أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - سعيد مضيه - الزهد داخل صومعة العقلانية الإنسانية















المزيد.....


الزهد داخل صومعة العقلانية الإنسانية


سعيد مضيه

الحوار المتمدن-العدد: 3064 - 2010 / 7 / 15 - 14:26
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


معالم التفكير الثوري وتبعاته ـ2
الزهد داخل صومعة العقلانية الإنسانية


المنطلق الإنساني للباحثيْن في الإسلام وضع كلا منهما على تعارض مع المألوف. لم ينكر أي منهما الوحي ولا الآخرة . تمسك بالأركان الخمسة للإسلام، وتخلق بأخلاقه، فليس أبغض على الله من ازدواجية النفاق وتلوّنه. لكن كما تبين بالتجربة فهذه جميعا ليست ما يهم أصحاب الجمود، سدنة التخلف والطائفية. ما يهمهم رسوخ الأرضية للمحافظة ، حيث تقاسموا عناصرها ومكاسبها: نصيبهم الجانب الثقافي وتركوا للسياسة وعالم الأعمال البنية المتكاملة للسياسة والاقتصاد .
قامت فلسفة الإمام فضل الله على مقولة الإسلام الحركي، بناء على اقتناعه بأنّ القرآن نزل ليجيب عن إشكالات الواقع، فيجب أن تتحوّل الاجتهادات الدينية إلى سلسلة إجابات على مستجدّات ما يحفل به الواقع من أسئلة وقضايا وطروحات. ليس الدين في نظر فضل الله تقاليد متكلسة وأصول حظيت بالإجماع. إذ لم يتحقق إجماع عبر التاريخ العربي ـ الإسلامي ، حيث ترامي الأرجاء استعصي على وسائل الاتصال والتواصل. الدين في حركة مع تحرك الحياة الاجتماعية، والمهمة الراهنة تختزل في وضعه على انسجام مع العقل ومكتسباته .
نزع سماحته القداسة ليس عن المجتهدين فحسب، رغم تعظيمه لهم، بل نزع القداسة أيضاً عن أفكارهم وكتاباتهم ونتاجاتهم التي تجمَّد أمامها دارسو العلوم الإسلامية، وكان يرى أنه لا بد من الجرأة في مناقشة هذه الآراء سبيلاً إلى تطويرها وتجاوزها إن أمكن إلى الأفضل؛ فحطم بذلك قلعة صماء تنتصب بوجه التغيير التقدمي للحياة الاجتماعية.
لدى مواجهته منظومات الغلوّ والتكفير ومواقع التخلُّف كان السيِّد فضل الله بحقّ رجل دين، صرف جهداً كبيراً لاستنقاذ الدين من حراس المغاور والكهوف الطائفية، ونشر قيمه في الهواء الطلق. ولعله من الرجال القلائل الذين سعوا إلى إظهار الوجه الإنساني للدين، بعدما تحوَّل على أيدي تجار الأديان والآلهة إلى سلعة في سوق النخاسة لطالبي السلطة والمال والجاه. ذات مرة وقف على منصة البريستول أمام مؤتمر حوار الأديان. يقول أحد شهود المؤتمر: " وحين قدمت له المنصة تجاوز الرجل كل المقدمات والألقاب والرتب والمناصب وترك البسملة والحمدلة والحوقلة والحسبلة والجعفلة وقال من فوره:
’وتكثر المؤتمرات والندوات واللقاءات والخطب في التقريب ولكننا لا نزال في مكانك راوح. نتبادل الريب، ونعيد تلاوة الصحيفة والسقيفة، في اجترار للماضي وبكاء على أطلاله، ولا تزال كوادرنا تعتبر كل لقاءاتنا عند حدود المجاملة الفارغة التي نستحق فيها الرثاء أكثر مما ننتج الحياة.
’لقد أتقنّا فن المجاملات والابتسامات المتبادلة والوقوف أمام عدسات الكاميرا عمائم بيض وعمائم سود، وصلباناً وأهلة! نقدم ببراعة أكثر الصور الاحتفالية ألقاً وتميزاً، مصافحات وقبلات وعناقا‘. ثم قال غاضباً: ’المؤتمر ليس هنا! المؤتمر ليس هنا! المؤتمر حين نعود إلى كوادرنا وإلى مساجدنا وكنائسنا، إلى حوزاتنا ومعاهدنا، هناك ينبغي أن نقول كلمة الحقيقة، هناك يتعبدنا الله تعالى بكلمة الحق، فهل نقول ما نحب أن يسمعه الله؟ هل نقول في حلقاتنا المغلقة ما نقوله أمام عدسات الفضائيات‘؟ ". حقا، أليس أبغض على الله واكبر مقتا النفاق، " ان تقولوا ما لا تفعلون"؟!
وكتب عنه السيد حسين احمد شحادة رئيس منتدى المعارج لحوار الثقافات والأديان:
"وعنده أن خطر ـ الفراغ الديني ـ قد بدأ في مجتمعنا العربي عشية تجريد الثقافة الإسلامية من كنوزها الأخلاقية، في صورة متناغمة نستشفها في مناعة الموقف المقاوم، الذي لم ينفصل يوماً عن ثقافة الأمة وأخلاقها.. وطالما لفتني سماحته إلى ذلك العطب المنهجي في ظاهرتين تثقلان كاهل الأمة: إحداهما: ظاهرة عزوف السياسة العربية عن سلوكها الأخلاقي.
وثانيتهما: ظاهرة عزوف المتكلمين باسم الدين عن جوهر الثقافة الإسلامية وأخلاقها..
وهكذا تباعد الخطاب الديني في بعض أحواله عن رسالته الدينية، في بناء الحضارة وإصلاح المجتمع. إذا كانت أزمة العقل العربي والعقل الإسلامي هي أزمة تفكير وأزمة سلوك، فإنها كذلك أزمة استقامة خلقية. إن إصلاح الثقافة في وحدة منابعها هو القمين لإصلاح مناهج التفكير وآداب السلوك، وهذا هو الأجدر باهتمام الباحثين في شروط النهضة العربية والصحوة الإسلامية." فاستقامة الخلق رافد للعقلانية الإنسانية.
تبدو رؤية السيد متعارضة شكلا مع قاعدة تبعية الأخلاق والثقافة للقاعدة المادية للمجتمع. القاعدة تندرج على الجمهور العريض من سواد الأمة؛ أما الطليعيون من الرواد فيقترن في حوافزهم السلوكية قيم السمو الروحي والاستقامة لدى استشراف أفق التغيير التقدمي.
وشأن المجتهد فضل الله انبرى نصر حامد أبو زيد باستقامة مبدئية وتطلعات إنسانية وبمنهجية علمية يحاور بها النصوص المكيفة مع بيئة الاستبداد والجمود .
اختلف نصر أبو زيد عن رواد التنوير أمثال محمد عبده والأفغاني والكواكبي. فقد اهتم هؤلاء بالمزاوجة بين الدين والثقافة التنويرية لدى الغرب. حاولوا تكييف الدين مع مفاهيم الدستور والديمقراطية؛ بينما تركز جهد نصر أبو زيد في تطوير دلالات القرآن كي تأتلف مع جدول أعمال المجتمعات العربية في العصر الراهن. في هذا المجال هو يؤسس لنظام دلالي يقارب النص على ثلاث مستويات: الأول معنى النص المباشر الذي تم إدراكه لحظة ولادته التاريخية و الثاني هو المعنى المجازي لهذا النص، أما الثالث فهو مغزى النص أو مستوى الدلالات القابلة للاتساع. وهو بهذا التوجه يفرق بين المعنى و المغزى: المعنى هو كلام النص ومعناه اللحظي أما المغزى فهو قيمته القابلة للتفتح عبر التاريخ. وهذا لا يعنى هجر المعاني القديمة بل قراءتها في محيطها النفسي من أجل العثور على نظيرها في السياق المعاصر.
تزامن شروع أبو زيد في مشروعه الفكري مع تراجع حاد في المجتمعات العربية على صعد السياسة والاقتصاد والثقافة . طغت موجة من الإحباط على النفسية الاجتماعية تركت أبو زيد يخوض، شبه معزول ، صراعه الفكري مع الاستبداد السياسي والديني بخلفيته السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتعليمية. خاض معركة التفكير في زمن التكفير . في كتابه ،المعنون بالمفهوم السابق ذي الدلالة، كشف أبو زيد أوجه القصور في مناحي الحياة كافة ، حيث تنعدم مقومات الحياة السليمة القابلة للتطور والمحتضنة للتفكير العلمي. " إن الاقتصاد الحر جزء من سياق التفكير الحر ، الذي لا يقدر على تحمل مسئوليته إلا المواطن الحر. ولا سبيل لهذا المواطن إلا بالتعليم الحر . " والتعليم لم يكن حرا ، حيث بقي مع الإعلام والثقافة ، محكوما بالسياسات المستبدة ورهينة التفسخ في النظم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. وكما ورد في تصريحه بعد عام من رحيله إلى هولندا، إذ قال : "الجامعة المصرية خربت بفعل عوامل الفساد المنتشرة في المجتمع ككل، والفساد يسند بعضه بعضا. أنا لا أتوقع أن تقوم قائمة للجامعة المصرية في المستقبل القريب، ولا حتى للجامعات العربية".
كان الدكتور محمد عمارة من أوائل من دعا إلى محاورة أبي زيد بدل تكفيره وذلك في كتابه الخاص بفكر أبي زيد المعنون بـ"التفسير الماركسي للإسلام". والكتاب لم يكن محاورة بقدر ما كان تكفيرا، منطلقا من تعارض أبي زيد مع " إجماع جمهور العلماء"، كناية عن السائد المألوف. اعتبر الدكتور عمارة "شذوذا عن الإجماع" ما وجده لدى نصر حامد أبو زيد من استجابة لضرورة تكييف الإسلام مع حاجات العصر وفق منهجية العلم ، أي تحريره من سجن التأويلات العتيقة. لم يناقشه وفق منهجية العلم ، بل من ذهنية الجمود والانغلاق عن العلم ومنجزات الحضارة. والـمسألة أبعد من خلاف على تفسير النصوص، واختلاف في مدارس التأويل؛ فهي دائماً سياسية بامتياز. استبداد السلطة مقرون دوما باستبداد الدين. إن تداعيات الذهاب في توظيف مناهج العلوم الحديثة إلى نهايات منطقية، لا تزعزع سُلطة هذه الـمدرسة التراثية أو تلك وحسب، بل وتزعزع كافة السُلطات الـمعتمدة في بقائها عليها، بما فيها سُلطة الدولة الاستبدادية نفسها. وهنا نعثر على لغز الصراخ المفتعل ضد فصل الدين عن الدولة.
فصل الدين عن الدولة غير فصل الدين عن المجتمع. لا يستطيع أحد أن يفصل الدين عن المجتمع، الدين تاريخيا مكوّن اجتماعي، وليس مجرّد مكوّن شخصيّ أو فرديّ. حدث تواطؤ بين الأصولية والأنظمة على احتكار دور استلهام الدين والحفاظ عليه. الدولة بنظامها السياسيّ الديكتاتوريّ القمعيّ، تنطلق من نفس الجهل والسطحية بقناع الدولة الإسلامية، وتقحم في الدساتير أن الإسلام " مصدر " أو " المصدر الأساسي" أو غير ذلك من الصيغ التي تبرر بها "أسلمة" إجراءاتها وقراراتها؛ بل وتتبنّى في نظامها الاقتصادي مفاهيم "الاقتصاد الإسلامي"، الذي يحتلّ ركنا خاصا داخل البنوك، التي ، وكما تبين أثناء حصار أميركا لحكومة حماس في غزة، أن البنوك كافة متشابكة الروابط مع الرأسمال العالمي المحكوم بالاحتكارات عابرة الجنسية. استثمروا الزيّ الإسلامي، والشعار الإسلامي، والطقوس الإسلامية والبرامج الإسلامية، في الإذاعة والتليفزيون، لاصطناع مناخ لجبرية العصور القديمة مقنعة بصوفية العزوف عن الدنيا، حيث الإنسان مسير لا مخير، وحيث التاريخ حينئذ لا تخضع مسيرته لإرادة الشعوب، إنما هو سيروة محكومة بنشاط الاحتكارات عابرة الجنسية.

بخصوص النص الديني ميز أبو زيد بين الدين والفكر الديني. الدين هو مجموع النصوص المقدسة المثبتة في الأثر، أما الفكر الديني فليس سوى محاولات فهم هذا النص، بل هو في مجموعه آليات استنباط الأدلة واستخراجها من مكامنها. غير أنه إذا انتقلنا إلى تحليل النص لحظة إنتاجه أو نزوله فإنه سيكون من السطحية لو فصلناه عن الثقافة المنتجه له. والعلاقة جدلية بين النص والثقافة: الثقافة تلعب دور التشكيل للنص لحظة إنتاجه فيكون مفعولا به و تكون هي الفاعل، غير أن النص يبدأ في تشكيل الثقافة بعد تأسسه و تمركز بنيته اللغوية و قيمتها الثقافية فتنعكس العلاقة على أن تصبح الثقافة مفعولا بها و النص فاعلا.
وفي كتابه " الإمام الشافعي وتأسيس الإيديولوجية الوسطى" ناقش الشافعي رفضه للاستحسان العقلي ، كما طرحه الإمام أبو حنيفة النعمان. لم يكن أبو زيد المبادر في ميدانه . فقد تعاقب عدد من الأئمة خلال القرون الوسطى على تأكيد تطابق الدين مع ما ينفع الناس وأبرز هؤلاء الشاطبي في كتابه "الموافقات". طور أبو زيد مقولة أبي حنيفة حول انفتاح القرآن مقابل حصره في العربية حسبما ذهب إليه الشافعي، كما أخذ بمقولة أبي حنيفة بصدد تقديم العقل على النقل ، ودعم حجية القياس، على الضد مما ذهب إليه الشافعي.

خالف أبو زيد ما ذهب إليه الشافعي من إغلاق باب الاجتهاد. والحقيقة أن إغلاق باب الاجتهاد لم يتكرس عبر حقبة طويلة انصياعا لرؤية الشافعي؛ فقد أفضى تدهور الحياة العربية المتواصل حتى حضيض الخراب الاقتصادي والظلامية الفكرية إلى نضوب الفكر الباحث، حيث أقفرت منابر المناظرات ومنع التفكير وأطلق العنان لتكفير العقلانيين من باحثين تجريبيين وفقهاء.
تصاعد الصدام بين العقلانية و الأشعرية التي أفرطت في تزمت المذهب الحنبلي و التصدي بالعنف للعقلانية و لثقافة الإبداع والتجديد. جاء الفكر الأشعري نتاج مرحلة تاريخية اتسمت بالانحطاط. بدأ أبو الحسن الأشعري في القرن الثالث الهجري حياته معتزليا ثم انقلب على فكره المعتزلي وأخذ يصوغ إيديولوجية جديدة لقوى المحافظة التي نشطت بعد ركود دام خمسة عشر عاما استهلت بعصر المأمون، الخليفة العباسي راعي العلوم والترجمة . انطوى الفقه الأشعري على تغليب النقل على العقل. كانت "العودة إلى السلف الصالح" رحلة بائسة ارتدت عن عقلانية المعتزلة ومذهبها التأويلي ، أفضت مع الزمن إلى ظلامية تواصلت حتى العصر الحديث؛ فضاعت على جنبات المسيرة المنكفئة على وجهها معالم الفكر التنويري في المرحلة الأولى من الحكم العباسي. أنكرت الأشعرية علاقات السببية، لأنها وضعت مسيرة التاريخ رهن نزوات السلاطين ؛ كما أنكرت وظيفة الدين ومقاصد الشريعة في تأمين مصالح العباد. و طبيعي أن يوسم بالإلحاد والزندقة كل بحث فلسفي أو مناظرة. بات التكفير هو الأداة الفكرية للرد على الخصوم. تزامنت الإطاحة بالمعتزلة مع صعود نفوذ الأتراك في الحكم. وهؤلاء أداروا الحياة الفكرية والثقافية بالأحكام العرفية فجنوا على الحياة الروحية والإبداع بشكل عام. واستتب الأمر للجمود، ليس بسبب الفقه الأشعري فقط ؛ إنما في ظل تردي الأوضاع الاجتماعية واختلال الأمن والنظام. بدأت محنة العقلانية، بل محنة الفكر بشكل عام ، وبدأت الرحلة باتجاه "فكر السلف الصالح"، تلك الرحلة التي تاهت وضلت الدروب في متاهة الاستبداد السياسي وإخضاع الرقاب للحكم المطلق. وبلغ العنف المنقول عن الأشاعرة أوجه في حقبة ما بعد سقوط بغداد على يد المغول( السابع الهجري)، والتي شهدت إحراق المجلدات ومؤلفات العلماء والنوابغ، وتم تكفير معظم العلماء أمثال الرازي والخوارزمي وابن سينا والبيروني وابن رشد والتوحيدي، وأعدم الحلاج. هي حقبة شبيهة بها حقبة غزو العراق من قبل القوات الأمريكية.
مثلما توصل ماركس إلى الفهم العلمي لطابع الرأسمالية من خلال اكتشاف فائض القيمة المتمثل في قوة العمل ، وكما توصل إلى علمية البحث التاريخي عن طريق اكتشاف التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية ، وشأن اكتشاف علمية النصوص الأدبية بمفهوم " النمذجة" كان منطقيا أن يتسلح أبو زيد بمفهوم الدلالة التأويلية للنص ، ينقب بها متسلحا بجهاز مفهومي استوعب بعمق فقه اللغة. فالتقدم الذي أحرزته علوم اللغة وعلم النفس ونظريات الجمال والشعرية الألسنية والتقنيات الأسلوبية يصب في بؤرة الخطاب البلاغي الجديد ؛ وما بلغته قواعد إنتاج الخطاب من تطوير لمنجزات القدامى أمثال عبد القادر الجرجاني، المتوفي عام 1078، والمحدثين من علماء الأدب العرب والغربيين غدت أدوات معرفية ومفاهيم شكلت أحجار "علم النص". شرع البحث العلمي مطورا ما انتهى إليه الفكر المعتزلي في التأويل. انطلق من أن "القاعدة" التي وضعها المعتزلة، قاعدة التأويل المجازي لكل ما يتناقض مع العقل في منطوق القرآن الكريم، والتي لا تزال قاعدة راسخة، وأفاد منها الفكر الإسلامي عبر تاريخه الطويل، واعتبر أن إنكار وجود المجاز في القرآن يخل إخلالاً بالغاً بقضية الإعجاز، التي تعتمد أساساً على التفوق الأسلوبي والبلاغي للغة القرآن. وفي أحد أحاديثه الصحفية رد على افتراء خصومه بصدد تاريخية النص: " عندما قلت أن القرآن ظاهرة تاريخية افتكر اولئك الذين هاجموني أنني أدعي أن القرآن ظاهرة وقتية، يمكن إعطاؤها قيمة فولكلورية، وهو تفسير جاهل أو متعمد. ... أنا رجل أحلم بمستقبل أفضل لبلدي ومواطني وتلاميذي، وكانت هذه هي الاهتمامات الكامنة خلف الجهد الثقافي المبذول في كتابي ’ نقد الخطاب الديني‘".
قدم اطروحة الماجيستير في فكر المعتزلة ومذهبهم التأويلي، وألحق ذلك في أطروحة الدكتوراة بدراسة لفكر ابن عربي. وجد نقطة إجماع لدى السنة والشيعة والمعتزلة والصوفية وغيرها تميز بين آيات محكمة ( واضحة لا تقبل التأويل) تشكل العمود الفقري للنص القراني، وأخرى متشابهة (غامضة، مؤولة)؛
أما ما اكتشفه من نقاشات حول النص القرآني فيدور حول بنية النص وليس حول معناه. ثم تعمق الباحث في الدراسات الصوفية، وبالذات في نصوص ابن عربي حول القرآن. وأثناء البحث توصل إلى الاقتناع بأن العوامل الاجتماعية والسياسية والثقافية تقرر مسار عملية تفسير القرآن. وإذا كان القرآن مجال النضال السياسي والاجتماعي والثقافي التاريخي فإنه من ثم مجال النضالات المعاصرة. شرح تجربته الرائدة في حديث مع صحيفة " الأهرام الأسبوعي" ، بعد صدور قرار محكمة النقض بتطليقه من زوجته ؛ ومما ورد على لسانه، "وهذا ما كشف لي خطورة ترك تفسير القرآن ضحية العشوائيات والأمزجة. .. ومن هنا رحت أتفحص الإطار الذي تمت فيه دراسة القرآن لدى مختلف المدارس". وبدون تهيب او تردد دخل أبو زيد هذا المجال متقحما بمنهجية العلم وبروحية الباحث العلمي . بقي الفقيد جذريّاً في شجاعته الفكريّة، لم يتنازل عن قناعاته على شبكات الأثير كما فعل بعض زملائه، لا ولم يسقط مثل بعضهم أيضاً في لغة المُلاسَنة المجانيّة والسفسطة الاستعراضيّة التي تحفل وتحتفل بها الفضائيّات العربيّة. ظل ذلك الصوفي الناسك في محراب العقل حتى وهو في ديار الغربة. رأسماله هو فكره النقدي.
في الغربة وازن نصر حامد أبو زيد بين انتمائه الثقافي وبين ثقافة الغرب الذي يعمل فيه. تجنب منزلق البحث عن اعتراف المؤسسات الأكاديمية الغربية والحفاوة به. وعي بوضوح أن المنزلق قد يحرمه من الانتماء إلى المجال الثقافي الغربي، بينما يضيع بوصلة المحافظة على انتمائه الى مجاله الثقافي الأصلي. ويقول أبو زيد: " أما بالنسبة إلي، فأنا هنا أستاذ زائر وهي صفة تجعلك جزءاً من المؤسسة الأكاديمية ولكنك في الوقت نفسه تنتمي الى فضائك الثقافي الخاص. وإذا كنت أنا نفسي ضد فكرة ان أعيش بإحساس الضحية، فإن سعادتي كانت كبيرة لأن الجسم الأكاديمي في جامعة ليدن لم يتعامل معي كأستاذ ينشد الحماية بل كأستاذ زائر له شرفه الخاص كمفكر وكإنسان، ولا يرضى أن يتاجر بقضيته."

إذن اندفع الباحث في جهده الثقافي مستلهما قضية التطوير الشامل للحياة الاجتماعية ، وتقديم الثقافة التنويرية المرشدة لحركة البناء الاجتماعي التقدمي، وليس بقصد الدخول في مجرد مناكفات او تجريح، أو الاقتصار على مجرد الحوار. في إحدى المراثي بمناسبة رحيله المباغت قال كاظم جهاد ،" لحظة استثنائيّة أخرى جمعتني بالفقيد، تمثّلت في قراءتي مجموعة دراساته المعنونة «إشكاليّات القراءة وآليّات التأويل». يندر في اعتقادي أن تجد في الدراسات الحديثة والمعاصرة كتاباً أكثر إضاءة منه لبعض أخطر مسائل البلاغة العربيّة وتداعياتها الفكريّة. وعلى رأس هذه المسائل يقف ثنائيّ المجاز والحقيقة، يعرضه أبو زيد عبر الفكر العربيّ القديم كلّه، اللغويّ منه والدينيّ، مع تركيز على الأشاعرة والمعتزلة، بلغة جمع فيها التبحّر إلى الكثافة العالية والتعليل الرّصين".
نعته مجلة " أخبار الأدب المصرية، فجاء في النعي : السفاهة ان تكون غريبا ومرفوضا، ان يجرؤ عليك السفهاء، بل ان تنتصر السفاهة مستغلة قانوناً عجيباً هو قانون الحسبة، كي تحاكم الفكر بلغة الرعاع، وتمتحن الفلسفة بمنطق الخرافة، وتجبّ تاريخ الفكر العربي والإسلامي، وترميه في سلة المهملات. السلطة التي ارتضت تقسيما وظيفيا بينها وبين الظلاميين، تعطيهم الثقافة والمجتمع، وتُحكم قبضتها على السياسة.
وهنا مكمن محنة العقلانيين العرب. احتكار الأصولية الوصاية على المسلمين والقيام بدور الحارس للعقيدة والشريعة. من خلال فتاوى تفتقر إلى السند الشرعي للفتوى ، ونصوص منقولة انتزعت من بيئتها التاريخية أو تشويهات أقحمها الحكم الاستبدادي على مدى قرون متعاقبة، اتهم الأصوليون معارضيهم بالعلمانية الموسومة بهتانا بالإلحاد. واستندوا إلى أخطائهم ( بعض زمر العلمانيين) وقصور نظراتهم وفشل معالجاتهم للمشاكل التي تفرزها الحياة كي يبرهنوا صواب ما يذهبون إليه من تشكيك في العقل ومنتجات الثقافة العصرية.
والحقيقة أن العلمانية لا يستقيم فهمها ومقاربتها إلا من خلال إصلاح ديني، وهو ما لم يتحقّق بعد في المجتمعات الإسلامية. ذلك أن الإصلاح يتزامن مع ويواكب ثورة علمية وفكرية ـ فلسفية أنجزت ثورات في الاقتصاد والسياسة والمجتمع والفلسفة، إنجازات من شانها أن ترسي مفهوم الوطن محل الطائفة والدين والقبيلة، ومفهوم "المواطن"، بدل"الرعية". ونظرا لعدم إنجاز الإصلاح الديني فقد انتقلت إلى مجتمعاتنا حداثة ممسوخة ووعي مشوه، حداثة تقاني بدون الأساس العلمي للتقانية ، وطبقت نموذجا مشوها للديمقراطية خال من حرية التنظيم والتعبير والتفكير.

وتعمقت المحنة لدى مثقف جسور وموسوعي المعرفة اسقط الانحطاط بفكره، وهزم زمن الظلام بعقله، وانتصر على فقهاء الهزيمة بشجاعته. بعناد المفكر المتماسك صاحب الرسالة لم يستسلم نصر حامد أبوزيد، ولم يضعف بل واصل دراساته الرائعة التي تعتبر ثورة حقيقية في علم المعنى وقراءة الخطاب الديني ومفهوم النص الديني. رغم عذابات المنفى "الاختيارى" الذى عاش فيه نصر حامد أبوزيد بعد صدور هذا الحكم العجيب لم يفقد الرجل حس الدعابة حيث دأب على القول أن "الأزمات التي مررت بها ساعدت على بيع وانتشار كتبي، فنظرة واحدة على مبيعات كتبي بعد الهجوم علىّ وقبله تؤكد أن من يهاجموننى هم الذين فى أزمة"!



#سعيد_مضيه (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- معالم الفكر الثوري وتبعاته
- أوباما ينحني للريح والريح يمينية
- العلة المستنزفة للطاقات الكفاحية الفلسطينية
- لمن تقرع أجراس الليبراليين الجدد؟
- الدين بين ليبرالية الدكتور حجي والليبراليين الجد
- قرصنة بحرية وبرية
- رغبات مهشمة
- صمت التواطؤ
- هذا التوحش الرأسمالي
- جموح نتنياهو .. الغايات ووسائل كبح الجماح
- الترهيب بالإسلام: المنابع وإمكانيات تجفيفها
- قضية المرأة إحدى قضايا الديمقراطية في مسيرة التقدم الاجتماعي
- نتنياهو يريدها صراعا دينيا مسلحا فالحذر الحذر
- إسرائيل دولة بلا جذور تاريخية
- القضية الفلسطينية مركز تجاذب وتدافع
- الليبراليون الجدد يستظلون بالفاشية ويقومون على خدمتها
- مأزق المجتمعات ومحنة المفكرين في ظل نهج القهر
- لعبة كرة القدم ضمن برامج هندسة الموافقة
- هيستيريا كرة القدم
- تحية تقدير واعتزاز للحوار المتمدن في عيده


المزيد.....




- صلاة الجمعة الثالثة من شهر رمضان.. الاحتلال يعيق وصول المواط ...
- السعودية.. الأمن العام يوجه دعوة للمواطنين والمقيمين بشأن ال ...
- صلاة راهبة مسيحية في لبنان من أجل مقاتلي حزب الله تٌثير ضجة ...
- الإفتاء المصرية تحسم الجدل حول فيديو إمام مسجد يتفحّص هاتفه ...
- كيف يؤثر التهديد الإرهابي المتزايد لتنظيم الدولة الإسلامية ع ...
- دولة إسلامية تفتتح مسجدا للمتحولين جنسيا
- فيديو البابا فرانسيس يغسل أقدام سيدات فقط ويكسر تقاليد طقوس ...
- السريان-الأرثوذكس ـ طائفة تتعبد بـ-لغة المسيح- في ألمانيا!
- قائد الثورة الإسلامية يؤكد انتصار المقاومة وشعب غزة، والمقاو ...
- سلي عيالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على النايل سات ولا يفو ...


المزيد.....

- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود
- فصول من فصلات التاريخ : الدول العلمانية والدين والإرهاب. / يوسف هشام محمد


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - سعيد مضيه - الزهد داخل صومعة العقلانية الإنسانية