أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عبد الحسين شعبان - حين يرحل المفكر مطمئناً















المزيد.....

حين يرحل المفكر مطمئناً


عبد الحسين شعبان

الحوار المتمدن-العدد: 3065 - 2010 / 7 / 16 - 19:27
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


حين يرحل المفكر مطمئناً
قراءة إنسانية سسيوثقافية لرحيل 4 مفكرين

محمد حسين فضل الله
كان آخر الراحلين المفكر الإسلامي السيد محمد حسين فضل الله، الذي ودّع بيروت التي أحبّها، مثلما غادر النجف التي ولد فيها، لكن هذه المرّة إلى غير عودة أو لقاء. وإذا كانت النجف مسقط رأسه وسكنت قلبه، فإن بيروت صنوها وشقيقتها، بل توأمها الروحي. ومثلما أخبرني في إحدى المرّات، أنه لا يمكن أن يفكّر إلا وهو منتمِ إلى النجف وبيروت في تعاشق لا يمكن فصمه.
ولعل التشييع المهيب الذي شهده لبنان والعزاء الحار الذي أسهم فيه العالمان العربي والإسلامي، كان شهادة جديدة على المكانة المتميّزة التي احتلّها فضل الله في نفوس المتدينين وغير المتدينين، الذين وجدوا فيه نموذجاً للمفكر الإسلامي الحر والمتنور، المجدد والرافض للترّهات والخرافات، غير المستكين لبعض نزعات الماضي والمتطلّع إلى حيث المستقبل دائماً.
كان فضل الله داعية للحوار والتسامح والتقريب بين المذاهب والأديان، وكان يشعر بأن ما يوحّد المسلمين مع غيرهم عنوانان أساسيان هما الإيمان والإنسان، وأكّد في أكثر من مناسبة أن ما يلتقي عليه المسلمون السنّة والشيعة في الجوانب الفقهية يصل إلى مستوى 80 في المائة، وطالبهم بأن يستوحوا المرحلة التي عاش فيها الخلفاء الراشدون، لأن مسألة الاختلاف في الإمامة والخلافة تبقى مسألة تاريخية، بعيداً عن اتهام كل فريق الآخر بالضلال والكفر. وكنت قد سألته عن قصة من جاء إلى العلامة الراحل محسن الأمين وطلب منه أن يبدّل مذهبه من المذهب السني الحنفي إلى المذهب الشيعي الجعفري، فقال بتندّر، فما كان من الأمين إلا أن قال له" قل: لا إله إلا الله محمد رسول الله"، فذلك هو المسلم.
لعله كان أقرب إلى فكرة الإمام علي بخصوص المسلم والإنسان، عندما خاطب مالك بن الأشتر النخعي، وهو عامله في مصر موصياً إيّاه بالبشر قائلاً: لا تكن عليهم (أي على الناس) سبعاً ضارياً لتأكلهم، فالناس صنفان: إما أخ لك في الدين (أي مسلم مثلك) وإما نظير له في الخلق أي (بشر مثلك) أيضاً، وذلك تيمّناً بما ورد في القرآن الكريم على لسان الرسول محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ (سورة إبراهيم- الآية 11): قالت لهم رُسلهم "إن نحن إلا بشرٌ مثلكم ولكن الله يمنّ على من يشاء من عباده وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلاّ بإذن الله، وعلى الله فليتوكل المؤمنون", وكذلك ما ورد في سورة الكهف (الآية: 110) وعلى لسان النبي محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ أيضاً حيث يأمره الله مخاطبة الناس: "قل أنمّا أنا بشرٌ مثلكم يوحى إليّ، إنما إلهكم إله واحد".
محمد عابد الجابري
ترافق مع رحيل السيد فضل الله خسارة العالم العربي مفكرين بارزين، فقبل أسابيع غادرنا المفكر المغربي محمد عابد الجابري الذي أسهم في نقد التراث والفكر العربي على مدى أكثر من ثلاثة عقود من الزمان، مقدِّماً أعمالاً جريئة وإشكالية بخصوصه، ساعياً إلى إثارة أسئلة ساخنة حول مستقبله، وقد أسهم في إغناء المكتبة العربية من خلال مؤلفات متميّزة منها: "نحن والتراث" و"العصبية والدولة", الذي تناول فيه معالم نظرية ابن خلدون و"الخطاب العربي المعاصر". وكانت رباعيته في نقد العقل العربي ذروة مشروعه النقدي وشملت "تكوين العقل العربي"، "بنية العقل العربي"، "العقل السياسي العربي"، و"العمل الأخلاقي العربي".
وعندما وصله خبر إنجاز كتابه حول: "مدخل إلى القرآن الكريم" في ثلاثة أجزاء، ولا سيما في التعريف بالقرآن وأسباب النزول والكتاب الحكيم، وهو عصارة لفكره وتعميم وتعميق لاستنتاجاته.. هتف قائلاً: الآن يمكن لعزرائيل أن يزورنا، وذلك لاعتقاده أن هذا الإنجاز مثل ذروة ما يريد أن يقوله. التقيت الجابري عدّة مرات في بيروت والرباط وشاركت معه في ندوات، منها في الدوحة، وكان آخر لقاء لي معه في الرياض.
***
وأنا أستعد لكتابة مادة عنه، فقدنا المفكر البريطاني الفريد هاليداي الذي قدّم أبحاثاً ودراسات أغنت الفكر الإنساني، ولا سيما اليساري، بخاصة في القضايا العربية والإسلامية. أتذكر أنني تعرّفت عليه في لندن في أواخر عام 1990 وكان منشغلاً ومهموماً بخصوص احتمالات ضرب العراق، رغم أن استنتاجاته لم تكن ترجّح إقدام واشنطن على هذا الخيار. وكان ذلك بحضور نوري عبد الرزاق وصلاح عمر العلي وإياد علاوي وآخرين، والتقيته عدّة مرات، وأدرنا حوارات مكثّفة بخصوص الوحدة اليمنية التي كان يستفسر عن مآلها، وأتذكر أنه سألني عدة أسئلة بشأنها، وآفاقها المستقبلية.
ألفريد هاليداي
وكان هاليداي قد كتب عدّة كتب عن اليمن منها "جزيرة العرب بلا سلاطين" الذي صدر عام 1970 وأعيد طبعه مع تنقيحات مهمة عام 2000, وكتابة الآخر عن "الثورة والسياسة الخارجية .. حالة اليمن الجنوبي ما بين 1967 و1987", كما كتب عن الإسلام والإرهاب الدولي، ولا سيما بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) الإرهابية والموسوم " ساعتان هزّتا العالم" وقبله كتابه "الإسلام والغرب" الذي صدر عام 1997. وأعتقد أن مساهماته كانت دفاعاً عن إسلام متنور ورداً على الإسلامفوبيا (الرهاب من الإسلام) وبعض الأطروحات التي سادت في الغرب، التي تعد الإسلام يحضّ على الكراهية والعنف والإرهاب، مثلما كانت في الوقت نفسه ضد تعصب بعض الجماعات الإسلامية وتطرفها، التي استخدمت اسم الإسلام بالضد منه، خصوصاً تلك التي تتهم الغرب كلّه بالعنصرية والإرهاب والاستعلاء.
***
وعند سماعي خبر وفاة السيد فضل الله، قرأت خبر وفاة المفكر المصري نصر حامد أبو زيد، الذي تم تكفيره وأصدرت إحدى المحاكم المصرية قراراً بالحسبة، أي لتفريقه عن زوجته. وأتذكر كيف قدنا تحركاً عربياً ضد القرار, وكيف أنه اضطر إلى الرحيل ووجد في إحدى جامعات هولندا (لايدن) مكاناً أميناً يعبّر فيه عن آرائه وأفكاره التي ضاقت بها القاهرة والعالم العربي، الذي ظل يتطلع إليه، حتى إنه وهو يعاني أثر فيروس أصابه في إندونيسيا التي كان يزورها في مهمة أكاديمية، لم يفكر سوى في مصر، التي عاد إليها محمولاً على نقّالة مستشفى ليقضي آخر أيامه في القاهرة، وليرحل بعدها عن دنيانا.
أتذكر أننا اشتركنا معا في محاضرة عن المفكر والباحث التراثي هادي العلوي الذي كان يقدّره كثيراً، مثلماً يقدّر أبو زيد، العلوي، وكان معنا الدكتور كاظم حبيب، والناقد ياسين النصيّر الذي أدار الأمسية الاستعادية النقدية عن هادي العلوي.
يمكنني القول إن مشروع نصر حامد أبو زيد جزء من مشروع التجديد الفكري للخطاب الديني، وأهم ما فيه أنه رفض أن ينضوي تحت لواء السلطات القائمة أو يهادنها، سواءً كانت سلطة الغوغاء التي تحركها أوساط سياسية معينة ولأغراض دينية أو غير دينية، أو سلطة المؤسسة الجامعية التقليدية، التي استعاضت عن العقل والحوار والجدل، بمسلمات ومقولات أقرب إلى التقديس.
نصر حامد أبو زيد
حاول أبو زيد نقد " الثابت" و"الجامد" و"المتوارث", ولا سيما من رثّ المفاهيم، مثلما سعى إلى تحريك الساكن والمستقر، في إطار الإنارة العقلية، خصوصاً أن مجتمعاتنا عانت التآكل والركود، لدرجة أن الصدأ والتكلس أصابا كثيرا من مفاصل الحياة الفكرية والثقافية. هكذا حاول حمل لواء التنوير من خلال محاضراته الأولى في الجامعة، إلى أن تبلور مشروعه الفكري باعتباره ينتمي إلى المدرسة العقلية في الثقافة العربية _ الإسلامية. ولا شك أن هذه المدرسة ساهمت مساهمة جدّية في ازدهار الحضارة العربية، خصوصاً في عدم الأخذ بالتفسير الآحادي للنص القرآني، ولعل ابن رشد كان أحد أبرز رواد الاتجاهات العقلانية في الثقافة العربية - الإسلامية.
ومن الإضافات المهمة لأبي زيد أنه كان من دعاة فصل الدين عن السياسة, معتبراً أن العلمانية التي تقول بفصل الدين عن الدولة، ليست إلحاداً، لكنها عملية إجرائية ضرورية لفصل الدين عن السياسة. وهذا لا يعني فصل الدين عن المجتمع أو الحياة، فالدين على مساس وثيق بالمجتمع وحياة الناس ولا يمكن فصمه عنهما.
كما دعا أبو زيد إلى تحرير المرأة مُعلياً من شأن الكرامة الإنسانية، التي تقوم فيها الدولة على مبدأ المواطنة والمساواة، ولعل إحدى الاتهامات التي وجهت ضده هي المروق والارتداد، الأمر الذي قاد إلى تكفيره من خلال قرار قضائي هو أقرب إلى محاكم التفتيش في العصور الوسطى يقضي بتطليق زوجته ابتهال يونس.
وإلى الآن لم يكتسب التأويل شرعيته في فكرنا العربي المعاصر، باعتباره فعلاً منطقياً، لأنه يذهب إلى المقاصد والدلالات ويدخل في إثبات العقائد والضلالات، الأمر الذي قد يجعله يبتعد عن الشريعة، في تجاوز المعنى الظاهري من الأشياء. ويعد أبو زيد أن الصيغة الشمولية للنص وتعددية آفاق قارئيه، هي التي تجعل التأويل المجازي ضروريا، وهو ما حاول بحثه في كتابه "الخطاب والتأويل"، ولا سيما علاقة المثقف بالسلطة. وهذا الكتاب امتداد لكتاب "مفهوم النص", الذي كان السبب في تكفيره، ولعل ذلك يذكر بكتاب علي عبد الرازق "أصول الحكم في الإسلام" الذي صدر عام 1928 وجرى تكفيره والهجوم عليه إلى أن تراجع عنه أو عن بعض أحكامه لاحقاً.
كان نصر حامد أبو زيد ميّالاً إلى حداثة خاصة في قراءته للنص من خلال توظيفه في عملية تأويل شملت حتى النصوص المقدسة، عبر تحليل تاريخيتها، الأمر الذي خاصمه فيه المتعصّبون والمحافظون واعتبروه خارجاً على الإسلام، في حين أنه حاول أن يقدّم قراءات مختلفة لما هو سائد، ولا سيما أن قراءته هي الأخرى اجتهادية وتحتمل النقد والجدل مثل أية قراءة أخرى.
وبشجاعة واجه أبو زيد المحكمة حين رفض النطق بالشهادتين أمامها، معتبراً أن ليس من حقها تفشيش الضمائر، وكان يرى أن إيمانه وكرامته لا يسمحان له بتقديم شهادة مبتذلة أمام جهة ليس من حقها مساءلته، وأن السؤال الوحيد والشرعي الذي يمكن أن يجيب عنه هو أمام الله، وليس أمام أحد آخر.
لعل محاكمة أبو زيد واضطراره لاحقاً إلى الذهاب إلى المنفى إحدى فضائح عصرنا العربي الرديء، فأين الحرية الشخصية؟ وأين حرية البحث والحريات الأكاديمية، حين تصدر محكمة قراراً بتطليق زوجة مفكر، لأنه اجتهد وفكر واستخدم عقله، لتقديم تأويل عند قراءة نص معين؟ ولعل عمله اللاحق، ولا سيما في جامعة لايدن دفعه إلى تقديم قراءة مستنيرة للإسلام وللنصوص الإسلامية في وسط أكاديمي منفتح ساعياً إلى تأصيل العلاقة التاريخية بين العرب وأوروبا عبر العقل وعبر تجديد الفكر، بعيداً من روح الكسب أو الارتزاق أو استخدام الدين وسيلة لتمجيد الحاكم أو الحديث عن فضائل الغرب أو الطعن ببلاده ومجتمعه.
وأبو زيد والجابري قاتلا من أجل إعادة ابن رشد والفلسفة الرشدية إلى نسيج الفكر العربي المعاصر، خصوصاً بعد انقطاع، معليان من شأن العقل والعقلانية.
***
أعود إلى فضل الله، الذي اعتبره من أكثر من جاهر بفقه النقد، ولا سيما لعدد من المقولات والأفكار المتوارثة، التي لم يكن يتقبلها بعد جهد ودراسة وتمحيص، فقد دعا إلى رفض شتم الصحابة (عمر وأبو بكر وعثمان), الأمر الذي أثار ردود فعل ضده، ولا سيما من بعض رجال الدين الذين ظلّوا يعتاشون على تفريق المسلمين وإذكاء نار الكراهية بين المذاهب الفقهية والاجتهادية القائمة (شيعة وسنّة).
وكان فضل الله يدعو إلى إصلاح المؤسسة الدينية سواء بكادرها التدريسي أو مناهجها، خصوصاً أن إدخال بعض المفردات العصرية في منهجها، والتخلص من بعض المواد الجامدة، ولا سيما أن جامعة الأزهر كانت قد خطت خطوات مهمة في طريق الإصلاح والتجديد، الأمر الذي تطلب وقفة مراجعة. وكان من أنصار مدرسة التجديد السيد مصطفى جمال الدين ومحمد مهدي شمس الدين والسيد محمد بحر العلوم ومحمد تقي الحكيم وغيرهم.
وأتذكر أن السيد فضل الله كان قد أشار إلى أن معركة التجديد في جامعة النجف وحوزتها العلمية في حديث ذكريات أجرته معه مجلة "الديار" في التسعينيات، وكان الشيخ محمد رضا المظفر أحد أبرز العلماء الذين دعوا إلى التجديد. ولم تكن عملية التجديد التي دعا لها المجددون, وبينهم السيد فضل الله, تستثني جانباً من جوانب المؤسسة الدينية ابتداءً من المنهج ودروس الحوزة الأساسية وكلية الفقه ومنتدى النشر وغيرها. فأدخلت الفلسفة الحديثة والفقه المقارن وعلم الاجتماع وعلم النفس والأدب والعروض والتاريخ واللغة الإنجليزية لاحقاً في (كلية الفقه).
أما أساليب الدراسة في الحوزة، فقد بقيت في الحسينيات والمساجد، وإن دخلت عليها عوامل التجديد أيضاً، لكنها تعرضت بعد ذلك إلى نوع من الركود والتراجع، وبخاصة في السبعينيات وما بعدها.
بعد عودة فضل الله من النجف إلى بيروت نهاية عام 1965 وأوائل عام 1966 وكان قد تجاوز الـ 30 من عمره وبدأ ينضج رغم أن علامات مبكرة على نضجه بدأت تلوح من خلال مقالاته في مجلة "الأضواء" في النجف وهو في بدايات شبابه. افتتح حوزته في الضاحية، واهتم بشكل خاص بعلم الفقه وأصوله، كما بذل مساعي كبيرة في جبل عامل والبقاع لرفع الوعي الجديد, بخاصة بعد عدوان 5 حزيران (يونيو) 1967, وظل موقفه من مقاومة الاحتلال صلباً حتى آخر أيام حياته، ورفض أن يغادر بيروت طوال فترة الحرب الأهلية وكذلك عند اجتياح عام 1982 أو عدوان عام 2006، اللذين شنتهما إسرائيل ضد لبنان، ولذلك اعتبر الأب الروحي للمقاومة، في لبنان وحيثما كان هناك احتلال في فلسطين وجنوب لبنان والجولان. وبعد عام 2003 في العراق فقد رفض منطق الاحتلال، ورغم معاداته لنظام صدام حسين، إلاّ أنه وقف ضد غزو العراق واحتلاله.
يقول العلاّمة الشيخ حسين شحادة إن أبلغ درس تعلمته من دروسه الصباحية هو درس الأخلاق وإنماء المعرفة _ بالدين- على قيمها وخصالها. وعنده أن الخطر على مجتمعاتنا بدأ بنزع الكنوز الأخلاقية من ثقافتنا، ويضيف أن السيد فضل الله لفت انتباهه إلى مسألتين مهمتين هما: الأولى عزوف السياسة العربية عن سلوكها الأخلاقي، والأخرى عزوف بعض المتكلمين باسم الدين عن جوهر الثقافة الأخلاقي.
وخلال الثمانينيات ومطلع التسعينيات لقيت مجالس فضل الله في جوار السيدة زينب دورا تعبوياً مهماً لربط الفقه بالفكر والفكر بالتربية، ولا سيما من خلال نفحات أخلاقية ربطت المواطنة، والمواطن بالاجتماع الإنساني.
كان السيد فضل الله قد اهتم بالهوية العربية والإسلامية، ولا سيما في ظل التحديات التي واجهت مجتمعاتنا، ومثلما تبيّن لنا كتبه ومحاضراته وإطلالاته، فقد كان حريصاً على بعث هوية متماسكة أساسها الحرية والمواطنة والمساواة، ضد الذين "يحاولون تحويلنا إلى حطام أيديولوجي", وفي الوقت نفسه ضد "الذين يتقنون تعذيب النصوص". وبسبب بعض آرائه التجديدية المخالفة لما هو سائد وراكد أطلق عليه البعض لقب "أبو بكر الضاحية" في محاولة للنيل منه, وهو من كان قد قال وروّج إلى عدم شتم الصحابة، وعندما حاول بعض المتعصبين مطالبته بالتراجع، أصر على رأيه.
ومن بعض آرائه الفقهية اعتماد علم الفلك والأرصاد لإثبات بدء شهر رمضان وانتهائه، وأفتى بتحريم القتل باسم "جرائم الشرف" وأن ختان النساء ليس في السنن الإسلامية، وشرّع للمرأة حق الدفاع عن نفسها فيما إذا حاول زوجها أو أخوها ضربها, وحظر ضرب الرؤوس خلال مراسم عاشوراء, أو أي إيذاء للنفس (التطبير), معتبراً ذلك تشويهاً للدين أيضاً. وكان بذلك يقتفي أثر السيد محسن الأمين الذي توفي عام 1952 والسيد أبو الحسن الذي توفي عام 1946.
وقف فضل الله ضد مبدأ ولاية الفقيه، بل إنه طرح نفسه مرجعية شيعية مستقلة، الأمر الذي شهد توتراً في علاقته مع إيران وحزب الله، واعتبره البعض ممالئاً لقوى معادية للطائفة، علماً بأن علماء النجف لم يكونوا مع مبدأ ولاية الفقيه تاريخياً، وهو مبدأ حديث واجتهاد مختلف عليه.
واعتبر فضل الله الشيعة العرب المسلمين غير تابعين لإيران لا بالمعنى السياسي ولا بالمعنى الديني, ويمكن القول ولا بالمعنى التاريخي، معتبراً الشيعة مخلصين لأوطانهم ومجتمعاتهم، مثلما كان محمد مهدي شمس الدين يدعو إلى اندماجهم في أوطانهم ومجتمعاتهم.
ولم يقل فضل الله بشروط الذكورة في المرجعية، الأمر الذي يعني حق النساء في تبوؤ المرجعية، بما فيها الرئاسة أو القضاء أو الإمامة، معتمداً على مبدأ قاعدة المساواة بين المرأة والرجل في الحقوق والكرامة، مستشهداً بالآية القرآنية "ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف".
ومن أهم كتبه فقه الشريعة ( 3 أجزاء) وفقه الإجارة في شرح العروة الوثقى وفقه المواريث والفرائض وتفسير القرآن الكامل، والمرأة في واقعها وحقها في الاجتماع السياسي الإسلامي، وإضاءات إسلامية، وهو يعلن فيه مواقفه صراحة بدعم المقاومة ورفض احتلال العراق، وسبق له أن كتب عن "الإسلام وفلسطين".
وبعد كل ذلك فالسيد فضل الله شاعر رقيق، ورغم احترافه العمل الفقهي وانصرافه إلى شؤون المرجعية، لكنه كان يعرف حق الشعر عليه، وفي حضرته أي "حضرة الشعر" دائما ما يتذكر النجف وأتذكر أنني التقيته مرّة في عام 1992 في طهران وقرأ لي بعد إلحاح بعض قصائده.
رحل الأربعة الكبار عن دنيانا، لكنهم لم يرحلوا، وإذا كانوا قد غادرونا جسدياً وفيزيولوجياً، فإن إقامتهم ستكون طويلة معنا وبعدنا أيضاً، بقوا معنا روحياً ومعنوياً وسيبقون لمئات السنين مثلما بقي معنا الشافعي والجاحظ وابن رشد والمعرّي والمتنبي وابن عربي وابن خلدون ومحمد عبده وطه حسين والجواهري وعلي الوردي.
رحلوا, لكن الذي لا يرحل هو فكرهم التاريخي، فكر التحرر والنهضة، فكر النقد والحرية، وذلك لأن هذه الأفكار لا ترحل، وما أحوج مجتمعاتنا إلى مثلها، وما أحوجنا إلى الراحلين، ونقول ما أحوجنا إلى التسامح الذي كان سمة جامعة للمفكرين الكبار!



#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أسئلة التنوع الثقافي
- استحقاقات برسم تسليم الحكومة العراقية الجديدة
- الاغتيال السياسي : مقاربة سسيو ثقافية حقوقية
- سلطة العقل.. السيد فضل الله حضور عند الرحيل!
- الثقافة والتغيير
- ظلال غورباتشوف في صورة أوباما الأفغانية
- النيل والأمن المائي
- الانتخابات ومستقبل العراق!
- الأزمة الكونية وحلم التنمية
- 5 رافعات للتسامح
- هل تستقيم المواطنة مع الفقر؟!
- الثقافة والتربية.. لا حقوق دون رقابة
- قرصنة وقانون: أليست كوميديا سوداء؟
- مسيحيو العراق: الجزية أو المجهول!
- الطائفة والطائفية: المواطنة والهوية!!
- العروبة والهوية والثقافية
- حكاية تعذيب!
- العروبة والدولة المنشودة!*
- حوار الذات وجدل الآخر
- ضوء على تدريس حقوق الانسان في العراق*


المزيد.....




- كوريا الشمالية: المساعدات الأمريكية لأوكرانيا لن توقف تقدم ا ...
- بيونغ يانغ: ساحة المعركة في أوكرانيا أضحت مقبرة لأسلحة الولا ...
- جنود الجيش الأوكراني يفككون مدافع -إم -777- الأمريكية
- العلماء الروس يحولون النفايات إلى أسمنت رخيص التكلفة
- سيناريو هوليودي.. سرقة 60 ألف دولار ومصوغات ذهبية بسطو مسلح ...
- مصر.. تفاصيل جديدة في واقعة اتهام قاصر لرجل أعمال باستغلالها ...
- بعد نفي حصولها على جواز دبلوماسي.. القضاء العراقي يحكم بسجن ...
- قلق أمريكي من تكرار هجوم -كروكوس- الإرهابي في الولايات المتح ...
- البنتاغون: بناء ميناء عائم قبالة سواحل غزة سيبدأ قريبا جدا
- البنتاغون يؤكد عدم وجود مؤشرات على اجتياح رفح


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عبد الحسين شعبان - حين يرحل المفكر مطمئناً