحتمالات. فمثلاً ان افتراض ان يكون عدد النجوم واحداً او اثنين او عشرة او مائة او ألفاً... الخ؛ هي أعداد منفية بالقطع ولا تدخل ضمن ما نتحدث عنه من الإمكانات الاخرى.
كما أن توقع النفي ينبغي أن لا يكون لجميع الإمكانات مجتمعة مع بعض، بل لكل إمكان بما هو مستقل عن غيره، وذلك لأن توقع النفي لكل الإمكانات مجتمعة هو خلاف الفرض المسلّم به، وهو أن هناك حالة من هذه الإمكانات هي المتعينة للإثبات لكننا نجهلها على نحو التحديد. فمثلاً لا نستطيع أن نقول بأن الأرقام المليونية جميعاً مرجحة للنفي. فهذا القول هو خلاف الافتراض الذي ذكرناه – في المثال السابق- وهو أن واحداً من هذه الأرقام هو المتعين للإثبات.
وتفيدنا هذه القاعدة في الامور المتعلقة بالثقة الاجتماعية وعدمها، فالفارق بينهما ليس فارقاً يتعادل في نتائجه الطرفان، بل الفارق بينهما عظيم غير قابل للتقدير. وتوضيح ذلك لو اخبرنا شخص عن مكان زيد وكنّا نحتمل وجوده في واحد من عشرة مواقع مثلاً، فإذا كنّا نثق بإخبار الشخص فإن الاحتمال سيتعين في موقع واحد من بين المواقع العشرة، حيث يكون هو المتوقع دون غيره. في حين لو كنّا لا نثق بالخبر؛ فإن محور النفي سيكون هو المرجح لأي موقع نختاره، وسيظل ترددنا دائراً بين المواقع العشرة المحتملة. فهنا أننا لم نواجه احتمالين متضادين، بل أمامنا احتمال متوقع في حالة الثقة في قبال عشرة احتمالات يجري فيها التردد. أما في حالة عدم الثقة فستنقلب الدائرة الى العكس، حيث يكون النفي هو المرجح لأي موقع نختاره. فكيف اذا كان حال الاحتمالات والترددات منفتحاً غير قابل للحصر، كإن يتجاوز المائة او الألف احتمال؟! فمن الواضح ان ذلك سيدعو الى الضلال والحرمان من ادراك الصواب؟! بمعنى أن النفي هو المتوقع دون الاثبات .
كما يمكن القول بأن القانون القضائي القائل (المتهم بريء حتى تثبت ادانته) مستلهم من هذه القاعدة، اذ عندما يُشَك في المتهم، فإن محور البراءة سيكون هو المرجح على الإدانة وفقاً لإمكانات النفي المتعددة في المحور الأول مقارنة بالثاني. وعموماً يمكن القول بأنه ليس بوسعنا ادانة أحد بشيء محدد اعتباطاً، فلو كانت الادانة واحدة، فهي غير متعينة وسط الكثير من الاحتمالات الممكنة، وتظل براءة الشخص مرجحة في كل ادانة نحددها. وبالتالي فالمعنى هو ان للنفي إمكانات كثيرة، في حين ليس للاثبات الا حالة واحدة. وهذا ما يجعل الترجيح لصالح النفي لكثرة إمكاناته واحتمالاته مقابل الحالة المنفردة للاثبات. فهي الحالة التي تمثل الجانب الموضوعي للقضية، ولا شك ان هذا الجانب واحد يراد اثباته وتحديده، في حين تكون الإمكانات في حالة النفي متعددة بلا حدود. فمثلاً اذا أردتُ أن أحدد شيئاً كالمنضدة التي أمامي فإنه لا يوجد لي سوى سبيل واحد هو الاعتراف بالمنضدة، لكن عندما أريد أن أنفي ما هو امامي فإن حالات النفي كثيرة او غير متناهية، فأقول - مثلاً - إن امامي ليس قدحاً ولا كرة ولا حجرة.. الخ.
وتنطبق هذه القاعدة على الاستدلالات الاعتباطية او غير الدقيقة. فمثلاً ان المنظومة الوجودية تخبرنا بأرقام معينة للعقول تتفاوت في العدد. لكن حيث ان الاستدلالات المعتمدة غير دقيقة، لذا قد يسهل علينا نفي أي عدد نختاره، هذا على فرض ان العقول صادرة بالشكل الذي تزعمه. وكذا كثيراً ما ترد الاستدلالات الاعتباطية على العصمة الشاملة للأنبياء والأئمة والأولياء، فإذا كانت هذه الاستدلالات غير مقنعة، ولو فرضنا أننا لا نمتلك أدلة واضحة على نفي هذه العصمة، ففي هذه الحالة يمكن أن نطبق عليها تلك القاعدة. فمثلاً اذا كنّا نشكّ بشخص إن كان يخطئ في بعض القضايا لا على التعيين، او هو معصوم لا يخطئ أبداً؟ ففي هذه الحالة يترجح محور نفي العصمة على اثباتها، وذلك اعتماداً على عدد القضايا القابلة للخطأ. والأمر ذاته ينطبق على دلالات النصوص عند التردد في مضامينها الحقيقية دون ترجيح، فإذا كان التردد كثير العدد فإن تحديد أي مضمون منها يصبح مستبعداً. وطبقاً لهذا لا يمكن انتزاع عقائد ملزمة من النصوص عندما يرد التردد في مضامينها، بل وتستبعد مثل هذه العقائد فيما لو تكثرت إمكانات التردد واحتمالاته.
وأشد ما ينطبق هذا الأمر على الروايات في علم الحديث وما يتفرع عنه من علوم، كعلم الفقه مثلاً. فكل رواية تحمل ترددات كثيرة، وكل تردد محتمل، وكل محتمل ضعيف، وهو يزداد ضعفاً تبعاً لإزدياد الترددات والاحتمالات. فقد ترد الآراء في المسألة الواحد لتصل أحياناً الى ما يقارب العشرة، كل منها يدعي إصابته لمراد الشرع او يظن بذلك، مما يعني أن تسعة اعشار هذه الآراء ليست من الشريعة بشيء، ولتبين لنا من الناحية المنطقية أننا – عند التردد - نراهن على إصابة الشرع باحتمال قدره واحد من عشرة فقط.

تابع..



#يحيى_محمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- فهم النص ومعايير التحقيق (3)
- فهم النص ومعايير التحقيق (2)
- فهم النص ومعايير التحقيق (1)
- نظرية الاحتمال ووجهة النظر الجديدة (5)
- نظرية الاحتمال ووجهة النظر الجديدة (4)
- نظرية الاحتمال ووجهة النظر الجديدة (3)
- نظرية الاحتمال ووجهة النظر الجديدة (2)
- نظرية الاحتمال ووجهة النظر الجديدة (1)
- موقف الفلاسفة التقليديين من فهم النص
- نظرية المقاصد ونقدها
- موقف الخطاب الديني من غير المسلمين
- عقل: عربي أم إسلامي؟
- الخطاب الديني والتفكير الوقائعي
- التراث المعياري وصراع الأصول المولّدة
- الاصول المولدة في علم الكلام
- كيف نقرأ التراث؟
- أربعة مواقف للفلاسفة والعرفاء من النص الديني
- بين الفهم المجمل والمفصل للدين
- ديفيد هيوم ومشكلة الاستقراء
- الوضعية المنطقية وقضايا المعرفة


المزيد.....




- “العيال الفرحة مش سايعاهم” .. تردد قناة طيور الجنة الجديد بج ...
- الأوقاف الإسلامية في فلسطين: 219 مستوطنا اقتحموا المسجد الأق ...
- أول أيام -الفصح اليهودي-.. القدس ثكنة عسكرية ومستوطنون يقتحم ...
- رغم تملقها اللوبي اليهودي.. رئيسة جامعة كولومبيا مطالبة بالا ...
- مستوطنون يقتحمون باحات الأقصى بأول أيام عيد الفصح اليهودي
- مصادر فلسطينية: مستعمرون يقتحمون المسجد الأقصى في أول أيام ع ...
- ماذا نعرف عن كتيبة نيتسح يهودا العسكرية الإسرائيلية المُهددة ...
- تهريب بالأكياس.. محاولات محمومة لذبح -قربان الفصح- اليهودي ب ...
- ماما جابت بيبي أجمل أغاني قناة طيور الجنة اضبطها الآن على تر ...
- اسلامي: المراكز النووية في البلاد محصنة امنيا مائة بالمائة


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - يحيى محمد - فهم النص ومعايير التحقيق (4)