أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعيد مضيه - رغبات مهشمة







رغبات مهشمة


سعيد مضيه

الحوار المتمدن-العدد: 3015 - 2010 / 5 / 26 - 10:22
المحور: الادب والفن
    


رغبات مهشمة
رؤية في رواية ليلى الأطرش الأخيرة " رغبات ذلك الخريف"
سعيد مضيه


اتصل بها الصديق الدكتور رضوان مسنات وقال أبو فؤاد عندي بالبيت؛ جاءت على عجل تحمل روايتها الأخيرة، " رغبات ذاك الخريف". قالت أنها تسلمت في النهار بضع نسخ أولى، وفرت لي واحدة منها؛ عبرت بجمل قليلة مبهمة عن ضغوط المراقبة ؛ شاركت معنا في نقاش ثم غادرت لأنها منهكة من برنامج نشاط كثيف ذلك اليوم .
ليلى الأطرش روائية متمرسة نشرت عدة روايات منها "وتشرق غربا" ، " امرأة الفصول الخمسة" ،" صهيل المسافات"، "مرافئ الوهم" ، "نساء على المفارق". لغتها الحارة تفصح عن روائية صادقة في انتمائها لقضايا المجتمع ، وتنقل للقارئ عدوى التعاطف مع قيمها المحشوة داخل تقييماتها للشخوص والمواقف الروائية. لا تغفل عن تبرير واقعية المواقف التي يتخذها أبطال الرواية؛ لم تحتو الرواية وصفة ذم أو إطراء لأحد شخوصها. بصبر وأناة تدخل شخوص روايتها في تجارب وتعرضهم لمواقف تتكشف من خلالها مزاياهم ونواقصهم. في مستهل الرواية يقود الأب الدكتور سيارة المرسيدس تقل غيث الحسنات والوالدة والعمة، إلى المطار، كي يلحق غيث بالطائرة المتجهة نفس ذلك اليوم من مطار باريس إلى مطار شيكاغو. هو خريج كلية الصيدلة في عمان رتب له خال خطيبته في ولاية أيوا بعثة دراسة عليا في موضوع الجينات؛ نتعرف على ملمح لحال الأسرة . الوالد ،اليساري المحبط من انهيار التجربة السوفييتية، يعبر عن إحساس تجاه " هؤلاء الأغنياء يختارون السكن بعيدا فوق قمم الجبال ، ألا يكفيهم أنهم جالسون على رؤوس العباد ويتحكمون في أقواتهم ومعيشتهم ؟" فيرد الابن:" إيديولوجيا بابا على الصبح ! حتى وأنا مسافر؟!"
لا يتفهم الموقف الاجتماعي لوالده، بل يجهل حدب الوالد وقلقه، ويتبرم من توصياته بلغة تفشي عدم احترام اللسان القومي : ستوب إت بابا ! ترست مي .. ليست مشكلة ... دونت ووري ، راح أبعثلكم مسيج آز سون آز نوصل باريس " . أم غيث عللت لولدها سهولة الحصول على الفيزا "لأنك لبست الصليب ! قالت أمه بثقة " .
جميع شخوص الرواية تخذلهم ظروف خارجية ونواقص ذاتية فتعطب الجهد وتقعده عن بلوغ الهدف. الشرائح الاجتماعية المتضمنة نماذجها في النص الروئي مهمشة ، تفقد السيطرة على حاضرها فتضيع المستقبل بالنتيجة. تتعثر الرغبات، وتنتكس. تحكم الروائية إيقاع أحداث الرواية وانجراف النماذج النمطية للشرائح الاجتماعية مع قدرها وكأنها مسيرة نحو غاية مقدرة سلفا. لا تغفل تقديم تبريرات واقعية لتصرفات الشخوص، حيث تدخل القارئ في تجربة غير مباشرة تغني وتكثف تجربته المباشرة. تابعت المصائر في دوائر متباعدة لكنها متفاعلة ، نظرا لأنها التقطت فيروسات عطبها من نفس المجتمع الذي انطلقت منه؛ فلاحقها الفشل كأنه قدر مسبق التقدير والتقرير: موسى عبد المجيد في باريس، الوالد الدكتور الحسنات والعمة في الكرك، غيث في ولاية أيوا بأميركا، رجاء وأسرة الطيراوية بين الكويت وعمان وبيروت ، أحمد وأسرته في مخيم الحسين بعمان ، المكان الذي يضج داخله صخب التداعيات، يحرك تيارُها ، كالقاطرة ، مجموع الأحداث والمصائر.
ترصد الروائية وقائع اللامبالاة والعفوية في السلوك العام ،عفوية تحكم سلوك الأفراد والجماعات تفقدها السيطرة على الحاضر والمصائر؛ فتنقل المجتمع بتلقائية على حزامها الناقل مع اندفاعة الريح، والريح غير معروفة المصدر!! تبلغ بها فاجعة تفجير الفنادق الثلاثة مساء اليوم الخريفي ـ في تشرين ثاني 2005. الأماكن والأزمنة معلومة ودقيقة تمنح الرواية واقعية وحيوية تغري بمتابعة أحداثها. ونظرا لغياب ترشيد العقل والتعقل طوال الحقبة الزمنية فقد تصرف الناس ونماذجهم ، شخوص الرواية ، وفق تداعيات النفسية الاجتماعية والرغبات الفردية، وانفلاتات المزاج المسير. رصدت الروائية تبدلات النفوس وتوترات الأمزجة وتفاعلات الأهواء في مناخ الكبت وفراغ المهمات الاجتماعية في غياب الترشيد العقلاني والقيادة المنظمة والواعية.

موسى عبد المجيد، سافر بالطائرة مع غيث الحسنات إلى باريس.. سكنته شهوة الانتقام من زملاء العمل والأهل والجيران : " أقسم موسى في سره ، وهو معلق فوق الغمام ، أنه لن يرجع إن لم يثأر بنجاح يقهرهم جميعا ، وسيفعل " . وأثناء هبوط الطائرة "بسمل موسى وحوقل حتى توقفت عجلات الطائرة تماما". تحت وطأة الضرورة القاهرة قصر عن متابعة التخصص في الكوافير عند مهنية قديرة أرسله إليها مع توصية أحد معارفها في عمان. لم يصمد أمام مكابدة التهرب من الشرطة؛ جرب أن يعرض الزواج على مدربته ، التي بلغت ما يساوي ضعف عمره، وتقبل. ويتجه نحو تجارة العقارات، فتزدهر تجارته ويتضخم رصيده.

وغيث الحسنات... لدى افتتاح العام الدراسي بحفل تعارف بين أعضاء فريق البحث.. خفق علم الأردن فتحدث غيث بثقة .. عن قصور برامج البحث العلمي في مواكبة التقدم الطبي في بلاده .. ميزانيات ضعيفة أو معدومة .. قطاع خاص وشركات أدوية تتقاعس عن دعم بحوث ترتبط بعملها .. اختار التخصص لأن بلده يحتاجه وسيعود ويسهم في ازدهار البحث العلمي فيه.. في حوار مع خطيبته وصف احد زملائه في الفريق البحثي، لي ثوان بأنه " ليتل دراغون" (تنين ضغير). "أكدت له أن جميع القادمين من الشرق الأقصى هم لي ثيان بطاقة ومثابرة على العمل والدراسة يعز نظيرها . النجاح لهم معركة حياة او موت..." هذا ، بينما يفتقر القادمون من الأقطار العربية إلى هذه الفضيلة. وافتقر غيث أيضا إلى روح الجماعة ، لم يألفها أثناء دراسته بالأردن.

طرأ تحول على غيث إثر رسالة وردته من صديقه موسى . بدأ يتخلف عن فريق البحث ولم يحفل بإنذارين تسلمهما جراء التغيب. دخل في حوارات مع هبة . "نفث غيث أحمال صدره وأسكتها ، قال: إن امريكا لأمثالها لأنها طبيبة ونجاحها فردي يجيّر لها وحدها . أما هو فلا يحس بقيمته ، ويضيع جهده مع الآخرين . مجرد واحد في فريق... لن يتراجع عن قرار أنقذ به نفسه، ونجاح خلصه من إحساس رهيب بأنه لا شيء دون الفريق. ولن يسمح بأن يتعذب أكثر في ليالي الغربة أو يعاني من صقيع الروح قبل الجسد . وعليها أن تحترم قراره .. وإلا.. ". والتعليم في البلاد العربية يرتكز على قاعدة التفوق الفردي ولا يربي روح الفريق في وجدان الأجيال .

تواعد موسى وغيث على اللقاء في عمان في فصل الخريف ، حين تهدأ سوق العقارات.

الأدب مرآة الواقع، و رواية " رغبات ذاك الخريف" تخوض وقائع الحياة الاجتماعية وترصد اضطراباتها وتموجاتها وتداعيات سقوطها. عمل أدبي يعكس وجه المجتمع ويغوص في أحشائه. تفلت من العثرات رغبات غالب الطيراوي (اسم فني لم يتقصد في الواقع المتعين شخصا أو عائلة) ، مختار الطيرة قبل الهجرة ، وزوج ابنته مصطفى الطيراوي. نزح وجهاء الطيرة من القرية؛ لكنهم حملوا أموالهم التي أعانتهم في اللجوء.
في مخيم الحسين، نموذج المجتمع مع خصوصية اللجوء، بدأت التداعيات المقوضة للروح مع قدوم نازحين جدد من مخيمات الضفة، فأصيب الناس بالذهول والصدمة .. تقول بلسان أم أحمد ، "قبلها كنا عايشين ننتظر أن نعود وقابلين بالبهدلة... ويوم وقعت النكسة عرف الناس أن المسألة مطولة .. فدخلت الكهرباء إلى المخيم وسكنه لاجئون من مخيم غزة وبدأت حركة الفدائيين... بعد السبعين هج الشباب مع الثورة.. كلنا تسخمنا وطردونا من بيوتنا وأراضينا بعد ما جرى ما عاد اسم عائلة أو حامولة يفرق ، كل الناس ملطمة مثل بعضها في طوابير الوكالة .. معه أو ما معه.. ابن عائلة أو شحاذ! إلا أولاد الحاج غالب الطيراوي ! ما عرفوا شكل المخيم وظلت مناخيرهم في السماء . "
الطيراوي نموذج فني لتجار السوق ممن حملوا معهم أموالهم يوم الهجرة. ولعل الاسم مقارب للطيران والتحليق. وهم موضع حقد أم أحمد ساكنة المخيم وحافظة تاريخ اللجوء، وهو حقد يميز وهم المساواة الساذجة، غير المستندة إلى استغلال أو تناحر مصالح . أمها أرضعت أولاد الطيراوي ؛ لكنهم لم يتصرفوا معهم كأخوة ، تركوهم للجوع والتشرد... تسرّح أم أحمد شعر الصغيرة نوال وتحتج على كلام أمها : إخوان شو يا حجة؟! يعني حفظوا المعروف ؟ حتى اللعب ما كانوا يلعبونه معنا .. بلا الحاج مصطفى الطيراوي بلا هم .... أم أحمد أرملة تعيل طفلا وطفلة، مات أبو أحمد، وكان أبو محمود صديق لازمه أثناء محنة الشلل والنزع، ثم انقطع عن البيت بعد رحيله.
أبو محمود يقرأ الكتب، لكنه ينشغل بعلامات القيامة " التسارع يا ولدي من العلامات الصغرى. لهذا لا تستطيع ان تغيب عن الأخبار لحظة ستنقلب الدنيا وأنت لا تدري". لكنه يقف ضد التيار الديني وضحاياه: " قلق أرواح تلحف بالدين لتطمئن .. عقول غابت في هلوسة تعلو فوق اضطراب اليقين .. هجر كثيرون ضيق المخيم إلى براح النزهة والحسين والهاشمي الشمالي وعمان الغربية .. تعالت طوابق من بقي عشوائية متلاصقة ، فحجبت الضوء ومنعت الهواء.. وحده الوطن ظل يسكن كل العيون ، ترصده بالحنين والحب والخوف والأمل والرجاء تعلقا وحيرة."

ـ يمه الأرض هي الوطن ، والوطن قدر ! ونحن مسلمون نعرف أن الأقدار لا ترد وعلينا أن نؤمن بها. بهذه الأفكار الجبرية تهدهد ام أحمد قلقا يعصف بروح احمد. يعمل أحمد نادلا في مقهى بقصر العدل ، وفي المساء يعمل في مقهى بعبدون فتتسع اطلاعاته وتتنوع انطباعاته: يعني فلسطين لن ترجع إلا إذا تمرمطنا؟! تعالي شوفي الناس وقضايا الأراضي في المحاكم تشيب ! بين الآباء والأبناء والأخوة والجيران وسماسرة الأرض .
ـ كشل وكبره يا أحمد على قد لحافك مد رجليك! تنهره أمه: يا ابني الدنيا أقدار وأرزاق .. وقدرنا أن نتحمل . ما بين القناعة والتوكلية خضعت أم احمد للمقدر مما ترسبه الريح العشوائية على أديم المخيم. وهي ريح قادمة من حيث لاأحد يحتسب. "صغيرا في أحضان الربيع تنزه أحمد على جبال النزهة ووادي الحدادة يلتقطون البابونج والزعتر والخبيزة . حفظ قصيدة أحمد الزعتر ثم نسيها .. كره اللفيتة ومرارة طعمها . تنهره أمه :سم يا احمد واشكر ربك ..لولا الحشيش في الجبال لمات الناس في الهجرة .. أكلنا خضارا تالفة وباذنجان مخمجا. نغمض أعيننا قبل أن نأكل حبة التين ، ونعرف أن الدود يسبح فيها .. نحن اليوم بألف نعمة."
جدته "تشتكي آلامها باستسلام وزهد . وتطلب من مثبت العقل والدين حسن الختام . أن يسترد وديعته وهي واقفة على رجليها..."
دخلت حياة أحمد من خلال الدردشة على الإنترنت شابة أطلقت على نفسها اسم لطيفة أجرت معه محادثات وأرته جانبا من غرفتها، ففتنه المشهد . ظل طيفها يوافيه بالليل ثم انقطعت بغير وداع . كانت رجاء تزجي فراغها بأفعال عبثية . تطلقت شقيقته نوال من زوج نذل . كاد أن يطيعه فيقتلها لولا أن تدارك أمره وتعقبها مع زميلة تعمل معها عند كوافيرة في عبدون . الزميلة اسمها خديجة من السودان وجاءت عمان بصحبة زوجها عثمان بحثا عن حمل بواسطة أطباء عمان . لم ينفع معهما وبقي أن يزورا عيادة الطبيب زيد الكيلاني فهو مشهور وبارع . والزوجان محبان لبعضهما البعض، يكدحان لكي يوفرا أجرة الطبيب. ومن خلال الزمالة وطبيعة العمل تطلع نوال على جريمة ختان البنات في السودان.
مشهد غير مقنع تسوقه الرواية تبرر به تحول أحمد بصدد شقيقته: قبع أحمد خلف صالون التجميل يتصنت،.. ليسمع (بالصدفة) نوال وزميلتها يتبادلان البوح بأسرار الزوجية، ويقتنع بصدق شقيقته وافتراء زوجها، بل نذالته؛ فيحمله على الطلاق. "والهواجس لعنة .. يصفر قطار الألم يعصف الذكرى ، ومطارق السؤال تدق وجعا : هل ستكون أكثر سعادة لو لم يتسبب في طلاقها ؟ طامن القلق بأنه نصيب ومكتوب .. ونوال ’ قد حالها‘". أزاح شكوكه بعد أن تتبعها مرات .. رشيقة متعالية تقفز بين المواصلات بوجه عابس صارم ، وتصل الصالون في التاسعة... "سحب مجلة المحكمة من الدرج وقلب صفحاتها .. قرأ في حزن مانشيتا ببنط عريض : ستة وثلاتون بالمائة نسبة الطلاق في السنة الأولى من الزواج "! أما الأم فتواصل النق على رأسها : "المستورة تتحمل مهما رأت أو قاست".
تتذمر نوال من المواصلات وهمومها: نصف سواقي التكسيات صاروا دعاة .. أشرطة قرآن وحديث وبس، وأموت بقهري حين يصبح الواحد منهم واعظا .. أو يبدأ بالترضي علي لأني محجبة، كأني انتظر بركاته، أو يظن أنني ناقصة هدايته. أي أنا بأهدي عشرة مثله. وتلعن مرمطة المواصلات
ـ لا يا نوال . " الدال على الخير كفاعله" ... تنهرها أمها.
ـ خير شو يمه ؟ طيب يرخص الأجرة يبطل يبصبص على البنات ويستغفر ربه.

فراغ الحياة والصد عن النشاط الوطني ( لم تأت الرواية على ذكره، لا ولا تدخل الأمن ) أوقع الشباب في الحيرة وفقدان الإرادة ." جلل اليأس مخيما عاش على أمله، ورسمت الخطب والمواعظ حدود المشاعر . هج الناس مبكرين . هرب ضيق شباب إلى الحشيش . أطال آخرون لحاهم وقصروا ثيابهم. عبث بعضهم بالرسائل القصيرة ومعاكسات الموبايل ، وتوزع الباقون بين العلم وكرة القدم.
"منذ بدأ التشات مع لطيفة لملم شخصا رسم به أحمد يتمناه.. تشبّه بشلة مقهى عبدون كتب كالعارفين . حاور فتاة تشبه زبائن مقهاه، وأذهلها بأبيات من شاعر الحب استعاره من مكتبة النادي".
وفق منطق الجبرية ، يمضي التاريخ بقدر مخطط سلفا ولا دور للإنسان في سيرورته؛ والجبرية مخدة تحمي أثناء السقوط وتبدد ألأمل!! حيال الجبرية لم يعد وظيفة للعقل يؤديها، والعقل المعطل، المدجن يذعن للخرافات.. لا يشكك أو يناقش . إنه الهدر ، هدر الوعي والعقل والإرادة تفتك بحيوية الشباب ، وتشل المجتمع .
" وكثيرة علامات الساعة عند أمه وخطباء المساجد.. تمتد إسرائيل وتكبر وتطغى قبل أن تزول بصحوة المسلمين . فيحاربونها وينتصرون عليها".. ولتأكيد النبوءات تتردد أقاويل عن نبوءات سابقة تجسدت في الواقع . تؤكد خياطة المخيم أن ما ترونه اعتبرته النسوة من يهودي خرف تندرن بها ثم نسينها . فقط يوم ضاعت البلاد قفزت ساطعة إلى ذاكرة النساء .
انتعشت الآمال بوصول المنظمة إلى رام الله." تسابق الناس يبحثون عن قرابة أو جيرة معهم . أخرجوا كواشين الأراضي ومفاتيح دور كانت لهم يوما.. كشهاب توهج وهمد انقشعت آمال الصابرين .. في يوم غير عادي أيقظهم صراخ جنرال إسرائيلي يبرر بالعربية حصار عرفات في مقره برام الله. ضج المخيم بالرفض. شحبت الوجوه في الذهول وفجيعة الأمل...
عجت حديقة الحسين ليلا بالهاربين من حيرتهم إلى الحشيش والخمر والشيشة.. والمعاكسات بماسيجز وألفاظ جنسية جريئة من بطاقات لا تعرف أرقامها. طالت لحى الكثيرين وزينت زبيبة السجود جباههم... كثفوا الوعظ والإرشاد ومحاسن حوريات الجنة . زادوا مباريات كرة القدم فاشتبكت السياسة بالوطن وتفجرت مشاكل المشجعين واللاعبين في أندية الحسين والوحدات والفيصلي... علا الصراخ والعويل من أشرطة عذاب القبور وصدحت التلاوات والأدعية ووزعت داعيات عمان الغربية الجلباب والحجاب...
وترفض نوال إلحاح أمها حضور الدروس. " شوفي يمه أنا والله مهدية خالص ولا أريد وعظا ولا واسطة عند ربي.. إذا كانت داعية الرابية تريد الخير لوجه الله فلتقنع زوجها أن يفك احتكار السكر!"
أما أحمد فقد عرف الحشيش والزعرنة والاشتباك بالموسى، وزار بيت مومس . كاد أن يقتل لولا أن أنقذه أبو محمود . أهملت أمانة العاصمة ولجنة الخدمات الحديقة فاستباحها الحشاشون وضاربو الأمواس .. وزعوا الأشرطة الدينية وصاحوا "الإسلام هو الحل"، من توفير العمل وتكاليف الزواج حتى ضمان الجنة . أذاعوا كاسيت عذاب القبر في صفوف المدارس فسقط رعب الأطفال مغشيا عليهم.
في عمان "اختفت (من جبل الحسين) نساء الموضة وانتشرت محلات ملابس المحجبات .. عجت الأرصفة بفتيات في جلباب وحجاب ، وأغطية رأس مع بنطلونات ضيقة تبرز مفاتن الأجساد . طالت ذقون وقصرت دشاديش.. تغير رواد الجبل مع ظهور مولات عمان الغربية .. هرِم جبل الحسين وصار ملجأ الباحثين عن أسعار أقل.

ويوصل التردي أحمد بالواعظ المهندس ، نايف أبو التين، صاحب العلاقة بفندق راديسون ساس. بتأثير أبو التين عمل بالفندق وارتفع دخله ؛ وبتأثير المهندس الواعظ أُعفي احمد من حمل المشروب إلى الزبائن ، وبتأثيره أيضا راوده الرحيل للقتال في العراق لولا واجب شقيقته وأمه عليه. تعصبه الجديد أدخله في خصومة مع العم أبو محمود. " نفرت عروق رقبته , تعوذ في سره من الضلال والضالين ، وتيقن أن الرجل لا يقل كفرا عن العلمانيين.. ليكسر حجاب الصمت سأله( أبو محمود) عن أحوال أمه وشقيقته.. اشتكى من رفضها الزواج من أحد رفا قه الصالحين، وهي تكتفي بحجابها دون النقاب. ويخشى عليها من عذاب النار. حاول أبو محمود أن يهدئ من روعه فتعثر واتُهم ثم أهين بالسفه .

رجاء ابنة محاسن الطيراوي درست في المدرسة الإنجليزية بالكويت ثم رحلت للدراسة في القاهرة . نشب خلاف وقطيعة بين أمها، محاسن الطيراوي، والأهل. يوم تقدم لخطبتها المهندس الميكانيكي سامي محمود في منتصف السبعينات " شككت الجدة في نوايا شاب ’متعلم وحلو‘، أكيد طامع في نسب الطيراوي ومال أبيك وإخوانك. تحدت محاسن اجتماع عائلتها .. رفعت صوتها في حضور أبيها وقالت بما لا يقبل المناقشة : بأروح خطيفة أو بتوافقوا. ولن أعنس تحت رحمة زوجاتكم. " وشهد بيت الزوجية مناكفات وصراعات زوجية . محاسن ورثت عن والدها قصر القامة وامتلاء الجسم وأخذت عنه شخصيته الطاغية، فكانت سليطة اللسان مع الزوج لا توفره ولا عائلته؛ فنشأت رجاء مع شقيقها ، وليد، وسط الخلافات. انحرف وليد إلى التسكع وتعاطي المخدر ؛ كانت له فضيحة مع الأمن تدخل أصحاب الحول في محوها وأرسل إلى لندن بحجة الدراسة ، والحقيقة أن الغاية ستر الفضيحة.
اعتادت رجاء، بعد العودة من الكويت بعد أن غزاها جيش صدام ، أن تمضي الوقت مع جدتها لأمها وتتعرف على أسرة الطيراوية. أمها "مثل جدتها نار وبرد وعواصف وهدوء... تحددت علاقة جدة وحفيدتها منذ قبّلت رجاء وجنتها لا يدها ، فأشاحت في استياء وهمست في أسى : يعني لمين ستطلع بنت محاسن؟ وحدها رجاء كشفت وجها لجدتها يشرق بمرح الحياة.. جسارة تقحمت دواخل الجدة؛ ومعها دون الآخرين تستعيد الجدة وهج الشباب وألقه في اندياح ذكرياتها لحفيدة غابت في ضلال أمها وتريد أن تعرف" . ومن خلال الوجه الصبوح تعمقت الروائية في سبر أغوار المرأة قديما وفي الوقت الراهن.
سألت الحفيد ة جدتها متقحمة خصوصيتها ، فأجابت:
الصحيح لمحته مرة واحدة .. لكن لم ادقق في وجهه إلا على اللوكس ليلة الدخلة .. في يوم دخل دارنا ليصلح غطاء البئر .. جدك اشتغل في كبانية الألمان مثل رجال البلد كلهم ، بس كان الأذكى والأشطر في جيله.عرفت أنه في الحوش فوقفت وبصبصت عليه من وراء قزاز غرفة البنات."
لم تتزوج بنات المختار غالب الطيراوي إلا من أولاد الأعمام أو الأخوال، ولم يعرفن الطريق حتى خرجن في زفاف العرس إلى بيوت الأزواج.. حفر المختار بئرا " بحرا" وسط حوش داره، فلم تعرف بناته طريق النبع قط.
أبدت رجاء حيادية تجاه الوالدين لدرجة التعاطف مع والدها حين أدخل ضرة على أمها. تسامحت الروائية مع شخوص الرواية فلم يقض نحبه سوى زوجة الأب. قضت بالسرطان ، وتركت سامي محمود كتلة من حطام . رحلت رجاء إلى بيروت لحضور مؤتمر فاشتعل فتيل الغرام مع زياد الذي قدم مداخلة في المؤتمر ، وانتقلت للعمل سكرتيرة لديه، وبقيت في بيروت... جاءت محاسن إلى بيروت.. " يومان من نصائح وصراخ، هدوء وشجار ، رفض وبكاء.. بقيت رجاء في بيروت".. ثم حلت رجاء، عائدة إلى عمان على أمل.

أما حظ العمة ، عمة غيث فهو الأشد بشاعة لمصير امرأة : خطبت وهي معلمة لمجند في الجيش وأعدت جهاز العرس وبدلة العريس وحفظت كل شيء في حقيبة ؛ ثم استشهد الخطيب . لاحقتها لعنة عمة هربت في سالف الأجيال مع من تحب و تركت للقبيلة عارا حملها على أن تجلو عن الكرك إلى مأدبا . نسي الجميع الواقعة مع تعاقب العقود والقرون؛ إلى أن أحيا الفضيحة أحد المؤرخين ونزلت محنة مستدامة على رأس العمة. قضي على العمة أن تعيش مع الحبيب يزورها ليلا حتى ظن أنها فقدت عقلها . أعادتها للصواب كتب ومنشورات جلبها شقيقها الدكتور؛ وفجأة يمر على الحي شاب ممشوق القوام يشبه الشهيد يجمع القمامة في ثياب رثة. استدرجته ومنحته قطعة من خمسة دنانير كي يحسن هندامه ؛ لكنه استغل عطفها ليعتدي على الخادمة ، أفرغ فيها شهوته ووضع فيها جنينا مات في الرحم، لكنه استدعى عرضها على الطبيب وانكشفت فضيحة اضطرت الخادمة حيالها للبوح عن تصرف مخدومتها . ارتدت العمة وقبعت تجتر خيبتها.

تحكي الجدة لحفيدتها محنة الهجرة ؛ بينما كان الخال يشرح لغيث كيف فقدت قبائل الإيوا أرضهم. دمجت الروائية، بنت بيت ساحور، كارثة الشعب الفلسطيني بكوارث الشعوب الأصلية في القارة الجديدة. "لم تصمد رماحهم ولا الأقواس النشاب أمام بنادق تنشد الأرض والمال والثروة في عالم جديد... أما في التاريخ المدون من المستوطنين فمكتوب أن القبيلة باعت أرضها مقابل الخرز والويسكي.. ومثلهم قبائل الميسوكي وميامي واوتاوا وميسوري". شرح الخال عن ثقافة قبائل " التقت أساطيرهم مع حضارات لم يدروا بوجودها ، ولا تخيلت هي قارتهم فوق كوكبها.. هي فطرة الإنسان تروم الخلود ومقاومة الفناء"... ". احتج غيث ببراءة كيف يقسو المستوطنون على السكان الأصليين .. قهقه الخال قال: الأمريكي لا يفكر بهذه الرومنسية ولا تحس أجيال القادمين بالأسى أو بعقدة الذنب لما فعله المستوطنون من القارات القديمة قبل قرون ، حين أبادوا معظم السكان الأصليين ، وانتزعوا أرضهم وجروا من بقي إلى مخيمات!" .

هبة، الطبيبة، تقدر العلم، ويزاوج عقلها العلم والخرافة: دخلت على خطيبها . " حاول احتضانها فارتدت .. وبفضوله المعروف سحب كيسا كبيرا تحمله .. صرخ خوفها وأطبقت عليه فتوقف. قالت إن رؤية العريس لثوب عروسه قبل حفل الزفاف فال سيئ. اشتريت فستان العرس من المول رغم الجو العاصف لأنه اليوم الأول للتنزيلات ، فظفرت بلقطة ممتازة، وهو لن يراه أو يعرف عنه شيئا قبل دخولها الكنيسة . طلبت منه تدبير شاهدين .

وفي يوم الفاجعة عرضت الرواية بانوراما لضحالة الثقافة وهدر البشر وعيا وعقلا وإرادة. عرضت صورا فنية لصخب الانفعالات وتوترات الجزع، مفصحة عن ضحالة الثقافة وضعف الإرادات وتفكك مجتمع باغتته الأزمة؛ إذ افتقد التنظيم وغاب التعقل فتناثرت ضوابط السلوك ومرقت انفعالات السخط في شتى الاتجاهات : " رجال الأمن والإسعاف يخرجون يكبرون ويبكون .. والأصوات والصراخ من بشر يركضون ويتجمهرون . يسمع (المراسل الصحفي) احتجاجا وعويلا ومطالبة بدخول الفندق... اخترقت نوال التزاحم والسيارات إلى الحاجز الحديدي، أزاحت ذهول الشرطي فردّها بلطف : ممنوع يا أختي. صاحت بأنها تريد أن تبحث عن أحمد فهو لا يرد ؛ تفهّم وقال إن عليها البحث في المستشفيات ؛ أما دخول الفندق فممنوع. انهارت فوق برودة الإسفلت تتمرغ بجزعها؛ أسندها أبو محمود حتى سيارته."
" أرتال السيارات تزاحم، تزحف ببطء قاتل . تتزاحم وتتجنب تصادمها في انهيار أعصاب تضج بالأمل والخوف ؛ انحرف الدكتور الحسنات إلى شارع فرعي ، تجاوز إشارة ممنوع المرور ، وبصعوبة بالغة توقف بين سيارات تلاصقت على جانبيه... كل يجري يسبق خوفه .. تاه الشعور والكلام ، ذاهلة ( هبة زوجة غيث)اندفعت نحو الفندق ، أعاقها تجمهر الناس وهرولتهم واكتظاظ الدوار. امسك بيدها وشقا طريقهما إلى الطوق الأمني .. وموبايل غيث " لا يمكن الاتصال به"...ردهما الشرطي ممنوع ، من له غائب فليبحث عنه في المستشفيات؛ أفسحوا الطريق للإسعاف! هناك جرحى يمكن إنقاذهم وكل دقيقة ستفرق معهم! أمسك الدكتور بثيابه :أتعرف أن يكون ابني في الداخل ولا يرد؟ انا طبيب وهذه زوجته طبيبة . أنزل الضابط يده وزجره! إن كنتم أطباء فاذهبوا إلى المستشفيات لتسعفوا الجرحى بدلا من الصراخ علينا..."
أبرقت ومضة أمل .. شاب يؤكد أنهيار شبكات الموبايل والتيليفون في الفنادق بضغط الانفجار. ولهذا لا يمكن الاتصال بمن فيها . توسلت نوال أن يعيد ما قال. تعلق جزعها بالرجاء وناشدت ربها"
" في لحظات الكارثة او الفاجعة يمسح العقل المحب كل احتمال ويبقي الحياة و لا يقبل غير الأمل ونجاة الأحبة . يرفض القلب إلا الرجاء بالحياة ، ويقصي غيرها في مواقف الموت".
لكن نجاة غيث وموسى وأحمد وعثمان زوج خديجة من التفجيرات لا ينفي موت عدد كبير من الأبرياء. ونجاة هؤلاء لا يضعهم أو أحدا منهم أمام مراجعة نقدية . فقدان السيطرة على الحاضر وضياع المستقبل بقي السمة الأساس للحياة الاجتماعية.
وتحية للروائية المبدعة ليلى الأطرش
[email protected]



#سعيد_مضيه (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- صمت التواطؤ
- هذا التوحش الرأسمالي
- جموح نتنياهو .. الغايات ووسائل كبح الجماح
- الترهيب بالإسلام: المنابع وإمكانيات تجفيفها
- قضية المرأة إحدى قضايا الديمقراطية في مسيرة التقدم الاجتماعي
- نتنياهو يريدها صراعا دينيا مسلحا فالحذر الحذر
- إسرائيل دولة بلا جذور تاريخية
- القضية الفلسطينية مركز تجاذب وتدافع
- الليبراليون الجدد يستظلون بالفاشية ويقومون على خدمتها
- مأزق المجتمعات ومحنة المفكرين في ظل نهج القهر
- لعبة كرة القدم ضمن برامج هندسة الموافقة
- هيستيريا كرة القدم
- تحية تقدير واعتزاز للحوار المتمدن في عيده
- لا يطلبون سوى الإقرار بأن الفلسطينيين دخلاء في وطنه
- محو التاريخ اوهام تبددها شواهد التاريخ الثقافية والاجتماعية
- إنهم فاشيون إرهابيون وليسوا مجرد متطرفين
- اليسار حركة وتغيير وليس مجرد تسجيل مواقف
- الاحتلال والتهجير والجرائم الملازمة هي عناوين الحالة الفلسطي ...
- هذا الجدل العقيم دخان يحجب ما خلفه 3
- هذا الجدل العقيم دخان يحجب ما خلفه-2


المزيد.....






- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعيد مضيه - رغبات مهشمة