سعد سامي نادر
الحوار المتمدن-العدد: 3045 - 2010 / 6 / 26 - 20:48
المحور:
كتابات ساخرة
خلا ل وجودي في مركز تجميع اللاجئين في "تير آبل" بهولندا، كنت حسودا لكل من يحمل هاتفا نقالا من نوع الكامل الأوصاف والمواصفات. لا لإيماني بالحسد، ولا لكوني لا استطيع شراءه، بل لخراب شبكية عيني، فلم يعد بوسعي ان أقرأ لافتة كبيرة كي أتمتع بنواعم عجائب تقنيات العصر. فحسد العميان وجع مضن. كان الشطرنج وسيلتي للتباهي وتصفية خصومي الأكفاء، ونسيان هموم عيني الحاسدة.
جاء ابني منَ السويد لرؤيتي بعد سنتين من الشوق لم نر فيها بعضنا. لأول مرة حصل لي شرف التعرف عن قرب على جهاز تحديد المواقع الـ ( GPS ). إن مشاهدته وهو يعمل دليلا لسيارتنا، يختلف من السماء الى الأرض، عن ما كنا نسمعه عنه في عتمة الوطن. خصوصا، حينما يكون ناطقا بعدة لغات. لم يفعل انبهاري وذهولي بأدائه الانضباطي حد المتر، سوى، تأديتي تحية الوداع له عند وصولي:" شكراً هُبـل" والى اللقاء. مع انحناءة "بوذية "من كرامة قوامي الهزيل.
وحشة الغربة، بدأت تدب فيّ حين انتهت فترة انبهاري بجنان هولندا الساحرة، وكوني هنا لم أحظ بصداقات بعد. زادني سأماً وهمّاً مشاكل شبكية عيني التي حرمتني من القراءة منذ حرب الكويت في 1991. جربت خلالها كل انواع الاجهزة المتوفرة للتكبير وصولا الى استخدام "الاوفر هيد". كلٌ كان له عيوبه، ولم تف جميعها بالغرض. فقد عم الخراب شبكية كلتا العينين. فقدت على اثرها رؤيتي المركزية "الزووم" بالكامل، لكني والحمد لله، أمارس حياتي الاعتيادية بواسطة رؤيتي المحيطية وانا سعيد بكرم قدري هذا!. في حينها، كنت أهاب التقرب من الحاسوب رغم مواصلتي شراءه وتحديث أنواعه، من أول دخوله الى العراق. وضِعَت جميعها لخدمة أولادي باعتبارها ناصية العلم الحديث. عام مضى لي على هربي من اغتراب الوطن، الى محنة غربة ووحدة قاتلة اكثر وحشة، كنت في معظمها مسمرا أمام التلفاز أراقب وأعيد ببلادة مشاهدة مآسي وآلام إخفاقات قادة الوطن الأشاوس! مكتئبا يائسا من خيبات أمل متلاحقة اوصلتني حد البكاء، لسماع "يا حريمة" حسين نعمة.
جاءت بعدها رحمة الله الواسعة. جاء الفرج. هدية من ابني المهندس المختص بعلوم الحاسبات. فرجي المرجى، كان حاسبة - فول اوبشن – نصف شاشتها متخصصة لتكبير وتصفح نصفها الاخر. وكأنها صمّمت خصيصا لمعالجة عاهتي المأساوية. لقد جاء منقذي. المخلص المنتظر، "هبَلي العظيم" ( Great Hubel ).
*****
اول افراحي كانت، تمكني من قراءة الكثير مما فاتني. عطش ثمانية عشر عاما من العتمة والهم. ثانيها، إبحار هواياتي المؤجلة لغور سبر كوننا السرمدي عبر "نوافذ" ناسا ومحطة الفضاء الدولية وتلسكوب هابل العملاق. أنهيتها بسفرة ست سنوات ممتعة مع مركبة "كاسيني" نحو كوكب زحل. بعدها، هاتي يا متعة الموسيقى!!.
أول نتاجي عبر شبكة النت. خاطرة كتبتها لأخي الأصغر. رحت متوسلا بلغة ساخرة أحثه على ترك دينه "بطل العرق" الذي أخمد ألقه ودمر شبابه وعمله وروحه الفكهة، وأبشره باعتناق ديني الحديث. دين "هبل" العصر العظيم، محاولا استمالته وجره من هذا السم الذي أدمن عليه ودمر حياته..
بين حقيقة عمل "هُبل" المذهل ولغة ساخرة لإغراء أخي والتبشير لمنقذي، أملا أن ( يذكر آلهتي بخير!)*1 ويترك المشروب، رحت مازحا مانحا هبلي أسماءه الحسنى والقبيحة معا والتي تليق وتعبر عن مقام مستخدميه: المنقذ المخلص، المدرسة والملهى، الصبور، الوهاب وسارق الألباب، الناطق الصامت، الكاشف المستتر، المربي والمفسد..ووو.. مقدماً مزايا وعيوب دينَ عصرِنا الذهبي. وفي سخرية رسالتي ايضاً :
" يا لبلاهتي وغباء جهلي. ثمانية عسر عاما وانا أرتجف خوفا أمام مقام تعقيدات شاشته الصغيرة!! لم أدرك وأتصور كم هو مختزَل ومختزِل، وبسيط جدا ويسهل حفظ وتعلـُم آياته البينات!. ناهيك كم هو ممتع وكريم رغم بخله بأسراره التي لا تعد وكتمانه البعض. غير انه مولع بكشف الحقيقة على حالها دون لبس او تشويه. متغير ومتجدد. بلا مسلمات وثوابت. لا يؤذي، بلا تهديد أو وعيد بنار. ولا يمنح صكاً أو وعداً بالجنـة!!. حقيقة الأمر وبعد تجربتي البسيطة معه. عرفت الآن، بل اكتشفت والآن فقط !! سبب نزعة غالبية شباب وكهول العالم *2 ، بالتبسمر ساعات طوال خاشعين دون وعي امام مقام شاشته الصغيرة الجلل، ساهون عن أداء فرائضهم، تاركون جوامعهم ومعابدهم وكنائسهم، غير مبالين بوعيد وعذابات القبر والآخرة !، مفتونون بهذا الزائر الجديد السهل الخفيف. ذُهـّلاً أمام سحر "نوافذه" المطلة على عالمنا الجميل، خائفون من هيبة عصره الذهبي المدهش العجيب".
في لحظة المديح لمنقذي وزائر قلبي الجديد، لم أبخل بشكري وامتناني الى منقذي الآخر. ابني الحبيب ( المختص في فكر وعلم الاديان الحديثة )، لاختياره لي نوع من ( هبل) يناسب نظري وما تبقى من بصيص في وسع عيناي. خاتما رسالتي بسخرية أخرى: " لولا شاشة خدمـة التكبير الذي اختارها الحبيب. لما آمنت بدين (هبــــل العصر العظيم ) ..هاها..ها!!".
في رسالتي لم أتطرق أو أشير او حاولت مس أي مقدس سماوي او وضعي. باعتباره الإرث التأريخي والأخلاقي للبشرية"*3. كما كنت حريصا ان لا أخرج عن أدب ولياقة لغة السخرية.
للمباهاة، أرسلت مجمل هذه المقاطع الى ابنتي الكبرى آملا اخراجها من وحدتها وحرصها وجديتها المفرطة وهموم الأمومة وغربتتها في السويد.
مشكورا أخي الحبيب. ترك إدمانه والسُم الذي يشربه وتاب وأخذ يصلي!. لكن الغريب!!، جاءني تعليق هاتفي من ابنتي "خريجة علوم حاسبات" يقول بلهفة: أعجبت بلغتك الساحرة وكم تمنيت ان اقرأه لصديقاتي وأتباهى به!!. لكنهم محافظات!! وملتزمات بالدين!!. أرجوك قلل من الاشارة الى الدين!!!.
لم اتطرق في رسالتي سوى لـ"هبل". الوثن المسكين، آلهة فقراء وتجارة عرب الجزيرة في زمن "الجاهلية" قبل الإسلام.. انتظرت سنة كاملة كي أرد على ذلك التعليق!!.. يا لكارثة الوهم!! وسوء الفهم!! انهم يخافون حتى من لعنة أوثان الجاهلية. ولا يفقهون لغة السخرية.
أنا على يقين إن ابنتي ذكية بما فيه الكفاية كي تفهم كل شيء. لكن ضبابية رؤيتها جاءت دون قصد!، حين وضعت أمامها أفكارها المسبقة عني وعن موقفي العقلاني المعلن من أوهام الأدعية التي يتداولها ضعفا الانساني وخاصة، في غربتنا المضنية. لكن ! أليست الأفكار المسبقة خطيئة؟؟، لكني أعذر أماً حريصة محافظة تتوخى صخب وحرية عالم جديد غريب علينا جميعا. يخيفها ويضعفها..عالم لم نتأقلم عليه بعد!!.
********
1- جملة تتكرر في لقطات تعذيب المسلمين من قبل الكفار ( عبدة هبل والعزى)، في فلم "ظهور الاسلام".
2- مليار متصفح لـ"كوكل" في الصين والهند فقط.
3- مفهوم ماركسي للدين. حقيقة!! تاريخية من نتاج إنساني.
#سعد_سامي_نادر (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟