أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ادريس الواغيش - قصة : جسد واحد ....، أمكنة متعددة















المزيد.....

قصة : جسد واحد ....، أمكنة متعددة


ادريس الواغيش

الحوار المتمدن-العدد: 3040 - 2010 / 6 / 21 - 14:44
المحور: الادب والفن
    


قصة : جسد واحد ....، أمكنة متعددة

أصبح (دوار الكرطون ) المرمي على أطراف المدينة صاخبا كعادته ، ذهاب و إياب إلى السقاية المنبطحة أمام دكان (السوسي) ، سحابة من الذباب الأزرق تتبع بائع الحوت المتجول ، شباب عاطل متكىء على السور العازل للدوار حتى لا يتمدد أكثر!. على هذا الإيقاع الرتيب استفاق يوسف هذا الصباح ، لقد هده التعب بعد زيارة غير متوقعة للبادية ، حيث يرقد جده مريضا منذ أسابيع. لم تغير المدينة فيه طباعا متأصلة ، اكتسبها منذ أن كان طفلا صغيرا بالبادية ، فبقي وفيا لعادات القرية وسكانها الطيبين ، يوسف حديث العهد بمدينة (فاس) التي لا يعرف منها إلا الاسم ، هاجر أبوه إليها من القرية بحثا عن العمل ، بعد أن أنهكه الجفاف ولازمته البطالة لسنوات في قريته. لكنه رحل من دوار بالبادية إلى آخر بالمدينة. لم يخطر ببال يوسف أن مكر الزمن يتربص به ، حين وجد نفسه فجأة في دوار اغتصبت فيه جمالية الطبيعية ، وعابت عنه رائحة الخبز الطري ، الخارج لتوه من الفرن البلدي ، وتسامح الناس البسطاء الطيبين.
أصبح يوسف يعيش نسخة (حضرية) رديئة لدواره الأصلي ، (دوار/ قمامة) تجمعت فيه نفايات الكاراجات المجاورة ، وقصدير المعامل المفككة ، وعلب الكرطون التي فقدت هندستها ، فأصبحت بلا زوايا. دوار يحتضن بلا رغبة منه شبابا عاطلا ، شيوخا مسنين بدون رعاية وأطفال نصف عراة. كان يوسف في القرية قريبا من المدرسة ، أما الآن في (دواره) الجديد ، المحسوب على المدينة ، هو أبعد منها... ! ، كثيرا ما يتساءل :
- " لماذا جيء بنا إلى هذا المكان ؟ ألم نكن في البادية أحسن حالا على ما نحن عليه الآن ؟ أين نحن من جيراننا الطيبين...؟ خالتي الضاوية... ؟ إمام المسجد العجوز ، الذي لا ينقطع عن الدعاء لنا بالخير... ؟ أين قطعان الغنم والماعز ، وهي مارة أمامنا في المساء ...؟ أين وأين...؟ ".
يقطع عليه أبوه خلوته :
- " مالك يا يوسف... ؟ أتحس بشيء...؟ ".
- لا....لا.....فقط أفكر...."
أصبح يوسف يعيش أسئلته البريئة كل يوم ، في غدوه ورواحه للمدرسة ، تتعثر خطاه في أسئلة أكبر
منه : لماذا...؟ وكيف ...؟ ، أصبح يسابق عمره ، اغتصبت فيه طفولته اليافعة ، فأصبح يفكر بعقلية أصيبت بشيخوخة مبكرة. أرهقته أسئلة تكبر مع أيامه ، وتتكدس يوما بعد آخر . يوسف أقرب إلى (يوسف) ، بلاغة الوسامة بادية على محياه ، رغم بعض الندوب التي احتفظ بها وجهه مكرها من زمن الطفولة ، وحدها من يعكر معالم المحيى الجميل. ذكي وصادق ، براءة الأطفال موشومة بنصاعة هواء البادية ، وطيبة الأرياف تأسر عقلية صغيرة ، ظلت وفية لتقاليد البادية وطقوسها.
كان يوسف بالبادية يمرح بين أشجار التين والزيتون ، يستمتع برؤية العصافير، وهي تحتفل بحريتها فوق أشجار الصفصاف ، تغرد بلا رقابة بين أشجار العليق أو فروع الكرمة الملتوية على أغصان شجرة الدردار العالية ، ينعم بالظلال الوارفة صيفا ، وبصفاء الثلوج البيضاء شتاء ، يستنشق الهواء النقي على مدار السنة ، وإذا به فجأة بين أربعة حيطان من قصب ، وسقف من الزنك والكرطون ، تدخل الروائح الكريهة المنبعثة من أكوام الأزبال إلى خياشيمه بلا استئذان ، لمجرد ما يخرج من باب المنزل - البراكة. لكن الأطفال هناك حيث البئر والبيدر يرون فيه عكس ذلك تماما ، يوسف الذي يعرفونه ، لم يعد هو الواقف أمامهم الآن بلباسه المديني ، قميص منمق بحروف لاتينية بارزة ، وحذاء رياضي يحمل علامة تجارية عالمية مشهورة !. لقد ودع الحذاء البلاستيكي إلى الأبد... ، أليس هذا كافيا لإثارة الانتباه إليه ؟ و إشعال نار الغيرة والحسد بين أطفال القرية كلها ؟ لكن يوسف له رأي آخر، هو لا يرى الأشياء بهذا الاختزال السطحي كما يراه أقرانه ، أعماقه تنطق بلغة أخرى ، و أحاسيسه تقول شيئا مختلفا ، آه لو فكت عقدة لسانه ، وتكلم بلسان عربي فصيح ، سيسمعهم كلاما آخر، وسيعرفون أشياء أخرى غير تلك التي يوحي بها مظهره القادم من المدينة ! .هم في القرية لا يعرفون دور الصفيح أو الأزبال المزمنة ، ولا قيمة (أم الحسن) وجمال الماء المتدفق من الشلالات والسواقي ، ولا يدركون أن يوسف (المديني) الواقف بينهم لم يعد يرى من الطيور إلا طائر(الزوش) ، يقفز أمامه ، يستفز مشاعره ككائن غير
مرغوب فيه ، و هذا الكائن السيئ الذكر (دوار الكرطون) ، يرن في أذنيه صباح مساء ، يطارده في سجلاته المدرسية ووثائقه الإدارية. بالأمس كان يفخر بانتمائه للدوار، لكنه اليوم ينكسر وجدانه لمجرد أن يسمع هذه اللفظة اللعينة (دوارالكرطون) ، الملتصقة به غصبا عنه. عالمان متناقضان يعيشان في جسده
الصغير المثقل بالهموم ، مفارقات يعيشها ، أو تمر أمام عينيه كل يوم ، وهو جالس في بيته أو في الطريق إلى المدرسة. يقرأ عن أشياء كثيرة لا يعرف إليها سبيلا : السينما ، التلفزة بالألوان ، الكهرباء ، غرفة النوم ، ركوب الحافلة ، المخيمات الصيفية ، الحاسوب ،.....!!. هو لا يعرف إلا الحساب بأصابعه ، أو بعملية الجمع ، كما علمها له أساتذته في المدرسة. لم يركب يوما حافلة في القرية أو المدينة ، كل ما يعرفه ، سيارة أشبه بحافلة يسمونها (207) ، تأتي ليلا لتنقلهم تحت جنح الظلام ، فيصبحون في البادية أو العكس. يسأل الأستاذ التلاميذ :
- " من يتحدث لي عن رحلة عبر القطار أو الحافلة... ؟ ".
يرفع البعض أصابعهم ، لكن يوسف الحاصل على أعلى معدل في قسمه ، يلوذ بالصمت وتغرق عيناه في عالم سفلي. يسأل الأستاذ ثانية :
- " وأنت يا يوسف... ؟ ألم تقل أنك تسافر كل عام في العطلة الصيفية ؟ ".
يصمت قليلا ، ثم يجيب ورأسه يكاد يغرق بين كتفيه :
- " نعم يا أستاذ...لكني أسافر ليلا رفقة أسرتي ، مكدسين مع أناس لا أعرفهم ، فيغالبني نوم لا أستفيق منه إلا في الصباح ، على أصوات الأنعام والفلاحين وهم ينشدون مواويلهم الصيفية في الحقول ، وقد أشرقت شمس القرية وديعة كما عهدتها ، من قبل أن أعرف المدينة !! ".
هكذا أصبح يوسف الصغير منقسما على ذاته المنذورة لأمكنة وأزمنة متعددة. هو لا يعرف لأي جيل ينتمي ؟ و لا لأي مكان ينتسب ؟. يلعب الكرة في الملعب المشبع بالغبار قريبا من (دوار الكرطون ) ، فإذا به ينزوي ، ليفكر في أصدقاء تركهم غصبا عنه وعنهم في البادية . ترى أين هم الآن... ؟ يطاردون العصافير أو يدحرجون كرة بلاستيكية ، بالكاد يحقن فيها شيء من الهواء ؟.
حين يكون في البلدة ، يكون منسجما مع ذاته ، مع أصله ومع أصدقاء الصبا ، لكن فجأة وهو يجري بالمحاذاة مع الوادي ، تخطر بباله صور أصدقائه بالمدينة : " أترى مازال خالد وفيا لعاداته ؟ ، يتسلل مع (ولد فاطنة) بين الركاب إلى الحافلة الهرمة ، في رحلة خوف رهيب من مراقبين يطاردونهم كالأشباح ، ويباغتونهم كي يبهدلونهم بلا شفقة ؟
أناس شديدو القسوة على الأطفال ، لا يعرفون ظروفهم ، ولا يسمعون لشكواهم أو استعطافاتهم. يسلبونهم بعض الدراهم ( إن تواجدت معهم) من دون رحمة ، وحين لا يجدون في جيوبهم شيئا ، يأخذون منهم خف الرجل اليسرى أو اليمنى ويلقون بها من النافذة ، ثم يرمون بهم كأشياء لا قيمة لها وسط المدينة المتعجرفة ، والمارة ينظرون إليهم بازدراء . أليست معادلة تستعص على عقلية طفل صغير ، مثل يوسف.... ؟



#ادريس_الواغيش (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تخليدا لليوم العالمي لمحاربة تشغيل الأطفال(12يونيو) ، تنظم ا ...
- شعر : طقطوقة
- مشرع بلقصيري ، مملكة القصة..في ملتقاها السابع ، تحتفي بالأست ...
- بين أن تجلس الممرضة بين أقدامك في اليابان ..…وفوق رأسك في ال ...
- قصة : خيانة
- قمة أدبية مصغرة بين العرب.... في مدينة بن أحمد المغربية
- قصة : اللعبة
- النقابة الوطنية للتعليم (ف د ش) تحارب الهدر المدرسي تجربة ان ...
- نقاء الجنس القصصي في (تسونامي) مصطفى لغتيري
- الجمعية المغربية للغويين والمبدعين تحتفي بالمترجم والمبدع حس ...
- قصص قصيرة جدا :
- قصة : ارتواء
- قصة قصيرة : ضيافة
- ظبية خميس: شهرزاد روت لتتقي العقوبة ..أما أنا فلأني أحترم حق ...
- عزة رشاد.... شاعرة رومانسية.. ، بعيدا عن الإيديولوجيات الصار ...
- قصة قصيرة : قصة ألوان
- فاس تكرم الدكتور محمد بودويك.....الشاعر الذي لا يحصى
- محاربة تشغيل الأطفال....تجربة بدأت مغربية من مدينة فاس/ وأخذ ...
- - القردانية- لمحمد اشويكة - - العنزة لولو- لصخر المهيف و روا ...
- حجاب المرأة بين التقاليد الاجتماعية والموروث الديني


المزيد.....




- كيف ألهمت ثقافة السكن الفريدة في كوريا الجنوبية معرضًا فنيا ...
- شاهد: نظارة تعرض ترجمة فورية أبهرت ضيوف دوليين في حدث هانغتش ...
- -الملفوظات-.. وثيقة دعوية وتاريخية تستكشف منهجية جماعة التبل ...
- -أقوى من أي هجوم أو كفاح مسلح-.. ساويرس يعلق على فيلم -لا أر ...
- -مندوب الليل-... فيلم سعودي يكشف الوجه الخفي للرياض
- الموت يفجع الفنانة اللبنانية كارول سماحة بوفاة زوجها
- وفاة المنتج المصري وليد مصطفى زوج الفنانة اللبنانية كارول سم ...
- الشاعرة ومغنية السوبرانوالرائعة :دسهيرادريس ضيفة صالون النجو ...
- في عيد التلفزيون العراقي... ذاكرة وطن تُبَثّ بالصوت والصورة
- شارك في -ربيع قرطبة وملوك الطوائف-، ماذا نعرف عن الفنان المغ ...


المزيد.....

- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري
- عشاء حمص الأخير / د. خالد زغريت
- أحلام تانيا / ترجمة إحسان الملائكة
- تحت الركام / الشهبي أحمد
- رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية ... / أكد الجبوري
- نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر ... / د. سناء الشعلان
- أدركها النسيان / سناء شعلان


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ادريس الواغيش - قصة : جسد واحد ....، أمكنة متعددة