أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - بوابة التمدن - جلبير الأشقر - اليسار العربيّ: حوار مع جلبير الأشقر [ القسم الأخير ]















المزيد.....

اليسار العربيّ: حوار مع جلبير الأشقر [ القسم الأخير ]


جلبير الأشقر
(Gilbert Achcar)


الحوار المتمدن-العدد: 3123 - 2010 / 9 / 13 - 08:20
المحور: بوابة التمدن
    


مقولة "إنّ اليسار العربيّ في أزمة" لازمةٌ تردّدتْ منذ بدايات ظهور حركات اليسار العربيّة. كما هي ملازمة على الأقلّ للعقود الخمسة الأخيرة التي شهدها العالمُ العربيّ وحفلتْ بتطوّرات سياسيّة واجتماعيّة واقتصاديّة لم تستطع أن تنتج إلا نماذجَ متأخّرةً من الدول والنظم.

وإذا كان الحديث عن تطوّر اليسار من منظور الماركسيين العرب يرتبط بتحليل الصراع الطبقيّ في المجتمعات العربيّة، فإنّ هذا التحليل قد لا يكفي وحده مبسّطًا لتوصيف الأزمة. ذلك أنه على الرعم من الأثر الإيجابيّ أو التقدميّ لنضال القوى العمّاليّة والاشتراكيّة في المجالات الوطنية والاجتماعية، وأعني ما حقّقتْه في مجال المقاومة ضد الاستعمار والصهيونيّة، أو في العملين النقابيّ والنسويّ، وكل ما يتعلق بالحقوق وحركة التأميمات وغير ذلك، فإنّ ما اصطُلح على تسميته في التحليل الماركسي "البنية الفوقيّة" طغت وربما تكون أجهضتْ مآلاته المحتملة.

خلاصة اتجاه من التحليل في أسئلةٍ طرحتُها على البروفيسور جيلبير أشقر، المفكّر الماركسيّ والأستاذ في معهد الدراسات الشرقية والأفريقية في جامعة لندن، اجاب عن بعضها بالإشارة إلى أهميّة النضال الإيديولوجيّ الثقافيّ الذي لم يعره اليسارُ العربيّ الأهميّةَ الكافيةَ... من ضمن إضاءات أخرى على جوانب مختلفة لـ "أزمة اليسار."

وائل عبد الرحيم





إذا انتقلنا إلى سياقٍ آخر، وهو موقفُ قوى اليسار العربيّ الحاليّة من موضوعة "بناء الدولة،" ألا ترى أنّ هذه الموضوعة لم تكن أولويّة بالنسبة إلى اليسار، وليست كذلك الآن؟

جلبير الأشقر : مهمّة اليسار الحقيقي ليست المساهمةَ في بناء دول الطغيان الطبقيّ والفئويّ القائمة في الساحة العربيّة، بل بناءُ دولٍ جديدةٍ قائمةٍ على إرادة الشعوب والجماهير الكادحة. قُل لي أيّ دولة في العالم العربيّ يمْكن يسارًا يستحقّ هذه التسمية أن يسْهم في بنائها؟! كان ذلك ممكنًا في حالة الدولة اليمنيّة الجنوبيّة في أوائل السبعينيات. وما عدا ذلك، فأين؟

وهل يجب هدمُ البنيان كلِّه، أمْ إصلاحُه؟

جلبير الأشقر : قُل لي أين يمْكن إصلاحُه؟ ليس من دولةٍ في المنطقة العربيّة يمْكن إصلاحُها! طبعًا أنا أتحدّث هنا عن الأفق الإستراتيجيّ. والمسألة أبسطُ وأكثرُ أوّليّةً من موضوع تحطيم الدولة البرجوازيّة في المنظور الماركسيّ المعروف. فدولُ أوروبا دولٌ رأسماليّة، لكنّها تَصْلح على الأقلّ إطارًا للنضال من أجل تغييرها سلميّاً من خلال المؤسّسات الديمقراطيّةً. أما في منطقتنا العربيّة، فالحالتان العربيّتان الوحيدتان اللتان نجد فيهما اليوم مجالاً ما من الديمقراطيّة الانتخابيّة هما تركيبتان طائفيّتان: لبنان والعراق. هذا هو الواقع المُزري القائم. طبعًا، يتحتّم على اليسار أن يسعى، حيث أمكن، إلى توسيع المجال الذي تستطيع الحركةُ الجماهيريّةُ أن تسير من خلاله، أيْ توسيع مجال الحريّات والنضال من أجل المطالب الآنيّة، سواء أكانت ديمقراطيّة أم اجتماعيّة متعلّقة بمستوى المعيشة الكارثيّ على الصعيد العربيّ؛ هذا ناهيك بمجالاتٍ أخرى أساسيّةٍ مثل المجال النسائيّ (إذ لدينا من بين جميع مناطق العالم أسوأُ مستوى من الاضطهاد الجنسيّ بشكل عامّ، والنسائيّ بشكل خاصّ). كلّ هذه النضالات نضالاتٌ يوميّة، وأيُّ فصيلٍ يساريّ يقوم بواجبه النضاليّ سيصطدم بالضرورة بالأطراف الأخرى، الدينيّةِ وغيرِ الدينيّة.

ألم يكن ممكنًا تحقيقُ اختراقٍ ما في لبنان لو نجحتْ قوى اليسار وقوًى مدنيّةٌ في فرض قانونٍ انتخابيّ متوازنٍ ونسبيّ؟

جلبير الأشقر : أنت تشير إلى حالةٍ استثنائيّةٍ لبلدٍ عربيّ يوجد فيه مجالٌ للنضال الديمقراطيّ. ولكنّ هذا المجال ضيّقٌ أو معدومٌ في كافة البلدان العربيّة الأخرى، بحيث يكتسب مطلبُ الديمقراطيّة فيها طابعًا ثوريّاً، ويحتاج تحقيقُه إلى خضّ النظام على أقلّ تقدير. لبنان أمرٌ آخر؛ فالدولة فيه ضعيفة نسبيّاً، وقد تحوّلتْ جزئيّاً إلى فدراليّة طوائف، فيمْكن النضالُ من أجل تغيير القانون الانتخابيّ. غير أنه من الوهم في رأيي أن يتصوّر المرءُ إمكانَ تغيير النظام السياسيّ اللبنانيّ في اتجاهٍ ديمقراطيٍّ لاطائفيّ عن طريق الضغط الإصلاحيّ بواسطة مؤسّسات النظام عينها. لماذا؟ لأنه نظامٌ مقفل.

فما دام تعديلُ القوانين يتطلّب المرورَ بأكثريّةٍ من ضمن التركيبة الطائفيّة الحاليّة، فلن تلغي التركيبةُ نفسَها بنفسِها. وإذا توخّينا التغييرَ وجب أن نسعى إلى بناء حركةٍ جماهيريّةٍ ديمقراطيّةٍ لاطائفيّةٍ في الشارع. والأساس الوحيد القادر على جمع مثل هذه الحركة، بما تحتاج إليه من زخمٍ وقوّة، هو أساسُ المصالح الطبقيّة. وإذا قامت مثلُ تلك الحركة، فلن تغيّرَ القانونَ الانتخابيَّ وحسب، بل ستغيّر أكثرَ منه بكثير أيضًا، وستُدخل البلادَ بالتالي في ديناميّةٍ ثوريّة. أقول هذا لا لأنفي أهميّة النضال من أجل تغيير القانون الانتخابيّ، بل للتحذير من التوهّم بأنّ التغيير سيتمّ من ضمن التركيبة الحاليّة. ومع ذلك، فأنا مع طرح هذا المطلب لغايةٍ تربويّةٍ تثقيفيّة، بوصفه من المطالب التي تُرفع سعيًا وراء بناء حركةٍ تمثّلُ مصالحَ الجماهير الكادحة، ولا بدّ أن تكون عَلمانيّة ونسويّة وبيئيّة،...

ما الذي يجب أن يغيّرَه اليسارُ العربيّ في المطالب التي كان يحْملها من قبل؟

جلبير الأشقر : أعتقد أنّ علاقة اليسار العربيّ بالمطالب المذكورة كانت ركيكةً جدّاً في الأصل.

كانت موجودة في أدبيّاته على الأقلّ

جلبير الأشقر : في أدبيّاته نعم، أما في النضال الفعليّ فبشكلٍ راح يتضاءل مع مرور الزمن، ناهيك تحديدًا بالموضوعين النسويّ والعلمانيّ، اللذين أدّت طبيعتُهما الحسّاسةُ إلى استسلامٍ كاملٍ من قِبل معظم اليسار في شأنهما.

بحجة عدم استفزاز المجتمع...

جلبير الأشقر : نعم. أمّا إذا تناولنا المسألتين الديمقراطيّة والاجتماعيّة حصرًا، فسنجد تنظيماتٍ ضمن اليسار الجديد في السبعينيّات قامت بسعيٍ جدّيّ في هذا المضمار. وعلى صعيد المشرق العربيّ، فإنه يمْكن أن نشير إلى تجربة منظمة العمل الشيوعيّ في لبنان، التي سرعان ما غرقتْ في مستنقع "الحركة الوطنيّة اللبنانيّة" الواقعة بين القيادة الجنبلاطيّة والوصاية العرفاتيّة. هذا وبقيت التنظيماتُ الجذريّةُ الأخرى جنينيّة. أما الفصائل الكبرى المؤلّفة من الحركة الشيوعيّة التقليديّة واليسار الفلسطينيّ المنحدر من أصلٍ قوميّ، فإنّ علاقتها بالقيَم اليساريّة كانت هشّةً على العموم، وقد غلب عليها منطقُ التذيّل للفئات البرجوازيّة التي اعتبرتْها "وطنيّة." ويكفي النظر في حالتَي اليسار اللبنانيّ (ممثلاً بالحزب الشيوعيّ ومنظمة العمل الشيوعيّ) واليسار الفلسطينيّ؛ ففي الحالتين تذيّلٌ لقياداتٍ برجوازيّة: بعض اليسار الفلسطينيّ تذيّلَ للقيادة العرفاتيّة، والبعضُ الآخر بدا عاجزًا عن التصدّي الجذري لها؛ واليسار اللبنانيّ تذيّلَ للقيادة الجنبلاطيّة (وهي قيادة برجوازيّة طائفيّة فوق ذلك).

كان اليسار العربيّ في حضن يسارٍ عالميّ. وإذا أردنا الحديثَ عن يسارٍ عالميّ اليوم، فإنّ حركة مناهضة العولمة حاضرةٌ ربّما على حساب الحركة العمّاليّة التي تراجعتْ كثيرًا؛ ونرى حركة في أميركا الجنوبيّة وقد أصبحتْ حركة أنظمة. هل يمكن أن ينمو يسارٌ عربيّ بدون حاضنةٍ واضحةٍ متمثلة في يسارٍ أكبرَ وأشمل؟

جلبير الأشقر : اليسار العربيّ في أزمةٍ هي من العمق بحيث يحتاج فعلاً إلى مثالٍ خارجيٍّ يشير إليه كي يعيد بعضَ الصدقيّة إلى المشروع الاشتراكيّ. اليوم، في أميركا اللاتينيّة، تتطوّر تجاربُ يساريّةٌ بالمعنى الفعليّ للكلمة، وليست مسوخًا كما شهدنا في منطقتنا العربيّة. إنها حركاتٌ قائمةٌ على تعبئةٍ شعبيّةٍ واسعة، وحركاتٌ ملتزمةٌ بالأطر الديمقراطيّة، تحاول دفعَ المجتمع إلى الأمام عبر التغييرات الاجتماعيّة وغيرها. وهي تذكّرنا، إلى حدٍّ ما، بالتجذّر القوميّ الذي ساد في منطقتنا العربيّة في الخمسينيّات والستينيّات، لكنْ بصيغةٍ مبنيّةٍ على المشاركة الشعبيّة التي كانت مفقودةً تمامًاً عندنا في زمن الناصريّة، حيث كانت الأنظمةُ القوميّةُ مخابراتيّة (أما فلولُها اليوم فمخابراتيّةٌ صرف، بلا أيّ زخمٍ قوميّ أو شعبيّ).

لكنّ أميركا الجنوبيّة بعيدة عنّا جغرافيّاً وثقافيّاً. والحقّ أننا أكثر تأثّرًا بما يحصل في تركيا وإيران، ناهيك بتأثّر كلّ بلدٍ من بلداننا بما يجري في البلدان العربيّة الأخرى. بل إننا أكثر تأثّرًا بأوروبا من تأثّرنا بأميركا اللاتينيّة، بسبب القُرب الجغرافيّ والارتباطات المتعدّدة الناجمة عن الإرث الاستعماريّ. لكننا لم نشهدْ عالميّاً، ولن نشهدَ عمّا قريبٍ على الأرجح، ثوراتٍ مرادفةً للثورتين الروسيّة والصينيّة من حيث الأهميّة العالميّة، بل نشهد نموَّ حركةٍ عالميّةٍ جديدة ـ أسماها البعضُ "أمميّةً جديدة" ـ مكانَ اليسار القديم الذي احتضر في آخر القرن المنصرم. ففي بداية قرننا الحادي والعشرين، بدأ ظهورُ الحركة المناهضة للعولمة النيوليبراليّة، وتمحورتْ حول المنتديات الاجتماعيّة العالميّة الدوريّة. وبالفعل حصلت ارتباطاتٌ عربيّةٌ بتلك الحركة. في البدء كان تمثيلُ المنطقة العربيّة داخلها شبهَ غائب، وفي الفترة الأخيرة أصبح هنالك تمثيلٌ لكنّه محدود، والجزءُ الأكبر منه مكوَّنٌ من منظماتٍ غير حكوميّة لا ارتباطَ لها بحركاتٍ سياسيّةٍ مناضلة. وهذا يشير في رأيي إلى استمرار العقليّة القديمة لدى بقايا اليسار، فيما الأجنّةُ الموجودةُ صغيرةُ الحجم تحاول أن تشاركَ بقدراتها المحدودة عندما يتاح لها الأمر.

لكنّ المسألة الرئيسيّة إزاء البناء المستقبلي لليسار العربيّ هي طبعًا مواقفُه وممارستُه في ساحته. والظاهرة الأساسيّة التي رافقتْ أفولَ اليسار منذ أواخر السبعينيّات هي احتلالُ التيّارات السلفيّة الدينيّة ساحتَي الكفاح الوطنيّ والمعارضة الشعبيّة للأنظمة. هذه هي المعضلة الرئيسيّة التي تواجه اليسارَ العربيّ. فالمشروع اليساريّ في المنطقة العربيّة يصطدم بهذا الجدار على أرض النضال الشعبيّ قبل أن يصطدمَ بالأنظمة. لذلك أقول إنّ على اليسار أولاً، إذا أراد أن يتمكّنَ من بناء ذاته، أن يكون يسارًا كاملَ الهوية. فأيُّ يسارٍ ينتقص من هويّته ويسْتر بعضَ قيَمه بغية التعاون أو التحالف مع قوًى أخرى، دينيّةٍ أو غير دينيّة، فإنّ هذه القوى ستبتلعه. وعلى اليسار أن يكون وفيّاً لكافة القيَم التحرريّة بحيث يؤكّد تمايزَه عن الأطراف المنافسة له في كسب العطف الجماهيريّ. غير أنّ ذلك لا يتنافى مع عقد العلاقة مع الأطراف الأخرى، وإنْ كانت دينيّة، في النضال ضدّ الصهيونيّة والإمبرياليّة، أو في مواجهة قمع الأنظمة، للأسباب التي سبق أن شرحتُها، ومع الالتزام بشروط التحالف كما وصفتُها. في لبنان مثلاً يلتقي اليسارُ مع حزب الله في التصدّي للعدوان الإسرائيليّ وللهيمنة الإمبرياليّة؛ وهذا أمرٌ طبيعيّ. لكنّ اليسار اللبنانيّ لن يتمكّن من إعادة بناء قوّته والمضيِّ إلى الأمام في "حرب المواقع" على صعيد المجتمع عن طريق المزايدة على حزب الله في المجال الوطنيّ، وبشكلٍ خاصّ في مجال الكفاح المسلّح (لا سيّما أنه لن يحصلَ على المساعدات أو التمويل التي حصل عليها الشيوعيون حين كان الاتحادُ السوفياتيّ ما يزال قائمًا). إنّ هيمنة حزب الله على ساحة المقاومة المسلّحة تجعل جلَّ ما يمْكن اليسار أن يفعله هو القيام بواجبه الوطنيّ، لكنه لن يستطيع إطلاقًا أن يزيحَ تلك الهيمنة في المستقبل المنظور. غير أنّ هناك مجالاتٍ أخرى عديدةً يستطيع اليسارُ أن يتميّز فيها عن كافّة القوى الأخرى، وأوّلُها الصراعُ الطبقيّ. هذه ساحةٌ أساسيّة، وهي أقدرُ على كسر الجدار الطائفيّ. وطبعًا هناك الديمقراطيّة بمفهومها العميق الذي يشمل العلمانيّة (لا "إلغاءَ الطائفيّة السياسيّة" وحسب)، ناهيك بساحات التحرّر الاجتماعيّ، والساحةُ النسائيّة في صدارتها كما سبق الذكر. كلُّ الساحات التي أوردتُها ليس لليسار منافسٌ فيها، ومن الحكمة الإستراتيجيّة البديهيّة بالتالي أن يسعى اليسارُ إلى بناء نفسه بالتركيز عليها.

ما حظوظ هذه المهمّة من النجاح؟

جلبير الأشقر : المهمّة صعبة بالتأكيد، وقد كنتُ شديدَ التشاؤم طوال ربع القرن الأخير، بعد أن توصّلتُ إلى إدراك انسداد الأفق أمام اليسار العربيّ منذ أوائل الثمانينيّات. فقد أدركتُ أنّ صعودَ التيّار السلفيّ ناتجٌ من الإخفاق التاريخيّ لليسار القديم، ومن عجز اليسار الجديد عن فرض نفسه بعد العام 1967، علمًا أنّ هناك عواملَ أخرى انضافت إلى ذلك، ومنها استعمالُ الأنظمة للتيّارات الدينيّة في ضرب اليسار الجديد. وقد ترك إخفاقُ اليسار الجديد مجالاً مفتوحًا أمام التيّار الدينيّ بوصفه الحركة الوحيدة التي لم تُجرَّبْ حتى ذلك الوقت: فقد أظهرت القوى الليبراليّة العربيّة تقاعسَها في وجه الإمبرياليّة والصهيونيّة منذ الأربعينيّات، وجُرّب القوميون من بعدها وفقدوا الصدقيّة، وتأكّد العجزُ التاريخيّ لليسار الشيوعيّ التابع للاتحاد السوفياتيّ، وأخفق اليسارُ الجديدُ الذي ظهر بعد العام 1967. وكان تقييمي منذ أول الثمانينيّات أنّ الموجة السلفيّة ليست بموجةٍ آنيّةٍ ستزول بعد ثلاث سنواتٍ أو أربع، بل ستبقى مهيمنة حتى حصول أحد أمرين: ظهور بديلٍ لها ذي مصداقيّة، أو إخفاقها من خلال أزماتها الداخليّة. والحال أنه لم يحصلْ أيٌّ من الأمرين منذ الثمانينيّات. أما اليوم فأرى بوادرَ تحقيق الشرطين بالتزامن: أولاً، ظهرتْ بوادرُ تأزّم التيّار الدينيّ في تجربة غزّة والإمارة الحماسيّة وتناقضاتها الداخليّة. والأهمّ منها، طبعًا، الأزمةُ في إيران، وهي لاتزال في بداياتها، ولا ندري كيف ستتطوّر، لكنّ تعمّقها ليس بالمستبعَد. ومثلما أدّت الثورةُ الإيرانيّة سنة 1979 إلى إعطاء قوة دفعٍ هائلةٍ للتيّارات السلفيّة الإسلاميّة على اختلاف أشكالها، فإنّ تأزّم التجربة الإيرانيّة (إذا تأكّد) سيسهم في تأزيم المشروع السلفيّ برمّته وإفقاده الصدقيّة.

ثانيًا، نشهد بدايةً جديدةً لصعود قوةٍ بديلةٍ في الساحة الجماهيريّة، تتجلّى في تصاعد الصراع الطبقيّ والنضالات العمّاليّة في عددٍ من البلدان العربيّة من المغرب الأقصى إلى الأردن والعراق، مع وجود مصر في الصدارة حيث تتطوّر منذ ثلاث سنوات أعظمُ موجةٍ للنضالات العمّاليّة منذ أكثر من نصف قرن. وقد أدّى هذا التحرّكُ الطبقيّ في مصر، للمرة الأولى منذ العهد الناصريّ، إلى قيام نقابةٍ مستقلّةٍ هي "نقابة موظّفي الضرائب العقاريّة،" وهناك محاولاتٌ لتكرار التجربة في قطاعاتٍ أخرى. أما التيّار الدينيّ فشبهُ غائبٍ عن هذه الساحة، والناشطون فيها يساريون بالمعنى الواسع لليسار الذي يَجْمع الناصريين الجذريين إلى الماركسيين.

أهذه إشاراتُ تفاؤل؟

جلبير الأشقر : إنها بوادرُ لا أكثر، في الوقت الراهن. لكنها كافية لتجعلني أشعر ببعض التفاؤل للمرّة الأولى منذ أكثر من ربع قرن، وإنْ بشكلٍ محدودٍ وحذر. أشعر أننا على عتبة منعطفٍ تاريخيّ، وأمام بداية النهاية للحقبة التاريخيّة التي تلت اندثارَ الحركة القوميّة، وربّما بوادر موجةٍ جديدة. وإذا استمرّت وتعمّقت الظاهرتان اللتان تحدّثتُ عنهما ـ أزمةُ التيّارات الدينيّة وصعودُ الموجة الطبقيّة ـ فعندها يمكن أن تنضج ظروفٌ مؤاتيةٌ لبناء الحركة اليساريّة من جديد. لقد ضاعت الفرصةُ الأولى بعد هزيمة 1967، وعلى اليسار العربيّ أن لا يضيّع الفرصة المقبلة.

مجلة الآداب العدد 504 العام 2010




جلبير الأشقر: أستاذ في معهد الدراسات الشرقيّة والأفريقيّة في جامعة لندن. له كتب عديدة، آخرها: العرب والمحرقة النازيّة: حربُ المرويّات العربيةُ ـ الإسرائيليّة (القاهرة وبيروت، 2010).



#جلبير_الأشقر (هاشتاغ)       Gilbert_Achcar#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- اليسار العربيّ: حوار مع جلبير الأشقر (الجزء الثاني)
- إنكار المحرقة... وإنكار النكبة
- اليسار العربيّ: حوار مع جلبير الأشقر
- النكبة المحدقة وكيفية مواجهتها
- وراء أزمة غزة : مقابلة مع جلبير الأشقر
- الاستشراق معكوسا: تيارات ما بعد العام 1979في الدراسات الإسلا ...
- -الولايات المتحدة الأمريكية تزرع بذور مأساة طويلة المدة-
- أزمة لبنان لم تنته بعد
- حوار حول الوضع في العراق:الولايات المتحدة الامريكية والانهيا ...
- الولايات المتحدة: الانهيار العراقي
- لبنان: المطامع الامبريالية في محك الواقع
- المطامع الإمبريالية الأميركية سفينة قيد الغرق
- الحرب في لبنان
- إسرائيل تتخذ شعبا بكامله رهينة
- العدوان المزدوج على فلسطين ولبنان
- إخفاق المشروع التنويري في المنطقة العربية وشروط استنهاضه
- همجية - الرسالة المتمدنة
- الانطباعات الأولى حول فوز -حركة حماس- الانتخابي
- إحتلال العراق في سياسة واشنطن الإمبراطورية الراهنة


المزيد.....




- السعودي المسجون بأمريكا حميدان التركي أمام المحكمة مجددا.. و ...
- وزير الخارجية الأمريكي يأمل في إحراز تقدم مع الصين وبكين تكش ...
- مباشر: ماكرون يهدد بعقوبات ضد المستوطنين -المذنبين بارتكاب ع ...
- أمريكا تعلن البدء في بناء رصيف بحري مؤقت قبالة ساحل غزة لإيص ...
- غضب في لبنان بعد تعرض محامية للضرب والسحل أمام المحكمة (فيدي ...
- آخر تطورات العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا /26.04.2024/ ...
- البنتاغون يؤكد بناء رصيف بحري جنوب قطاع غزة وحماس تتعهد بمق ...
- لماذا غيّر رئيس مجلس النواب الأمريكي موقفه بخصوص أوكرانيا؟
- شاهد.. الشرطة الأوروبية تداهم أكبر ورشة لتصنيع العملات المزي ...
- -البول يساوي وزنه ذهبا-.. فكرة غريبة لزراعة الخضروات!


المزيد.....

- حَمّاد فوّاز الشّعراني / حَمّاد فوّاز الشّعراني
- خط زوال / رمضان بوشارب
- عينُ الاختلاف - نصوص شعرية / محمد الهلالي
- مذكرات فاروق الشرع - الرواية المفقودة / فاروق الشرع
- صحيفة الحب وجود والوجود معرفة , العدد 9 / ريبر هبون
- صحيفة الحب وجود والوجود معرفة ,, العدد 8 / ريبر هبون
- صحيفة الحب وجود والوجود معرفة العدد 7 / ريبر هبون
- صحيفة الحب وجود والوجود معرفة الالكترونية , العدد 6 / ريبر هبون
- صحيفة الحب وجود والوجود معرفة , العدد 5 / ريبر هبون
- صحيفة الحب وجود والوجود معرفة العدد 4 / ريبر هبون


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - بوابة التمدن - جلبير الأشقر - اليسار العربيّ: حوار مع جلبير الأشقر [ القسم الأخير ]