عماد عبد اللطيف سالم
الحوار المتمدن-العدد: 3012 - 2010 / 5 / 22 - 23:57
المحور:
كتابات ساخرة
عراق ما بعد الصناعة
عماد عبد اللطيف سالم
(1)
قيل الكثير عن حكمة العراقيين في عصر الصناعة .. عن صبرهم على البلوى .. وعصاميتهم .. وترفعهم عن الصغائر .. ومحاولاتهم المستميتة لجّب الغيبة عن انفسهم ... وصدقهم وصراحتهم المطلقة في التعبير عن حاجاتهم واحاسيسهم وتطلعاتهم المشروعة .. وعن ايثارهم .. وتعبهم النبيل ... وايمانهم الذي لايتزعزع بقوة العقل ( مقارنة بغيرهم من الهمج السذج .. المنحدرين من سلالات ماقبل الصناعة ) .
(2)
ولاتوجد مسوحات دقيقة عن العدد المتبقي من سلالات مابعد الصناعة من العراقيين في المجالات كافة ( السياسية والاقتصادية والاجتماعية ) .. او عن عدد الفاعلين منهم في شوارعنا العتيقة .. الا ان مجتمع العينة الذي قمنا بدراسته , يفصح بوضوح , عن قلة عدد هؤلاء .. وميلهم الدائم الى الهجرة خارج مواطنهم الاصلية .. تسبقهم في ذلك أخلافهم الفتية .. التي لم تتمكن من التأقلم مع بيئتها الحالية .. كما تأقلم معها " الاباء المؤسسون " .
هذه "السلالات" , او ماتبقى منها , تدرك فوائد الكهرباء .. ومعنى الضوء .. وحدود الرحمة .. ومديات التسامح .. واشتراطات العدل .. والفروق الدقيقة بين الحق وبين الباطل .. والخيط الواهي الذي يربط ( اويفصل ) مابين الضحية والجلاد .... وهي تعرف ان العجلة قد تم اختراعها منذ خمسة الاف عام .. وتعرف اننا لم نفعل اي شيء جديد منذ خمسة الاف عام ... فنحن نزرع ونصنع ونأكل ونجتر وننجب الاشياء ذاتها التي اكتشفناها قبل خمسة الاف عام ... وبطريقة اسوأ بكثير من تلك التي تمت بها قبل خمسة الاف عام .
(3)
فقبل خمسة الاف عام .. كان البرسيم متاحا للجميع . وكانت قضمة برسيم واحدة كافية لتوليد 2300 سعرة حرارية .. تزيد قيمتها الحقيقية ( وليس النقدية ) عن 34000 دينار " اشوري " يوميا ( بموجب نمط الانفاق العائلي السائد انذاك ). اما الاحتياجات الاساسية الاخرى ( غير الغذائية ) فكانت متاحة (ومشاعة) للجميع .. فالبيئة النظيفة , والماء الصالح للشرب , والحفر البهيجة لتصريف الفضلات الصلبة ( في الهواء الطلق ) ,والتماهي مع الطبيعة , والتعلم منها ,ومحاولات السيطرة عليها .. ووجود عدد محدود من الامراض التي تكفي لمعالجتها اعشاب الارض .. هذه كلها احتياجات " ملباة " او مشبعة ؛ وتزيد قيمتها كثيرا عن 43000 دينار " سومري" يوميا ... ولهذا كله فانني لست بحاجة لاقناعكم بأن نسبة الرازحين تحت خط الفقر انذاك لم تكن لتزيد عن 2% من اجمالي عدد السكان ( وليس 23% كما هو حاصل الان ) .
(4)
وتشير دراسات انثروبولوجية وايكولوجية رصينة ( بمعايير الرصانة في هذه الايام الكالحة ) الى ان نسبة الفقر المدقع الضئيلة تلك , لم تكن نتائج منطقية لعيوب او اختلالات هيكلية كان يعاني منها عالم ماقبل الصناعة , بل كانت بسبب تسرب عدد قليل من التلاميذ من مدارس اشور بانيبال وحمورابي ونبوخذ نصّر وسرجون الاكدي ( التي كان التعليم الزاميا بها انذاك ) .. والتحاقهم بعصابات روبن هود .. وذلك لعدم قدرتهم على الاستجابة لمتطلبات سوق العمل .. والمتغيرات المعرفية السريعة التي كانت تحدث فيه .
(5)
قبل خمسة الاف عام كان الاغنياء هم سكان الارياف . وبعد خمسة الاف عام يوجد لدينا 3.5
مليون ريفي فقير( مقابل 3.5 مليون حضري فقير) ... مع ان 70% من السكان يقطنون المدن الكبرى حاليا .
قبل خمسة الاف عام ..كان السومريون يعيشون برفاه تام .. وقبل خمسين عاما فقط كان احفادهم يعيشون على حد الكفاف في مدينة بمائة قطاع ..في كل قطاع الف دار.
والان .. وفي ذات المدينة .. مدينة العشاق والموتى .. مدينة الماضي والحاضر والمستقبل.. لدينا قطاع جديد يختزل حرمان وفقر العراق كله .. ويسميه سكان المدينة " القطاع صفر" , حيث لاشيء , ولاأحد ... لابيت ولاماء ولاهواء ولاطفولة ولاكهولة ولابشر.. هناك حيث يقتات هؤلاء" الفقراء" على انفسهم .. ويختزلون ذواتهم الى ارقام صماء في سجلات الفقر الرسمية .. مدركين ان " العراق – صفر" لن يكون بامكانه ابدا .. ان يكون وطنهم .
(6)
قبل خمسة الاف عام كانت المرأة الهة , وكان الرجل فارسا , والحصان حصانا .. ولم تكن هناك اديان ومذاهب وقبائل .. وافرادا ضالين .
قبل خمسة الاف عام ماكان بوسع هيجل وكارل ماركس وجان بول سارتر ( او اي قائد ثوري معاصر) ان يحصلوا على فرصة عمل عابرة ( او ناقصة بالمفهوم الحديث ) في حقل فلاح بسيط .. ولماتوا من الضجر واللاجدوى وسط فيالق المنتجين المتغلغلة ( بعمق وصمت ) في ارض السواد .
(7)
قبل خمسة الاف عام .. كان العصر هو عصر ماقبل الصناعة .. وكان في العراق ماكان .. وماينبغي ان يكون .
وبعد خمسة الاف عام يتم " تصفير" العراق .
هاهم .. يحولوننا الى صفر على يسار العالم الرقمي المعاصر
من هم هؤلاء ؟ .. لاأدري .. او لاامتلك الشجاعة للاجابة على سؤال كهذا .
غير انني امتلك شجاعة الاعلان بأن " العراق – صفر" هو عراق أدنى بكثير من عراق ماقبل الصناعة.. وأن العراقيين جميعا يدركون ان هذا " الحيز الصفري " لن يكون أبدا وطنهم .
0
#عماد_عبد_اللطيف_سالم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟