أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فواز فرحان - أغصان الشر 1















المزيد.....



أغصان الشر 1


فواز فرحان

الحوار المتمدن-العدد: 2907 - 2010 / 2 / 4 - 08:30
المحور: الادب والفن
    


كان كل ما يهمّهُ هو طبيعة الطعام الذي كانت والدته تعدّهُ له ... كانت الحرب مع ايران قد إنتهت دون أن يذهب لأداء الخدمة العسكرية بعد أن نال إستثناء المشاركة كحال الكثيرون من الأكراد ... الشئ الذي كان يخيف والدتهُ فيه هو آراءهِ المؤيّدة لنظام الحكم الدكتاتوري في عهد البعث رغم أنه لم يكن منتمياً ، كان الشقيق الأكبر لإخوانهِ وأخواته وهذا الشئ كان يجعلها دائماً تنظر إليه بشكل مختلف عن باقي ابناءها وبناتها ، عانى كثيراً بعد وفاة والدهِ الذي كان متعلقاً بهِ الى أبعد حدٍ في مشاعرهِ بعد نهاية الحرب مع ايران بفترة وجيزة ، ولكن تلك المعاناة لم تقتصر عليهِ فحسب بل ان الاسرة بأسرها شعرت بذلك الفراغ الذي تركه والده بينهم وفوق ذلك راحوا يتحمّلوا تلك المتاعب التي تتسبب بها آراء نبز بين الناس ...
كان للاسرة الكثير من الأقارب في محيطهم وهؤلاء كانوا يكتشفوا كل يوم أشياءاً جديدة في نبز حتى في تصرّفاته ، وغالباً ما كانت آراءه السبب المباشر لمشاكلهم مع الأسرة التي كانت تلومه لإمتلاكهِ آراء تجعل الناس ينفرون منه ويعطوه المزيد من الكراهية ، كانت والدتهُ تعالج مثل هذه المشاكل معه بطريقتها الخاصة فكانت كلما أرادت توبيخهِ تقوم بإعداد طعام جيد له وعندما كان يسمع بوجود وجبة دسمة كان يفرح لذلك وتنفرج أساريرهِ لكن والدته كانت تستغل تلك بل اللحظات لتلقينهِ بالكثير من النصائح وتوبيخهِ بطريقة قاسية فهو كان يتحمّل كل شئ قبل ان تكون الوجبة قد وضِعت أمامه ، وعادةً ما يكون مهيّاً لذلك الدرس في أغلب الأحيان ..
لقد أصبح الشغل الشاغل للأسرة ولم يتمكن أحد من تحديد طبيعة الإضطرابات النفسية التي كان يعاني منها أو حتى إكتشاف أنه مصاب بشئ ما من هذا القبيل لا سيما وان صدمة ثقيلة كانت قد هزّت كيانه أثناء سماعهِ بنبأ وفاة والدهِ .. غير أن قريباً لهم نصحه والدته وإخوانهِ بضرورة عرضهِ على طبيب نفسي كي يحدد حالته ومعالجتهِ قبل فواة الاوان ...
2
كان الشقيق الاصغر منه أكثر نشاطاً ويحمل مسؤولية الأسرة بجدية بالغة كما أنه كان أكثر هدوءاً وإتزاناً ويتمتع بثقة الأهل والأقارب في نفس الوقت حتى ان البعض منهم كان يتوقع ان يقوم هو بالدور الاساسي في انقاذ الاسرة من المتاعب الاقتصادية وغيرها من التي كانت تعاني منها ....
لم يكن للاسرة دخل مادي سوى الراتب التقاعدي الذي كانت تحصل عليه لرب الاسرة المتوفي وذلك لم يكن يعني شيئاً لنبز الذي كان يظن انه يكفي للاسرة ويزيد غير ان الواقع كان مختلفاً بالنسبة لوالدتهِ وأشقائهِ من الذين كانوا على إطلاع بأنه لا يسدّ حاجاتهم الحياتية ، فأقدم شقيقهِ محمد الذي كان أصغر منه على العمل في تجارة الساعات اليدوية اليابانية والتايوانية والصينية والقطع الالكترونية الاخرى فكان يحصل على عائد مادي لا بأس به ، اما نبز فقد كان يمتلك تفكيراً محدوداً للغاية لا يرى أكثر من أصابيع قدميهِ تثير نفسيتهِ استغراب من كان حوله فهو يبدي إعجابهِ بشخصيّات مثيرة للجدل أمثال هتلر وصدام وموسوليني وستالين ويعيش في عالم من احلام اليقضة المستمرّة مهما عانى من صدمات في حياته اليومية فقد كلن يخلق لنفسه الاجواء المناسبة للعيش في تلك الاحلام ويشعر بالحاجة للبقاء وحيداً بعيداً عن اجواء الاسرة التي كانت تجعله يشعر بالواقع المرير ...
كان يختلي بنفسه ويستلقي على الاريكة لساعات طويلة دون ان يتمكن أحد منهم من فهم الاشياء التي كانت تأخذ خياله بعيداً عنهم ، كانت بداية عام 1990 الوقت الذي أشرقت فيه عواطفهِ وراح يحلم بقتاة أحلامهِ ويضع لها صوراً في خيالهِ كأن تكون محجبة ومتديّنه وخاضعة تسمع له وتلبي رغباتهِ ، كان شقيقه محمد يناقشه في ضرورة ان يجد له بنت خلال يكمل حياتهُ معها كان يحاول إقناعه بالخروج من الحلقة المغلقة التي يضع نفسه فيها دائماً دون نتيجة ...
لم يكن محمد قادراً على تحديد طبيعة المشاكل النفسية التي كان نبز يعاني منها لكنه كان يحاول لفت انظاره الى ان المشاكل التي يُحدِثها وانه ينبغي عليهِ حمل المسؤولية ...

3
كانت روعة الحياة بالنسبة له هو تلك الزيارات التي كان يقوم بها لدار عمتهِ شقيقة والدهِ فقد كان هناك يحضى بإهتمام متزايد لا سيما من قبل بناتها المحجبات كما ان الوجبات التي كان يتناولها عندهم كانت تأسر له قلبه وتجعله يبالغ في التعبير عن رغباتهِ ويشعر بالنشوة ولذة الشباب ..
كان يعبر عن تهذيبهِ بطريقة ماكرة تجعل عمتهِ تعتقد انهُ الأكثر تهذيباً بين إخوتهِ ولم يكن يبرز تلك الصورة السلبية التي كانت تسيطر عليه لانه لم يكن يرغب في التفريط بذلك الحب والاحترام الذي يُحظى به بين أفراد تلك الاسرة ...
كان من الواضح بالنسبة له ان عمتهِ لها ثقل في مشاعرهِ يوازي حبهِ لوالدته لان والده كان يحبها بنفس القدر، وغالباً ما تمنى ان تكون تلك الاسرة اسرته ، كان من تولد عام 1970 وشقيقهِ محمد كان يصغره بسنتين أما شقيقيهِ الآخرَيْن فقد كانا من مواليد 1976 والاخير 1980 فكانت الأم تشعر بثقل شديد على كاهلها في اعانة اربعة شباب والتصدي لمشاكلهم ومتابعتها، شقيه محمد كان يمتلك من قوة الشخصية ما يؤهله ليكون الابن البكر بينهم ، كان يجعل كلامهُ كالاوامر بين أشقاءه الذين كانوا يطيعونه ، الا نبز فقد كان إنتقائياً في سماع نصائح شقيقه ، وكان يمتدح طريقة ادارتهِ لشؤون الاسرة أمام أقرانهِ في المحلة ...
هذا التصرف منه كان يثير استغراب الاسرة فهو يمتدح أخيه في المحلة لكنه لا يطبّق شيئاً مما يوصيه بهِ محمد ، مع ذلك كانت الوالدة ترتاح عند سماعه أخبار كهذه لا سيما انه اعتراف منه بقدرة شقيقه الأصغر على تحمل المسؤولية ، ربما كانت تنم عن روح طيبة ووديعه منه دون ان يعلم ، وفي بعض الأحيان كان يقوم بأداء الواجبات الاجتماعية ويذهب للتعازي والمشاركة في مراسيم دفن الموتى لا سيما من الأقارب له من الذين كانت تصيبهم أهوال الحياة ومصاعبها ...
كانت الاسرة بين الحين والآخر تشعر بتحسّن حالتهِ وربما أعادوا سبب تدهور نفسيتهِ الى فقدان والده فكانت الاحزان ومراسيم الدفن من أقرب المناسبات الى قلبه لانه كان يشعر برؤية والده له او حتى الاقتراب منه ...

4

فبعد العودة من تلك المراسيم كان يفضّل البقاء وحده أو ان يكون منعزلاً لبعض الوقت وكان يبكي لسبب يعلمه هو تماماً دون ان يجعل من يحيط بهِ يشعر بضعف عواطفهِ الى ذلك الحد ، كانت رغبات انانية تتحكم في تصرّفاته في بعض الاحيان ، وهروب من المسؤولية بشتى الحجج ومحاولة استعادة الماضي الى الصورة الامامية في النفس كان مدللاً عند والده وخلف له ذلك الدلال مجموعة من العقد النفسية التي لم يتمكن من التعامل معها او التخلص منها ، كان أصدقاءه ينقلون أحاديثه وتصرّفاته لاهله ووالدته بالتحديد ، كانت ترتاح في قرارة نفسها وتشعر انه لا يسيطر عليه مرض نفسي خطير ، كانوا جميعاً يتعاونوا على جعل نبز يتجاوز تلك المحنه ، كان يتكون لديهم بالتدريج تصوراً ما حول حالته النفسية وطبيعة المشاكل التي يعاني ومنها وردود أفعالهِ على قضايا معينة تحدث من حوله ، كان أكثر ما يثير استغرابهم هو تعامله مع الهموم التي يحملها في دواخلهِ فقد كانت تجعله في حين يتراجع الى الخلف وفي حين آخر يسير الى الأمام ولكن دون توازن ...
إتبعَ معه محمد اسلوباً قاسياًَ يخلو من الرحمة والاحترام جعل نبز يتخوّف منه ويقوم بمراجعة سلوكهِ وتصرّفاته ، فقد كان يبيح في بعض لقاءاته بالاصدقاء بأسرار اسرتهِ كما انه كان يتعمّد في مناسبات عديدة تحويل الانظار نحوه بكلام وحركات تجعل من يشاهده يجزم بأنهُ مجنون ليس الا !!
وكانت تلك المشادّاة الكلامية مع شقيقهِ تنشر الخوف في نفسهِ ولكنه لم يكن يعلم لماذا تنتابه هذه المشاعر كلما دخل مع شقيقه في جدل ، فربما كان محمد أشد بأساً منه ويمتلك قوة بدنية تفوق تلك التي يمتلكها نبز وحاول مراراً حصر تفكيره لمعرفة مصدر مشاعر الخوف تلك الا انه كان يفشل في تحديد مصدرها ..
راح يتجنّب تدريجياً الدخول في نقاشات ترفع من درجة توتره ، وراح يحاول مراجعة سلوكهِ وتصرّفاته ، وكانت بالفعل تلك البداية الصحيحة له في محاولة استعادة ثقتهِ بنفسهِ بينما كانت هناك جزئيات بسيطة لم يتمكن من التعامل معها او تحديد طبيعتها ، كان يرفض فكرة الذهاب الى طبيب نفسي بل كان يقوم بتكسير كل ما كان يقع في يديه لحظة الحديث عن ذلك ويصرخ ..أنا لست بمجنون !!
5
كان بعدها يتسلل الى غرفتهِ ويبكي بعمق وفي تلك اللحظات فقط كان يتذكر والده ويحاكي خياله ويقول لهم انني لست مجنوناً قل لهم يا أبي !!
ومع ذلك التحسّن في نفسيّتهِ شعرت الاسرة بشئ من الهدوء ، كانت أوضاع الاسرة في تحسّن مستمر في جميع النواحي لكن عدم المام والدته بالكثير من طرق التعامل مع الشباب في مثل سنّهِ وعدم ادراكها لمطالبهِ في هذا السن بالتحديد كان يجعله يتأخر في تجاوز محنتهِ تلك ...
وفي صباح يوم الثاني من آب من عام 1990 أجتاح الجيش العراقي دولة الكويت في غزوة مشوؤمة أثارت إستنكار الأحرار في شتى بقاع العالم ، وراحت آلة الإعلام التابعة للدكتاتور تشحن عواطف الشعب العراقي وتحاول مغازلة تلك المشاعر التي تعبّر عن العزة والقوة والوطنية في هوس إعلامي تمكن من التأثير في قسماً لا بأس به من ابناء العراق في جعلهم يقفون مع احتلال دولة جارة والاعتداء على شعبها كما فعل من قبل مع ايران ...
وكان الشارع العراقي من أقصى الشمال الى أقصى الجنوب مذهولاً لا يعلم أين يمكن أن يقف في حدث من هذا النوع ، أسرع نبز الى جهاز الراديو وحوّله الى لصيق له في كل لحظة من لحظات حياته في تلك الأيام وهرع كالكثيرين للتبشير بالاحتلال وراح يمكث لساعات طويلة يستمع الى الاخبار وكان متأثراً بآلة الإلام البعثية الى أبعد حد ، وراح خياله بعيداً حتى تصوّر ان تلك الحملة ستنتهي عند مشارف اليمن .
كان جزءاً من العالم المتخلف الذي تؤثر فيه الجعجعات الاعلامية ، والقوة الوهمية عند صدام ، كان صوتاً ما يخرج من أعماق ويسأله (وما دخلك أنت ؟) ألستَ كردياً ؟ كان يتجاهله بكل قوة حتى انه كان ينزعج عندما تنتابه تلك الرعشة القادمة من اعماقه بعد مرور السؤال في خياله ...
كان يصعب عليه الاجابة على الكثير من الأسئلة التي كانت تتبادر الى ذهنه
ربما لانه لم يكن قادراً على تفسير ما يحدث جيداً ...
6

كانت المظالم التي جلبتها سياسة الدكتاتورية في العراق قد دفعت الأغلبية في الشارع الكردي الى التعصب القومي كرد فعل على النهج العروبي الذي استخدمه صدام ضدّهم بل حتى اسم العراق لم يكن يعني شئ للكثيرين من الأكراد ، مع ذلك وجد صدام من يتعاون معه من ابناء الشعب الكردي من الذين يضعوا مصالحهم الشخصية فوق اي اعتبار آخر ...
كانت مواقف نبز في محلته تثير اشمئزاز من يسمعه بل حتى ان أكثر من شخص فكر في انه أحد عملاء السلطة وينبغي التخلص منه ، كانت أحاديثه تلك تصل مسامع أهله ، فكانت تثيرهم وتدفعهم للإصطدام به وحتى التفكير في إقفال الباب عليه وسجنه في الدار حفاظاً على حياتهِ !!
كما ان حالة الشارع السياسية لم تكن تسمح لأحد بالدفاع عن النظام بعد الانفال المشؤومة التي شنتها الدكتاتورية على المعارضة وقوى الشعب الكردي ، كان ذلك الشارع يعيش حالة غليان فريدة من نوعها ، الشعور بالاحباط وانهيار الأمل في وضع كردي مستقل عن الدولة المركزية التي أثقلت كاهل المواطن الكردي بالمآسي وإنعدام العدالة الاجتماعية والنظر اليه على انه مواطن درجة ثانية وخائن لارضه كل هذه الهواجس كانت تطارد الكردي في دواخلهِ ...
لم تدُم تلك الأحداث طويلاً حتى أخرجت القوات الدولية التي كانت تقودها الولايات المتحدة الأمريكية جيش صدام بهزيمة مُذلة جعلت كبار قادتهِ العسكريين يركعون ويستسلمون ويوقعون على الورق الأبيض في خيمة صفوان وانتهت تلك المغامرة عند ذلك الحد ، دفعت هذه الهزيمة الشعب الى الانتفاضة على الدكتاتور وحزبهِ ، واستطاعوا اسقاط اكثر من محافظة في الايام الثلاثة الاولى لانطلاق انتفاضة الشعب حتى تهاوى النظام تدريجيّاً وكان قاب قوسين أو أدنى من السقوط لولا المساعدة الأمريكية له في اللحظات الأخيرة ..إندلعت شرارة الانتفاضة في البصرة وإمتدّت لتلتهم باقي المحافظات الجنوبية وتحوات البلاد الى ساحة للثورة ضد الطغيان لم تتمكن الدكتاتورية من ايقافها الا بمساعدة خارجية ، وأخذت تلك الثورة مكانها في قلوب أبناء الشمال هناك في كردستان لتنطلق من رانية وتأخذ طريقها الى باقي المدن ...
7
راحت تلك الانتفاضة تحرق النظام وأزلامه في كل مكان تصل اليه كما كانت تحطم آلته الدموية الفاسدة حتى وصلت اربيل التي كان نبز يعيش فيها ، كانت أصوات المدافع ومعها الرصاص وأصوات القناصة تلعلع في سماء المدينة كانت هناك عزيمة لإخراج أزلام السلطة من حصونهم وتحرير المدينة ، كانت والدة نبز قد نصحت أبناءها بالبقاء في الدار وعدم الاشتراك في تلك الانتفاضة رغم ان أبناء كردستان خرجوا عن بكرة أبيهم للخلاص من الظلم ..
مكثوا في الدار حتى انتهت المعارك الطاحنة والتي دار قسماً منها أمام دارهم وفي شوارع محلتهم ، كانت أياماً عصيبة إحتار في تفسيرها الكثيرون ، كان نهاية صدام تقترب كلما إزدادت المعارك شراسة ، إختلطت الاوراق وسقطت أربيل بيد البيشمركَة ومقاتلي الأحزاب الوطنية العراقية الاخرى التي كانت تحارب الدكتاتورية الى جانب الأحزاب الكردية ، خرجَ نبز مع شقيقه محمد وزملائهم في المحلة بعد ان وضعت حرب الشوارع أوزارها ، فاجأتهم الصور المأساوية ، عشرات من الجثث ملقات على قارعة الطريق وعلى الارصفة وفي الساحات كانت رائحة الدم تحكم ذلك المكان وتجعل الناس خاضعين لها ...
معظم تلك الجثث مُثل بها بطريقة بشعة لا يعلم أحد من قام بتلك الفعلة ، كان هناك ما يشبه الاستنفار بين شباب المحلة للتخلص من تلك الجثث ، فقد كانت ترعِب الكبار فكيف بالصغار إذا ما شاهدوها ؟؟
كانت تلك المناظر هي أكثر من أثر في نفسيّة نبز حتى أنّه بدأ يضحك بسخرية في بعض الاحيان عندما كان يحاول حملة جثة ويبر عضو ما منها ، كان من يقابله من شباب المحلة يشتعل غضباً وهو يستمع الى ضحكاتهِ تلك لكنهم لم يتمكنوا من فهم دوافع ذلك الضحك ، كان يحدّق بها طويلاً ويبحث عن السبب في ان يقتل الانسان نظيره الانسان ، اي مشاعر تلك التي تتحكم بمطق القتل ذاك ؟
مكثت تلك المناظر في خياله ولم يعد يتمكن من الهرب منها أو حتى نسيانها بل كانت تلاحقه حتى في أحلامه ، كانت أشبه بالكابوس الذي يلاحقه لقد تغيّرت حياته منذ تلك اللحظة ...
8

كان محمد يراقب ما يحدث مع شقيقه نبز ويقول في قرارة نفسه .. انه لم يكن ينقص نفسيّة نبز المضطربة سوى هذه المشاهد ..!! يالها من كارثة ؟؟
انتهت تلك العملية بعد جهد طويل إستغرق أكثر من ستة عشر ساعة متواصلة من الجهد الذي بذله شباب تلك المحلة ، إشتركت النساء في ذلك من خلال نقلهم للماء وتنطيف بقايا الدم والشعر المنتشر في الشوارع ، فلم تكن تلك الكمية من الماء والمساحيق كافية لازالة آثار الدم والجثث من الطرقات ...
لم يتمكن نبز من النوم جيداً طوال تلك الليلة فقد كانت الكوابيس تلاحقه فتارة يرى جثة مقطوعة الاذرع تلاحقه وأخرى يرى جثة تخلو من العينين تحدّق به وتنهي معه خيوط نومه بصرخة تجعل من معه في الدار يفزع من نومه ويبحث عن مصدر ذلك الصوت ...
في صبيحة اليوم التالي إستنجد بوالدتهِ وراح يحكي لها عن تلك الكوابيس والاحلام الغريبة ، حينها أدركت والدته ان تلك المناظر تركت أثراً سيئاً في ابنها لا يمكن إزالته بسهولة ...
حاولت في بادئ الأمر معرفة درجة خطورة حالته النفسية تلك وكانت تتخوّف كثيراً من ان تصل معه الى درجة الجنون ، نصحتها إحدى نساء محلتها بالذهاب الى قارئي الكف أو فتّاحي الفال حتى تجد حلياً له بينما نصحتها أخرى بالذهاب الى أحد الشيوخ لمعرفة ما إذا كان جنّاً ما قد دخل اليه وسكن أعماقه ...
كان البحث بالنسبة لها أمراً شاقاً لا سيما وانها محدودة التعليم ولا تتمكن من التفكير بطرق أوسع حتى تتخلص من تلك الهواجس التي كانت تطارها بسبب مرض ابنها ، مع ذلك لم تتدخر جهداً فقد كانت تتصوّر ان العملية سهلة للغاية واتجهت نحو أحد الشيوخ وراحت تسرد له قصة مرض إبنها من تلك الزاوية التي كانت تشاهدها به ...
طلب منها الرجل إحضار إبنها حتى يتمكن هو من تحديد طبيعة المشكلة النفسية التي تسيطر عليه ...
9

كان نبز يعارض الذهاب لطبيب نفسي على إعتبار ان ذلك يمثل أمراً مُشيناً له في وسط تلك العاداة والتقاليد السائدة في مجتمعه ، لكنه إقتنع بضرورة الذهاب الى الشيخ على أساس أن الموضوع له بعد ديني لا يتمكن من معارضته وهو في نفس الوقت ينسجم مع عاطفته الدينية التي كانت تجنح تدريجياً نحو التعصّب والطاعة العمياء ..
راح يتفهم الموقف لانه كان يعتقد ان ذلك سيسهم في إزاله بواعث القلق في داخلهِ ومعرفة سبب الاضطرابات النفسية التي كانت تسيطر عليه ، لم يتوقع ان تكون حلول ذلك الشيخ تقوم على أساس إزالة الهموم عن طريق السحر التي كان يستخدمها حاملوا هذا النوع من الحلول ، فخرج رافضاً الوقوف دقيقة واحدة أمام هذا النوع من الهرطقات كما صوّرها ...
حاولت والدته إقناعه ثانية بضرورة العدول عن قراره والانتظار حتى النهاية ربما يتمكن ذلك الرجل من إيجاد حلول لبعض المشاكل النفسية التي يواجهها ونبهته الى إحتمال ان تكون هناك روح شريرة قد إخترقته وينبغي إخراجها بأسرع ما يمكن كي لا تتمكن من السيطرة كلياً على شخصيّته ...
عاد وفرِحَ بوجود أشخاص يتمكنوا من معرفة هذا النوع من المشاكل النفسية وعدِلَ عن قراره وقرر الذهاب اليه ثانيةً ، لكن ذهابه في المرة الثانية لم يكن فقط من أجل معرفة الأسباب التي تقف خلف مرضه بل كانت هناك رغبة عارمة تتملكه في الاطلاع على هذا النوع من الاسرار في حل المشاكل النفسية ..
كان الرجل في إستقبال نبز ووالدته وطلب فيما بعد من والدة نبز البقاء خارج الغرفة لكي يلقي بعض الاسئلة على نبز ، كان ذلك الشيخ قد شعر للوهلة الاولى بضرورة ان يخضع هذا المريض لنوع معيّن من العلاج ، فقد كانت بشرتهِ تعبّر عن وجود شيطان ما يسكن جسد نبز ..
وراح ذلك الرجل يعد بعض الماء واحضر زجاجة معبئة بالملح واخرى بالبخور واتربة أخرى وباغت نبز بالسؤال ...
10

ــ قل لي يا بُني ..ما هو الشئ المحبب الى قلبك أكثر من أيَّ شئ آخر ؟؟
ــ ماذا تقصد ياشيخ كي أجيبك بدقة ..؟
ــ أقصد ملبس .. سباحة .. رياضة من نوع آخر ...سياسة ..أوبنات مثلاً
ــ أها .. فهمت .. لو أردتُ أن أكون صادقاً فسأقول أن أكثر الأشياء المحببة الى قلبي هي الطعام ..فأنا آكل بإفراط ولدي رغبة عارمة في ان أمتلك مالاً كي أقضي تناول طعامي كل يوم في مطعم معيّن ..
ــ حسناً ..والنوم ؟؟
ــ النوم .. يختلف عندي فعندما يأتيني النعاس فأنام لا يهمني أين أكون في الشارع أو جالساً على رصيف أو في حديقة أو حتى أثناء زيارتنا لأقاربنا ..
ــ يعني ذلك ان نومك طبيعي ..
ــ كيف لا أفهم ماذا تقصد ؟؟
ــ أقصد أتنام ثمانية ساعات متواصلة يومياً ؟؟
ــ حالياً لا .. في السابق كنت انام أكثر من ثمانية ساعات لكني بعد رؤيتي للجثث في الشوارع لم أعد أتمكن من النوم المتواصل سوى ساعتين أو ثلاثة على الأكثر في اليوم ..
ــ طيب هل تذكر ما هو الموقف الذي أثر في نفسك كثيراً ؟؟
ــ والدي .. وفة والدي هو أكثر الاشياء التي جعلتني أكره حتى الحياة ..
ــ والجثث ..؟؟
ــ ربما .. هي الأخرى ربما جعلتني اعيش صدمة من نوع آخر لقد إمتزج موضوع الموت مع القتل والكراهية والدم في نفسي ..

11

ــ إحكي لي كل ما يجول في صدرك عن تلك المناظر التي شاهدتها في ذلك اليوم أعلم ان ذلك صعب لكنه من الضروري ان تحكي لي ..
ــ كانت الجثث ملقاة في الشوراع ، كان عددها كثيراً لم أتمكن من عدّها وتعود لجنود عراقيين وكذلك لبعض الشباب الاكراد من مناطق أخرى ، كان قسماً من جثث الجنود مشوهة لا أعلم من قام بالتمثيل بها ، تصوّر انني رأيت احدى الجثث عارية تماماً وموضوع سجائر في فتحات الانف والأذنين والفم والدماء تملئ الاجزاء الوسطى من الجثة لقد أشبعوا صاحبها بالرصاص لكن الشئ الذي لم أفهمه هو لماذا قاموا بتعرية الجثة ؟؟
هذا المنظر لا يمكن لي نسيانه مدى الحياة والكثير من المناظر الاخرى لقد كانت بشعة بحق ..
ــ حقاً انها بربرية .. وبعد ؟؟
ــ لا شئ تلك المشاهد أرعبتني لا تقبل ان تفارق خيالي حتى الطعام لا أتمكن من تناوله لحظة مرورها أمام خيالي ..
ــ إصغِ لي .. سأقوم بترديد بعض الآيات على مسامعك وأشعل هذه البخور ومطلوب منك الهدوء والسكينة بكل تركيز حتى اتمكن من رؤية ما يتسبب لك من أزمة في النفس ..
ــ حسناً ..
أكمل ذلك الرجل عمله وأعتقد في ان يكون هناك جن قد إخترق نبز أو يحوم حوله ويحاول إزعاجه ، في تلك اللحظة أدرك نبز ان هناك فعلاً خطراً يتهدده وقد يؤدّي به الى الجنون ...
لم تكن العملية سهلة للغاية فقد تسببت له بصداع قوي في رأسه وتخوّف كثيراً من تلك التعاويذ التي كان الرجل يردّدها على مسامعه ، تذكر في قرارة نفسه انه كثيراً ما ضحك على مرتادي هذه الأماكن التي تعالج المرء من بعض الحالات لكنه بقي صامتاً كما طلب منه حتى النهاية ..
12
مع ذلك لم يتمكن الرجل من معالجتهِ من الجلسة الأولى ، فقد كان يعتقد أن هناك جن إخترق هذا الشاب وينبغي إخراجهِ من جسده ...كان من الصعب عليه تحديد طبيعة ذلك الجن أو حتى أوقات عودتهِ للتأثير في نبز ...
تعجّب من تلك تلك الطرق التي كان الرجل يتبعها معه ، وتمنى في قرارة نفسهِ أن يقبل الرجل بالعمل معه للإطلاع على خفايا وأسرار مهنته ، كانت والدته مرتاحة لتلك النتيجة لا سيما وانها وجدت إبنها متجاوباً مع الرجل بشكل لم تتوقعه ...
تأكدت من أن إبنها سيذهب لمفرده في المرة القادمة ، فقد كان طوال الطريق يتحدث لها عن الأساليب والطرق التي يتبعها الرجل لكن مصدر معرفتهِ بالنسبة لنبز كان خافياً ، كان يعتقد أن الطب والعلوم الحديثة تعجز عن حل مشاكل من هذا النوع وسرعان ما أبحر بخيالهِ في تصوّر نفسهِ طبيباً من هذا النوع ...
كانت حالته النفسية تستاء كلما إقترب الليل ، وأصبح واضحاً لدى إخوتهِ بأن هذه الحالة مرتبطة بخوفه من قدوم الليل والظلمة الموحشة المواتية للحوادث السيئة بالنسبة له ...
إقترح عليهم محمد إشعال الشموع والقناديل الزيتية في غرفتهِ لانها تترك أثراً طيباً في النفس وسمع ذات مرة بأنها تجلب الأرواح الصالحة والطمأنينة ، وافق الجميع على إقتراحهِ حتى دون التأكد من صحة المعلومات التي وصلت مسامعه فهم كانوا بحاجة الى إنقاذ نبز مما يعانيه ولم تتولد لديهم الرغبة أصلاً في مناقشتهِ والتأثير علي مزاجيتهِ ..
كانت أوضاع أربيل لا تزال مضطربة ومعظم الناس خرجوا من دورهم قاصدين الجبال بعد أن تناهى لمسامعهم الى ان الحرس الجمهوري سيقوم بقصف المنطقة وإجتياحها ، لم تغادر العائلة اربيل لخوفها على الشئ الوحيد الذي تمتلكه وهو الدار السكنية فقد كانوا يدركوا ان أي عملية نهب ستجعلهم دون خط الفقر لا محالة ...

13
كما أن هناك سبباً آخراً دفعهم للبقاء وهو صعوبة قطع تلك المسافات الطويلة وصعود الجبال لا سيما والدتهم ، بالإضافة الى العامل الجوي فقد كانت الثلوج تغطي تلك المنطقة ...
جاء أحد أصدقاء محمد الى الدار وطلب الحديث قليلاً مع نبز ومع سير الحديث شعر نبز بالغضب ..
ــ هناك صيد ثمين بالانتظار !!
ــ ما هو ؟؟
ــ هل توافق على الذهاب معي أم لا ..؟
ــ يجب أن أعرف الوجهة التي ترغب بالذاب إليها حتى أتخذ قراري ...
ــ حسناً .. سنذهب الى أحد قصور صدام ..
ــ ماذا ..؟
ــ قلت أحد قصور صدام ..!! لم يعد أحداً هناك لا حرس ولا حماية ولا أيَّ شئ
لقد تعرضت للنهب تماماً ..
ــ إذن ما الذي يدفعنا للذهاب ؟؟
ــ هناك بقايا من الأشياء الثمينة التي لم ينتبه لها أحد ..!!
ــ يعني سرقة ..؟؟
ــ لا ليست سرقة .. أشياء موجودة وسنقوم بالإحتفاظ بها بدلاً من أن يذهب غيرنا ويفوز بها إنها كنوز يانبز ..!!
ــ كنوز .. صحيح ولكنها حرام هذا الشئ لا يمكنني فعله .. إذهب لوحدِك
ــ هل جننت ؟؟
ــ قلت لك لن أشترك في موضوع من هذا النوع تستطيع مفاتحة محمد به ..
14
أثار ذلك نبز وراح يدمدم بكلمات لم يفهمها ذلك الصديق ...
لم يمضِ وقتاً طويلاً حتى عاد ذلك الصديق وأخذ محمد معه دون أن يبلغهُ عن المكان الذي يتوجهان نحوه ، غابا ساعات طويلة حتى بدأ القلق يسيطر على أفراد العائلة ، كانت والدته تتصور في بادئ الأمر أنه ربما ذهب لدار صديقه القريب منهم في المحلة ، لكن ذلك لم يكن صحيحاً ...
عاد محمد محمّلاً بثريّا كبيرة الحجم ومعها بعض القطع من الكريستال ، تفهم نبز الوجهة التي غاب شقيقه من أجلها وراح يحدّث والدته عن الموضوع وان هناك سرقة ستعرّض العائلة للمسائلة ... إندلع نقاش حاد في الاسرة حول أحقية محمد في الإقدام على عمل من هذا النوع .. وراح محمد يؤنّب شقيقه الأكبر على تبني وجهة نظر من هذا النوع لا سيما وأنه يفتقد للتفكير الصحيح في إختيار الطريق الذي ينبغي عليه سلوكه في الحياة ...
أوقفت والدتهم المشاحنات الكلامية وتوّجهت لمحمد بالسؤال ...
ــ من أين أتيت بهم ؟
قاطعها نبز .. قولي له من أين سرقتهم ، هكذا يكون السؤال صحيحاً ..!!
ــ اسكت أنت يانبز دعني أتحدث ..
أجاب محمد
ــ حسناً .. رغم انني لست مضطراً للتوضيح لكني سأقول لكِ
لقد ذهبنا لأحد قصور صدام القريبة من هنا وأحضرنا بعض الثريات لم يتبق في ذلك المكان شئ سواهما لقد سطا الناس على المحتويات وأحضر صديقي سلماً خشبياً من أجل الوصول اليهما لم يتبق غيرهما في المكان صدقيني !!!
ــ ذلك عملاً حرام والدك عاش طول عمره دون أن يقترب من أعمال من هذا النوع وإلاّ لما شاهتنا بهذه الحالة المادية ..!!!

15
ــ أعلم ذلك لكن ما قمنا به ليس عملاً حراماً .. ستقوم الحكومة الكردية عاجلاً أم آجلاً بوضع يدها على المكان وتصادر الارض وجميع ما فيها من محتويات وربما يقوم العاملون على تنفيذ أمر من هذا النوع بالسطو على كل المحتويات ما العيب إذا ما قمت به أنا وليس غيري ؟؟
ــ العيب في أن ذلك ليس من حقنا ولا يليق بنا الإقدام على تصرّف من هذا النوع ربما لو كان والدك حيّاً لأشبعك ضرباً لو حدث مثل هذا أمامه ..!!
ــ حسناً ما الذي تريدين قوله ؟؟؟
ــ إذهب وضع هذه الثريا في المكان الذي أحضرته منه ..!
ــ هذا مستحيل ولا يمكنني القيام بذلك .. مهما كانت النتائج أرجو ان لا تطلبي مني ذلك لانني لن أفعله ثقي بذلك ...
ــ إذن لو سألني أحد عنها تأكد من أنني لن أتردد في إرشادهم إليك طالما انك لا تُصغي لاحد ..
ــ حسناً تأكدي أن لا أحد سوف يسأل عنهم لسبب بسيط لان الجميع ساهم في نهب محتويات المكان ههههه ...
كانت تلك المقتنيات ثمينة ونادرة وقد تم نهبها بالكامل ، كان نبز حزيناًَ لعدم قدرة والدتهِ في التأثير على شقيقهِ وإقناعهِ بأن ذلك العمل يعد سرقة وهم لم يترّبوا على تصرّفات من هذا النوع ...
كانت الأفكار التي تسيطر عليه تتمحور في كيفية جعل الاسرة تعتمد عليه في دخلها لا سيما بعد أن فشل في الحصول على فرصة عمل تجعله مصدراً لدخلهم كان يلوم نفسه كثيراً على ذلك الفشل الذي يسيطر عليه ولا يعلم مصدره ..
الشئ الذي كان يؤرقه هو عدم فهم باقي الاسرة لطبيعة الحياة التي يرغب بنشرها بينهم ربما كان يعتقد ان والده هو الذي زرع فيهم تلك الصفات التي تميّز بين الحلال والحرام في سير الحياة الاجتماعية التي يعشونها ...

16
كان محمد قد غامر بحياته فعلاً بالذهاب لذلك المكان لا سيما وان الحرب بين الجبهة الكردستانية والجيش العراقي لم تحط أوزارها بعد وان وقوعه بيد أحد الطرفين كان أمراً ممكنا وكان يؤدي الى نهايته لكن ذلك لم يحدث ..
كانت التناقضات التي تعصف به رهيبة تجعله يفقد توازنه في الكثير من الأحيان فالأفكار التي تتوارد الى ذهنه في النهار تكون عكسها تماماً مع إقتراب الليل وتتحول حياته الى صراخ وكوابيس يصعب التخلص منها ، أدركَ أنه مريض ويمر بظروف خاصة لا يعلم عن أسبابها شئ ، كان مُدركاً أن ذلك الشئ حدث فقط مع فقدانه لوالده ِِ ...
كل ذلك الصراع مع النفس ومع من كانوا يطاردونه من اسرتهِ وبالأخص شقيقه كان يصب في خانة واحدة وهي أنه مريض ويعاني ويتمنى أن يتعافى بسرعة من تلك المعاناة ... وكثيراً ما شعر بالندم لإقدامهِ على الإدلاء بآراء لم يكن مقتنعاً بها تماماً ، في الكثير من الأحيان كان يبكي بصوت مرتفع عله يتمكن من طرد تلك التصرّفات الشريرة من نفسهِ دون جدوى ...
حاول محمد ذات يوم تدوين جميع الحالات التي يشاهدها بشقيقهِ ويعرضها على طبيب نفسي كي يتمكن من مساعدته ، أو حتى إيجاد حل لتلك الحالات التي كانت ترهق نبز ، لقيت تلك الفكرة إستحسان والدته رغم ما كان يتضمّنها من سخرية في بعض جوانبها ، فقد كان نبز يرفض تماماً الذهاب لاي طبيب نفسي خوفاً من أن يسمع أحد بذلك ويتهمه بالجنون ، لذا كان يفضّل سلوك طريق الارواحيات والشعوذة على طريق العلم ..
إصطدمت فكرة محمد في البحث عن طبيب نفسي بالظروف الأمنية والمستجدة في أربيل ، فقد كان من الصعوبة بمكان إيجاد طبيب في مثل هذه الظروف ، وأدرك انه يواجه صعوبات كبيرة في التنقل من حي الى آخر حتى مشياً على الأقدام ، أُصيب بخيبة أمل وأدرك أن ماكان يطمح إليهِ لن يتحقق قبل حصول الإستقرار في أربيل لا سيما من الناحية الأمنية ..
ففي تلك الأثناء تحوّلت المدينة الى مدينة أشباح تنتظر حدث ما قد يُغيّر الحياة فيها فكل شئ في إضطراب حتى المستقبل أصبح فيها غامضاً ..
17
لم تتوقف المحاولات عند أشقائهِ واسرته من أجل مساعدتهِ وإنقاذهِ رغم إلمامهم المتواضع بطبيعة الظروف النفسية التي تتحكم بهِ ، كان نبز مُدركاً لتلك التحرّكات ويشعر بالعجز من جهة أخرى فهو يعلم جيداً أنهم منشغلون في التفكير بإيجاد حل لمشكلته ويعلم جيداً أن أغلب الأحاديث أثناء غيابه كانت تتمحور حوله كانت العاطفة تأخذ الحيز الأكبر من شخصيّتهِ وحتى تفكيرهِ وكانت تدفعه في الكثير من الأحيان للبكاء رغم عدم قدرتهِ على تفهّم تلك الخطوات منهم ..
ورغم تلك الظروف العصيبة التي عاشتها اربيل بعد إنتقاضة عام 1991 وخاصة في المراحل الاولى التي تلت إنسحاب الجيش العراقي منها ، لا سيما حالة الفوضى التي خلفها إنسحاب الجيش إلا أن الحال كان يذهب تدريجياً بإتجاه الاستقرار بعد نزول الجبهة الكردستانية الى المؤسسات وسيطرتها عليها في محاولة لملئ الفراغ ، كانت العامة من الناس تتذمّر من تلك الفوضى لكن قسماً كبيراً شعروا بالفخر وهم يشاهدوا مدينتهم للمرة الاولى في تاريخها تدار من قِبل أبناءها ...
ذلك التذمّر كان ناتجاً عن عدم قدرة وأهلية أعضاء الجبهة الكردستانية في إدارة المؤسسات والتي إفتقدت في البداية للإدارة السليمة ، كان ذلك صحيحاً لان عناصر حرب العصابات لم يكونوا قد تمرّسوا بعد على إدارة المؤسسات وبناء المجتمع المدني ، لقد قضوا عقوداً طويلة في الجبال التي علمتهم الصلابة والوعورة في بعض الأحيان في التعامل ، كانت المرحلة تلك بمثابة مرحلة إنتقالية حفلت بالكثير من التجاوزات التي فاقت التصور عند أهالي المدينة في بعض الأحيان ..
كانت أصوات النقاشات تتعالي في المقاهي والأماكن العامة حول الوضع السياسي الجديد ، هناك بالقرب من الدار التي تسكنها عائلة نبز كان مقى صغير يجمع أبناء المحلة وشارع آخر يتفرّع منها ذهب نبز منذ الصباح لسماع آراء الناس فيما يحدث على أرض الواقع ..
كان أحدهم يتناول قدح الشاي ويكمل حديث كان قد بدأه قبل وصول نبز ...

18
ــ الوضع خطير ياجماعة ، يجب أن نفهم أن تركيا وايران لن يسمحا بقيام كيان كردي ، كما أن الأحزاب الكردستانية متصارعة فيما بينها والوضع لن يتوقف عند هذا الحدّ ، كل شئ قابل للتغيير بين الفينة والأخرى ..
أجاب أحدهم بإنفعال ..
ــ فليذهبوا الى الجحيم .. سنقيم دولتنا وستقف معنا كل الدول الكبرى ، المعادلة واضحة طالما هناك إصرار وتضحيات وحرب مستمرة من أجل الهدف لا بد أن تكون هناك نتيجة في النهاية وكما ترون لقد تحقق إستقلالنا عن النظام البعثي لن يعودوا حتى لو كلفنا ذلك دمائنا ..
أجاب المتحدث الأول ..
ــ هذا كلام عاطفي لا ينبع من دراية بالواقع ، جيش صدام قادر على العودة متى ما شاء ، لا يمكن لنا أن نثق بوعود يقطعها صدام للأكراد فلنا تجارب مُرّة معه وهذا الشئ يجب أن لا يغيب عن بالنا ..
أثار هذا الكلام نبز وشعر بنشوة غريبة تنتاب عواطفه فهو يتوق لعودة الجيش العراقي الى اربيل وراح يقول بصوت مرتفع ..
ــ صحيح الجيش العراقي سيعود وهؤلاء غير قادرين على إدارة الأمور إنهم عصابات ليس إلا ..! صدام كان أفضل منهم
لم يكمل ذلك الكلام حتى إقترب منه شاب ووجه له لكمة قوية في وجهه أفقدته قدرته على الوقوف وإنهال عليه آخر بكرسي من كراسي المقهى وجاء ثالث ينهث ويحاول الاقتراب منه لإضافة بعض اللكمات الى وجهه ..
حاول صاحب المقهى تفادي ذلك النزاع وراح يصرخ بهم إخرجوا من المقهى الى الشارع وأكملوا نزاعكم هناك لقد حطمتم لي المقهى ، وتدخل مع صانعه الذي يعمل معه وأنقذوا نبز من تلك اللكمات التي لم تكن تعرف الرحمة ...
قاد ذلك الصانع نبز الى أهله سانِداً إياه بذراعه وهو يحدّثه ..
19

ــ هل جُننت ؟؟ تروّج للبعث ولصدام وتريد أن تبقى حيّاً ألا تلاحظ كم من الضحايا سقط في المعركة الأخيرة ؟؟ لا يمكن لعاقل أن يُقدِم على ما فعلته اليوم!
إنه جنون ..!! جنون !!
لم يكن نبز قادراً على الحديث فقد كانت الدماء تغطي وجهه لا يعلم إن كانت تنزف من لثتهِ أم من رأسه أم أماكن أخرى كان لهاثه يختلط بطعم الدماء وينزل على فمه ...
ما أن وصل عتبة الدار حتى علت صرخات والدتهِ التي كانت تهم بنشر الغسيل على حبال مربوطة على طرف باحة الدار وخرج إخوتهِ على صوت تلك الصرخات ... كان يرغب بالجلوس وتلفظ أنفاسهِ كي يفسّر ما حدث له بتلك السرعة التي أفقدته القدرة على رد الفعل ...
إقترب منه محمد والشرر يتطاير من وجهه ...
ــ تكلم ..! من فعل بك هذا ؟؟؟
أجاب ذلك الشاب الذي رافقه الى الدار ..
ــ تمهل يامحمد ..!! الأمور لا يمكن معالجتها بهذه الطريقة .. يجب أن تعلم جوانب الموضوع الأخرى ..
ــ أي جوانب ؟ ألا ترى وجهه مغرقاً في الدماء ؟؟؟؟
ــ بلى ..! أرى ..لكن شقيقك كان على باطل في هذه الحادثة ولا يمكن لأحد القول عكس ذلك وأنا أتحدث أمامه على الرغم من أنه متعب لكنه يعي جيداً ما أقول ..
إجلسوا لأحدثكم عن تفاصيل الموضوع ..
هدأ الجميع بعد أن إستمعوا لذلك الشاب وكانت والدة نبز تضمّد جراحاته وتحاول تهدئته ببعض النصائح حول ضرورة الابتعاد عن إبداء آراءه في ظل الأجواء المتوترة ...

20
لم يعر محمد إنتباهاً لتلك الحادثة مع شقيقهِ فقد كان يتخوّف من الشد النفسي الذي يعاني منه سكان المدينة وان يتحول أي إصطدام الى عداوة شخصية قد تؤدي به أو بأحد أشقاءه فإستعمال السلاح وحملهِ في تلك الفترة أصبح ظاهرة روتينية ..
خرج من الدار ليبحث في أمر أهم بكثير من تلك الحركات الصبيانية حسب وجهة نظره ، كان يبحث عن مشتري لتلك القطع التي سرقها من القصر الرئاسي لا سيما بعد سماعهِ بأن لتلك القطع ثمن باهظ قد تغيّر مجرى حياتهِ وحياة عائلتهِ ..
سارع الى صديقهِ شاخوان ليساعده في البحث من خلال معارفهِ ، لكن ذلك الصديق لم يكن يثق بأن تلك القطع باهظة الثمن وكان أكبر قدر من المال يحلم به من بيعها لا يتجاوز الثلاثمائة دولار ..
كان شاخوان ينحدر من إسرة من الموظفين فوالده مدير لمدرسة ثانوية وولدته تعمل موظفة في الاصلاح الزراعي ولم يكن يرغب في الخروج من الروتين العشائري السائد في محيطه ويرى ان الانسان يقاس من خلال المال الذي يحمله وليس من خلال اي شئ آخر ...
كانت صداقته مع محمد تقوم على حب المال والبحث عنه ولم
يكن شيئاً آخراً مشتركاً بينهما على الاقل في تلك الفترة ...



#فواز_فرحان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أشباح إنسانية تائهة ...
- اليسار العالمي ... وقمة كوبنهاجن
- جائزة نوبل ... وتجّار الحروب
- شعاع رقيق من النور ...
- جدار برلين .. بين ترميم وتهديم الحقائق التاريخية
- السياسة الأمريكية ... وأزمة الأفكار العظمى 3
- متى يكون الأديب ضميراً للأمة ..؟
- السياسة الأمريكية ... وأزمة الأفكار العظمى 2
- السياسة الأمريكية ... وأزمة الأفكار العظمى 1
- العراق والطريق للتخلص من دولة الفشل ...
- وجهة نظر في الأحداث الايرانية ...
- الصراع بين الدين والعلمانية في الولايات المتحدة ..
- شهود يهوه .. ظاهرة جديدة في المجتمع العراقي
- الأيادي الصفراء للرأسمالية ...
- التأثيرات السلبية لألعاب الكومبيوتر على الطفل ...
- النظام لا يزال حديديّاً ...
- أحباب في العالم الآخر ...3
- معجزات البرلمان العراقي ...الخمس عشرة ..!!!
- مالذي إعتبره لينين أساساً متيناً للنظرية الثورية ؟
- لم يعُد لينين بيننا !!


المزيد.....




- وفاة المخرج ميشائيل فيرهوفن وساسة ألمانيا يشيدون بأعماله الف ...
- -الماتريكس 5-.. حكاية المصفوفة التي قلبت موازين سينما الخيال ...
- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فواز فرحان - أغصان الشر 1