شاكر النابلسي
الحوار المتمدن-العدد: 862 - 2004 / 6 / 12 - 07:24
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
-1-
منذ بدأت أول حصوة من حصى الديكتاتورية تنهار في العراق مع فجر التاسع من نيسان المجيد 2003 قلنا، بأن العراق الجديد قد بدأ أولى خطواته نحو شرعية الدولة الجديدة، ونحو شرعية العراق الجديد. ولكن العربان أبوا إلا أن يكابروا وينكروا ويصيحوا صياح المستنجدين من الغرق في بحر الظلمات الذي هم فيه الآن.
وهكذا كان.
منذ أول خيط من خيوط فجر التاسع من نيسان المجيد 2003 قلنا، بأن العراق والعرب الراغبين معه، المؤمنين به، الداعمين له، سوف يحققون الهدف الأكبر المنشود، وهو حرية العراق وديمقراطية العراق، ولكن بعد فداء كبير، وتضحيات عظيمة، ودماء غزيرة. فلا شيء أغلى من الحرية.
وهكذا كان.
-2-
العرب لا يريدون الاعتراف بحقائق التاريخ الجديد.
هكذا هم فعلوا مع القضية الفلسطينية، حين أنكروا الوضع الجديد في فلسطين عام 1948، وركبوا رؤوسهم، وناطحوا الصخور، ورفضوا التقسيم، فأضاعوا فلسطين كلها، وليس أقل من نصفها كما كان مقرراً في عام 1948.
وانظروا ماذا يجرى الآن في "المستنقع الغزاوي" المرشّح لأن يصبح دولة طالبانية جديدة، بفضل "حماس"، و "الجهاد الإسلامي"، و"كتائب الأقصى"، والشيخ ياسر، وغيرهم من الفصائل الدينية الفلسطينية المسلحة؟
وهكذا فعلوا الآن في العراق.
فمنذ اللحظة الأولى لفجر التاسع من نيسان المجيد 2003، كانت كل الثوابت تقول أن العراق الجديد سيكون شرعياً ، ولو كره الكافرون به.
وأن العراق سينال حريته، ويحقق ديمقراطيته، ولو كره المرتزقون من حربه.
وأن الديكتاتورية لن تعود إلى العراق ولو قال القائلون.
-3-
قرار مجلس الأمن 1546 في 8/6/2004 ، كان هو الختم الشرعي الدولي الذي مَهَرَ الشرعية العراقية الجديدة بخاتم الشرعية الدولية، وجعل من العراق الجديد دولة ذات سيادة، ليست سيادة العبيد، كما كانت قبل التاسع من نيسان 2003 المجيد، ولكنها سيادة الأحرار الذين عرفوا كيف يتحالفون مع الشياطين من أجل القضاء على الديكتاتورية، كما تحالف من قبل هارون الرشيد مع شارلمان ملك فرنسا (الشيطان) للقضاء على الدولة الأموية في الأندلس، وكما تحالف تشرشل مع الشيطان الشيوعي الروسي من أجل القضاء على الديكتاتور النازي الألماني، والديكتاتور الفاشي الايطالي، في الحرب العالمية الثانية.
نعم، كان على ضمير العالم الحر أن يستقيظ أخيراً، ويقف إلى جانب الشرعية العراقية المتمثلة بالوزارة الجديدة والرئيس الجديد الذي نلفت النظر إلى أنه ليس شيخ قبيلة كما يصفه الإعلام العربي مكراً وسخرية وحطاً من قدراته، ولكنه رئيس جمهورية جدير برئاسة العراق. فهو المتعلم المتعولم العلماني بفكره وسلوكه وخطابه السياسي. وهذا يكفي لأن يكون رئيساً جديراً. وهو لن يحكم العراق بعِقاله وغُترته وشماغه وعباءته المُقصّبة، ولكنه سيحكم بما تعلمه في "جامعة البترول" وفي جامعة "جورج تاون"، وليس في "الكتاتيب" السياسية.
نعم، كان على ضمير العالم الحر أن يفيق من غفوته التي طالت عاماً كاملاً لأسباب سياسية وتجارية محضة لا علاقة لها بشرعية النظام البائد، ولا بشرعية النظام العائد بالحرية والديمقراطية التي خطفها قُطّاع الطرق.
نعم، كان على ضمير العالم الحر أن يتحرك ويُصوّت بالاجماع إلى جانب المشروع الأمريكي – البريطاني الخاص بتسليم الشرعية العراقية لأصحابها. وهكذا أوفى الأفياء بوعودهم، ولم يمارسوا الاحتلال طويلاً كما تمنّاه العرب لهم، حتى تكون لدى العرب حجتهم في دفع آلاف المرتزقة إلى الجحيم العراقي، الذي أرادوه نار الله الموقدة التي تضطلع على الأفئدة.
-4-
وما زال العرب ينكرون على العراق سيادته، رغم قرار مجلس الأمن 1546 هذا.
العرب يقرأون الشرعية الدولية وقرارات مجلس الأمن في هذا القرار، على غرار القراءات السبع للكتاب المقدس!
القراءة الأولى تقول، أن العراق اليوم بلد سيد، حر، مستقل. وهذه قراءة المثقفين العرب من الليبراليين الجدد، وهم عملاء المخابرات الأجنبية كما يُطلق عليهم!
القراءة الثانية تقول، أن العراق، اليوم، بلد واقع تحت الاحتلال، وهو ليس سيداً، ولا حراً، ولا مستقلاً. وهذه قراءة القومجيين العارفين ببواطن الأمور وظواهرها!
القراءة الثالثة تقول، أن العراق بهذا القرار أصبح خازوقاً مؤلماً في قفا العالم العربي. ويجب نزعه أو الجلوس عليه. وهذه قراءة المستشارين السياسيين للزعماء العرب.
القراءة الرابعة تقول، أن الشرعية العراقية مطعون فيها ومرفوضة، حتى ولو اعترفت بها الأمم المتحدة ومجلس الأمن. وهذه قراءة الإعلام العربي الحكومي، الذي لا إعلام غيره.
القراءة الخامسة تقول، أن الديمقراطية العراقية تحت ظلال الحراب الغربية مرفوضة. وأن الديمقراطية الوحيدة المقبولة المشكورة، هي الشورى تحت ظلال السيوف الدينية. وهذه قراءة تنظيم "القاعدة" والفصائل الدينية المسلحة الأخرى.
القراءة السادسة تقول، أن العراق سيظل محمية أمريكية رغم الغطاء الشرعي الدولي الجديد في القرار 1546. وهذه قراءة حزب البعث.
القراءة السابعة تقول، أن العراق رغم هذا الغطاء الشرعي، تحكمه شلّة من عملاء المخابرات الأمريكية والبريطانية. وكأن لا زعيم عربياً يعمل لدى مثل هذه المخابرات، وبأجور أعلى! وهذه قراءة الراغبين بالعمل مع المخابرات الأجنبية، ولكنهم مرفضون لعدم الكفاءة!
-5-
الشرعية الدولية من مجلس الأمن على الرأس والعين العربية، عندما تُقرر بالاجماع أن قوات التحالف في العراق هي قوات "احتلال"، وليست قوات "احلال" نظام ديمقراطي محل نظام ديكتاتوري كما قلنا في مقال سابق، وكما جرى في العراق وخلال عام واحد فقط، وليس احتلالاً لمائه وثلاثين عاماً كما جرى لاحتلال فرنسا (التي تتبجح الآن بالشرعية الدولية) للجزائر.
ولكن هذه الشرعية الدولية من مجلس الأمن مرفوضة ومشكوك في قراراتها عندما يقرر مجلس الأمن بالاجماع شرعية النظام العراقي الجديد، ويقرّ السيادة العراقية. رغم أن الأسياد في فرنسا والمانيا وروسيا واسبانيا، بصموا على ذلك، ورضخوا للقرار الدولي أخيراً، بعد أن تأكد لهم اصرار الشعب العراقي على نيل حريته، وتحقيق ديمقراطيته.
-6-
قرار مجلس الأمن 1546 في 8/6/2004 سيمنح الشرعية الدولية للحكومة العراقية المؤقتة والتي من المقرر أن تتولى السلطة في 30 يونيو/ حزيران الجاري. كما سيُعطي القرار الحق للقوات متعددة الجنسيات التي تقودها أمريكا باتخاذ كافة الإجراءات الضرورية للحفاظ على السلام.
فماذا يعني هذا القرار الدولي؟
انه يعني بكل بساطة أن العالم أجمع قد اتفق على أن العراق يجب أن ينعم بالحرية والسلام والديمقراطية. وأن اعتماد مشروع القرار الجديد سيضع حداً لفترة طويلة من الصعوبات الدولية بشأن الملف العراقي، كما قال رئيس المفوضية الأوروبية رومانو برودي. وأن العراق أصبح في يد قوة أمينة متمثلة بحلف الناتو، وليس بالقوات الأمريكية أو البريطانية فقكط، كما أعلن الأمين العام لمنظمة حلف شمال الأطلسي(الناتو) ياب هوب شيفر، الذي قال أنه سيكون من الصعب غضُّ الطرف إذا طلبت الحكومة العراقية في الأسابيع أو الأشهر المقبلة تدخل الحلف في بلادها. وأن هذا القرار يعني كما وصفه كوفي عنان - المطلوب رأسه من قبل منظمات الارهاب الدينية المسلحة مقابل كيلوات من الذهب العائد من تجارة الأفيون الأفغاني والباكستاني - بأنه "التعبير الحقيقي لعزم المجتمع الدولي على بناء العراق الجديد".
-7-
لفَّ العُربان وداروا حول القرار 1546 الذين أزعجهم، وآلمهم، وقضَّ مضاجعهم، وأنبت الشوك في ظهورهم وخواصرهم، وحاولوا أن يجدوا فيه وله بعض الخوازيق، كعادتهم في نكران وتجاهل الحقيقة السياسية الواقعية، ودفن رؤوسهم في رمال الصحراء العربية المُحرقة.
فقالوا: في الوقت الذي حظي فيه مشروع القرار الاميركي البريطاني حول مستقبل العراق بإجماع كافة أعضاء مجلس الامن بعد معالجة بعض المخاوف الفرنسية، انقسم العراقيون بشأن القرار بعد تهديد الأكراد بالانفصال عن العراق اذ لم يتم تضمين القرار اعترافاً بالدستور المؤقت الذي يمنحهم مزايا سياسية.
وقال العُربان: أن هذا القرار قد أثار حفيظة الشيعة. وأن أي اعتراف بالدستور المؤقت يعني "بداية الحرب على الديمقراطية".
فلماذا سببب هذا القرار كل هذا الألم والغضب والخوف للعُربان من المستقبل القريب، وأنبت الشوك في الظهور والخواصر العربية الرهيفة؟
انها أسباب بسيطة منها:
- أن العرب قد اقتنعوا قناعة شديدة، بأن الغرب لم يعد قادراً على قبول وغضِّ الطرف عن الأنظمة الديكتاتورية القائمة في العالم العربي. وما أن تجرؤ دولة عظمى كأمريكا على اقتلاع ديكتاتورية ما بالعصا الغليظة، حتى يستجيب ويرضخ المجتمع الدولي للوضع الجديد المتمثل بتطبيق استحقاقات الحرية والديمقراطية، ولو بعد عام من الدماء والضحايا.
- أن العرب أصبحوا على قناعة تامة بأن الارهاب الدموي الديني والقومي، وإرسال فلول المرتزقة الزرقاوية والحمراوية والخضراوية والسوداوية، لانقاذ الديكتاتورية المنهارة في أي بلد عربي لن يجدي نفعاً. وأن النظام العالمي الجديد بعد سقوط الاتحاد السوفياتي الذي كان داعماً للديكتاتوريات العربية الاشتراكية الثورية في مصر وسوريا والجزائر والعراق وجنوب اليمن وغيرها قد فرض نفسه بقوة السلاح وبقوة المصالح وبقوة الواقعية السياسية الجديدة.
- أن العرب أمامهم خياران أحلاهما مُرُّ:
فإما الاصلاح الشامل من الداخل، وهو ما لا يقدروا عليه، لأن الاصلاح ليس فتوة سينمائية مصرية بطلاها فريد شوقي ومحمود المليجي، ولكنه إصلاح يتطلب آلية علمية واقتصادية وثقافية عالية المستوى، وهي المفتقدة لدى العرب.
فالدرس لا يتم إلا بالتلميذ والأستاذ. والعرب يريدوا أن يكونوا هم التلاميذ وهم الأساتذة ايضاً.
فلا إيمان لدى العرب قدر إيمانهم بقدرتهم الذاتية الأسطورية الوهمية المتفوقة الخارقة (لنا الصدر دون العالمين أو القبر).
إذن، فلا إصلاح من الداخل. وكل دعوة إلى الإصلاح من الداخل ما هي إلا تهريج عربي ممجوج، وزفّات عرس سياسية ذات عطر رخيص كعطر المومسات، تعوّدنا عليها منذ العام 1952 إلى الآن.
والخيارُ المُرّ الثاني، هو الاصلاح من الخارج. وهو يعني اقتلاع كافة الاشجار القديمة المتيبسة التي أصبحت كالعرجون القديم كما وصفها القرآن، وحرث الأرض من جديد بأحدث تراكتورات الحراثة، وزراعتها من جديد، طبقاً لأعلى مستويات التقنية السياسية التي نراها سائرة في العراق الجديد الآن.
وهذا خيار مُرٌ ومرفوضٌ في العالم العربي، الذي ما زال يرى في نبات الصُبّار السياسي ياسميناً، ويرى في نبات العُلّيق السياسي ورداً جورياً!
وهكذا بدا العرب هذا المساء كالمُنْبَت. فلا ظهراً أبقوا، ولا أرضاً قطعوا!
[email protected]
#شاكر_النابلسي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟