أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد الخميسي - إيمى














المزيد.....

إيمى


أحمد الخميسي

الحوار المتمدن-العدد: 2775 - 2009 / 9 / 20 - 23:19
المحور: الادب والفن
    



قصة قصيرة

كانت إيمي صغيرة الحجم ، دقيقة ، قصيرة ، نحيفة ، وجهها مستطيل مضغوط من الجانبين كأنه شمعة وحول رأسها كان ثمة نور خفيف، عيناها واسعتان، كعيون الإيرانيات ، معبئة بسواد ساحر عميق، يعلوهما حاجبان مرسومان بدقة كهلالين غاية في الجمال . لكن إيمي لم تكن تنظر مباشرة في عيني من يحدثها إلا نادرا وللحظة قصيرة تعود بعدها فتطرق برأسها وتحني كتفيها النحيفتين المضمومتين لأسفل وهي تضفي على نفسها هيئة من ينصت باهتمام وأدب . لم تكن تنظر لأحد مباشرة ، بل ولم تكن تنصت لشيء . اكتشفت ذلك فيما بعد ، حين كنت أحدثها ذات مرة ، ثم توقفت أتأملها متشككا في أنها تسمعني ، ثم لزمت الصمت ناظرا إليها وهي مازالت تهز رأسها كمن ينصت ، وعدت أكلمها لكن في موضوع آخر دون أن يثير ذلك أي رد فعل لديها . وحتى حين كانت إيمي تنهض وهي تضم طرفي الجاكت الخفيف ، وتمد يدها مودعة ، كنت أشعر أنها لا ترى أي شيء حولها . كانت مستغرقة في نفسها طوال الوقت تحاول أن تتسمع بعيدا في أعماقها إلي غمغمة بعيدة ، صدى خافت لأصوات مهشمة ، تلمع أحيانا وتختفي . حين كانت إيمي تأتي إلي في أيام الشتاء كان أول ما تطلبه أن أغلق بطارية التدفئة لأنها تصدر أزيزا خفيفا ، وفي أيام الصيف ترجوني أن أغلق جهاز التكييف لأن الصوت الخفيف جدا الصادر عنه يقلقها ، ثم كانت تسألني أن أغلق جهاز التلفزيون وأحكم إغلاق النوافذ لأن الأصوات القادمة من الشارع توترها . وتجلس بعد أن أنفذ كل ما تريده ترهف السمع ، ثم تقول : هل هناك جهاز ما يعمل في المطبخ ؟ . أقول : لا . تقول : لأنني أسمع صوتا . أقول : ربما من عند الجيران . وفقط عندما تختفي كل الأصوات ، تجلس إيمي وتهدأ وتطرق برأسها تنصت في أعماقها لغمغمة من العالم الآخر، تنصت بكل كيانها ، مثل شخص غائب في صلاة ، كأنما تبتهل إلي الغمغمة أن تخرج من الضباب .
قلت لها مرة ونحن نتغدى في أحد المطاعم : أنت ياإيمي لا تسمعين ، لا تنظرين ، لا تبصرين . لست هنا . ضحكت ضحكة مسحوبة مثل حد سكين : ما الذي تقوله ؟ كيف أعيش إذن ؟ . قلت لها : تتركين هذا الإنطباع يا إيمي . سكتت ورأسها مطرق ثم قالت دون أن تنظر إلي : أتذكر أبي الذي توفي مبكرا ، كان أغلى ما حياتي . يخيل إلي طيلة الوقت أنه همس لي بشيء ، لكني لم أسمعه جيدا حينذاك أو سمعت ولم أفهم لأني كنت صغيرة في السادسة وأنه مازال يريد لكلمته أن تصلني . حتى الآن ، أتحدث إليه ، أستأذنه قبل أن أقوم بهذا العمل أو ذاك، أطلب موافقته ، وحينما أخطيء أو أذنب أسأله بدموعي في الليل أن يغفر لي . أتساءل أحيانا ألم يحن الوقت لكي يدعوه ليرجع إلي عالمنا بعد أن بقى هناك سنوات طويلة جدا ؟ ألا يكفي كل هذا الزمن ؟
كنت متيما بإيمي ، أحاول أن أنتهز الفرصة لأعترف لها بحبي ، فأمسكت بيدها ونحن جالسين وقلت لها بصوت مرتجف : إيمي .. أنت ترجين كل كياني رجا متصلا دون توقف ، دون لحظة هدوء ألتقط فيها أنفاسي . ما أن أقترب من أي شيء حتى أكتشف أنني أحبك، حين أتجه للمطبخ وأضع إبريق الشاي على النار أجدني أحبك . حين أستلقي لبعض الوقت على السرير أجدك ملء قلبي ، عندما أرفع سماعة التلفون ، وحينما أخلع قميصي ، وأنا أفتح باب الشقة لطارق ، وحتى يدي وهي تغسل وجهي تذكرني أني أحبك . أصبحت مهمة العالم كله أن يذكرني بأنني أحبك . كأن العالم اختزل وجوده إلي مجرد سهم كبير يشير إليك . قولي لي كيف يمكن لمفاتيح لوحة الكمبيوتر ، ولعلبة الثقاب ، وفرشاة الحلاقة ، والجدران ، وكل ما ألمسه ، كيف يمكن لكل ذلك أن يتذكرك ويجعلك أمامي ؟
أمسكت بيدي ودعكتها بقوة وهي تنظر بعيدا وقالت : نعم . هذا هو الحب . أنا أعرفه .
افترقنا على أن نلتقي بعد ساعتين في ميدان التحرير لنتجه بعد ذلك لمشاهدة عرض مسرحي . كان موعدنا في السادسة مساء في الساحة الممتدة أمام مبنى المجمع الضخم . لكن ازدحام الطرق أخرني عنها نحو ربع الساعة ، وحين بلغت ميدان التحرير كان يضج بالنداءات وضوضاء السيارات وصياح المارة . رأيت إيمي من بعيد ، رحت أخطو في اتجاهها بخطوات سريعة ، وفجأة رأيتها تتلفت متطلعة إلي الجو حولها وهي مذعورة ، ثم أخذت تلوح بيديها كأنما تصد رصاص أصوات ينهمر عليها من كل ناحية ، ثم أمسكت رأسها بيديها، وضغطت على إذنيها بقوة ، وقد تشنج وجهها . هرولت ناحيتها ، كانت تترنح نحيفة رقيقة كأنها بقية حب ، واستولي على فزع لم أعرفه من قبل ، ولحقت بها قبل أن تهوي على الأرض ، أمسكتها من كتفيها ، وأنا أصيح فيها : إيمي . هززتها بقوة ، ففتحت عينيها ، هتفت باسمها ثانية : إيمي . فحدقت في بنظرة مثل الشهقة وتمتمت بحرارة غير مصدقة : جئت !
تلك كانت المرة الوحيدة التي رأتني فيها إيمي !

***
أحمد الخميسي . كاتب مصري
[email protected]



#أحمد_الخميسي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عالم مصر السفلى
- من كان قادرا على الكتابة فليكتب .. أو فليسكت !
- ندم - قصة قصيرة
- كناري الصغيرة
- ماذا نعني بترجمة الأدب الإسرائيلي ؟
- نتنياهو - المهزلة والدراما
- الضمير المصري يستقبل أوباما بمسرحية - فضيحة أبو غريب -
- حزب مصري جديد .. معارض للحياة
- محمد الفضالي .. مبدع جديد
- الأوبرا المصرية مغلقة أمام سيد درويش مفتوحة للإسرائيليين ؟
- عداء السامية لنا
- انتظار - قصة قصيرة
- المحكمة الدولية واعتقال الرئيس السوداني
- الحرية لمجدي حسين
- أنطون تشيخوف الحبيب
- المثقفون البريطانيون - ينبغي لإسرائيل أن تخسر - !
- المصريون وغزة
- الحذاء العراقي الطائر
- جورج بوش يعتذر عن الأكاذيب بالمزيد منها
- حيرة - قصة قصيرة


المزيد.....




- القضاء العراقي يوقف عرض مسلسل -عالم الست وهيبة- المثير للجدل ...
- “اعتمد رسميا”… جدول امتحانات الثانوية الأزهرية 2024/1445 للش ...
- كونشيرتو الكَمان لمَندِلسون الذي ألهَم الرَحابِنة
- التهافت على الضلال
- -أشقر وشعره كيرلي وحلو-..مشهد من مسلسل مصري يثير الغضب بمواق ...
- الإيطالي جوسيبي كونتي يدعو إلى وقف إطلاق النار في كل مكان في ...
- جوامع العراق ومساجده التاريخية.. صروح علمية ومراكز إشعاع حضا ...
- مصر.. الفنان أحمد حلمي يكشف معلومات عن الراحل علاء ولي الدين ...
- -أشقر وشعره كيرلي وحلو-..مشهد من مسلسل مصري يثير الغضب بمواق ...
- شجرة غير مورقة في لندن يبعث فيها الفنان بانكسي -الحياة- من خ ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد الخميسي - إيمى