أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - حقوق الانسان - عبد الحسين شعبان - ضوء على تدريس حقوق الانسان في العراق*















المزيد.....


ضوء على تدريس حقوق الانسان في العراق*


عبد الحسين شعبان

الحوار المتمدن-العدد: 3018 - 2010 / 5 / 29 - 10:51
المحور: حقوق الانسان
    


تسنّى لي للعام الدراسي 1999-2000 أن ألقي محاضرات على طلبة الدراسات العليا في جامعة صلاح الدين (أربيل- العراق) بعنوان " مدخل الى القانون الدولي الانساني وحقوق الانسان"، وقد طبعت "الملازم" التي قدمتها للطلبة في كتاب، بالعنوان ذاته، ثم عدتُ وطورتها لأطبعها في كتاب بعنوان " الإنسان هو الأصل" الذي صدر عن مركز القاهرة لدراسات حقوق الانسان، في العام 2001.
يومذاك لم تكن قضية حقوق الانسان قد أخذت طريقها الى الجامعات الأساسية في العراق، لاسيما العاصمة بغداد، بسبب النظام التوتاليتاري الشديد الصرامة، خصوصاً في ظل القيود الكبيرة المفروضة على حرية التعبير والحريات الاكاديمية بشكل خاص والحريات العامة بشكل عام. وإذا كان ثمت حديث عن حقوق الانسان، فإنه بلا أدنى شك لا يتعلق بالأوضاع الداخلية لأن عقوبات غليظة تنتظر من يغامر بمثل هذا الحديث تصريحاً أو حتى تلميحاً. وكل ما كان يتعلق بحقوق الانسان فإنه يخص الخارج، التي يحركّها الاعداء والخصوم.
أما في كردستان فرغم خروجها على السلطة المركزية منذ أواخر العام 1991، فلم تكن جامعاتها قد اكتسبت هذه الخبرة بعد في ظل أوضاع قلقة ومخاوف كثيرة وبيئة غير مهيأة، لاسيما في ظل اندلاع القتال الكردي – الكردي (1994-1998)، لكن بعض الارهاصات الاولى قد بدأت، وبعض اللبنات المهمة قد تم بناؤها، وبخاصة عند تأسيس وزارة باسم حقوق الانسان في أربيل العام 2000 التي كان لي الشرف في اقتراح المشروع على القيادة الكردية التي طلبت
ـــــــــــــــــــ
* بحث ألقاه الكاتب في حلقة دراسية أقامتها جامعة السيدة اللويزة في بيروت ، يوم 21 أيار (مايو) 2010.
مني كتابة أهدافها ووضع تراكيب لهيكلياتها ومديرياتها ووسائل تحقيقها، وغير ذلك من الجوانب الحقوقية والقانونية والفكرية والادارية، الأمر الذي ساهم في الارتقاء بوضعية حقوق الانسان بوضعها في منزلة رفيعة، كاعتراف رسمي على أقل تقدير، حتى وإن استمرت الانتهاكات.
بعد سقوط النظام السابق، ورغم وجود الاحتلال، فإن التوجه للحديث عن حقوق الانسان أصبح ملازماً للحديث عن التغيير والعراق الجديد، سواءً بما ينطبق عليه أو لا ينطبق، لكن موجة حقوق الانسان كانت قد وصلت الى العراق، وأخذ رصيدها بالارتفاع ورنينها يملأ الأسماع، لدرجة أن الكثير من الذين كانوا بعيدين كل البعد عنها أصبحوا ينظرون اليها بشيء من الاعجاب، حقاً أو باطلاً، مجاراة لموجة أو لتوجّه أو ايماناً أو أمراً واقعاً، خصوصاً وأن فكرة حقوق الانسان أصبحت عنواناً لعدد من الفاعليات والأنشطة، شملت حتى رؤوساء العشائر وأنشطة دينية ومذهبية.
بدأت أول محاضرة لي بعد احتفال تكريمي بمناسبة عودتي الى العراق في الجامعة المستنصرية في بغداد عن حقوق الانسان، وكان عنوان محاضرتي هو "ثقافة حقوق الانسان" وذلك لعدة أسباب، السبب الأول أن موضوع حقوق الانسان هو موضوع راهني، وأصبح مطروحاً على بساط البحث، لاسيما وأن هناك تجاذبات كثيرة حوله، داخلياً وخارجياً، ناهيكم عن أن زاوية النظر بشأنه تتراوح حدتها بالايمان المطلق أو الاتهام بالتخوين أو التحريم باعتبارها بدعة وضلالاً!.
والسبب الثاني هناك التباساً نظرياً وعملياً بشأنه، وبخاصة في مواقف الجماعات والتيارات الفكرية والسياسية والقومية المختلفة، لكن بعض هذه الجماعات بدأ بتشكيل جمعيات ومنظمات أو فروع لحقوق الانسان.
والسبب الثالث إن اشكالية المواطنة بدأت تحفر في أساسات الهوية والدولة، الأمر الذي يجعل من الواجب إدارة حوار فكري ومعرفي حولها، طالما وأنه يدخل في صلب الاشكاليات والمشكلات التي تواجه العراق بفرقه وجماعاته، بفسيفسائه وموزائيكه الاثني والديني واللغوي والسلالي وغير ذلك، ناهيكم عن علاقة ذلك بالجنسية العراقية وازدواجيتها.
والسبب الرابع علاقة حقوق الانسان بمبدأ المساواة والحقوق الاساسية وبالأخص حق التعبير وحق الاعتقاد وحق تأسيس الأحزاب والمنظمات السياسية والمهنية، وحق المشاركة، وإدارة الشؤون العامة دون تمييز، وهو ما يضع تحديات جديدة أمام التطور اللاحق للعراق.
وكان عنوان محاضرتي الثانية هي عن الدستور: الحريات والحقوق، لاسيما بإلقاء نظرة حول الدساتير العراقية السابقة منذ العام 1925(القانون الاساسي) والدساتير المؤقتة: دستور ثورة 14 تموز 1958 ودستور العام 1963 ودستور العام 1964 ودستور العام 1968 ودستور العام 1970 وهو الدستور المؤقت الذي استمر نحو 33 عاماً مثلما استمر الدستور الاول (القانون الاساسي 1925) الفترة ذاتها وكنت أقصد من ذلك هو تهيئة أجواء مناسبة للحوار ولعرض قضية حقوق الانسان باعتبارها مسألة ذات سمة علوية وتشكل قاعدة آمرة من قواعد القانون الدولي Jus Cogens وعلى أية حكومة جديدة تتشكل وأي دستور جديد أن يأخذ بها وكنت قد تلمست مدى النقص وشحّ المعرفة في هذا الميدان.
وخلال لقاءاتي المتكررة ركّزت على البيئة التشريعية، لاسيما القواعد الدستورية والقانونية، إضافة الى دور القضاء، لاسيما إذا كان مستقلاً ونزيهاً ومهنياً والبيئة التربوية ( التعليم بمراحله المختلفة) والبيئة الاعلامية وبيئة المجتمع المدني، لاسيما المنظمات والجمعيات والاتحادات والنقابات ومدى تأثيرها على الفاعلين السياسيين، خصوصاً في ظل بوادر عنف وتفجيرات وتداخلات مع الارهاب الدولي ومحاولات لاملاء الارادة وفرض الوصاية باسم الدين أو الطائفة أو العشيرة أو غيرها.
وأود هنا أن اشير الى أن أي تحول ديمقراطي ودستوري، لا بدّ أن يتمثل في بيئة مناسبة لنشر الثقافة الديمقراطية، بحيث تؤثر الاخيرة على سلوك وعلاقات الأفراد والهيئات، لاسيما بعضهم ببعض وعلاقاتهم بالسلطة الحاكمة من جهة أخرى، والديمقراطية ليست فقط نظام حكم، وإنما هي أيضاً نمط من العلاقات الانسانية ونهج في ممارسة السلطة. ولعل ذلك كان مقاربة قدمها الصديق الدكتور عصام سليمان رئيس المجلس الدستوري اللبناني عن تدريس حقوق الانسان والثقافة الديمقراطية.
وهنا أود أن أشير الى أن الديمقراطية لا يمكن أن تختزل باجراء انتخابات دورية حسب، وإن كانت الانتخابات أحد مظاهرها، لكن لا بدّ أن تستند الى سيادة القانون وفصل السلطات ومبادئ المساواة وعدم التمييز وتداولية السلطة سلمياً وحقوق وحريات عامة وخاصة، فضلاً عن الشفافية والمساءلة وغيرها.
وبقدر تجذّر الديمقراطية نظام قيمي يحدد ويحكم تصرفات الأفراد، وبالأخص خياراتهم السياسية ومواقفهم مع من يحكمون، يكون هذا النظام قد استطاع ترسيخ الثقافة الديمقراطية وإعطائها بُعداً حياتياً وسلوكياً وحضارياً.
إن مشكلة وإشكالية الديمقراطية لا تكمن في طبيعة النظام السياسي حسب وواقع مؤسسات الدولة ونهج ممارسة السلطة، بل في أنماط العلاقات المجتمعية والسياسية، التي ما تزال تتحكم بها العصبيات، مثلما هي الطائفية والمذهبية والاثنية والعشائرية والجهوية وغيرها، لاسيما التي تحول دون الاندماج المجتمعي ودون التحول الديمقراطي، حيث تشكل تلك التحديات كوابحاً له إذ أن أي تحول ديمقراطي يتطلب ذوبان الفرد مع إطار الجماعة مع احتفاظه بفردانيته.
بودي أن اشير الى أن الديمقراطية كمفاهيم وحقوق وقوانين ومؤسسات وتطبيقات بحاجة الى ضوابط لمنع تغوّل السلطة السياسية ضد الفرد والمجتمع وضمانات ضد العسف السياسي. ولعل الشرط الاول لتحقيق التحول الديمقراطي هو وعي المواطن لذاته ومشاركته في الحياة السياسية في إطار خياره الحر ومراقبته من يمارس السلطة وفقاً للمساءلة والمحاسبة، اللتان هما الاساسان للحكم الصالح، الامر الذي يتطلب " التحرر من العصبيات التي تحول دون عقلنة العلاقات المجتمعية ..." والمقصود هنا المجتمع والدولة.
أما كيف يمكن التحرر من العصبيات؟ فتلك عملية معقدة تتطلب" نشر ثقافة الديمقراطية وحقوق الانسان" أي إحلال الديمقراطية وقيمها مثل: الحق في الحرية والحق في المساواة والحق في العدالة والحق في المشاركة، محل العلاقات العصبية الموروثة، ولعل في ذلك تعبير حقيقي عن مواطنة عضوية وفاعلة وهذا يتم من خلال وعي الذات وتطور الفرد كمواطن له حقوق وعليه واجبات بغض النظر عن إنتمائه الديني أو القومي أو العرقي أو العائلي أو أي انتماء آخر، ويمكن الإضافة هنا أو اللغوي أو الجنسي، لاسيما في ظل توفّر بيئة مناسبة وتربة صالحة.
إن تنشئة المواطنين وتعزيز مداركهم ووعيهم لحقوقهم ومعرفتهم بالوسائل اللازمة للاعتراف بهذه الحقوق، التي تتحول إذا ما اقتنعوا بها وأبدوا استعدادهم للدفاع عنها الى قوة مادية، خصوصاً إذا اغتنت بالمعرفة سيوفر الشروط التي تمكنّه من التمتع بها، ولعل تدريس حقوق الانسان يأتي هنا وسيلة أساسية من الوسائل التي يتطلبها نشر ثقافة الديمقراطية وحقوق الانسان.
يمكن القول أن المعرفة هي أساس الثقافة، ولعل المعرفة هي " قوة" حسب الفيلسوف البريطاني فرانسيس بيكون وقصد بذلك " سلطة " فسلطة المعرفة وقوة الثقافة تتجلّيان بمدى التقدم لفرض تأثيرهما في إطار ضمانات دستورية وقانونية وذات بعد دولي، ومدى فاعليتهما وانعكساتهما على الحقوق والحريات، والممارسة تشكّل هنا عنصراً أساسياً في تعميق الثقافة ونشرها من خلال المشاركة وإدماج أنشطة المجتمع المدني والاحزاب والقوى السياسية وفقاً لمبادئ وقواعد الديمقراطية وفي إطار آليات، مثلما هو معمول به في الانظمة الديمقراطية.
إن الممارسة الصحيحة تؤدي الى تطوير ثقافة الديمقراطية وترسّخ قيمها في المجتمع، خصوصاً إذا ما تحولت الى سلوك يومي مجتمعي في الحكم وخارجه، ومن خلال الدور الذي يلعبه المواطن عبر اختياره الحر في انتخابات دورية ومن خلال المراقبة والمساءلة والمحاسبة، وفي ظل حكم القانون.
إن كل يندرج أيضاً في إطار العلاقة الجدلية بين تدريس مادة حقوق الانسان وبين المجتمع المدني والحركة السياسية وفي داخلها من علاقات تنظيمية وادارية وتراتبية؟
منذ أكثر من 50 عاماً درّست بعض كليات الحقوق والعلوم السياسية مادة حقوق الانسان من خلال مادة الحريات العامة أو بصورة أدق وردت إشارات عنها، ثم تطوّر الأمر من خلال تخصيص مواد تعنى بحقوق الانسان ومنظوماته، وإذا كان لي إجراء بعض المقارنات فإن لبنان كبلد متقدم بهذا المجال، وقد يعود الى تكوين لبنان المجتمعي وموقعه الجغرافي الشرق متوسطي وطبيعته الجبلية، حيث كان ممراً عبر التاريخ لشعوب عديدة ومكاناً احتمت فيه الكثير من الجماعات هرباً من الاضطهاد السياسي أو الديني أو غير ذلك، فضلاً عن أجواء حرية التعبير التي كانت واحداً من معالم لبنان المعاصر..
ولعل التكوين المتنوّع للشعب اللبناني وخصوصيات الطوائف كان قد انعكس على دستوره وحقوقه منذ اعلان دولة لبنان الكبير عام 1920 وكذلك عبر الدستور اللبناني لعام 1926، الذي إعترف بمبدأ المساواة بين المواطنين وبالحقوق السياسية والمدنية والحقوق الشخصية وحرية الاعتقاد واحترام جميع الاديان وضمان حرية إقامة الشعائر الدينية. ونص الدستور على حرية التعليم وحرية التعبير وحرية تأليف الجمعيات والحق في الملكية وحق تولي الوظائف العامة دون تمييز.
ويمكن القول ان الدستور اللبناني خطى خطوات كبيرة في مجال الاعتراف بحقوق الانسان والحريات العامة، وذلك بعد العام 1990، أي بعد إتفاق الطائف، الذي تم بموجبه تعديل الدستور، ولعل هذا الدستور لا يمكن تحقيقه وتطويره باتجاه تجاوز الحالة الطائفية والمذهبية وترسيخ الوحدة الوطنية على أساس حقوق الانسان والمواطنة، الاّ من خلال العملية الديمقراطية، ولعل ذلك يستوجب تحديد الآليات المطلوبة في الظرف اللبناني الملموس، خصوصاً بانشطار الحركة السياسية بين موالاة ومعارضة.
وإذا كانت بعض الاشارات الى حقوق الانسان في الجامعات العراقية تأتي عبر مادة الحريات العامة في البرامج الجامعية أو في القانون الدستوري منذ نهاية الاربعينات إقتفاء بأثر بعض الجامعات الغربية، فإنها ظلت محدودة، أما التطور المهم فقد حصل في مناهج وبرامج حقوق الانسان وفي القانون الدولي الانساني بعد العام 2003، لاسيما وأن قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية لعام 2004 وبعده الدستور العراقي الدائم (النافذ) لعام 2005 أوردا فقرات خاصة تتعلق بمبدأ المساواة والمواطنة واحترام حقوق الانسان، وهي مواد وفقرات إيجابية وذلك مقارنة مع الدساتير السابقة جميعها.
ورغم وجود بعض الكوابح أمام هذه النصوص، لاسيما ما يوازيها بربط عدم تعارض التشريعات والقوانين مع مبادئ الاسلام، الأمر الذي قد يؤدي الى تعطيلها، أو افراغها من محتواها، خصوصاً إذا ما أدركنا أن هناك تأويلات وتفسيرات مختلفة لهذه النصوص، وهو موضوع معقد لا يمكن الاقتراب منه دون حساسية، لاسيما في ظل طغيان موجة التكفير والتحريم والتأثيم، ناهيكم عن وجود ألغام خطيرة أخرى في الدستور قد تنفجر في أية لحظة، ولعل المجال لا يسمح هنا للحديث عنها.
ومن المفارقات الطريفة أن تعتمد مادة حقوق الانسان في برامج الجامعات العراقية بعد الاحتلال، ولكنها مفارقة تستحق التوقف عندها رغم الانتهاكات السافرة والصارخة، وقد حصل خلال السنوات السبع ونيف الماضية عشرات من الطلبة في الدراسات العليا على مادة اساسية أو إضافية أو درسوا الماجستير أو الدكتوراه في أحد اختصاصات حقوق الانسان، وأخذ الحديث يكثر عن مراحل التعليم ما قبل الجامعي: الابتدائي والمتوسط والثانوي من خلال مادة التربية الوطنية.
إن النقص ما زال فادحاً في عدد المختصين والمدرسين والعاملين في ميدان ثقافة حقوق الانسان، ولعل غالبيتهم ممن كانوا يدرّسون الثقافة القومية (أي فكر حزب البعث السابق) ثم تحولوا الى تدريس مادة حقوق الانسان، وقبل ذلك كان بعضهم يدرّس مادة المجتمع العربي، وهي مواد ثانوية لا توجد فيها كفاءات معينة، وغالباً ما يتم إنجاح الطلبة فيها دون عناء يذكر أو بجهد يُبذل.
وإذا كان دور مؤسسات المجتمع المدني جديداً، حيث كانت السلطة تبتلع المجتمع المدني وتحوّله الى واجهة لها، فإن هذا الدور قد تحول الى شكل جديد، لاسيما بعد سقوط النظام السابق. وإذا كان القديم انتهى ولكن الجديد لم يولد بعد، حسب غرامشي، فإن الحاجة تزداد الى بناء منظمات مهنية ومستقلة وفاعلة، بحيث تستطيع أن تلعب دورها في نشر ثقافة حقوق الانسان على صعيد الحقوق والواجبات، في التشريعات الدستورية والقوانين والأنظمة وفي جميع المرافق خصوصاً في نطاق التربية والتعليم، لاسيما لجهة مراجعة وتدقيق المناهج وتكييفها للانسجام مع المعايير الدولية لحقوق الانسان.
وللأسف الشديد ساهم الاحتلال وبول بريمر بالذات الحاكم المدني الامريكي للعراق في إفساد الكثير من المنظمات والمؤسسات الحقوقية، ناهيكم عن الحركة السياسية وتشجيع الارتزاق والاحتيال، وقد وزع خلال حكمه الذي دام نحو عام، 780 مليون دولار لمؤسسات المجتمع المدني، ولا نعلم أين ذهبت ولمن ذهبت وكيف صرفت هذه الأموال بدون أية مساءلة أو محاسبة!؟.
ورغم وجود الاحتلال فإن مناخ "الحريات" رغم تعقيداته كان عاملاً مساعداً لتدريس مادة حقوق الانسان، لاسيما وأن الحديث عن التعددية الحزبية والتكوينات الايديولوجية والدينية أصبح واقعاً، وانتهت الاحادية الحزبية والسياسية، رغم أن الصراع اندلع واستمر، متخذاً طابعاً طائفياً واثنياً، الامر الذي يحتاج الى ظروف وأوضاع سلمية لتعزيز الحوار والجدل حول قضايا الحقوق والحريات وبخاصة حول مضمون ومحتوى حقوق الانسان .
أما في ميدان البحث العلمي لقضايا حقوق الانسان، فما زال رغم دعم الامم المتحدة وجهات دولية، شحيحاً وقاصراً وناقصاً، بل مشوّهاً في بعض الأحيان، وحتى من تتوسم فيهم القيام بهذا الواجب تراهم يفتقدون الى التأهيل النظري والخبرة العملية، وإذا كان هناك عدّة مئات من الجمعيات والمنظمات وعشرات الآلاف من الناشطين في ميدان حقوق الانسان، فإن الباحثين لا يتجاوزون بضعة عشرات ومن هم في كفاءة متوسطة قليلون جداً. وقد تلمست ذلك خلال عدد من المحاضرات التي ألقيتها في أربيل وبغداد وبيروت وعمان على عدد من أساتذة الجامعات العراقية في برامج تعاون دولية.
وأخيراً لا بد من دراسة أثر تدريس مادة حقوق الانسان على الحركة السياسية وذلك من خلال انتشار ثقافة حقوق الانسان وانعكاسها على أنماط العلاقات المجتمعية وعلى مؤسسات الحكم نفسها في النظرية والممارسة وهذا يحتاج الى تراكم وتدرّج طويل الأمد وإعادة النظر في المناهج والسياسات ولن يتم دون تأهيل وتدريب وخبرات لاسيما لجيل الشباب. وهنا يمكن وضع بعض التوصيات لما يعزز نشر ثقافة حقوق الانسان على مستوى العراق ككل وبخاصة لدى النخب الحاكمة وغير الحاكمة، الأمر الذي يتطلب اجراء عدد من الاصلاحات منها:
1- التوسع في تدريس حقوق الانسان وتعميمها واعادة النظر في بعض البرامج واعتماد اساليب تربوية متطورة واعداد المدرّسين، لاسيما في جميع الجامعات والمعاهد العليا.
2- اعتماد قانون للاحزاب السياسية يقوم على اساس انتخابات داخلية وعلى أساس مراقبة التطور الداخلي للحزب السياسي، فحتى الآن لا يوجد قانون لممارسة حق العمل السياسي والحزبي، ولا توجد ضوابط حول العضوية والتمويل والآليات الداخلية.
3- تعديل الدستور وسد النواقص والثغرات الاساسية فيه، أو سن دستور جديد بعد أن وصلت العملية السياسية الى طريق مسدود، وذلك لمنع احتمالات الحرب الأهلية التي يلوّح البعض بها، وقطع الطريق على التطهير الطائفي والاثني، واعتماد قاعدة حقوق الانسان ذات السمة العلوية معياراً اساسياً للتقييم، بحيث تكون عابرة للطوائف والاثنيات والمذاهب والأديان.
4- اعتماد قانون انتخابات جديد يضمن تكافؤ الفرص ومعالجة العيوب والمثالب التي تضمنها القانون القديم والتي تعطل العملية السياسية بعد كل انتخابات وتزيد من احتدام الوضع السياسي.
5- اعتماد قانون جديد للجمعيات والنقابات بما يعزز طابع الحياة الديمقراطية ويجعل انشاء المنظمات حقاً من حقوق الانسان بمجرد الاخبار عنه.
وتبقى هذه التوصيات رغم اهميتها بحاجة الى آليات لتحقيقها، ولكن أولاًً وقبل كل شيء فهي بحاجة الى توافق وطني وتعايش سلمي بين المكونات المختلفة وظرف اقليمي ودولي يساعد في تحسين الاجواء للسير قدماً الى الامام لتحقيقها.
ولعل تلك التوصيات تتواءم مع التطور الدولي ومع المعايير الحضارية للدولة الدستورية العصرية، خصوصاً بتأكيد جوهرية هذه الحقوق للفرد والمجتمع وشمولها للحقوق المدنية والسياسية باعتبارها تمثل الجيل الاول لحقوق الانسان والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تمثل الجيل الثاني لحقوق الانسان، أما الجيل الثالث فيتعلق بالحق في التنمية والحق في السلام والحق في بيئة نظيفة والحق في الاستفادة من منجزات الثورة العلمية -التقنية.
وتصبح الديمقراطية والتنوّع الثقافي والانتخابات الحرة الدورية والتعددية جزءاً من الجيل الرابع لحقوق الانسان، ولا شك أن ذلك يتفاعل ويتداخل ما بين الحقوق الجماعية والفردية، والحقوق الخاصة والعامة في إطار منظومة الحقوق غير القابلة للتجزئة أو الانتقاص.
وبتقديري إن تدريس مادة حقوق الانسان في العراق أو في عدد من البلدان العربية الاخرى استناداً الى تلك التوصيات، يمكن أن تشكل مدخلاً مهماً للاصلاح المنشود عبر التطور الداخلي السلمي التراكمي الطويل الامد، وعلى أساس التطامن والتضامن الاجتماعي وتطوير العلاقات السياسية في الحكم وفي معارضاته على أساس الديمقراطية واحترام حقوق الانسان.



#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إسلام واحد وقراءات مختلفة
- العروبة والمواطنة
- المعرفة عنصر أساسي في التعبير عن الهوية
- العروبة والأيديولوجيا
- المفكر عامر عبد الله في ذكراه العاشرة:الجوهر وجدلية الأمل وا ...
- التسامح: مثل الريح الخفيفة التي تسبق المطر!
- الإعلام وحق الحصول على المعرفة
- العراق ومعركة المياه -مصححة-
- حقيقة السجون السرية في العراق
- حلم وردي مرعب!
- الثقافة والشرعية: الوعي الموروث
- ثقافة التغيير وتغيير الثقافة
- الجواهري وسعد صالح: صديقان وثالثهما الشعر!
- العراق بعد لبنان: تجربة الحكم التوافقي-
- الوصل والفصل بين العالمية والخصوصية
- أرمينيا وسيمفونية المبارز!
- كاظم حبيب: النقد الشجاع والاختلاف الجميل*
- العالم الثالث وسلة المهملات
- كوبا: رؤية ما بعد الخمسين (24) ملكوت السماء وملكوت الأرض
- فضاء الثقافة القانونية وحكم القانون


المزيد.....




- اليونيسف تعلن استشهاد أكثر من 14 ألف طفل فلسطيني في العدوان ...
- اعتقالات في حرم جامعة كولومبيا خلال احتجاج طلابي مؤيد للفلسط ...
- الأمم المتحدة تستنكر -تعمد- تحطيم الأجهزة الطبية المعقدة بمس ...
- يديعوت أحرونوت: حكومة إسرائيل رفضت صفقة لتبادل الأسرى مرتين ...
- اعتقال رجل في القنصلية الإيرانية في باريس بعد بلاغ عن وجود ق ...
- ميقاتي يدعو ماكرون لتبني إعلان مناطق آمنة في سوريا لتسهيل إع ...
- شركات الشحن العالمية تحث الأمم المتحدة على حماية السفن
- اعتقال رجل هدد بتفجير نفسه في القنصلية الإيرانية بباريس
- طهران تدين الفيتو الأمريکي ضد عضوية فلسطين بالأمم المتحدة
- عشية اتفاق جديد مع إيطاليا.. السلطات التونسية تفكك مخيما للم ...


المزيد.....

- مبدأ حق تقرير المصير والقانون الدولي / عبد الحسين شعبان
- حضور الإعلان العالمي لحقوق الانسان في الدساتير.. انحياز للقي ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني
- فلسفة حقوق الانسان بين الأصول التاريخية والأهمية المعاصرة / زهير الخويلدي
- المراة في الدساتير .. ثقافات مختلفة وضعيات متنوعة لحالة انسا ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني
- نجل الراحل يسار يروي قصة والده الدكتور محمد سلمان حسن في صرا ... / يسار محمد سلمان حسن
- الإستعراض الدوري الشامل بين مطرقة السياسة وسندان الحقوق .. ع ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني
- نطاق الشامل لحقوق الانسان / أشرف المجدول
- تضمين مفاهيم حقوق الإنسان في المناهج الدراسية / نزيهة التركى
- الكمائن الرمادية / مركز اريج لحقوق الانسان
- على هامش الدورة 38 الاعتيادية لمجلس حقوق الانسان .. قراءة في ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - حقوق الانسان - عبد الحسين شعبان - ضوء على تدريس حقوق الانسان في العراق*