أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - غريب عسقلاني - رواية جفاف الحلق – 15 -















المزيد.....



رواية جفاف الحلق – 15 -


غريب عسقلاني

الحوار المتمدن-العدد: 2969 - 2010 / 4 / 8 - 01:44
المحور: الادب والفن
    


رواية جفاف الحلق – 15 -
- 15 -

نيسان يُبشر بقيظ الصيف، يهيئ لموسم خميس المنطار، المقبرة الشرقية بين حارة التركمان وحارة الجديدة مسرح الموسم الذي يمتد إلى تلة المنطار.. غزة تقذف ناسها، رجالاً ونساءً وصبايا وشباباً وأطفالاً وشيوخاً.. غواية المواسم تتبدى على وجوه الصبايا، حمرة الأشواق والاجتراء على الأصباغ، والكحل حول عيون النساء.. الشباب يتمنطقون بالسيور الجلدية العريضة مزينة بجرابات الشباري والسيوف القصيرة والطويلة، عصى اللوز المعقدة المشذية واللامعة بألوانها المغندرة الجذابة، قصبات الخيزران معقوفة في قبضات القبضايات، وشيوخ الشباب.. خيول غُسلت في البحر قبل أن تولد الشمس، تنضح عرقها عافية في السباق، شيوخ ومجاذيب، وأصحاب طرق وكرامات، يلعبون بالسنج على دقات الطبول، يتمايلون مع ريح الحي القيوم، يغرزون السنج في لحم بطونهم، لا يسيل منها دم، ولم يند عنهم صراخ ألم أو قتل، عدة سيدي أبو الكاس، وموكب الشيخ بشير، ودراويش السيد هاشم، وأعلام المسجد العمري الكبير، صوفية الزوايا، بصارون ونصابون، وحرامية أيديهم خفيفة.. باعة الخروب والسوس بقدورهم النحاسية ملفوفة بأحزمة ملونة لها شراشيب، صاجاتهم تلعب في أكفهم، تصدر رناتها في ايقاع معروف، يلقمون فوهات قدورهم بألواح الثلج السائحة تستدرج أنفاس الصدور ولهفة الزوجات الشابات والمخطوبات والعرسان لحالة فرح مختلسة من رقابة الأهل، ومحظور العادات، فائزة برغبات حلال مسروقة.. تلهث الصدور أمام باعة يعرضون ما تشتهي الأنفس، وما يبل الريق حلاوة وطراوة ..
في دارنا يفرض الموسم طقوسه عاماً بعد عام في زمن الهجرة.. يستدعي أيام وادي النمل، وموسم سيدي الحسين، يعرج على شقاوات وصبابات روبين يافا، وموسم النبي صالح في الرملة.. أنهت القاعة أعمالها بعد الضحى، طوى العمال ما نفلوه عن مطاوي الأنوال من أقمشة، حاسب جدي العمال كل على مقطوعياته، مضافاً إليها عيدية الموسم، استبدلت عيدية سيدي الحسين بعيدية خميس المنطار في الهجرة، فرضها جدي نظاماً على القاعة، والتزم بها أبي وخالي، مع العيدين وحسبة عاشوراء فالأقربون أولى بالمعروف، ومن أقرب من عمال قاعتنا وكلهم إما نسيب أو قريب أو ابن بلد.. النساء في الدار الفوقا لم يقعدن خلف دواليبهن، حضرن ما يكفي من مواسير اللحمة في اليوم الفائت، وحضرن الكعك والتمر، وطبخن السماقية الغزاوية الشهية الطارئة على مطبخنا المجدلاوي... واعتمدنها كما هو الحال في الحارة، وجبة أثيرة في المآتم والأفراح والأعياد، وأيام شطحات الخسة في بيارة أبو راس، ونزهات المقصبة في بركة قمر، حسنة لم تعد مبكرة إلى المخيم كعادتها كل خميس، منذ أن خطبت لتتفرغ لشؤون بيتها وتحضير ما يلزم لزيارة خطيبها، زريفة ولطيفة في غرفة الخياطة، يتحنجلن متباهيات بفساتينهن الجديدة, حسنة الطويلة البيضاء بالفستان الوردي المشجر وشعرها السارح على كتفيها.. أثارت هياجاً في الدار، تحول إلى زيطة ونقر على طشت الغسيل، النساء يتحسسن الفستان المشدود على صدرها وبطنها، يرفعن ذيله، يكشفن عن ساقيها وفخذيها.. ينشرن لحمها تهبط على الأرض، تلملم نفسها، وتداري خجلاً مصطنعاً، يصعد حمرة شفافة على خديها.. ينتظم النقر على صاج الطشت:
غندرة مشي العرايس غندرة
واللي يحب الزين يمشي غندرة
جدتي نفيسة تلعن فجور النساء وتؤنب حسنة:
- يعني هذا المحزق الملزق بلحمك أحسن من الثوب يا خايبة.. وايش خليتي للراجل .. صحيح المرة بدها ذكر يشكمها ..
جدتي فاطمة فرحانة لفرح حسنة، تحضنها وتقبلها، تسحبها للرقص تستجيب حسنة على استحياء، ثم سرعان ما تسحب معها زريفة ولطيفة جدتي، لم تكبح جماح زغرودتها.. تغرق في الضحك حتى تشرق ترد عليها كنتها بزغرودة وتغني
يا زريف الطول ع البسطة يبيع
بانت غرتها والحاجب رفيــع
وأنا يا حلوة في حـبك وقيـع
حطيني في صديرك بدل المحرمـا
جدتي تبصق في عبها، تخاف الحسد والعيون التي تفلق الحجر..
- ياما تحت السواهي دواهي، من حقه أحمد شمعة يطق عقله
وسحبتها من الحلقة، وأمسكت الطبل، وفرقت الهيصة قبل أن يصعد الدم إلى رأس جدي في الدار التحتا، لا سيما وأنه وافق على ذهابها إلى الموسم على مضض.. زعقت على زريفة ولطيفة حتى يسمع جدي:
- ما صدقتن تسمعن الطبل ..بدكن عرس ترقصن فيه، الله لا يكبركن.
وراحت تستحث الجميع للإنطلاق إلى الموسم قبل أن ترتفع الشمس، وتسيح كحل العيون وأصباغ الوجوه، فقد قررت هذا الموسم وعلى غير عادتها أن تذهب تاركة جدي يلعب الدريس والسيجة مع أبي حسنة، ولم تلتفت لبرطمات جدتي نفيسة التي تعتبر خروج النساء والبنات إلى الموسم ضلالاً وكفراً وفراغ عين ورخاوة رجال..
في الصباح وعلى مائدة الإفطار كان جدي يحاول عبثاً مع جدتي:
- اهدأي يا مرة.. المواسم بدها مروة شباب
- هو أنا رايحة أتغندر.. بدي أجيبه وأريح حالي من نذره قبل ما أموت.. ماهو كله علشانك يا ابن الحلال..
أبو صبحة على يديه شفى جدي، بعد حادث القتيل الذي خرج له من المقبرة الغربية، وقف أمام الحمارة، وبخ في وجهها فتسمر، وصرخ عليه في العتمة:
- انزل يا ابراهـيم
طار عن ظهر الدابة المخبوعة، وأطلق ساقيه للريح والعتمة، والقتيل خلفه يرجمه بالحصى حتى وجد نفسه في منـزول صالحة في أول حارة رومية.. حملوه إلى الدار مهدوداً، لا يصد ولا يرد.. وفي الليل قبل الفجر دق أبو صبحة الباب ، وحوطه بالمحصنات وأودع حجابه أسفل رأسه، ورش المكان بماء طاسة الطربة، "فلصّ" شدقيه وسقاه.. ومرجه بزيت الزيتون على مدار ثلاثة أيام حتى فك عقدة بدنه، وفي اليوم الرابع تجمعت الخوفة في محاشمه.. مدده عارياً على ظهره، وظل يدعك بطنه، ويضغط ما بين الوركين حول ذكرة.. حتى تلوى ألماً وشهوة وانتصاباً..صرخ فيه:
- قم يا ابراهـيم
ونهض سليماً معافى، دار في حوش الدار، وأطلقت جدتي الزغرودة، ونذرت عدة كاملة للشيخ وباطية جريشة لأصحاب النصيب في مقام سيدي الحسين..
فأما الباطية فقد أوفتها في أول خميس، وأكل منها أبو صبحة ومجاذيبه وخلاّنه، وأما العدة فقد رفضها.. زوى ما بين حاجبيه، قلب عينيه في الفضاء.. اهتز وارتج كل بدنه، وأخذ ينهرها.
- روّحي يا فاطمة، بدك تشتريني وتبعديني عن الحبيب.. حي يا قيوم عودي يا فاطمة.. لا تتبعيني
وظل على حاله ينتفض كلما رآها حاملة البقجة تنتظر عند المقام، حتى صارت الهجرة وسكن المقبرة.
أسأل جدتي عن الحمارة :
- ظلت مخبوعة مطرحها، ولما طلع النهار سحبوها إلى البيت بدون الفردتين
ترد جدتي على السؤال الذي قفز إلى رأسي عن الفردتين..
- أصله جدك كان مروح من الكرم "بسحارة عنب وسحارة صبر" أخذوهن سكان المقبرة حلال عليهم
تبصق في عبها، وتحوط المكان بسم الله الرحمن الرحيم
- أصله بيقولوا ان الأموات إذا زعلوا من أفعال الأحياء يطلعوا عليهم في الليل، علشان يعتبروا، ما هو يا ولدي الأحياء أولاد الأموات، يحملوا همهم حتى بعد ما يموتوا..
جدتي ستبحث عنه في الموسم، وتعود به إلى البيت، تجبره على الاستحمام بالصابون والماء الساخن، وسترسل وراء الحلاق أبو صفوت النمنم يقص شعره الهائش، ويشذب لحيته السارحة إلى سرته، ستجبره على ارتداء عدته بالقوة، عسى أن يعود إلى أوردته وراياته وأعلامه ويجمع دراويشه الذين تفرقوا..
جدي يتدخل
- أبو صبحة ضيع عدته ودراويشه من يوم ما ضاع منه مقام سيدي الحسين وسيدي نور الظلام
ترد عليه بعناد إيمانها:
- كلها مقامات لأحباب الله في الدنيا الواسعة، عنده السيد هاشم والشيخ بشير وأبو الكاس.. في كل المقامات يقبل الدعاء..
وأنا مشبوح بين رغبة الذهاب إلى الموسم، والخوف لدرجة الموت من فلقة الأستاذ عوض الله ولسعات خيزرانته على قفاي وقصبات ساقيَّ، فهو لا يرحم من يغيب عن المدرسة، ولو أوشك على الغياب عن وجه الدنيا..لا يحترم صغيراً أو كبيراً.. وهو الذي زجر أمي عندما أتت إلى المدرسة تستأذن لغيابي يوم طهور (ختان) ابن خالتها في مخيم رفح ، ثار وأربد وأزبد، وخرج عليها بدرس في الأخلاق والمفهومية، وحملها مسؤولية إفسادي، وانهال على قفاي بخيزرانته الطويلة (أم علي)
- هذا ابنك وحبة عينك في الدار، لكن في المدرسة بدو يمشي على العجين ما يلخبطوش ، واذا مش عاجبك خذيه وخليه في حضنك، يا مدرسة.. يا دلع .. وقتيش بدكم تفهموا.. ضاعت البلاد، وبدكم تضيعوا الأولاد كمان
هربت من وجهه، وأبقتني في المدرسة، وفي الليل حاولت استنفار حمية أبي على الأستاذ عوض، فضحك حتى وقع على ظهره:
- بتستاهلي، ليش بتدخلي في شغل عوض الله.؟.
- والله قطع قلبي ع الولد، وهو نازل سف فيه من غير رحمة، ما هو لو عنده أولاد بيعرف غلاوة الضنا
وعلمت فيما بعد أن الأستاذ عوض الله عقيم، وله زوجتان جميلتان احداهما ابنة عمه التي زوجته وهي لا تدري أن القصور منه، والأخرى غريبة يرفض تطليقها ،لأن ابن عمها ينتظر طلاقها ليتزوجها..وتسربت الينا حكايات زوجتيه اللتين تقلبان حياته ناراً حمراء، ولا يجرؤ أن يلوح بالخيزرانة أو حتى التهويب عليهما من بعيد..
أمي تملأ جيوبي بالتمر والكعك، تطمئنني أن أحمد شمعة سوف ينتظرني عند بوابة المدرسة فور انتهاء اليوم الدارسي، ليعود بي إلى الموسم، زادت مصروفي إلى قرش كامل بدل التعريفة، تكفيراً عن قصورها وعجزها في مواجهة عوض الله، وأنا الخائف من الغياب بدون إذن تلاحقني لسعات (أم علي) على بدني.. أقنع نفسي بأن الموسم لا يبدأ إلا بحضور التلاميذ، فهم يحفظون الأناشيد والقرآن.
في الفصل نصعد الدرج إلى الطابق العلوي إلى الصف الثاني (أ) الذي أنشئ حديثاً، نتباهى نحن سكان الفصول الثلاثة الجديدة المعلقة العالية.. ننظر، وقد ارتمت المدرسة تحتنا، ينكشف فضاء الشجاعية بدوره وأزقته وساحاته، تختزل المقبرة الشرقية إلى صناديق مغبرة يغلفها ضباب المدى.. تخدعنا أبصارنا فتصبح بيوتاً صغيرة شفافة نتخيل سكانها يلعبون داخل صناديقهم.. فصلنا يدير ظهره لمحطة القطار وسبورتنا تجعلنا نيمم غرباً.. الحصة الثالثة، الخوف من النقر على الأصابع المشبوكة الممدودة أمامنا.. والشيخ الصوالحي يحفظنا الآيات الجديدة.. تردد معه، خيزرانته القصيرة تحط على أصابعنا كلما توانت حناجرنا.. نتنفس الصعداء عندما يكتب على السبورة معاني الكلمات الصعبة.. ننسخها في دفاتر الكلمات الصغيرة.. أزيز يصفر في الهواء في جميع الجهات.. بلاطات من قرميد السقف تطايرت، وضلفات الشبابيك تصطفق ،الشيخ الصوالحي يهبط على الأرض، تفاحة آدم في زوره تبرز مثل عقفة العكاز.. نرتفع ونبهط إلى الأرض، فجوة في الجدار الشرقي تفتح علينا بوابة الهلع والخوف والموت.. حول الشيخ ننطق بالشهادتين(أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله) الأستاذ صلاح اللبابيدي، يأخذ بيد الشيخ يهبط به بمحاذاة الجدار، ويعود يسربنا بحذر، ويسلمنا إلى الأستاذ عوض الله الذي يحملنا اثنين اثنين ويطير بنا إلى الصالة في مبنى الإدارة، كل المدرسة تجمعت في صالة الإدارة، المعلمون يستطلعون الأمر من الشبابيك المطلة على الشارع الممتد إلى الشجاعية والصاعد إلى المدينة..
جموع الناس تتدفق إلى المدرسة يحتمون من القصف، أمهات وآباء يحتضنون اولادهم .. أبحث عن أمي وأبي.. القصف يتوقف دقائق ليعود أشد ضراوة.. صراخ وعويل، سيارات الإسعاف، وسيارات عسكرية ومدنية وعربات وبغال، وحمير، وجثث آدمية ودم نازف.. وأخبار من الناس عن الناس، موتى وجرحى ومفقودين تحت ردم الأنقاض.. قذائف المورتر، ومذبحة المنطار ولحم تناثر بين القبور، وقبور بقرت وقذفت عظامها وبقاياها.. والشمس تودع العصر تزحف نحو الأصيل.. الموت يتربع في الصالة، والقذائف تئز متفرقة متقطعة، تغري بالخروج قبل زحف الليل.. والمدرسة بلا أجراس، خوف من الخروج إلى الشوارع، وأقصر الطرق إلى البيت هو اجتياز المقبرة.. وقبل أن أقطع الإسفلت صرخت على صابر.. لم يلتفت إليّ.. كان يحمل امرأة على كتفه باتجاه مستشفى الطوارئ.. جسمه مغسول بالدم، وبقع الدم تنز منه إلى الأرض، وأجرى ومحمد أبو العينين مذعورين نحتمي بسياج المقبرة، نتجمد عند الشيخ بشير، هدمت دار على سكانها.. الناس يبحثون عن الجثث، رجال تمددوا على الأرض ، وجثث غطيت بالبطاطين وقطع الحصي.. (هنية البردويل) صاحبة أمي بطنها مفتوح، وحبال من الدم تتكوم حولها.. عيناها العسليتان شاخصتان ورموشها الطويلة مثل ابر مشرعة، يطردنا الخوف إلى ساحة الشوا، أبي يحتضنني ومحمد يهبط بنا إلى البيارة، في البيارة الناس يفترشون الأرض يدوسون الكرنب والباذنجان والفلفل لا يحسبون حساباً للناطور، وثمة حفرة عميقة خلفتها قذيفة فجرت الأرض، الناس خرجوا إلى البيارة حتى يحددوا مواقع سقوط القنابل.. رجل يئن في السياج ساقه المبتورة أسفل الركبة ملفوفة بخرق مشبعة بدمه، رجل يرفعه من ابطيه، ويحمله على ظهر حمار، يمضي به إلى طلعة صلاح الدين باتجاه المستشفى المعمداني.. أمي هابطة من الدار تلطم خديها مهبولة، فقدت عقلها.. مهبولة ،فقدت عقلها ..
- أنا اللي ضيعته.. أنا اللي قتلته!
تقبلني في كل جسدي، تلثم يدي وأطراف أصابعي، تتفقدني، أبكي، وتبكي، أرتجف وترتجف، أضحك فتقهقه، تنتفض وتصدر أنيناً مثل قطة تموت..تتمرغ بين الزرع، تنشب أظافرها في الأرض المروية، رغوة زبد تفور من فمها، وعيناها معلقتان في السماء، انزاح البؤبؤ تحت الجفن واحتل الحدقة بياض مجهداً بشعيرات دموية حمراء نافرة..أكــثر من صوت وأكثر من عويل
- إلحقوا الولية ضاعت.
في الدار غسلوا وجهها بالماء، دعكوه بالكالونيا، دقوا فحول البصل وحشوها في منخريها ..
رفرفرت، زامت، ثم صهلت.. وأجهشت بالبكاء، وعندما أفاقت انتظمت دقات صدرها سحبتني إلى حضنها.وأخذت تحدث :
- يا ويلي على اللي جرالك يا هنية، لميّت مصارينها بإيديّ هذول ، تقولش حبال منقوشة ومنسولة ومغمسة بالدم..بطنها، رميت منديلي عليها ومشيت، الناس ردوني من الطريق، قالوا المقبرة نار الله الموقدة.. والمدرسة الهاشمية وقعت على الأولاد، رجعت مثل المجنونة لفيت من الشجاعية، لقيت المدرسة على حالها والأولاد مروحين، الدنيا قايمة قيامتها والناس مش عارفة وين تروح، اللي حامل مصاب، واللي شايل على ظهره ميت ومش عارف ايش يعمل فيه، دورت على الولد ، سألت الناس عنه زعقت.. رجعت مثل المجنونة .
أمي تقذف الكلام سريعاً غريباً، تأكل بعضه وتقذف بعضه الآخر، لا أحد فينا يجرؤ على السؤال، يحط علينا سؤال عقلها الذي ذهب هل يعود إلى رأسها ؟..هل ما تقوله حقيقة؟ .
جدتي فاطمة أنضجت جمرات المبخرة، عبأتها بتراب البخور، حتى فاحت رائحته، دارت به توزع دخاناً عبقاً ، وتوقفت بالحجرة لحظات فوق رأس أمي، تتمتم بما تحفظ من القرآن، ثم تنتقل إلى زوايا الحجرة، تبخر الجدران والفراش والوسائد والملابس.. الدخان يمتص الكلام، ويوزع الصمت في المكان.. يخفت صوت أمي رويداً رويداً.. يهدأ جسدها ينقلونها إلى الفراش، فتستجيب، يضعون تحت رأسها الوسادة فتبتسم بامتنان.. تذهب في نوم هادئ .وصوت جدتي خفيف لا يكاد يسمع.
- الحمد لله هِدْيَتْ.. سيبوها تنام
وفي الليوان الغربي تجمعنا، حول حكايات الموسم، والقصف والموت، جدتي تحدث، بحثت عن أبي صبحة في المقبرة الشرقية وتلة المنطار دون جدوى، حتى وجدته غافياً في ظل قبر أبيض طرف المقبرة تظلله شجرة زنزلخت، يستظل بظلها مع صاحب القبر ومقرئ كفيف توقف عن قراءة القرآن، انتظرته حتى صحا.. وقعت عينه عليها، فاهتز بدنه وهاج.
- لاحقاني عند أهل الآخرة ؟.. ارجعي يا فاطمة
نفض التراب عن هلاهيله، وقام، سدت عليه السبل ، مدت له يدها، فتسمر ملجوماً، سحبته من كمه كي لا ينقض وضوءها، تبعها مثل طفل مطيع، وخرجت به إلى الطريق.. رنت دقات عصاه على الإسفلت فاطمأنت، اخترقا جموع الناس، توقفت معه حيثما توقف، ونظرت إلى حيث ينظ ، عند بياع السوس توقف فأعطته كوباً مثلجاً، شربه بارتياح، أشارت عليه بكوب آخر، أشاح بيده علامة الارتواء.. ما إن ابتعدا عن بائع السوس خطوات حتى زغردت الشياطين في السماء، طارد الموت هواء الدنيا، وحط على الأرض والناس، أخذها تحت إبطه ولوح بعصاه حولهما.. يدور فتدور معه..وعصاه تدور في جميع الاتجاهات يصرخ:
- غوري بعيداً عنا
يشدها إلى صدره.. تدفن رأسها عند قلبه وتهدأ..
- ما تخافيش يا غالية
يقاتل بعصاه، وكأنه في طوشة أو فزعة، يضرب بقسوة فتسقط القنابل بعيداً، ويتساقط الناس، تؤمن أنه قادر على طرد الموت عنها، يأمر القنابل، تخافه القنابل فتتساقط بعيداً عنه وعنها، وظل على بأسه وصلابته حتى توقف القصف.. كان يلهث، ينـزف العرق من وجهه وكفيه يبلل أطراف لحيته ومقبض عصاه.. خبأها تحت إبطه وسارا سوياً باتجاه البيت، وفي ساحة الشوا توقف، شخص باتجاه الشيخ بشير، تركها واندفع مع الناس.. صرخت:
- وين رايــح؟
- شامم ريحة موت هناك, عودي يا فاطمة، نذرك مقبول
ارتج وتلجلج صوته واجهشت جدتي.. كيف عرف أبو صبحة أن الموت في دار البردويل، واستعاذت بالله العلي القدير من كل شيطان رجيم ..وتمتمت:
- الحمد لله اللي قبل النذر
جدي يتابع دخان غليونه، ولا يعلق، تسترضيه، لأنها خرجت إلى الموسم على غير رغبته.
- الحمد لله اللي ما ضيع لي تعب.. ما هو كله علشانك يا حاج.
- السلامة غنيمة يا أم محمود ..والمقدر مكتوب
وحط صابر بيننا مغسل، وقد جف الدم على وجهه ويديه ما زال ندياً يبلل ثيابه.. كل شيء فيه أحمر..صامت ممصوص سرعان ما تكوم على بلاط البراندة قدام الليوان.. ذراعه مهدول على جانبيه والدم الجاف مقشر عن وشم الفارس والفرس، والجديلة السارحة.. جدي الذي قام إليه يتحسس جسمه:
- سليم اتركوه.. يفيق ونشوف وين كان داشر
وصحا في الصباح، تحدث عن ياسمين التي طارت مع القذيفة، وطار هو في الهواء ينادي عليها، هبطت تشخب دماً من كل بدنها، حملها على كتفه، وانطلق بها إلى المستشفى المعمداني، وتمدد بجوارها على أقرب سرير .
- خذوا دمي كله لها
سحبوا منه ثلاث زجاجات دم، فأغمى عليه، قام دائخاً تدور الدنيا به.. كل شيء يدور، وكل شيء يرقص، وياسمين ترقص يطير شعرها في الهواء، تطبع على خده قبلة، تهرب بعيداً عنه ، تشير مودعة تشعلل قلبه وصدره، لكنه يدور ،والدنيا تدور، والطبيب الأبيض يدور. والناس والعويل والصراخ..شرب كوب العصير.. توقفت الدنيا عن الدوران طارت ياسمين، صرخ عليها.. فأخبروه أنها وصلت إلى المستشفى ميتة، وأن دمه وزع على مصابين محتاجين، وأن رهطاً من النوّر أخذوا القتيلة إلى المقبرة، وأن "روجينا" النورية قبلته بين عينيه، وقشرت الدم الناشف عن وشم ذراعه حتى ظهر طرف جديلة الصبية، شهقت وملأت الدنيا صراخاً وعويلاً.. أجهش صابــر:
- لما رسمت ياسمين بالوشم على ذراعي هاج أبوها القهقير فأخرسته روجينا
- بس تطوله وتتمدد بطوله.. سبع ابن سبع والا نسيت أبوه عوض المجدلاوي سبع وادي النمل؟
هدهدته جدتي على صدرها تبارك عشقه:
- عليك العوض يا أبو عوض.. الحمد لله ان راسك سالم .
لم نعد إلى فصلنا في المدرسة، فقد صدعت القذيفة جداره الشرقي، وطيرت قرميد السقف، وكسرت بعض البنوك، وزعونا على الفصول (ب ، ج ) وجلسنا كل ثلاثة تلاميذ على بنك، في الساحة لم نصطف في طابور خاص بنا، ولم يعد عريفنا يتقدمنا ويسجل أسماء الغائبين على جانب السبورة، وأسماء المشاغبين في ورقة سرية يسلمها لأستاذ الحصة.. أصبحنا لاجئين إلى الفصول المضيفة، لماذا تغيرت العادات ؟ حتى الأستاذ عوض الله لم يعد يحمل عصاه (أم علي ) ليطارد المشاغبين، والمتأخرين، والأستاذ صلاح اللبابيدي ترك زي الكشافة والشارات الملونة، فاكتشفناه من جديد ربعة يميل إلى القصر.. هل تنازل عن قيادة المدرسة ..؟ هل عزل عن القيادة؟
بعد يومين من عودتنا عرفنا سبب غياب جلال الجماصي، وتناقلنا قصة أبيه العربجي الذي اندفع بكارته لاسعاف بنت فلفل التي أصيبت في حارة سوباط المفتى، وشطبت الشظية ساقها..
اجتاز بها الساحة إلى المستشفى، لكن ريحاً مجنونة شلعت رأسه، توقف القصف، ونقل إلى المستشفى جثة بلا رأس، أودعوه في غرفة عزرائيل ،حتى عثروا على جمجمتة ملقاه في بلكونة القهوة المعلقة في الساحة ..
قلقت على صديقي عودة.. انقطعت أخباره، تغيب عن المدرسة يوم الموسم حسدته يومها على جرأته، وفي يوم وقفت امرأة طويلة بيضاء بباب الفصل.. وكان الأستاذ عوض الله يفتش عن واجب الحساب، ويراجع معنا حلولنا الصحيحة والخاطئة.. حمحم الطلاب في الصفوف الأمامية، بادرته المرأة قبل أن يسألها:
- غريب العسقلاني عندك في الصف؟
وقفت وجلاً.. امرأة مثل الحليب، طويلة ممصوصة تأخذني إلى صدرها..تنهنه.. أرتعد خوفاً وسط ذهول التلاميذ من حولي:
- ابن مين انت يا حبيبي؟
- ابن العبد العسقلاني
- أمك آمنة يا حبيبي؟
أومأت برأسي، صوتي لا يخرج من فمي.. خائف منها، وخجل من ذكر اسم أمي أمام التلاميذ .. سري ينكشف..سيطاردوني ..يا ابن آمنة العسقلاني . .تنتشلني من خوفي وخجلي، ترفعني إلى صدرها، أحس بدقات قلبها .
- عودة صاحبك مشتاق لك..عودة بيسأل عنك، وعن أصحابه عودة مش قادر ييجي للمدرسة..
وفي اليوم التالي، خرجنا من الفصول المضيفة، في الساحة انتظمنا في طابور يتقدمنا عريف الفصل، والأستاذ عوض الله، والأستاذ صلاح اللبابيدي وقد عاد إلى بدلة الكشافة، واعتمر البيريه العسكري، وطرز صدره وأكمامه بالنياشين والشارات..
اخترقنا شارع عمر المختار.. وكنا صامتين، قاماتنا مشدودة ووجوهنا حزينة متجهمة.. من الساحة انعطفنا يساراً إلى المستشفى المعمداني نزور عودة خليل عودة الذي فقد ساقيه في المقبرة الشرقية ، فيما هو يحمل الراية ويتقدم مشايخ سيدي أبو الكاس.. عودة كبشة لحم وعظم اختزلت في وسط السرير الأبيض وقد فارقه نصفه الأسفل.. يوزع علينا ابتساماته، والسؤال يدق في رأسي لدرجة الإغماء.. صرخت دون أن يسمعني أحد، من سيتقدمنا في درب العودة يا عودة ؟؟.. ووقعت مغشياً عليّ
















رواية جفاف الحلق – 15 -
- 15 -

نيسان يُبشر بقيظ الصيف، يهيئ لموسم خميس المنطار، المقبرة الشرقية بين حارة التركمان وحارة الجديدة مسرح الموسم الذي يمتد إلى تلة المنطار.. غزة تقذف ناسها، رجالاً ونساءً وصبايا وشباباً وأطفالاً وشيوخاً.. غواية المواسم تتبدى على وجوه الصبايا، حمرة الأشواق والاجتراء على الأصباغ، والكحل حول عيون النساء.. الشباب يتمنطقون بالسيور الجلدية العريضة مزينة بجرابات الشباري والسيوف القصيرة والطويلة، عصى اللوز المعقدة المشذية واللامعة بألوانها المغندرة الجذابة، قصبات الخيزران معقوفة في قبضات القبضايات، وشيوخ الشباب.. خيول غُسلت في البحر قبل أن تولد الشمس، تنضح عرقها عافية في السباق، شيوخ ومجاذيب، وأصحاب طرق وكرامات، يلعبون بالسنج على دقات الطبول، يتمايلون مع ريح الحي القيوم، يغرزون السنج في لحم بطونهم، لا يسيل منها دم، ولم يند عنهم صراخ ألم أو قتل، عدة سيدي أبو الكاس، وموكب الشيخ بشير، ودراويش السيد هاشم، وأعلام المسجد العمري الكبير، صوفية الزوايا، بصارون ونصابون، وحرامية أيديهم خفيفة.. باعة الخروب والسوس بقدورهم النحاسية ملفوفة بأحزمة ملونة لها شراشيب، صاجاتهم تلعب في أكفهم، تصدر رناتها في ايقاع معروف، يلقمون فوهات قدورهم بألواح الثلج السائحة تستدرج أنفاس الصدور ولهفة الزوجات الشابات والمخطوبات والعرسان لحالة فرح مختلسة من رقابة الأهل، ومحظور العادات، فائزة برغبات حلال مسروقة.. تلهث الصدور أمام باعة يعرضون ما تشتهي الأنفس، وما يبل الريق حلاوة وطراوة ..
في دارنا يفرض الموسم طقوسه عاماً بعد عام في زمن الهجرة.. يستدعي أيام وادي النمل، وموسم سيدي الحسين، يعرج على شقاوات وصبابات روبين يافا، وموسم النبي صالح في الرملة.. أنهت القاعة أعمالها بعد الضحى، طوى العمال ما نفلوه عن مطاوي الأنوال من أقمشة، حاسب جدي العمال كل على مقطوعياته، مضافاً إليها عيدية الموسم، استبدلت عيدية سيدي الحسين بعيدية خميس المنطار في الهجرة، فرضها جدي نظاماً على القاعة، والتزم بها أبي وخالي، مع العيدين وحسبة عاشوراء فالأقربون أولى بالمعروف، ومن أقرب من عمال قاعتنا وكلهم إما نسيب أو قريب أو ابن بلد.. النساء في الدار الفوقا لم يقعدن خلف دواليبهن، حضرن ما يكفي من مواسير اللحمة في اليوم الفائت، وحضرن الكعك والتمر، وطبخن السماقية الغزاوية الشهية الطارئة على مطبخنا المجدلاوي... واعتمدنها كما هو الحال في الحارة، وجبة أثيرة في المآتم والأفراح والأعياد، وأيام شطحات الخسة في بيارة أبو راس، ونزهات المقصبة في بركة قمر، حسنة لم تعد مبكرة إلى المخيم كعادتها كل خميس، منذ أن خطبت لتتفرغ لشؤون بيتها وتحضير ما يلزم لزيارة خطيبها، زريفة ولطيفة في غرفة الخياطة، يتحنجلن متباهيات بفساتينهن الجديدة, حسنة الطويلة البيضاء بالفستان الوردي المشجر وشعرها السارح على كتفيها.. أثارت هياجاً في الدار، تحول إلى زيطة ونقر على طشت الغسيل، النساء يتحسسن الفستان المشدود على صدرها وبطنها، يرفعن ذيله، يكشفن عن ساقيها وفخذيها.. ينشرن لحمها تهبط على الأرض، تلملم نفسها، وتداري خجلاً مصطنعاً، يصعد حمرة شفافة على خديها.. ينتظم النقر على صاج الطشت:
غندرة مشي العرايس غندرة
واللي يحب الزين يمشي غندرة
جدتي نفيسة تلعن فجور النساء وتؤنب حسنة:
- يعني هذا المحزق الملزق بلحمك أحسن من الثوب يا خايبة.. وايش خليتي للراجل .. صحيح المرة بدها ذكر يشكمها ..
جدتي فاطمة فرحانة لفرح حسنة، تحضنها وتقبلها، تسحبها للرقص تستجيب حسنة على استحياء، ثم سرعان ما تسحب معها زريفة ولطيفة جدتي، لم تكبح جماح زغرودتها.. تغرق في الضحك حتى تشرق ترد عليها كنتها بزغرودة وتغني
يا زريف الطول ع البسطة يبيع
بانت غرتها والحاجب رفيــع
وأنا يا حلوة في حـبك وقيـع
حطيني في صديرك بدل المحرمـا
جدتي تبصق في عبها، تخاف الحسد والعيون التي تفلق الحجر..
- ياما تحت السواهي دواهي، من حقه أحمد شمعة يطق عقله
وسحبتها من الحلقة، وأمسكت الطبل، وفرقت الهيصة قبل أن يصعد الدم إلى رأس جدي في الدار التحتا، لا سيما وأنه وافق على ذهابها إلى الموسم على مضض.. زعقت على زريفة ولطيفة حتى يسمع جدي:
- ما صدقتن تسمعن الطبل ..بدكن عرس ترقصن فيه، الله لا يكبركن.
وراحت تستحث الجميع للإنطلاق إلى الموسم قبل أن ترتفع الشمس، وتسيح كحل العيون وأصباغ الوجوه، فقد قررت هذا الموسم وعلى غير عادتها أن تذهب تاركة جدي يلعب الدريس والسيجة مع أبي حسنة، ولم تلتفت لبرطمات جدتي نفيسة التي تعتبر خروج النساء والبنات إلى الموسم ضلالاً وكفراً وفراغ عين ورخاوة رجال..
في الصباح وعلى مائدة الإفطار كان جدي يحاول عبثاً مع جدتي:
- اهدأي يا مرة.. المواسم بدها مروة شباب
- هو أنا رايحة أتغندر.. بدي أجيبه وأريح حالي من نذره قبل ما أموت.. ماهو كله علشانك يا ابن الحلال..
أبو صبحة على يديه شفى جدي، بعد حادث القتيل الذي خرج له من المقبرة الغربية، وقف أمام الحمارة، وبخ في وجهها فتسمر، وصرخ عليه في العتمة:
- انزل يا ابراهـيم
طار عن ظهر الدابة المخبوعة، وأطلق ساقيه للريح والعتمة، والقتيل خلفه يرجمه بالحصى حتى وجد نفسه في منـزول صالحة في أول حارة رومية.. حملوه إلى الدار مهدوداً، لا يصد ولا يرد.. وفي الليل قبل الفجر دق أبو صبحة الباب ، وحوطه بالمحصنات وأودع حجابه أسفل رأسه، ورش المكان بماء طاسة الطربة، "فلصّ" شدقيه وسقاه.. ومرجه بزيت الزيتون على مدار ثلاثة أيام حتى فك عقدة بدنه، وفي اليوم الرابع تجمعت الخوفة في محاشمه.. مدده عارياً على ظهره، وظل يدعك بطنه، ويضغط ما بين الوركين حول ذكرة.. حتى تلوى ألماً وشهوة وانتصاباً..صرخ فيه:
- قم يا ابراهـيم
ونهض سليماً معافى، دار في حوش الدار، وأطلقت جدتي الزغرودة، ونذرت عدة كاملة للشيخ وباطية جريشة لأصحاب النصيب في مقام سيدي الحسين..
فأما الباطية فقد أوفتها في أول خميس، وأكل منها أبو صبحة ومجاذيبه وخلاّنه، وأما العدة فقد رفضها.. زوى ما بين حاجبيه، قلب عينيه في الفضاء.. اهتز وارتج كل بدنه، وأخذ ينهرها.
- روّحي يا فاطمة، بدك تشتريني وتبعديني عن الحبيب.. حي يا قيوم عودي يا فاطمة.. لا تتبعيني
وظل على حاله ينتفض كلما رآها حاملة البقجة تنتظر عند المقام، حتى صارت الهجرة وسكن المقبرة.
أسأل جدتي عن الحمارة :
- ظلت مخبوعة مطرحها، ولما طلع النهار سحبوها إلى البيت بدون الفردتين
ترد جدتي على السؤال الذي قفز إلى رأسي عن الفردتين..
- أصله جدك كان مروح من الكرم "بسحارة عنب وسحارة صبر" أخذوهن سكان المقبرة حلال عليهم
تبصق في عبها، وتحوط المكان بسم الله الرحمن الرحيم
- أصله بيقولوا ان الأموات إذا زعلوا من أفعال الأحياء يطلعوا عليهم في الليل، علشان يعتبروا، ما هو يا ولدي الأحياء أولاد الأموات، يحملوا همهم حتى بعد ما يموتوا..
جدتي ستبحث عنه في الموسم، وتعود به إلى البيت، تجبره على الاستحمام بالصابون والماء الساخن، وسترسل وراء الحلاق أبو صفوت النمنم يقص شعره الهائش، ويشذب لحيته السارحة إلى سرته، ستجبره على ارتداء عدته بالقوة، عسى أن يعود إلى أوردته وراياته وأعلامه ويجمع دراويشه الذين تفرقوا..
جدي يتدخل
- أبو صبحة ضيع عدته ودراويشه من يوم ما ضاع منه مقام سيدي الحسين وسيدي نور الظلام
ترد عليه بعناد إيمانها:
- كلها مقامات لأحباب الله في الدنيا الواسعة، عنده السيد هاشم والشيخ بشير وأبو الكاس.. في كل المقامات يقبل الدعاء..
وأنا مشبوح بين رغبة الذهاب إلى الموسم، والخوف لدرجة الموت من فلقة الأستاذ عوض الله ولسعات خيزرانته على قفاي وقصبات ساقيَّ، فهو لا يرحم من يغيب عن المدرسة، ولو أوشك على الغياب عن وجه الدنيا..لا يحترم صغيراً أو كبيراً.. وهو الذي زجر أمي عندما أتت إلى المدرسة تستأذن لغيابي يوم طهور (ختان) ابن خالتها في مخيم رفح ، ثار وأربد وأزبد، وخرج عليها بدرس في الأخلاق والمفهومية، وحملها مسؤولية إفسادي، وانهال على قفاي بخيزرانته الطويلة (أم علي)
- هذا ابنك وحبة عينك في الدار، لكن في المدرسة بدو يمشي على العجين ما يلخبطوش ، واذا مش عاجبك خذيه وخليه في حضنك، يا مدرسة.. يا دلع .. وقتيش بدكم تفهموا.. ضاعت البلاد، وبدكم تضيعوا الأولاد كمان
هربت من وجهه، وأبقتني في المدرسة، وفي الليل حاولت استنفار حمية أبي على الأستاذ عوض، فضحك حتى وقع على ظهره:
- بتستاهلي، ليش بتدخلي في شغل عوض الله.؟.
- والله قطع قلبي ع الولد، وهو نازل سف فيه من غير رحمة، ما هو لو عنده أولاد بيعرف غلاوة الضنا
وعلمت فيما بعد أن الأستاذ عوض الله عقيم، وله زوجتان جميلتان احداهما ابنة عمه التي زوجته وهي لا تدري أن القصور منه، والأخرى غريبة يرفض تطليقها ،لأن ابن عمها ينتظر طلاقها ليتزوجها..وتسربت الينا حكايات زوجتيه اللتين تقلبان حياته ناراً حمراء، ولا يجرؤ أن يلوح بالخيزرانة أو حتى التهويب عليهما من بعيد..
أمي تملأ جيوبي بالتمر والكعك، تطمئنني أن أحمد شمعة سوف ينتظرني عند بوابة المدرسة فور انتهاء اليوم الدارسي، ليعود بي إلى الموسم، زادت مصروفي إلى قرش كامل بدل التعريفة، تكفيراً عن قصورها وعجزها في مواجهة عوض الله، وأنا الخائف من الغياب بدون إذن تلاحقني لسعات (أم علي) على بدني.. أقنع نفسي بأن الموسم لا يبدأ إلا بحضور التلاميذ، فهم يحفظون الأناشيد والقرآن.
في الفصل نصعد الدرج إلى الطابق العلوي إلى الصف الثاني (أ) الذي أنشئ حديثاً، نتباهى نحن سكان الفصول الثلاثة الجديدة المعلقة العالية.. ننظر، وقد ارتمت المدرسة تحتنا، ينكشف فضاء الشجاعية بدوره وأزقته وساحاته، تختزل المقبرة الشرقية إلى صناديق مغبرة يغلفها ضباب المدى.. تخدعنا أبصارنا فتصبح بيوتاً صغيرة شفافة نتخيل سكانها يلعبون داخل صناديقهم.. فصلنا يدير ظهره لمحطة القطار وسبورتنا تجعلنا نيمم غرباً.. الحصة الثالثة، الخوف من النقر على الأصابع المشبوكة الممدودة أمامنا.. والشيخ الصوالحي يحفظنا الآيات الجديدة.. تردد معه، خيزرانته القصيرة تحط على أصابعنا كلما توانت حناجرنا.. نتنفس الصعداء عندما يكتب على السبورة معاني الكلمات الصعبة.. ننسخها في دفاتر الكلمات الصغيرة.. أزيز يصفر في الهواء في جميع الجهات.. بلاطات من قرميد السقف تطايرت، وضلفات الشبابيك تصطفق ،الشيخ الصوالحي يهبط على الأرض، تفاحة آدم في زوره تبرز مثل عقفة العكاز.. نرتفع ونبهط إلى الأرض، فجوة في الجدار الشرقي تفتح علينا بوابة الهلع والخوف والموت.. حول الشيخ ننطق بالشهادتين(أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله) الأستاذ صلاح اللبابيدي، يأخذ بيد الشيخ يهبط به بمحاذاة الجدار، ويعود يسربنا بحذر، ويسلمنا إلى الأستاذ عوض الله الذي يحملنا اثنين اثنين ويطير بنا إلى الصالة في مبنى الإدارة، كل المدرسة تجمعت في صالة الإدارة، المعلمون يستطلعون الأمر من الشبابيك المطلة على الشارع الممتد إلى الشجاعية والصاعد إلى المدينة..
جموع الناس تتدفق إلى المدرسة يحتمون من القصف، أمهات وآباء يحتضنون اولادهم .. أبحث عن أمي وأبي.. القصف يتوقف دقائق ليعود أشد ضراوة.. صراخ وعويل، سيارات الإسعاف، وسيارات عسكرية ومدنية وعربات وبغال، وحمير، وجثث آدمية ودم نازف.. وأخبار من الناس عن الناس، موتى وجرحى ومفقودين تحت ردم الأنقاض.. قذائف المورتر، ومذبحة المنطار ولحم تناثر بين القبور، وقبور بقرت وقذفت عظامها وبقاياها.. والشمس تودع العصر تزحف نحو الأصيل.. الموت يتربع في الصالة، والقذائف تئز متفرقة متقطعة، تغري بالخروج قبل زحف الليل.. والمدرسة بلا أجراس، خوف من الخروج إلى الشوارع، وأقصر الطرق إلى البيت هو اجتياز المقبرة.. وقبل أن أقطع الإسفلت صرخت على صابر.. لم يلتفت إليّ.. كان يحمل امرأة على كتفه باتجاه مستشفى الطوارئ.. جسمه مغسول بالدم، وبقع الدم تنز منه إلى الأرض، وأجرى ومحمد أبو العينين مذعورين نحتمي بسياج المقبرة، نتجمد عند الشيخ بشير، هدمت دار على سكانها.. الناس يبحثون عن الجثث، رجال تمددوا على الأرض ، وجثث غطيت بالبطاطين وقطع الحصي.. (هنية البردويل) صاحبة أمي بطنها مفتوح، وحبال من الدم تتكوم حولها.. عيناها العسليتان شاخصتان ورموشها الطويلة مثل ابر مشرعة، يطردنا الخوف إلى ساحة الشوا، أبي يحتضنني ومحمد يهبط بنا إلى البيارة، في البيارة الناس يفترشون الأرض يدوسون الكرنب والباذنجان والفلفل لا يحسبون حساباً للناطور، وثمة حفرة عميقة خلفتها قذيفة فجرت الأرض، الناس خرجوا إلى البيارة حتى يحددوا مواقع سقوط القنابل.. رجل يئن في السياج ساقه المبتورة أسفل الركبة ملفوفة بخرق مشبعة بدمه، رجل يرفعه من ابطيه، ويحمله على ظهر حمار، يمضي به إلى طلعة صلاح الدين باتجاه المستشفى المعمداني.. أمي هابطة من الدار تلطم خديها مهبولة، فقدت عقلها.. مهبولة ،فقدت عقلها ..
- أنا اللي ضيعته.. أنا اللي قتلته!
تقبلني في كل جسدي، تلثم يدي وأطراف أصابعي، تتفقدني، أبكي، وتبكي، أرتجف وترتجف، أضحك فتقهقه، تنتفض وتصدر أنيناً مثل قطة تموت..تتمرغ بين الزرع، تنشب أظافرها في الأرض المروية، رغوة زبد تفور من فمها، وعيناها معلقتان في السماء، انزاح البؤبؤ تحت الجفن واحتل الحدقة بياض مجهداً بشعيرات دموية حمراء نافرة..أكــثر من صوت وأكثر من عويل
- إلحقوا الولية ضاعت.
في الدار غسلوا وجهها بالماء، دعكوه بالكالونيا، دقوا فحول البصل وحشوها في منخريها ..
رفرفرت، زامت، ثم صهلت.. وأجهشت بالبكاء، وعندما أفاقت انتظمت دقات صدرها سحبتني إلى حضنها.وأخذت تحدث :
- يا ويلي على اللي جرالك يا هنية، لميّت مصارينها بإيديّ هذول ، تقولش حبال منقوشة ومنسولة ومغمسة بالدم..بطنها، رميت منديلي عليها ومشيت، الناس ردوني من الطريق، قالوا المقبرة نار الله الموقدة.. والمدرسة الهاشمية وقعت على الأولاد، رجعت مثل المجنونة لفيت من الشجاعية، لقيت المدرسة على حالها والأولاد مروحين، الدنيا قايمة قيامتها والناس مش عارفة وين تروح، اللي حامل مصاب، واللي شايل على ظهره ميت ومش عارف ايش يعمل فيه، دورت على الولد ، سألت الناس عنه زعقت.. رجعت مثل المجنونة .
أمي تقذف الكلام سريعاً غريباً، تأكل بعضه وتقذف بعضه الآخر، لا أحد فينا يجرؤ على السؤال، يحط علينا سؤال عقلها الذي ذهب هل يعود إلى رأسها ؟..هل ما تقوله حقيقة؟ .
جدتي فاطمة أنضجت جمرات المبخرة، عبأتها بتراب البخور، حتى فاحت رائحته، دارت به توزع دخاناً عبقاً ، وتوقفت بالحجرة لحظات فوق رأس أمي، تتمتم بما تحفظ من القرآن، ثم تنتقل إلى زوايا الحجرة، تبخر الجدران والفراش والوسائد والملابس.. الدخان يمتص الكلام، ويوزع الصمت في المكان.. يخفت صوت أمي رويداً رويداً.. يهدأ جسدها ينقلونها إلى الفراش، فتستجيب، يضعون تحت رأسها الوسادة فتبتسم بامتنان.. تذهب في نوم هادئ .وصوت جدتي خفيف لا يكاد يسمع.
- الحمد لله هِدْيَتْ.. سيبوها تنام
وفي الليوان الغربي تجمعنا، حول حكايات الموسم، والقصف والموت، جدتي تحدث، بحثت عن أبي صبحة في المقبرة الشرقية وتلة المنطار دون جدوى، حتى وجدته غافياً في ظل قبر أبيض طرف المقبرة تظلله شجرة زنزلخت، يستظل بظلها مع صاحب القبر ومقرئ كفيف توقف عن قراءة القرآن، انتظرته حتى صحا.. وقعت عينه عليها، فاهتز بدنه وهاج.
- لاحقاني عند أهل الآخرة ؟.. ارجعي يا فاطمة
نفض التراب عن هلاهيله، وقام، سدت عليه السبل ، مدت له يدها، فتسمر ملجوماً، سحبته من كمه كي لا ينقض وضوءها، تبعها مثل طفل مطيع، وخرجت به إلى الطريق.. رنت دقات عصاه على الإسفلت فاطمأنت، اخترقا جموع الناس، توقفت معه حيثما توقف، ونظرت إلى حيث ينظ ، عند بياع السوس توقف فأعطته كوباً مثلجاً، شربه بارتياح، أشارت عليه بكوب آخر، أشاح بيده علامة الارتواء.. ما إن ابتعدا عن بائع السوس خطوات حتى زغردت الشياطين في السماء، طارد الموت هواء الدنيا، وحط على الأرض والناس، أخذها تحت إبطه ولوح بعصاه حولهما.. يدور فتدور معه..وعصاه تدور في جميع الاتجاهات يصرخ:
- غوري بعيداً عنا
يشدها إلى صدره.. تدفن رأسها عند قلبه وتهدأ..
- ما تخافيش يا غالية
يقاتل بعصاه، وكأنه في طوشة أو فزعة، يضرب بقسوة فتسقط القنابل بعيداً، ويتساقط الناس، تؤمن أنه قادر على طرد الموت عنها، يأمر القنابل، تخافه القنابل فتتساقط بعيداً عنه وعنها، وظل على بأسه وصلابته حتى توقف القصف.. كان يلهث، ينـزف العرق من وجهه وكفيه يبلل أطراف لحيته ومقبض عصاه.. خبأها تحت إبطه وسارا سوياً باتجاه البيت، وفي ساحة الشوا توقف، شخص باتجاه الشيخ بشير، تركها واندفع مع الناس.. صرخت:
- وين رايــح؟
- شامم ريحة موت هناك, عودي يا فاطمة، نذرك مقبول
ارتج وتلجلج صوته واجهشت جدتي.. كيف عرف أبو صبحة أن الموت في دار البردويل، واستعاذت بالله العلي القدير من كل شيطان رجيم ..وتمتمت:
- الحمد لله اللي قبل النذر
جدي يتابع دخان غليونه، ولا يعلق، تسترضيه، لأنها خرجت إلى الموسم على غير رغبته.
- الحمد لله اللي ما ضيع لي تعب.. ما هو كله علشانك يا حاج.
- السلامة غنيمة يا أم محمود ..والمقدر مكتوب
وحط صابر بيننا مغسل، وقد جف الدم على وجهه ويديه ما زال ندياً يبلل ثيابه.. كل شيء فيه أحمر..صامت ممصوص سرعان ما تكوم على بلاط البراندة قدام الليوان.. ذراعه مهدول على جانبيه والدم الجاف مقشر عن وشم الفارس والفرس، والجديلة السارحة.. جدي الذي قام إليه يتحسس جسمه:
- سليم اتركوه.. يفيق ونشوف وين كان داشر
وصحا في الصباح، تحدث عن ياسمين التي طارت مع القذيفة، وطار هو في الهواء ينادي عليها، هبطت تشخب دماً من كل بدنها، حملها على كتفه، وانطلق بها إلى المستشفى المعمداني، وتمدد بجوارها على أقرب سرير .
- خذوا دمي كله لها
سحبوا منه ثلاث زجاجات دم، فأغمى عليه، قام دائخاً تدور الدنيا به.. كل شيء يدور، وكل شيء يرقص، وياسمين ترقص يطير شعرها في الهواء، تطبع على خده قبلة، تهرب بعيداً عنه ، تشير مودعة تشعلل قلبه وصدره، لكنه يدور ،والدنيا تدور، والطبيب الأبيض يدور. والناس والعويل والصراخ..شرب كوب العصير.. توقفت الدنيا عن الدوران طارت ياسمين، صرخ عليها.. فأخبروه أنها وصلت إلى المستشفى ميتة، وأن دمه وزع على مصابين محتاجين، وأن رهطاً من النوّر أخذوا القتيلة إلى المقبرة، وأن "روجينا" النورية قبلته بين عينيه، وقشرت الدم الناشف عن وشم ذراعه حتى ظهر طرف جديلة الصبية، شهقت وملأت الدنيا صراخاً وعويلاً.. أجهش صابــر:
- لما رسمت ياسمين بالوشم على ذراعي هاج أبوها القهقير فأخرسته روجينا
- بس تطوله وتتمدد بطوله.. سبع ابن سبع والا نسيت أبوه عوض المجدلاوي سبع وادي النمل؟
هدهدته جدتي على صدرها تبارك عشقه:
- عليك العوض يا أبو عوض.. الحمد لله ان راسك سالم .
لم نعد إلى فصلنا في المدرسة، فقد صدعت القذيفة جداره الشرقي، وطيرت قرميد السقف، وكسرت بعض البنوك، وزعونا على الفصول (ب ، ج ) وجلسنا كل ثلاثة تلاميذ على بنك، في الساحة لم نصطف في طابور خاص بنا، ولم يعد عريفنا يتقدمنا ويسجل أسماء الغائبين على جانب السبورة، وأسماء المشاغبين في ورقة سرية يسلمها لأستاذ الحصة.. أصبحنا لاجئين إلى الفصول المضيفة، لماذا تغيرت العادات ؟ حتى الأستاذ عوض الله لم يعد يحمل عصاه (أم علي ) ليطارد المشاغبين، والمتأخرين، والأستاذ صلاح اللبابيدي ترك زي الكشافة والشارات الملونة، فاكتشفناه من جديد ربعة يميل إلى القصر.. هل تنازل عن قيادة المدرسة ..؟ هل عزل عن القيادة؟
بعد يومين من عودتنا عرفنا سبب غياب جلال الجماصي، وتناقلنا قصة أبيه العربجي الذي اندفع بكارته لاسعاف بنت فلفل التي أصيبت في حارة سوباط المفتى، وشطبت الشظية ساقها..
اجتاز بها الساحة إلى المستشفى، لكن ريحاً مجنونة شلعت رأسه، توقف القصف، ونقل إلى المستشفى جثة بلا رأس، أودعوه في غرفة عزرائيل ،حتى عثروا على جمجمتة ملقاه في بلكونة القهوة المعلقة في الساحة ..
قلقت على صديقي عودة.. انقطعت أخباره، تغيب عن المدرسة يوم الموسم حسدته يومها على جرأته، وفي يوم وقفت امرأة طويلة بيضاء بباب الفصل.. وكان الأستاذ عوض الله يفتش عن واجب الحساب، ويراجع معنا حلولنا الصحيحة والخاطئة.. حمحم الطلاب في الصفوف الأمامية، بادرته المرأة قبل أن يسألها:
- غريب العسقلاني عندك في الصف؟
وقفت وجلاً.. امرأة مثل الحليب، طويلة ممصوصة تأخذني إلى صدرها..تنهنه.. أرتعد خوفاً وسط ذهول التلاميذ من حولي:
- ابن مين انت يا حبيبي؟
- ابن العبد العسقلاني
- أمك آمنة يا حبيبي؟
أومأت برأسي، صوتي لا يخرج من فمي.. خائف منها، وخجل من ذكر اسم أمي أمام التلاميذ .. سري ينكشف..سيطاردوني ..يا ابن آمنة العسقلاني . .تنتشلني من خوفي وخجلي، ترفعني إلى صدرها، أحس بدقات قلبها .
- عودة صاحبك مشتاق لك..عودة بيسأل عنك، وعن أصحابه عودة مش قادر ييجي للمدرسة..
وفي اليوم التالي، خرجنا من الفصول المضيفة، في الساحة انتظمنا في طابور يتقدمنا عريف الفصل، والأستاذ عوض الله، والأستاذ صلاح اللبابيدي وقد عاد إلى بدلة الكشافة، واعتمر البيريه العسكري، وطرز صدره وأكمامه بالنياشين والشارات..
اخترقنا شارع عمر المختار.. وكنا صامتين، قاماتنا مشدودة ووجوهنا حزينة متجهمة.. من الساحة انعطفنا يساراً إلى المستشفى المعمداني نزور عودة خليل عودة الذي فقد ساقيه في المقبرة الشرقية ، فيما هو يحمل الراية ويتقدم مشايخ سيدي أبو الكاس.. عودة كبشة لحم وعظم اختزلت في وسط السرير الأبيض وقد فارقه نصفه الأسفل.. يوزع علينا ابتساماته، والسؤال يدق في رأسي لدرجة الإغماء.. صرخت دون أن يسمعني أحد، من سيتقدمنا في درب العودة يا عودة ؟؟.. ووقعت مغشياً عليّ

















رواية جفاف الحلق – 15 -
- 15 -

نيسان يُبشر بقيظ الصيف، يهيئ لموسم خميس المنطار، المقبرة الشرقية بين حارة التركمان وحارة الجديدة مسرح الموسم الذي يمتد إلى تلة المنطار.. غزة تقذف ناسها، رجالاً ونساءً وصبايا وشباباً وأطفالاً وشيوخاً.. غواية المواسم تتبدى على وجوه الصبايا، حمرة الأشواق والاجتراء على الأصباغ، والكحل حول عيون النساء.. الشباب يتمنطقون بالسيور الجلدية العريضة مزينة بجرابات الشباري والسيوف القصيرة والطويلة، عصى اللوز المعقدة المشذية واللامعة بألوانها المغندرة الجذابة، قصبات الخيزران معقوفة في قبضات القبضايات، وشيوخ الشباب.. خيول غُسلت في البحر قبل أن تولد الشمس، تنضح عرقها عافية في السباق، شيوخ ومجاذيب، وأصحاب طرق وكرامات، يلعبون بالسنج على دقات الطبول، يتمايلون مع ريح الحي القيوم، يغرزون السنج في لحم بطونهم، لا يسيل منها دم، ولم يند عنهم صراخ ألم أو قتل، عدة سيدي أبو الكاس، وموكب الشيخ بشير، ودراويش السيد هاشم، وأعلام المسجد العمري الكبير، صوفية الزوايا، بصارون ونصابون، وحرامية أيديهم خفيفة.. باعة الخروب والسوس بقدورهم النحاسية ملفوفة بأحزمة ملونة لها شراشيب، صاجاتهم تلعب في أكفهم، تصدر رناتها في ايقاع معروف، يلقمون فوهات قدورهم بألواح الثلج السائحة تستدرج أنفاس الصدور ولهفة الزوجات الشابات والمخطوبات والعرسان لحالة فرح مختلسة من رقابة الأهل، ومحظور العادات، فائزة برغبات حلال مسروقة.. تلهث الصدور أمام باعة يعرضون ما تشتهي الأنفس، وما يبل الريق حلاوة وطراوة ..
في دارنا يفرض الموسم طقوسه عاماً بعد عام في زمن الهجرة.. يستدعي أيام وادي النمل، وموسم سيدي الحسين، يعرج على شقاوات وصبابات روبين يافا، وموسم النبي صالح في الرملة.. أنهت القاعة أعمالها بعد الضحى، طوى العمال ما نفلوه عن مطاوي الأنوال من أقمشة، حاسب جدي العمال كل على مقطوعياته، مضافاً إليها عيدية الموسم، استبدلت عيدية سيدي الحسين بعيدية خميس المنطار في الهجرة، فرضها جدي نظاماً على القاعة، والتزم بها أبي وخالي، مع العيدين وحسبة عاشوراء فالأقربون أولى بالمعروف، ومن أقرب من عمال قاعتنا وكلهم إما نسيب أو قريب أو ابن بلد.. النساء في الدار الفوقا لم يقعدن خلف دواليبهن، حضرن ما يكفي من مواسير اللحمة في اليوم الفائت، وحضرن الكعك والتمر، وطبخن السماقية الغزاوية الشهية الطارئة على مطبخنا المجدلاوي... واعتمدنها كما هو الحال في الحارة، وجبة أثيرة في المآتم والأفراح والأعياد، وأيام شطحات الخسة في بيارة أبو راس، ونزهات المقصبة في بركة قمر، حسنة لم تعد مبكرة إلى المخيم كعادتها كل خميس، منذ أن خطبت لتتفرغ لشؤون بيتها وتحضير ما يلزم لزيارة خطيبها، زريفة ولطيفة في غرفة الخياطة، يتحنجلن متباهيات بفساتينهن الجديدة, حسنة الطويلة البيضاء بالفستان الوردي المشجر وشعرها السارح على كتفيها.. أثارت هياجاً في الدار، تحول إلى زيطة ونقر على طشت الغسيل، النساء يتحسسن الفستان المشدود على صدرها وبطنها، يرفعن ذيله، يكشفن عن ساقيها وفخذيها.. ينشرن لحمها تهبط على الأرض، تلملم نفسها، وتداري خجلاً مصطنعاً، يصعد حمرة شفافة على خديها.. ينتظم النقر على صاج الطشت:
غندرة مشي العرايس غندرة
واللي يحب الزين يمشي غندرة
جدتي نفيسة تلعن فجور النساء وتؤنب حسنة:
- يعني هذا المحزق الملزق بلحمك أحسن من الثوب يا خايبة.. وايش خليتي للراجل .. صحيح المرة بدها ذكر يشكمها ..
جدتي فاطمة فرحانة لفرح حسنة، تحضنها وتقبلها، تسحبها للرقص تستجيب حسنة على استحياء، ثم سرعان ما تسحب معها زريفة ولطيفة جدتي، لم تكبح جماح زغرودتها.. تغرق في الضحك حتى تشرق ترد عليها كنتها بزغرودة وتغني
يا زريف الطول ع البسطة يبيع
بانت غرتها والحاجب رفيــع
وأنا يا حلوة في حـبك وقيـع
حطيني في صديرك بدل المحرمـا
جدتي تبصق في عبها، تخاف الحسد والعيون التي تفلق الحجر..
- ياما تحت السواهي دواهي، من حقه أحمد شمعة يطق عقله
وسحبتها من الحلقة، وأمسكت الطبل، وفرقت الهيصة قبل أن يصعد الدم إلى رأس جدي في الدار التحتا، لا سيما وأنه وافق على ذهابها إلى الموسم على مضض.. زعقت على زريفة ولطيفة حتى يسمع جدي:
- ما صدقتن تسمعن الطبل ..بدكن عرس ترقصن فيه، الله لا يكبركن.
وراحت تستحث الجميع للإنطلاق إلى الموسم قبل أن ترتفع الشمس، وتسيح كحل العيون وأصباغ الوجوه، فقد قررت هذا الموسم وعلى غير عادتها أن تذهب تاركة جدي يلعب الدريس والسيجة مع أبي حسنة، ولم تلتفت لبرطمات جدتي نفيسة التي تعتبر خروج النساء والبنات إلى الموسم ضلالاً وكفراً وفراغ عين ورخاوة رجال..
في الصباح وعلى مائدة الإفطار كان جدي يحاول عبثاً مع جدتي:
- اهدأي يا مرة.. المواسم بدها مروة شباب
- هو أنا رايحة أتغندر.. بدي أجيبه وأريح حالي من نذره قبل ما أموت.. ماهو كله علشانك يا ابن الحلال..
أبو صبحة على يديه شفى جدي، بعد حادث القتيل الذي خرج له من المقبرة الغربية، وقف أمام الحمارة، وبخ في وجهها فتسمر، وصرخ عليه في العتمة:
- انزل يا ابراهـيم
طار عن ظهر الدابة المخبوعة، وأطلق ساقيه للريح والعتمة، والقتيل خلفه يرجمه بالحصى حتى وجد نفسه في منـزول صالحة في أول حارة رومية.. حملوه إلى الدار مهدوداً، لا يصد ولا يرد.. وفي الليل قبل الفجر دق أبو صبحة الباب ، وحوطه بالمحصنات وأودع حجابه أسفل رأسه، ورش المكان بماء طاسة الطربة، "فلصّ" شدقيه وسقاه.. ومرجه بزيت الزيتون على مدار ثلاثة أيام حتى فك عقدة بدنه، وفي اليوم الرابع تجمعت الخوفة في محاشمه.. مدده عارياً على ظهره، وظل يدعك بطنه، ويضغط ما بين الوركين حول ذكرة.. حتى تلوى ألماً وشهوة وانتصاباً..صرخ فيه:
- قم يا ابراهـيم
ونهض سليماً معافى، دار في حوش الدار، وأطلقت جدتي الزغرودة، ونذرت عدة كاملة للشيخ وباطية جريشة لأصحاب النصيب في مقام سيدي الحسين..
فأما الباطية فقد أوفتها في أول خميس، وأكل منها أبو صبحة ومجاذيبه وخلاّنه، وأما العدة فقد رفضها.. زوى ما بين حاجبيه، قلب عينيه في الفضاء.. اهتز وارتج كل بدنه، وأخذ ينهرها.
- روّحي يا فاطمة، بدك تشتريني وتبعديني عن الحبيب.. حي يا قيوم عودي يا فاطمة.. لا تتبعيني
وظل على حاله ينتفض كلما رآها حاملة البقجة تنتظر عند المقام، حتى صارت الهجرة وسكن المقبرة.
أسأل جدتي عن الحمارة :
- ظلت مخبوعة مطرحها، ولما طلع النهار سحبوها إلى البيت بدون الفردتين
ترد جدتي على السؤال الذي قفز إلى رأسي عن الفردتين..
- أصله جدك كان مروح من الكرم "بسحارة عنب وسحارة صبر" أخذوهن سكان المقبرة حلال عليهم
تبصق في عبها، وتحوط المكان بسم الله الرحمن الرحيم
- أصله بيقولوا ان الأموات إذا زعلوا من أفعال الأحياء يطلعوا عليهم في الليل، علشان يعتبروا، ما هو يا ولدي الأحياء أولاد الأموات، يحملوا همهم حتى بعد ما يموتوا..
جدتي ستبحث عنه في الموسم، وتعود به إلى البيت، تجبره على الاستحمام بالصابون والماء الساخن، وسترسل وراء الحلاق أبو صفوت النمنم يقص شعره الهائش، ويشذب لحيته السارحة إلى سرته، ستجبره على ارتداء عدته بالقوة، عسى أن يعود إلى أوردته وراياته وأعلامه ويجمع دراويشه الذين تفرقوا..
جدي يتدخل
- أبو صبحة ضيع عدته ودراويشه من يوم ما ضاع منه مقام سيدي الحسين وسيدي نور الظلام
ترد عليه بعناد إيمانها:
- كلها مقامات لأحباب الله في الدنيا الواسعة، عنده السيد هاشم والشيخ بشير وأبو الكاس.. في كل المقامات يقبل الدعاء..
وأنا مشبوح بين رغبة الذهاب إلى الموسم، والخوف لدرجة الموت من فلقة الأستاذ عوض الله ولسعات خيزرانته على قفاي وقصبات ساقيَّ، فهو لا يرحم من يغيب عن المدرسة، ولو أوشك على الغياب عن وجه الدنيا..لا يحترم صغيراً أو كبيراً.. وهو الذي زجر أمي عندما أتت إلى المدرسة تستأذن لغيابي يوم طهور (ختان) ابن خالتها في مخيم رفح ، ثار وأربد وأزبد، وخرج عليها بدرس في الأخلاق والمفهومية، وحملها مسؤولية إفسادي، وانهال على قفاي بخيزرانته الطويلة (أم علي)
- هذا ابنك وحبة عينك في الدار، لكن في المدرسة بدو يمشي على العجين ما يلخبطوش ، واذا مش عاجبك خذيه وخليه في حضنك، يا مدرسة.. يا دلع .. وقتيش بدكم تفهموا.. ضاعت البلاد، وبدكم تضيعوا الأولاد كمان
هربت من وجهه، وأبقتني في المدرسة، وفي الليل حاولت استنفار حمية أبي على الأستاذ عوض، فضحك حتى وقع على ظهره:
- بتستاهلي، ليش بتدخلي في شغل عوض الله.؟.
- والله قطع قلبي ع الولد، وهو نازل سف فيه من غير رحمة، ما هو لو عنده أولاد بيعرف غلاوة الضنا
وعلمت فيما بعد أن الأستاذ عوض الله عقيم، وله زوجتان جميلتان احداهما ابنة عمه التي زوجته وهي لا تدري أن القصور منه، والأخرى غريبة يرفض تطليقها ،لأن ابن عمها ينتظر طلاقها ليتزوجها..وتسربت الينا حكايات زوجتيه اللتين تقلبان حياته ناراً حمراء، ولا يجرؤ أن يلوح بالخيزرانة أو حتى التهويب عليهما من بعيد..
أمي تملأ جيوبي بالتمر والكعك، تطمئنني أن أحمد شمعة سوف ينتظرني عند بوابة المدرسة فور انتهاء اليوم الدارسي، ليعود بي إلى الموسم، زادت مصروفي إلى قرش كامل بدل التعريفة، تكفيراً عن قصورها وعجزها في مواجهة عوض الله، وأنا الخائف من الغياب بدون إذن تلاحقني لسعات (أم علي) على بدني.. أقنع نفسي بأن الموسم لا يبدأ إلا بحضور التلاميذ، فهم يحفظون الأناشيد والقرآن.
في الفصل نصعد الدرج إلى الطابق العلوي إلى الصف الثاني (أ) الذي أنشئ حديثاً، نتباهى نحن سكان الفصول الثلاثة الجديدة المعلقة العالية.. ننظر، وقد ارتمت المدرسة تحتنا، ينكشف فضاء الشجاعية بدوره وأزقته وساحاته، تختزل المقبرة الشرقية إلى صناديق مغبرة يغلفها ضباب المدى.. تخدعنا أبصارنا فتصبح بيوتاً صغيرة شفافة نتخيل سكانها يلعبون داخل صناديقهم.. فصلنا يدير ظهره لمحطة القطار وسبورتنا تجعلنا نيمم غرباً.. الحصة الثالثة، الخوف من النقر على الأصابع المشبوكة الممدودة أمامنا.. والشيخ الصوالحي يحفظنا الآيات الجديدة.. تردد معه، خيزرانته القصيرة تحط على أصابعنا كلما توانت حناجرنا.. نتنفس الصعداء عندما يكتب على السبورة معاني الكلمات الصعبة.. ننسخها في دفاتر الكلمات الصغيرة.. أزيز يصفر في الهواء في جميع الجهات.. بلاطات من قرميد السقف تطايرت، وضلفات الشبابيك تصطفق ،الشيخ الصوالحي يهبط على الأرض، تفاحة آدم في زوره تبرز مثل عقفة العكاز.. نرتفع ونبهط إلى الأرض، فجوة في الجدار الشرقي تفتح علينا بوابة الهلع والخوف والموت.. حول الشيخ ننطق بالشهادتين(أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله) الأستاذ صلاح اللبابيدي، يأخذ بيد الشيخ يهبط به بمحاذاة الجدار، ويعود يسربنا بحذر، ويسلمنا إلى الأستاذ عوض الله الذي يحملنا اثنين اثنين ويطير بنا إلى الصالة في مبنى الإدارة، كل المدرسة تجمعت في صالة الإدارة، المعلمون يستطلعون الأمر من الشبابيك المطلة على الشارع الممتد إلى الشجاعية والصاعد إلى المدينة..
جموع الناس تتدفق إلى المدرسة يحتمون من القصف، أمهات وآباء يحتضنون اولادهم .. أبحث عن أمي وأبي.. القصف يتوقف دقائق ليعود أشد ضراوة.. صراخ وعويل، سيارات الإسعاف، وسيارات عسكرية ومدنية وعربات وبغال، وحمير، وجثث آدمية ودم نازف.. وأخبار من الناس عن الناس، موتى وجرحى ومفقودين تحت ردم الأنقاض.. قذائف المورتر، ومذبحة المنطار ولحم تناثر بين القبور، وقبور بقرت وقذفت عظامها وبقاياها.. والشمس تودع العصر تزحف نحو الأصيل.. الموت يتربع في الصالة، والقذائف تئز متفرقة متقطعة، تغري بالخروج قبل زحف الليل.. والمدرسة بلا أجراس، خوف من الخروج إلى الشوارع، وأقصر الطرق إلى البيت هو اجتياز المقبرة.. وقبل أن أقطع الإسفلت صرخت على صابر.. لم يلتفت إليّ.. كان يحمل امرأة على كتفه باتجاه مستشفى الطوارئ.. جسمه مغسول بالدم، وبقع الدم تنز منه إلى الأرض، وأجرى ومحمد أبو العينين مذعورين نحتمي بسياج المقبرة، نتجمد عند الشيخ بشير، هدمت دار على سكانها.. الناس يبحثون عن الجثث، رجال تمددوا على الأرض ، وجثث غطيت بالبطاطين وقطع الحصي.. (هنية البردويل) صاحبة أمي بطنها مفتوح، وحبال من الدم تتكوم حولها.. عيناها العسليتان شاخصتان ورموشها الطويلة مثل ابر مشرعة، يطردنا الخوف إلى ساحة الشوا، أبي يحتضنني ومحمد يهبط بنا إلى البيارة، في البيارة الناس يفترشون الأرض يدوسون الكرنب والباذنجان والفلفل لا يحسبون حساباً للناطور، وثمة حفرة عميقة خلفتها قذيفة فجرت الأرض، الناس خرجوا إلى البيارة حتى يحددوا مواقع سقوط القنابل.. رجل يئن في السياج ساقه المبتورة أسفل الركبة ملفوفة بخرق مشبعة بدمه، رجل يرفعه من ابطيه، ويحمله على ظهر حمار، يمضي به إلى طلعة صلاح الدين باتجاه المستشفى المعمداني.. أمي هابطة من الدار تلطم خديها مهبولة، فقدت عقلها.. مهبولة ،فقدت عقلها ..
- أنا اللي ضيعته.. أنا اللي قتلته!
تقبلني في كل جسدي، تلثم يدي وأطراف أصابعي، تتفقدني، أبكي، وتبكي، أرتجف وترتجف، أضحك فتقهقه، تنتفض وتصدر أنيناً مثل قطة تموت..تتمرغ بين الزرع، تنشب أظافرها في الأرض المروية، رغوة زبد تفور من فمها، وعيناها معلقتان في السماء، انزاح البؤبؤ تحت الجفن واحتل الحدقة بياض مجهداً بشعيرات دموية حمراء نافرة..أكــثر من صوت وأكثر من عويل
- إلحقوا الولية ضاعت.
في الدار غسلوا وجهها بالماء، دعكوه بالكالونيا، دقوا فحول البصل وحشوها في منخريها ..
رفرفرت، زامت، ثم صهلت.. وأجهشت بالبكاء، وعندما أفاقت انتظمت دقات صدرها سحبتني إلى حضنها.وأخذت تحدث :
- يا ويلي على اللي جرالك يا هنية، لميّت مصارينها بإيديّ هذول ، تقولش حبال منقوشة ومنسولة ومغمسة بالدم..بطنها، رميت منديلي عليها ومشيت، الناس ردوني من الطريق، قالوا المقبرة نار الله الموقدة.. والمدرسة الهاشمية وقعت على الأولاد، رجعت مثل المجنونة لفيت من الشجاعية، لقيت المدرسة على حالها والأولاد مروحين، الدنيا قايمة قيامتها والناس مش عارفة وين تروح، اللي حامل مصاب، واللي شايل على ظهره ميت ومش عارف ايش يعمل فيه، دورت على الولد ، سألت الناس عنه زعقت.. رجعت مثل المجنونة .
أمي تقذف الكلام سريعاً غريباً، تأكل بعضه وتقذف بعضه الآخر، لا أحد فينا يجرؤ على السؤال، يحط علينا سؤال عقلها الذي ذهب هل يعود إلى رأسها ؟..هل ما تقوله حقيقة؟ .
جدتي فاطمة أنضجت جمرات المبخرة، عبأتها بتراب البخور، حتى فاحت رائحته، دارت به توزع دخاناً عبقاً ، وتوقفت بالحجرة لحظات فوق رأس أمي، تتمتم بما تحفظ من القرآن، ثم تنتقل إلى زوايا الحجرة، تبخر الجدران والفراش والوسائد والملابس.. الدخان يمتص الكلام، ويوزع الصمت في المكان.. يخفت صوت أمي رويداً رويداً.. يهدأ جسدها ينقلونها إلى الفراش، فتستجيب، يضعون تحت رأسها الوسادة فتبتسم بامتنان.. تذهب في نوم هادئ .وصوت جدتي خفيف لا يكاد يسمع.
- الحمد لله هِدْيَتْ.. سيبوها تنام
وفي الليوان الغربي تجمعنا، حول حكايات الموسم، والقصف والموت، جدتي تحدث، بحثت عن أبي صبحة في المقبرة الشرقية وتلة المنطار دون جدوى، حتى وجدته غافياً في ظل قبر أبيض طرف المقبرة تظلله شجرة زنزلخت، يستظل بظلها مع صاحب القبر ومقرئ كفيف توقف عن قراءة القرآن، انتظرته حتى صحا.. وقعت عينه عليها، فاهتز بدنه وهاج.
- لاحقاني عند أهل الآخرة ؟.. ارجعي يا فاطمة
نفض التراب عن هلاهيله، وقام، سدت عليه السبل ، مدت له يدها، فتسمر ملجوماً، سحبته من كمه كي لا ينقض وضوءها، تبعها مثل طفل مطيع، وخرجت به إلى الطريق.. رنت دقات عصاه على الإسفلت فاطمأنت، اخترقا جموع الناس، توقفت معه حيثما توقف، ونظرت إلى حيث ينظ ، عند بياع السوس توقف فأعطته كوباً مثلجاً، شربه بارتياح، أشارت عليه بكوب آخر، أشاح بيده علامة الارتواء.. ما إن ابتعدا عن بائع السوس خطوات حتى زغردت الشياطين في السماء، طارد الموت هواء الدنيا، وحط على الأرض والناس، أخذها تحت إبطه ولوح بعصاه حولهما.. يدور فتدور معه..وعصاه تدور في جميع الاتجاهات يصرخ:
- غوري بعيداً عنا
يشدها إلى صدره.. تدفن رأسها عند قلبه وتهدأ..
- ما تخافيش يا غالية
يقاتل بعصاه، وكأنه في طوشة أو فزعة، يضرب بقسوة فتسقط القنابل بعيداً، ويتساقط الناس، تؤمن أنه قادر على طرد الموت عنها، يأمر القنابل، تخافه القنابل فتتساقط بعيداً عنه وعنها، وظل على بأسه وصلابته حتى توقف القصف.. كان يلهث، ينـزف العرق من وجهه وكفيه يبلل أطراف لحيته ومقبض عصاه.. خبأها تحت إبطه وسارا سوياً باتجاه البيت، وفي ساحة الشوا توقف، شخص باتجاه الشيخ بشير، تركها واندفع مع الناس.. صرخت:
- وين رايــح؟
- شامم ريحة موت هناك, عودي يا فاطمة، نذرك مقبول
ارتج وتلجلج صوته واجهشت جدتي.. كيف عرف أبو صبحة أن الموت في دار البردويل، واستعاذت بالله العلي القدير من كل شيطان رجيم ..وتمتمت:
- الحمد لله اللي قبل النذر
جدي يتابع دخان غليونه، ولا يعلق، تسترضيه، لأنها خرجت إلى الموسم على غير رغبته.
- الحمد لله اللي ما ضيع لي تعب.. ما هو كله علشانك يا حاج.
- السلامة غنيمة يا أم محمود ..والمقدر مكتوب
وحط صابر بيننا مغسل، وقد جف الدم على وجهه ويديه ما زال ندياً يبلل ثيابه.. كل شيء فيه أحمر..صامت ممصوص سرعان ما تكوم على بلاط البراندة قدام الليوان.. ذراعه مهدول على جانبيه والدم الجاف مقشر عن وشم الفارس والفرس، والجديلة السارحة.. جدي الذي قام إليه يتحسس جسمه:
- سليم اتركوه.. يفيق ونشوف وين كان داشر
وصحا في الصباح، تحدث عن ياسمين التي طارت مع القذيفة، وطار هو في الهواء ينادي عليها، هبطت تشخب دماً من كل بدنها، حملها على كتفه، وانطلق بها إلى المستشفى المعمداني، وتمدد بجوارها على أقرب سرير .
- خذوا دمي كله لها
سحبوا منه ثلاث زجاجات دم، فأغمى عليه، قام دائخاً تدور الدنيا به.. كل شيء يدور، وكل شيء يرقص، وياسمين ترقص يطير شعرها في الهواء، تطبع على خده قبلة، تهرب بعيداً عنه ، تشير مودعة تشعلل قلبه وصدره، لكنه يدور ،والدنيا تدور، والطبيب الأبيض يدور. والناس والعويل والصراخ..شرب كوب العصير.. توقفت الدنيا عن الدوران طارت ياسمين، صرخ عليها.. فأخبروه أنها وصلت إلى المستشفى ميتة، وأن دمه وزع على مصابين محتاجين، وأن رهطاً من النوّر أخذوا القتيلة إلى المقبرة، وأن "روجينا" النورية قبلته بين عينيه، وقشرت الدم الناشف عن وشم ذراعه حتى ظهر طرف جديلة الصبية، شهقت وملأت الدنيا صراخاً وعويلاً.. أجهش صابــر:
- لما رسمت ياسمين بالوشم على ذراعي هاج أبوها القهقير فأخرسته روجينا
- بس تطوله وتتمدد بطوله.. سبع ابن سبع والا نسيت أبوه عوض المجدلاوي سبع وادي النمل؟
هدهدته جدتي على صدرها تبارك عشقه:
- عليك العوض يا أبو عوض.. الحمد لله ان راسك سالم .
لم نعد إلى فصلنا في المدرسة، فقد صدعت القذيفة جداره الشرقي، وطيرت قرميد السقف، وكسرت بعض البنوك، وزعونا على الفصول (ب ، ج ) وجلسنا كل ثلاثة تلاميذ على بنك، في الساحة لم نصطف في طابور خاص بنا، ولم يعد عريفنا يتقدمنا ويسجل أسماء الغائبين على جانب السبورة، وأسماء المشاغبين في ورقة سرية يسلمها لأستاذ الحصة.. أصبحنا لاجئين إلى الفصول المضيفة، لماذا تغيرت العادات ؟ حتى الأستاذ عوض الله لم يعد يحمل عصاه (أم علي ) ليطارد المشاغبين، والمتأخرين، والأستاذ صلاح اللبابيدي ترك زي الكشافة والشارات الملونة، فاكتشفناه من جديد ربعة يميل إلى القصر.. هل تنازل عن قيادة المدرسة ..؟ هل عزل عن القيادة؟
بعد يومين من عودتنا عرفنا سبب غياب جلال الجماصي، وتناقلنا قصة أبيه العربجي الذي اندفع بكارته لاسعاف بنت فلفل التي أصيبت في حارة سوباط المفتى، وشطبت الشظية ساقها..
اجتاز بها الساحة إلى المستشفى، لكن ريحاً مجنونة شلعت رأسه، توقف القصف، ونقل إلى المستشفى جثة بلا رأس، أودعوه في غرفة عزرائيل ،حتى عثروا على جمجمتة ملقاه في بلكونة القهوة المعلقة في الساحة ..
قلقت على صديقي عودة.. انقطعت أخباره، تغيب عن المدرسة يوم الموسم حسدته يومها على جرأته، وفي يوم وقفت امرأة طويلة بيضاء بباب الفصل.. وكان الأستاذ عوض الله يفتش عن واجب الحساب، ويراجع معنا حلولنا الصحيحة والخاطئة.. حمحم الطلاب في الصفوف الأمامية، بادرته المرأة قبل أن يسألها:
- غريب العسقلاني عندك في الصف؟
وقفت وجلاً.. امرأة مثل الحليب، طويلة ممصوصة تأخذني إلى صدرها..تنهنه.. أرتعد خوفاً وسط ذهول التلاميذ من حولي:
- ابن مين انت يا حبيبي؟
- ابن العبد العسقلاني
- أمك آمنة يا حبيبي؟
أومأت برأسي، صوتي لا يخرج من فمي.. خائف منها، وخجل من ذكر اسم أمي أمام التلاميذ .. سري ينكشف..سيطاردوني ..يا ابن آمنة العسقلاني . .تنتشلني من خوفي وخجلي، ترفعني إلى صدرها، أحس بدقات قلبها .
- عودة صاحبك مشتاق لك..عودة بيسأل عنك، وعن أصحابه عودة مش قادر ييجي للمدرسة..
وفي اليوم التالي، خرجنا من الفصول المضيفة، في الساحة انتظمنا في طابور يتقدمنا عريف الفصل، والأستاذ عوض الله، والأستاذ صلاح اللبابيدي وقد عاد إلى بدلة الكشافة، واعتمر البيريه العسكري، وطرز صدره وأكمامه بالنياشين والشارات..
اخترقنا شارع عمر المختار.. وكنا صامتين، قاماتنا مشدودة ووجوهنا حزينة متجهمة.. من الساحة انعطفنا يساراً إلى المستشفى المعمداني نزور عودة خليل عودة الذي فقد ساقيه في المقبرة الشرقية ، فيما هو يحمل الراية ويتقدم مشايخ سيدي أبو الكاس.. عودة كبشة لحم وعظم اختزلت في وسط السرير الأبيض وقد فارقه نصفه الأسفل.. يوزع علينا ابتساماته، والسؤال يدق في رأسي لدرجة الإغماء.. صرخت دون أن يسمعني أحد، من سيتقدمنا في درب العودة يا عودة ؟؟.. ووقعت مغشياً عليّ



#غريب_عسقلاني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رواية جفاف الحلق – 14-
- شهادات محمد أيوب في الجبهة الموازية
- رواية جفاف الحلق – 13 –
- رواية جفاف الحلق – 12 –
- رواية جفاف الحلق -11 –
- رواية جفاف الحلق – 10 –
- رواية جفاف الحلق -9 –
- رواية جفاف الحلق -8 -
- روية جفاف الحلق -7 -
- رواية جفاف الحلق – 6 –
- رواية جفاف الحلق – 5 –
- رواية جفاف الحلق -4 –
- رواية جفاف الحلق – 3 –
- رواية جفاف الحلق – 2 –
- رواية جفاف الحلق – 1 -
- .. في سر العسل
- - قراءة في رواية أوجاع الذاكرة للكاتبة الجزائرية جميلة طلباو ...
- طقوس امرأة بريئة – 5 –
- طقوس امرأة بريئة – 4 –
- طقوس امرأة بريئة – 3 –


المزيد.....




- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - غريب عسقلاني - رواية جفاف الحلق – 15 -