أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - سعد هجرس - شاهد عيان فى عنبر المعتقل وبلاط صاحبة الجلالة - شهادة مقدمة الى ندوة -الحرية الفكرية فى مصر-















المزيد.....


شاهد عيان فى عنبر المعتقل وبلاط صاحبة الجلالة - شهادة مقدمة الى ندوة -الحرية الفكرية فى مصر-


سعد هجرس

الحوار المتمدن-العدد: 860 - 2004 / 6 / 10 - 06:20
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
    


أنا ابن جيل هو بدوره ابن لثلاث هزائم
الهزيمة الأولى التى وقعت قبل المولد بشهور أو سنوات معدودات هى النكبة التى أعطت شهادة الميلاد للدولة اليهودية وصبغت شهادة ميلاد جيلنا بالسواد على امتداد الوطن العربى ووضعت المرارة فى الحليب الذى شربناه منذ تفتحت أعيننا على الدنيا.
ورغم ان ثورة 23 يوليو وإنجازاتها الوطنية والاجتماعية، التى ترددت أصداؤها وإشعاعاتها فى العالم العربى والعالم الثالث، قد طغت على مرارة هذه الهزيمة المبكرة، وزرعت آمالا وردية، فان جيلنا من اليساريين سرعان ما تلقى هزيمتين متلاحقتين بينما كان يتأهب بالكاد لان يضع أقدامه على أول درجات سلم الوعى.
الهزيمتان الثانية والثالثة هما حل الحركة الشيوعية لنفسها عام 64 وعام 65، ثم "أم الهزائم" فى 5 يونيه 1967.
ورغم وطأة وقسوة هذه الهزائم الثلاث فإنها لم تنجح فى فرض الانكسار أو الاستسلام على جيلنا كما لم تؤد به الى الارتماء فى أحضان العدمية أو اللامبالاة أو اللا انتماء.
ففى مقابل الهزائم الثلاث كانت هناك ثلاث انتفاضات تزامنت مع إمساكنا بارهاصات الوعى:
الانتفاضة الأولى: تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية وتبلور خطها الكفاحى.
والثانية: انتفاضة 9 و10 يونيه 1967 التى أعلن الشعب من خلالها رفض الهزيمة والاستسلام.
والثالثة: انتفاضة 1968، والتى عبرت – فى مصر – عن أشواق المصريين للديمقراطية والحرية والعدل الاجتماعى.
ومن رحم هذه الانتفاضات الثلاث، وفى ظل زخمها الجماهيرى، ولدت الحلقة الثالثة فى سلسلة الحركة الشيوعية المصرية التى كان لى شرف المشاركة فيها بدور متواضع واشتبكت هذه الحركة - من خلال فصائلها المختلفة ومن خلال الحركة الطلابية والحركة النقابية والحياة الثقافية – مع معضلات الواقع على مدى سنوات النصف الثانى من الستينات وكل السبعينات وأوائل الثمانينات من القرن الماضى، واستطاعت ان تضع أجندة مقابلة وبديلة لاجندة النظام الرسمية فى كل القضايا الوطنية والديموقراطية والاجتماعية والثقافية. وتعرضت فى الوقت نفسه لحملة قمع باطشة منذ اللحظة الاولى لتبلورها.
فلم يعترف بها النظام – على اختلاف العصور وتعاقب الجمهوريات – ولم يعرف لغة لـ "الحوار" معها سوى ان يضع على أفواهها أقفال من حديد. وهذه الأقفال الحديدية لم تكن قانونية فى معظم الأحيان ان لم يكن كلها.
بل كان الاعتقال فى ظل حالة الطوارئ وسنينها الأطول من ليل المريض هو القاعدة والمثول أمام محاكم أمن الدولة هو الاستثناء، اما المحاكمة أمام القاضى الطبيعى فكانت من رابع المستحيلات.
وفى ظل هذه الإجابة الدكتاتورية التى قدمها النظام الحاكم على سؤال الحرية فتحت المعتقلات أبوابها لليسار من جديد فى أواخر الستينات بعد أقل من ثلاث سنوات على الإفراج عن الشيوعيين عام 1964.
وفى معتقل طره السياسى الذى "استضافني" منذ 1968 حتى 21 أكتوبر 1971-وهى فترة شهدت أحداثا مهمة منها وفاة الرئيس جمال عبد الناصر وانقلاب 15 مايو الشهير "بثورة التصحيح" - كانت الأغلبية الساحقة من المعتقلين تنتمى الى جماعة "الإخوان المسلمين" وشهدت هذه الفترة – بالمناسبة – سلسلة انشقاقات فى الجماعة أسفرت عن ولادة وتشكيل جماعات التكفير والهجرة أمام أعيننا ساعة بساعة.
ثم كانت مجموعة من اليهود المصريين الذين تم اعتقالهم بعد هزيمة 1967 والتحفظ عليهم توطنة لهجرتهم الى حيث يريدون، ولم يكن صعبا توقع أن تكون إسرائيل المحطة النهائية لغالبيتهم بعد الترانزيت فى هذه الدولة الأوروبية أو تلك.
وكان هناك عنبر الشيوعيين الذى ضم كوكبة من المناضلين أذكر منهم المناضل الراحل محمد عباس فهمى وشيخ المناضلين طاهر البدرى الذى نتمنى له الصحة وطول العمر وحسن الساكت ومحمد عبد الرسول وأحمد عبد العال الزقم وعبد المنعم سعودى وخليل الآسى ونعيم لبيب خليل وفرنسيس لبيب كيرلس وسيد اسحق وجودة الديب ومحمد حسن المنشاوى ومحمد على فهمى فخرى واحمد القصير وعيداروس القصير وزكريا امام ونور غنيم والفلاح الفصيح أحمد سليم والمستشار الراحل مصطفى عبد العزيز والكاتب والمؤرخ صلاح عيسى والاديب والناقد الدكتور أحمد عبد الرحمن الخميسى والفنان التشكيلى وشيخ النحاتين الراحل محمد حسين هجرس والشاعر نبيل قاسم والزعيم النقابى محمد عفيفى وزملائه من المناضلين العمال والمثقفين الثوريين.
أما من كان يصعب تصنيفهم فى خانة الأخوان المسلمين أو خانة الشيوعيين فقد تم وضعهم جميعا تحت لافتة واحدة هى "النشاط المعادى".
ولم يكن الاعتقال هو الإجابة الجامعة المانعة لسؤال الحرية.
فتحت هذا العنوان الكبير توجد عناوين فرعية كثيرة يحتاج الكلام فيها الى وقت طويل.
صحيح ان اغتيال الحرية واهدار حق المعارضة – يمينية كانت او يسارية – فى التعبير عن نفسها، أو فى الوجود التنظيمى اصلا، كان السياسة الرسمية المعتمدة للنظام الحاكم، وكان هذا المنهج الديكتاتورى بمثابة التناقض الرئيسى مع الحكم، لكن من أصدروا قرار الاعتقال لنا لم يكونوا يحتكرون وحدهم مناوأة الحرية ومصادرتها داخل أسوار المعتقل.
فإلى جانب الحكومة التى تعتقلنا شاء بعض المعتقلين منازعتها فى القيام بدور السجان.
ذلك أن كثيرا من "الاخوان المسلمين" كانوا يرفضون الحديث معنا أو حتى رد السلام، هؤلاء لا يختلفون معك فقط وإنما يرفضون وجودك اصلا. أى ان الحكومة – على نحو ما – كانت أرحم منهم، فهى تعترف بك حتى لو أخذ هذا الاعتراف شكل الاعتقال. أما هؤلاء فلا يعتبروك شريكا فى الوطن ولا يرون بالتالى سبيلا للتعامل معك سوى الاستئصال.
وعندما فكرنا ذات يوم فى محاولة كسر هذا الجمود باقتراح إقامة يوم ترفيهى مشترك يشتمل على مباراة فى كرة القدم رفض "الاخوان" باباء وشمم.. وعندما لعبنا مع اليهود المصريين شجعوهم ضدنا بحماس..باعتبارهم أقرب إليهم منا نحن "الكفرة" والعياذ بالله!
وكانت دكتاتورية المحرومين من الحرية ضد زملائهم المكبلين مثلهم بالاغلال بمثابة مفارقة عجيبة، لكنها لم تكن نقيصة للاخوان المسلمين، أو بالدقة لقطاع منهم، فقط. بل كانت خصلة يشترك فيها الجميع، حكاما ومحكومين، يمينيين ويساريين على حد سواء.
ومن قبيل أمانة الشهادة بهذا الصدد أن نعترف بأن هذا الداء العضال كان موجودا فى صفوف اليسار أيضا. ومثلما عمدت فصائل فى حركة الإسلام السياسى الى تكفير بعضها البعض وتكفير كل من يخالفها الرأى، دأبت بعض فصائل اليسار الى رجم الفصائل اليسارية الأخرى بتهم التحريفية والانتهازية وغيرها من الاتهامات التى ترادف تهمة التكفير تقريبا، خاصة مع اقترانها باستسهال اتهام المختلفين سياسيا وفكريا بالمباحثية وهذا مرض مزمن موروث من الماضى.
ولعلنى هنا أشير بتحديد أكثر الى أننى شخصيا كنت أنتمي الى مدرسة تختلف مع التيار السائد الذى "يقدس" الاتحاد السوفيتى ويعتبر سياسات الحزب الشيوعى السوفيتى انجيلا منزلا.
فى مقابل هذا التيار السائد كانت لنا انتقادات متعددة، من بينها مثلا رفضنا لنظرية التطور اللارأسمالى على الصعيد الفكرى، ورفضنا للأسس النظرية والسياسية لاعتراف الحزب الشيوعى السوفيتى بقرار تقسيم فلسطين، ثم بالدولة اليهودية.. و"تهورنا" اكثر من ذلك وذهبنا فى تقرير شهير الى اتهام الاتحاد السوفيتى بالانحراف عن الطريق الاشتراكى.
وكانت نتيجة ذلك تعرضنا لحملة شرسة من جانب كثير من الفصائل والشخصيات اليسارية.
وكانت "النيران الصديقة" فى هذه الحملة الشرسة بالغة القسوة، حيث وصلت فى بعض الأحيان الى اتهامات رخيصة تتهم قامات نضالية شامخة بالعمالة للمخابرات المركزية الأمريكية والعياذ بالله!
وهذا يعنى ان مناوأة الحرية ليست حكرا على الحكم فقط الذى لا يتورع عن الانزلاق الى الدرك الأسفل من الدكتاتورية حفاظا على صولجان السلطة ومنافعها وأبهتها وشهوتها، بل إن فيروس الاستبداد – وهذا هو الأخطر – قد أصاب الجميع حكاما ومحكومين، أهل اليمين وأهل اليسار وإن يكن بدرجات متفاوتة.
صحيح ان انتقام المظلومين – بعد ان تنقشع الغمة – ظاهرة عالمية، خاصة عندما يكون الظلم الذى تعرضوا له مفرطا وفاجرا وثقيل الوطأة، لكن العجيب فى الحالة المصرية ان المظلومين يمارسون الظلم على أنفسهم وأقرانهم وهم لا يزالون فى الأصفاد وقبل أن يتحرروا من القيود والأغلال!
وهذا العمى السياسى – فوق أنه غير أخلاقي وغير منطقى ولا يميز بين التناقض الرئيسى والتناقضات الثانوية – يؤدى فى التحليل النهائى الى تكريس الاستبداد وإطالة أمد الدكتاتورية ونفى الحرية.
هذا هو النصف الاول من شهادتى المتعلق بالسياسة، أما النصف الاخر فهو بمثابة شهادة من بلاط صاحبة الجلالة تتعلق بالصحافة.. ومن زاوية الحرية أيضا.. وفقط.
وبهذا الصدد فأننى رأيت الرقيب الحكومى يحمل مقصه ويرحل عن المؤسسات الصحفية التى تملك الحكومة أغلبيتها الساحقة.
لكننى رأيت الرقابة تحافظ على وجودها، بل وتعززه، بصور شتى. الظاهر منها رقابة رئيس التحرير الذى تعينه الحكومة، وبالتالى فانه يدين لها بالولاء، لأنها مبرر وجوده وسبب سعده.
والظاهر منها كذلك ترسانة من القوانين المقيدة للحريات، والتى يوجد على رأسها قوانين تتيح حبس الصحفيين، بل والقراء الذين يكتبون فى الصحف، ورغم ان الرئيس قد أبلغ المؤتمر الأخير للصحفيين اعتزامه اتخاذ الإجراءات التشريعية لإلغاء قوانين حبس الصحفيين فى قضايا النشر فان هذا لا يزال "وعدا" يحتاج أن يوضع موضع التنفيذ.
لكن غير الظاهر منها أخطر وأكثر.. أولها الرقابة الداخلية التى ترسخت بين جوانح الكثير من أصحاب الأقلام من جراء ميراث الاستبداد الطويل.
وثانيها ضغوط المجتمع الناجمة عن استشراء قيم التزمت والتعصب والجمود ومخاصمة العقل والعقلانية وتعاظم نفوذ جماعات تكفير التفكير وفرض الحجاب على عقل الأمة.
وثالثها ضغوط واغراءات راس المال وجماعات المصالح التى تمادت فى شراء الضمائر وتوظيف الأقلام بإغراء المال وكعكة الإعلانات وغيرها من العطايا والهدايا والإكراميات، وخاصة مع تدنى أجور الغالبية الساحقة من الصحفيين، واتساع الفوارق بين الاوضاع المالية للمحظوظين منهم فى "مؤسسات الشمال" وبين التعساء أبناء "مؤسسات الجنوب".
ورابعها استفحال التبعية الإعلامية للأعلام الغربى عموما والأمريكي على وجه الخصوص، حتى أصبحت كثير من مطبوعاتنا الصحفية مجرد "إعادة انتاج" لما تكتبه الصحافة الامريكية. ويكفى أن ننظر إلى ما كتبته كبريات صحفنا قبيل العدوان الأمريكى – البريطانى على العراق، لنرى كيف نشرت هذه الصحف المصرية "الكبيرة" و"العريقة" كل أكاذيب وادعاءات الإدارة الامريكية دون تحفظ ودون تمحيص.
وفى الأيام الأخيرة قدمت صحيفة "نيويورك تايمز" اعتذارا لقرائها عن تورطها فى السير معصوبة العينين خلف كل مزاعم وخرافات البيت الأبيض والبنتاجون وأجهزة المخابرات.
ورغم أن كثيرا من صحفنا تندفع لتقليد كل ما تفعله الصحف الأمريكية فأنها تجاهلت اعتذار "نيويورك تايمز" واعتبرته أمرا لا يخصها، مع ان الفضائح التى تورطت فيها تزيد كثيرا عن فضيحة الصحيفة الأمريكية.
وهناك أخيرا وليس آخرا العدوان على الحقيقة من جراء تفاقم الجهل النشيط وتدهور التقاليد المهنية ومعايير الكفاءة فى أنحاء كثيرة من بلاط صاحبة الجلالة التى أصبحت نهبا للفهلوة والسطحية والغثاثة والركاكة . وكل هذه الآفات أو معظمها هى الحصاد المر لاحتقار الحرية.
ولعل المثال الفاضح لذلك تلك التغطية الصحفية والإعلامية الرديئة للزيارة الأخيرة للرئيس مبارك إلى الولايات المتحدة . وكيف تسابق الصحفيون المصريون المرافقون للرئيس فى الحديث عن النجاح المنقطع النظير لهذه الزيارة ، والصداقة الحميمة التى تربط بين مبارك وبوش .. إلى غير ذلك من الكلام الفارغ الذى فضحه "وعد بوش" – الذى هو أسوأ من "وعد بلفور" – لرئيس الوزراء الإسرائيلي شارون بعد ساعات من لقاء الرئيس الأمريكى مع الرئيس المصرى الذى كان لا يزال فى الولايات المتحدة، بكل ما يمثله ذلك من جليطة دبلوماسية أمريكية وإحراج لرئيس مصر.
والحكومة ليست بريئة من هذا التدهور المهنى المخيف الذى جعل الصحافة المصرية تتراجع عن موقع الريادة للصحافة العربية ، بل هى مسئولة عنه او عن جانب كبير منه من أكثر من زاوية : أولها هيمنتها على 90% من الصحافة المصرية بالملكية وتعييناتها لرؤساء التحرير، وبتركها الحبل على الغارب فى هذه المؤسسات التى أصبحت عزباً خاصة ومفارخ للفساد والإفساد، وتحولت من جراء هذه الأوضاع الشاذة إلى منابر للكذب العلنى وتزييف الوعى وخداع الرأى العام.
ورغم أنه لا يمكن إنكار تحسن بعض أوضاع الصحافة فى السنوات الأخيرة ، وهذا أمر طبيعى ، فانه لا يمكن أيضا تجاهل استمرار أوضاع منافية للحرية فى بلاط صاحبة الجلالة من بينها استمرار مصادرة جريدة " الشعب" رغم صدور أحكام قضائية نهائية وواجبة النفاذ تطالب السلطة برفع يدها الثقيلة عن هذه الجريدة التى جرى اغتيالها جهاراً نهاراً.
وكذلك الحال بالنسبة لجريدة "الدستور"، فضلا عن استمرار العقبات القانونية والإدارية التى تقف حجرة عثرة دون حق الأفراد والجماعات فى إصدار صحفهم المستقلة . وليست الصحف فقط هى التى يتعذر إصدار الجديد منها ، وإنما المعلومات نفسها يتعذر الوصول إليها بحرية والتيقن منها.
باختصار .. وعلى عكس ما يقال ويتردد كثيراً بمناسبة وبدون مناسبة من ان الصحافة تعيش أزهى عصورها ولم يقصف قلم لصحفى .. فان واقع الحال يؤكد أن مصر تستحق صحافة أفضل . وان كلمة السر بالنسبة للصحافة – مثلما فى السياسة – هى "الحرية".
والمحزن حقاً بالنسبة للجيل الذى أنتمى إليه ، والذى عانى من غياب الحرية او تقييدها فى أفضل الأحوال ، أنه كان ابن الهزائم الثلاث الكبرى التى أشرنا إليها فى البداية ، ورغم محاولاته الدءوبة والمضنية والتى دفع ثمنها غاليا فانه يكاد يتقاعد فى ظل ثلاث هزائم لا تقل كآبة عن تلك التى نغصت طفولته وصباه وشبابه.
فقد عانينا فى طفولتنا من قرار التقسيم عام 1947 ونكبة 1948 التى أضاعت نصف فلسطين .. الآن نعانى من ضياع فلسطين كلها واستقواء "اسرائيل الكبرى" وتبجحها ليس على الفلسطينيين فقط بل على العرب أجمعين الذين أصبحوا يهرولون فرادى وجماعات للتطبيع مع الدولة اليهودية وخطب ودها بعد أن كان ذلك فى عداد المحظورات سابقاً .. فى العلن على الأقل !
وعانينا فى شبابنا من حل الحزب الشيوعى المصرى .. الآن تم حل الاتحاد السوفيتى بهيله وهيلمانه وتسابقت دول الكتلة الشرقية للانضمام إلى ملف شمال الاطلنطى.
وعانينا فى أواخر الستينات من هزيمة 5 يونية التى أسفرت عن احتلال سيناء المصرية والجولان السورية والضفة والقطاع الفسلطينيان ، لكنها لم تنجح فى كسر إرادة الصمود والمقاومة .. الآن وبعد استكمال احتلال فلسطين وبعد هزيمة 9 أبريل التى شهدت احتلال القوات الانجلو أمريكية لعاصمة الخلافة العباسية انطلاقا من قواعد متناثرة فى أنحاء شتى من العالم العربى .. أصبح اجتماع أصحاب الجلالة والفخامة والسمو ملوك ورؤساء وأمراء العرب مطلباً صعب المنال ، واذا ما تحقق بعد لأى سرعان ما يتحول إلى مهزلة .. ولم يعد أمام جامعة الدول العربية إلا ان تؤجر مقرها المطل على النيل لمن يريد من الشركات العابرة الجنسيات أو ان يصبح أمينها العام المندوب السامى الأمريكى بول بريمر.
هذه الصورة الكئيبة لتلك الدائرة المغلقة التى تبدأ بهزائم وتنتهى بمصائب ليست مرثية لجيلنا ، كما وأنها ليست مدعاة لليأس أو العدمية السياسية او الاذعان للأمر الواقع.
هى بالأحرى شهادة لواقع عشناه ولا نستطيع أم نتجاهل مرارته ولا يجدر بنا أن نقوم بتجميل قبحه.
واذا كنا نريد لبلادنا ان تتقدم وان تخرج من هذه الدائرة الشريرة والمأزومة .. فان علينا ان نعترف اولاً وقبل كل شئ بحقيقة أوضاعنا.
والحقيقة هى اننا أمة متخلفة وفقيرة ومهزومة .. رغم كل الأناشيد والأهازيج الزائفة التى تحاول تصوير الحال عكس ذلك . ويجب ان نعترف بأن الجذر المشترك للتخلف والفقر والهزيمة هو الفشل فى الاجابة على سؤال الحرية .
هذا الاعتراف .. يجب أن يسير جنبا إلى جنب مع الاستشراف الواعى لنقائض الهزائم التى حلت بنا.
فمثلما ولدت الهزائم الثلاث " القديمة " نقائضها ، فان موجة الجزر الثورى التى اجتاحت العالم بعد سقوط الإمبراطورية السوفيتية وانهيار حائط برلين ، واستفحال مخالب وأنياب "الليبرالية المتوحشة" و "المحافظين الجدد" الذين أعادوا ضخ الدماء فى شرايين كل الأصوليات اليهودية والمسيحية والإسلامية وحتى الهندوسية ، هذه الموجة بدأت تنحسر وخلقت العولمة المتوحشة عولمة بديلة أصبحت بمثابة جنين لأممية انسانية وثورية عبرت عن نفسها فى مظاهرات مليونية لم يشهد تاريخ البشرية مثيلا لها من قبل ولم يعد منتدى دافوس هو الحقيقة الوحيدة الكئيبة فى ظل العولمة بل أصبح هناك فى مقابلة منتدى بورتو الليجرى . وأمام هذه الظاهرة الكونية الجديدة لم تجد "نيويورك تايمز" مناصا من ان تقول بان العالم اليوم أصبحت به قوتين عظميين : الولايات المتحدة الأمريكية .. والرأى العام العالمى.
والهيمنة الأمريكية المطلقة على النظام العالمى أصبحت تواجه تحديات كثيرة ليس فقط داخل "أهل القمة" وبالذات من الاتحاد الأوروبى ، وانما ايضا من الصين وقوى اقليمية صاعدة ومتمردة مثل البرازيل والهند وأسبانيا .. حتى الحليفين الأكثر قرباً لإدارة بوش وهى الحكومة البريطانية والحكومة الاسترالية .. تواجهان تحدياً خطيراً يهدد بقاءهما إن آجلا أو عاجلاً.
والأهم أن الجبروت الأمريكى يواجه الآن امتحاناً عسيراً فى العراق ، وقد استطاعت المقاومة الوطنية العراقية ان تمرغ هيبة أمريكا فى الوحل ، والمؤكد ان قوات الاحتلال الأمريكية ماتزال تنتظر الكثير من الإذلال على أرض بلاد الرافدين رغم التفوق العسكرى الساحق والقوة الأمريكية الغاشمة والبربرية غير المسبوقة التى يمارسها الأمريكيون على ضفاف دجلة والفرات.
وإذا أضفنا إلى ذلك أن السياسة النازية ، التى يمارسها شارون ضد الشعب الفلسطينى والتى وصلت إلى الحد الأقصى من استخدام أبشع الأساليب الاستعمارية ، لم تنجح فى تركيع الشعب الفلسطينى حتى الآن .. بل إنها صبت مزيداً من الزيت على نار الانتفاضة والمقاومة الفلسطينية .. والاهم أنها بددت البقية الباقية من أوهام الدعاية الخائبة التى دأبت الأنظمة العربية على ترويجها وبيعها للشعوب العربية عن "السلام الدامس".
كل هذا .. مضافاً إليه افتضاح عجز الأنظمة العربية ، وتواطؤ بعضها مع الأمريكيين والإسرائيليين ، وفى نفس ا لوقت تلكؤها أمام استحقاقات التغيير والإصلاح السياسى والاقتصادي والاجتماعي والمعرفى ، يخلق أرضية محلية – تساندها بيئة إقليمية ودولية تصبح مواتية أكثر فأكثر – لاعادة طرح سؤال الحرية على رأس جدول أعمال الشعب المصرى والشعوب العربية .. خاصة وقد أثبتت تجربة السنوات والعقود الماضية زيف التذرع بالعدوان الصهيونى والإمبريالي لتأجيل دفع فاتورة الاستحقاق الديموقراطى .
كما أثبتت تجربة الغزو البربرى الانجلو – أمريكى للعراق زيف التذرع بالاستبداد "الوطنى" لاستدعاء الاحتلال الأجنبى .
فقد أصبح واضحاً لكل ذى عينين ان الاحتلال الأمريكى لم يدمر فقط "أم" الحريات التى هى السيادة الوطنية وحق تقرير المصير ، وإنما انتهك أيضا الديموقراطية وحقوق الإنسان فى العراق الذى تحول إلى سجن كبير أبشع من سجن أبو غريب.
وهذا ليس تحليلاً او تنظيراً .. وإنما هو شهادة حية لشاهد عيان .. على هامش السياسة وتخوم الصحافة .
وما يجعلنى أقل تشاؤما ان النخب المصرية لم تفسد كلها ، بل ظل بعضها محصناً ضد التلوث والإفساد ، والاهم ان بعضها قد تعلم دروساً ثمينة ، وبالأخص فيما يتعلق بمسألة الحرية .. والدليل على ذلك خروج تيار من معطف الأخوان المسلمين لا ينفى الآخر ولا يرفض الديموقراطية وتداول السلطة واعتماد المواطنة كمبدأ أسمى.
والدليل على ذلك أيضا خروج تيار من معطف الناصرية لم يتردد فى تقديم نقد ذاتي عن الممارسات الدكتاتورية فى الفترة الناصرية بل والتقدم باعتذار علنى عنها للشعب المصرى.
والدليل على ذلك أيضا ان كثيراً من فصائل اليسار أصبحت أكثر حساسية فى الرد على سؤال الحرية وأكثر ديموقراطية بعد أن ثبت للقاصى والدانى، وحتى للمعجبين بالتجربة السوفيتية ، ان غياب الحرية كان أحد أسباب انهيار هذه الإمبراطورية كتمثال من الملح.
اكرر .. هذا ليس تحليلاً أو تنظيراً .. وإنما هو شهادة حية كشاهد عيان .. على هامش السياسة وتخوم الصحافة.



#سعد_هجرس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لماذا أصبحت الطبقة السياسية سميكة الجلد؟!
- خصخصة حق تقرير المصير.. هى الحل
- مهرجان »كان« السينمائي أهم من قمة تونس العربية
- يحيا العدل.. الأمريكي !
- اكبــر ديمقـراطيـة .. فى بـــلاد تركب الأفيــال
- الغضب .. أفيون العرب!
- جــريمـــــة الـقــــرن الحــــادي والعشـــــــرين
- الــــــورطــــــــــة !
- - وعد بوش - .. لاقامة إسرائيل الكبرى
- حكاية سيدة محترمة اسمها - ميريام - اطلبوا الإصلاح .. ولو من ...
- بعد أن تحول العراق من »وطن« إلي »كعكة« سباق دولي وعربي محموم ...
- رسالة مفتوحة الى أصحاب الجلالة والفخامة والسموالبقية فى حيات ...
- بين -الدير- و-الشيخ- .. -ياسين- يدفع فاتورة الاستشهاد جرائم ...
- رئيس الحكومة صاحب المزاج العكر .. أول ضحايا لعنة العراق
- من لا يقـــدر على - بــوش- وزعــانفــــه فليقــــذف نــادر ف ...
- من لا يقـــدر على - بــوش- وزعــانفــــه فليقــــذف نــادر ف ...
- العربى مريض .. فمن يكون - بوش - : الطبيب أم الحانوتى ؟
- صاحبـــة الجــلالة تنهـض من تحـت الأنقــاض
- بمناسبة انعقاد المؤتمر العام الرابع للصحفيين مـصــــر تستـحـ ...
- حــرب - الكــاتشــب - و - النفــط - للفــوز بالبيت الأبيــض


المزيد.....




- أسير إسرائيلي لدى حماس يوجه رسالة لحكومة نتنياهو وهو يبكي وي ...
- بسبب منع نشاطات مؤيدة لفلسطين.. طلاب أمريكيون يرفعون دعوى قض ...
- بلينكن يزور السعودية لمناقشة الوضع في غزة مع شركاء إقليميين ...
- العراق.. جريمة بشعة تهز محافظة نينوى والداخلية تكشف التفاصيل ...
- البرلمان العراقي يصوت على قانون مكافحة البغاء والشذوذ الجنسي ...
- مصر.. شهادات تكشف تفاصيل صادمة عن حياة مواطن ارتكب جريمة هزت ...
- المرشحة لمنصب نائب الرئيس الأمريكي تثير جدلا بما ذكرته حول ت ...
- الاتحاد الأوروبي يدعو روسيا إلى التراجع عن قرار نقل إدارة شر ...
- وزير الزراعة المصري يبحث برفقة سفير بيلاروس لدى القاهرة ملفا ...
- مظاهرات حاشدة في تل أبيب مناهضة للحكومة ومطالبة بانتخابات مب ...


المزيد.....

- كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل ... / حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
- ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان / سيد صديق
- تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ ... / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- المثقف العضوي و الثورة / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- الناصرية فى الثورة المضادة / عادل العمري
- العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967 / عادل العمري
- المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال ... / منى أباظة
- لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية / مزن النّيل
- عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر / مجموعة النداء بالتغيير
- قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال ... / إلهامي الميرغني


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - سعد هجرس - شاهد عيان فى عنبر المعتقل وبلاط صاحبة الجلالة - شهادة مقدمة الى ندوة -الحرية الفكرية فى مصر-