أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محسن ظافرغريب - شاعر ٌ يعتاش بقصِّه ِ مات!















المزيد.....


شاعر ٌ يعتاش بقصِّه ِ مات!


محسن ظافرغريب

الحوار المتمدن-العدد: 2742 - 2009 / 8 / 18 - 08:06
المحور: الادب والفن
    



كم مِن مَلِك ٍ، رُفِعتْ لهُ علامات؛ فلما علا (في الأرض، وَبلغ الخمسينَ عاماً مِن عُمُره ِ) مات!. بالأمس بلغ مَلِك البوب "مايكل جاكو" الخمسين مِن عمره؛ فمات!، وَقبله "روبيرتو بولانيو" (ما قبل واقعية Infrarealism أميركا اللاتينية) أيضاً بلغ الخمسين مِن عمره؛ فمات!. ما قبل واقعية، أدب كبار الشعراء اللاتينيين أمثال: " بابلونيرودا" و "فاليخو" و "بارا"، ترجمته جميع لغات العالم ومنها الانكليزية والفرنسية و العربية، مع ظهور مدارس ابداع أدب أميركا اللاتينية الواقعية السحرية الفانتازية في العقود الثلاثة الماضية.
فانتازيا شمالي أميركا اللاتينية، أدب مثل "كورتثار" و "ماركيز"، واقعية جنوبي أميركا اللاتينية، أدب مثل " فارغس يوسا " و "ايليندي". للتمرد على قوالب واشكال الابداع التي ميزت الأدب اللاتيني المعاصر يعتبر الشاعر الروائي بولانيو آخر الأسماء على المستوى العالمي رغم مفارقات المأساة الملهاة منتصف عقد سبعينات القرن 20م عُد "بولانيو" أحد مبدعي المدرسة الأدبية الحديثة التي أطلق عليها "بولانيو" اسم (ما قبل الواقعية) شراكة مع الشاعر المكسيكي "ماريو سانتياغو" في المكسيك، دعا فيها الأدباء اللاتينيين لترك حياة الأدب التقليدية في المقاهي والمكتبات والتوحد في حياة التقشف والتشرد والانغماس في الأدب بشكل ٍ كامل ٍ ما جعل كتاباته السردية بعامة ٍ تنحو للسيرة الذاتية والاستعارات المكرورة للشخوص واسماء الاماكن التي مرت في حياته، ولعل اشهر هذه الشخصيات الروائية التي قام باستعمالها في عدة اعمال سردية هي شخصية الشاعر (ارتورو بيلانو) بتحوير لغوي في اسم روبيرتو بولانيو ذاته. تتميز كتابات بولانيو بالتركيز على السرد اليومي الرتيب، دون أن يفقد ذلك من حيوية الشخصيات والاحداث المستخدمة في النص، كما أن تقاطع اشكال ادبية اخرى في السرد مثل المذكرات واليوميات والتقرير الصحافي يجعل من رواياته تتمتع بقدر كبير من الاثارة والعمق الفلسفي ولعل روايتيه (المخبرون المتوحشون) و(2666) ومجموعته القصصية ( اُمسيات أخيرة على الأرض)، أفضل الأمثلة التي تظهر فيها هذه التقنية السردية التي جعلت "بولانيو" دالة أدبية تضاهي دالات ٍ أخر في الأدب اللاتيني المعاصر.
في ( اُمسيات أخيرة على الارض) قصة "بطاقة رَقص"، تبين بوضوح اُسلوب "بولانيو" السردي الواقعي، قص بلا ضفاف بين الواقعي والمتخيل، إذ لا تأبه الشخصية الراوية للحدث ولا تعبأ بالبوح باسمها وينحو بولانيو أحياناً لاستخدام أحرف أولى في تسمية بعض الشخوص في عدد من القصص مثل (أ) و(ب) و(ج) و(ي)، كما لو أن الأسماء في حقيقتها لا تشكل أهمية أزاء الحدث والمكان كلية، وقد يوحي السرد الرتيب للقارئ بأن الكاتب يحاول ايقاعنا في فخ الرتابة لكي يفاجئنا بالنهاية الفاجعة الأشد ادهاشاً، بيد أن "بولانيو" لا يقدم لنا سوى نهايات مبتورة في وسط الحدث، كأنه محض ناقل لجزء من حركة الزمن في المكان دون محاولة لجعله بطولياً مدهشاً!. لا يخفي بولانيو شغفه بالتجريب رغم تشابه أماكن حدوث بعض القصص في الشخوص المتحولقة حولها ما يجعلها أقرب لفصول رواية واحدة ما يمنحنا الاحساس باختلافها وتباينها الأسلوب والبناء السردي الذي يتبعه مع كل قصة في أعماله. في قصة "بطاقة رقص" التي نعرضها أدناه، نجد هذا التجريب السردي جلياً من خلال تقسيم النص على هيئة اجزاء مرقمة متلاحقة، وكأنها ملاحظات في دفتر يوميات أو ربما برقيات قصيرة تلخص سيرة الكاتب وعلاقته الحميمة بالادب، وبالشعر تحديداً، ولعل الاسباب التي جعلتني اختار هذا النص القصير لترجمته كونه يختزل اسلوب وحياة روبيرتو بولانيو التي بدأت رتيبة وانتهت برتابة كذلك إلا أن اندماجه الاسطوري بالشعر والسرد جعله يصبح أحد الشخصيات الروائية التي تعيش في كتبه، ورغم وفاته العام 2003 فإن تحول أسمه ورواياته إلى ظاهرة أدبية عالمية بعد مغادرته هذه الحياة، جعل مفارقة المأساة الملهاة لشخصيته (ما قبل الواقعية) تزداد حياة كل يوم بصدور المزيد من رواياته وقصصه وأشعاره. صنف شاعراً، بيد أنه سرعان ما توفي باسبانيا سنة 2003 بمرض الفشل الكبدي الذي عانى منه طيلة العقد الأخيرة مِن عُمُره وانتج في غضونه جل وأجل أدبه الروائي وعمره فقط نصف قرن من الزمن لاغير، كاتباً للقصة القصيرة، ليعيش وأسرته الصغيرة، ما حقق له مكانة في اسبانيا واميركا اللاتينية!. وضعته أمه معلمة الرياضيات، سنة 1953 في مدينة سانتياغو التشيلية لأب يحترف الملاكمة و يقود شاحنات النقل. امضى بولانيو طفولته حتى سنة 1968 في تشيلي. انتقلت عائلته للعيش والعمل في العاصمة المكسكية مكسيكو سيتي. بدأ بولانيو في مطلع عقد سبعينات القرن 20 يرتاد حلقات الشعراء اللاتينيين المنتشرة في مدينة مكسيكو سيتي متأثرة بالشعراء اللاتينيين الكبار. سنة 1973 رحل إلى مسقط رأسه تشيلي، لمساندة الحركة الاشتراكية بانتخاب الرئيس سالفادور ايليندي ومن ثم اطاح به انقلاب الجنرال الراحل "بينوشيه" الدموي، وكانت أهم المنعطفات التي شكلت حياته وأسلوبه الادبي اثر مدة وجيزة في معتقل تشيلي لاحقا. عاش بولانيو شريداً بين السلفادور والمكسيك وفرنسا واسبانيا التي انتقل إليها بشكل نهائي عام 1977 متخذاً من مدينة برشلونة مقراً له. انتقل بولانيو في هذه الفترة بين عدة أعمال، من غاسل للصحون، لجامع قمامة، ليقضي باقي وقته في المطالعة والكتابة. استمر بولانيو في كتابة الشعر بشكل متقطع طيلة عقدي الثمانينات (منتصف الثمانينات تحول لكتابة سرد القص والرواية) والتسعينات من القرن الماضي. صدرت باكورة أدبه السردي بالاسبانية سنة 1984، لتتواتر اعماله الروائية حتى صدور روايته "المخبرون المتوحشون" عام 1998 التي لاقت نجاحاً كبيراً في اسبانيا تحديداً وفازت بعدد من الجوائز الادبية. رغم غزارة انتاجه الروائي في عقد من الزمن لم يحظ بشهرة عالمية إلا بترجمة رائعته روايته " ليلاً في تشيلي " للانكليزية عام توفي 2003.
أنجز أهم رواياته قبيل وفاته: ملحمة قسمها ل 5 اجزاء معنونة ب(2666) صدرت بعد عام من وفاته بالاسبانية (عام2004 ) وبالانكليزية مطلع عام 2009، وهناك حديث عن اكتشاف مزيد من المخطوطات الروائية التي تركها ويتوقع صدورها بعدة لغات قريباً.
صدر له شعرا:
الكلاب الرومانسية: قصائد 1980-1998 (2000)
ثلاثة (2000)
الجامعة المجهولة (2007)
من أعماله السردية:
الادب النازي في الاميركيتين (1996)
نجم بعيد (1996)
المخبرون المتوحشون (1998)
تعويذة (1999)
السيد خبز (1999)
ليلاً في تشيلي (2000)
2666 (صدرت العام 2004)
أمسيات أخيرة على الأرض (2006
***
بطاقة رقص
1.كانت أمي تقرأ لنا قصائد نيرودا في كوابلي، كواكوينيس، ولوس انجليس. 2. كتاب واحد: (عشرون قصيدة حب واغنية يائسة)، دار نشر لوسادا، بيونس ايريس، 1961. على الغلاف الامامي رسم لنيرودا وعبارة تذكر ان هذه الطبعة نشرت بمناسبة صدور النسخة المليون من الديوان. هل حقاً طبعت مليون نسخة من ديوان (عشرون قصيدة) مع العام 1961؟ أم أن العبارة قصدت الاشارة إلى كافة اعمال نيرودا المنشورة؟ اخشى ان الاحتمال الاول هو الارجح، على الرغم من أن كلا الاحتمالين مقلق ويصعب تصوره الآن. 3. على الصحفة الثانية من الكتاب كتب اسم امي: ماريا فيكتوريا افالوس فلوريس. وبفحص سريع للخط الذي كتب به الاسم اتوصل إلى النتيجة غير المحتملة أن احداً آخر كتب اسمها على الصفحة. فالخط ليس خط والدي أو أي ممن اعرف. فمن يكون إذاً؟ بعد التمحيص الدقيق للتوقيع الذي بهت بمرور السنوات، عليَّ أن اعترف، برغم شكوكي، إن أمي هي من كتبت اسمها على الكتاب. 4. لم تكن أمي في عامي 1961 و1962 مسنة كما هو حالي الآن، فلم تبلغ بعد الخامسة والثلاثين في حينها، كانت تعمل بالمستشفى، شابة وممتلئة بالحيوية. 5. لقد سافرت هذه النسخة من (عشرون قصيدة)، مسافات طويلة، من مدينة لأخرى في جنوب التشيلي، ومن بيت لآخر في مكسيكو سيتي، ثم إلى ثلاث مدن في اسبانيا. 6. لم يكن الكتاب لي دائماً بالطبع، في البدء كان لأمي، ثم اعطته لأختي، وعندما غادرت اختي جيرونا ذاهبة إلى المكسيك، اهدتني الكتاب. من بين الكتب المفضلة التي تركتها لي في ذلك الحين، كتب الخيال العلمي والاعمال الكاملة (حتى ذلك الوقت) لمانويل بويج، والتي كنت قد اعطيتها اياها سابقاً واعدت قرأتها بعد أن سافرت. 7. في تلك المرحلة لم يعد نيرودا يعجبني. باستثناء (عشرون قصيدة حب)! 8. في العام 1968 غادرت عائلتي إلى مكسيكو سيتي، وبعد عامين، اي في العام 1970، التقيت باليخاندرو خودوروفسكي، والذي اعتبرته فناني النموذجي. انتظرته خارج المسرح (كان يقوم باخراج مسرحية زرادشت، مع ايلا فارجا) واخبرته ان يعلمني كيف انتج افلاماً سينمية. اصبحت بعدها زائراً دائماً لبيته. اعتقد انني لم اكن طالباً مجدّاً. سألني خودوروفسكي كم انفق اسبوعياً لشراء السجائر. اجبته، ليس بالقليل (كنت دائماً انفث كالمدخنة). نصحني ان اقلع عن التدخين وان انفق المال على دروس التأمل على طريقة زن البوذية التي يقدمها ايجو تاكاتا. حسناً، قلت له. ذهبت إلى الدروس لبضعة ايام، ولكن خلال الجلسة الثالثة، قررت أن التأمل البوذي ليس مناسباً لي. 9. لقد تركت رفقة ايجو تاكاتا في وسط جلسة تأمل. وعندما حاولت الانسحاب خلسة، أتاني ملوحاً بعصىً خشبية يستعملها مع التلاميذ. كان يقوم بمد العصا وعلى التلاميذ إما أن يجيبوا بنعم او لا، وفي حال كان الرد بالايجاب، فإنه يسمح لهم بتلقي جلدتين يسمع صداهما في ارجاء الغرفة المعتمة والمغشاة بالبخور. 10. في هذه المرة، لم يسألني كما هي العادة، فكان هجومه مباغتا وعنيفا. كنت جالساً بجانب فتاة بالقرب من الباب، بينما كان ايجو في نهاية الغرفة. اعتقدت أنه اغلق عينيه وانه لن يسمعني وأنا اغادر المكان. ولكن الوغد احس بي، ليعترضني صائحاً مرادف الزن لكلمة (بانزاي!) اليابانية والتي تعني (هجوم!). 11. كان والدي بطلاً للوزن الثقيل في ملاكمة الهواة. واقتصر لقبه الصامد على منطقة جنوب التشيلي. لم تستهوني الملاكمة ابداً، إلا انني كنت أعلم منذ صغري أن هناك دائماً زوجاً من قفازات الملاكمة بانتظاري في البيت سواء في التشيلي او المكسيك. 12. عندما قفز ايجو تاكاتا أمامي صائحاً، لم يكن يقصد إيذائي، او توقع أن ادافع عن نفسي بشكل تلقائي. فهو يضرب مريديه بالعصا لتبديد توترهم العصبي، إلا أنني اردت مغادرة المكان للأبد. 13. اذا اعتقدت انك سيعتدى عليك، فإنك ستدافع عن نفسك، فذلك امر طبيعي، وخاصة في السابعة عشرة من العمر، وخاصة في مكسيكو سيتي. لقد كان ايجو تاكاتا نيرودياً في مهارته. 14. كان لخودوروفسكي الفضل في وجود ايجو تاكاتا في المكسيك، أو كما يدعي. فقد كان تاكاتا في مرحلة سابقة يبحث عن مدمني المخدرات في ادغال اوكساكا، ومعظمهم من امريكا الشمالية تعثروا في ترحالهم ولم يجدوا طريق العودة. 15. بالرغم من ذلك فإن تجربتي مع تاكاتا لم تجعلني اقلع عن التدخين. 16. أحد الاشياء التي اعجبتني في خودوروفسكي، عند حديثه الناقد للمثقفين التشيليين، أنه كان يشملني معهم. كان ذلك يعزز ثقتي في نفسي، رغم انه لم تكن لدي نوايا لمحاكاة أولئك المثقفين المذكورين. 17. في ظهيرة احد الايام، لا اذكر كيف، عرجنا في نقاشنا على الشعر التشيلي. قال أن اعظم شاعر تشيلي هو نيكانور بارّا. وقام في الحال بالقاء بعض من قصائد نيكانور، واحدة تلو الاخرى. كان إلقاء خودوروفسكي جيداَ إلا أن القصائد لم تعجبني. كنت في تلك المرحلة شاباً عالي الحساسية، كما كنت تافهاً ومغروراً، واعلنت أن افضل شاعر تشيلي بدون ادنى شك هو بابلو نيرودا. والبقية، اضفت قائلاً، مجرد اقزام. استمر النقاش لمدة نصف ساعة بعدها. قام خلالها خودوروفسكي باستعراض آراء جوردجيف، كريشنامورتي، ومدام بلافاتسكي، وتابع حديثه عن كيركيغارد ووتجينستاين، ثم توبور، ارابال ونفسه. اتذكر انه قال بأنه استضاف نيكانور في بيته، عندما كان في طريقه لمكان ما. اذكر انني لمحت زهواً طفولياً عند تصريحه هذا، وهو ما لاحظته عدة مرات لدى معظم الكتاب. 18. يذكر باتاي في احد كتبه أن الدموع هي اعلى اشكال التخاطب. رحت اجهش بالبكاء بشدة، تاركاً الدموع تنساب بسلاسة على خدي، ولكن بدفقات جامحة، مبللاً كل شيء، مثل أليس في بلاد العجائب. 19. ما ان غادرت بيت خودوروفسكي حتى تبين لي أنني لن أعود إليه أبداً، وهو ما آلمني بنفس القدر الذي آلمني ما ذكره في حديثه، لأواصل بكائي في الشارع. بل الاكثر خطورة أنه تبين لي أيضاً أنني خسرت معلماً لطيفاً مثل ذلك السارق النبيل والمحتال الماهر. 20. ولكن ما آساني كثيراً هو حجتي الضعيفة ودفاعي البائس (لقد كان دفاعاً على اية حال) عن بابلو نيرودا، في حين أن كل ما قرأته له كان ديوان عشرون قصيدة حب، (وهو ما بدا لي مضحكاً بسذاجة في تلك المرحلة)، وديوان (الغسق)، فضلاً عن قصيدة (وداعاً) التي مازلت معجباً بها بشدة، رغم أنني كنت، حتى ذلك الوقت، أرى أنها أقصى درجات الفن الوجداني. 21. خلال عام 1971 قرأت كلاً من فاليخو، هويدوبرو، مارتن ادان، بورخيس، اوكويندو دي امات، بابلو دي روكا، جيلبرتو أوين، لوبيز فيلاردي، اوليفيريو جيروندو، بل إنني قرأت كلاً من نيكانور بارّا وبابلو نيرودا كذلك! 22. كان الشعراء المكسيكيون الذين صاحبتهم وتبادلت الكتب معهم في ذلك الوقت ينتمون في الغالب لأحد المخيمين: النيروديين والفاليخويين. أما أنا فقد كنت، بلا جدال، بارّاياً في عزلتي. 23. ولكن يجب قتل الآباء، فالشعراء يولدون ايتاماً. 24. عدت في العام 1973 إلى التشيلي، في رحلة طويلة عبر البر والبحر، والتي تأخرت بشكل متكرر بسبب كرم الضيافة. التقيت خلال رحلتي بشتى أنواع الثوريين. كنت المح تلك الزوبعة النارية التي كانت ستبتلع قريباً أميركا الوسطى في عيون أصحابي الذين تحدثوا عن الموت كأنهم يتحدثون عن فيلم سينمي. 25. وصلت التشيلي في شهر آب 1973. أردت المساعدة في بناء الاشتراكية هناك. أول كتاب اشتريته كان "أعمال بناء" للشاعر "نيكانور بارا". الكتاب الثاني "تحف" أيضاً لبارا. 26. بقي لي شهر كي استمتع ببناء الاشتراكية. بالطبع لم اكن أعلم بذلك في حينها. كنت باراياً في سذاجتي. 27. ذهبت لمعرض فني ورأيت هناك عددا من الشعراء التشيليين، لقد كانت تجربة بشعة. 28. توجهت في الحادي عشر من أيلول إلى الخلية الحزبية الوحيدة في الضاحية التي سكنت وتطوعت فيها. كان مسؤول الخلية عاملاً شيوعياً بأحد المصانع، بديناً ومرتبكاً، ولكنه مستعد للقتال. بدت زوجته اكثر شجاعة منه. تزاحمنا جميعاً في حجرة معيشتهما الصغيرة. بينما كان المسؤول يتكلم، انشغلت بفحص الكتب المصفوفة على المائدة. لم تكن كثيرة، فمعظمها عبارة عن روايات رعاة البقر الهزلية والتي اعتاد والدي قراءتها. 29. كان الحادي عشر من ايلول بالنسبة لي مشهداً هزلياً ودموياً في نفس الوقت. 30. كنت اراقب الشارع الفارغ. بينما نسيت كلمتي السرية. ورفاقي عبارة عن فتيان في الخامسة عشرة، وبعض المتقاعدين او العاطلين عن العمل. 31. عندما توفي نيرودا، كنت ما ازال في مولشين مع اعمامي، وعماتي وابنائهم. وبينما كنت مسافراً من لوس انجليس إلى كونسيبسيون، اعتقلت عند بوابة شرطة على الطريق وتم اقتيادي للسجن. كنت الشخص الوحيد الذي اخذ من الحافلة التي كنا نسافر بها. اعتقدت انهم سيقتلونني مباشرة على الطريق. كنت استطيع سماع الضابط المسؤول عن الدورية من الزنزانة التي وضعت بها، كان شرطياً نضر الوجه يتبختر كوغد، يتحدث مع رؤسائه في كونسيبسيون. كان يقول أنه القى القبض على ارهابي مكسيكي. عاد بعد ذلك مصححاً قوله: ارهابي اجنبي. ذكر لهم لكنتي الغريبة، والدولارات التي بحوزتي، وعلامات قميصي وبنطالي التجارية. 32. كان اجدادي من الفلوريس والجرانياس، قد حاولوا ترويض براري اروسانيا (بينما لم يكن في استطاعتهم حتى ترويض انفسهم)، لذا ربما كانوا نيروديين في ثرائهم. كان جدي، روبرتو افالوس مارتي كولونيلاً عمل في عدد من الحصون في الجنوب حتى تقاعده المريب مبكراً، وهو ما يجعلني اخمن انه كان نيرودياً في تعاطفه مع الازرق والابيض؟؟؟!!. جداي الاخران من ناحية والدي هاجرا من جالثيا وكاتالونيا، وأفنا حياتهما لمقاطعة بيو- بيو التشيلية، لقد كانا نيروديين في مشهدهما الطبيعي وارهاقهما البطيء. 33. سجنت في كونسيبسيون لبضعة ايام قبل ان يطلق سراحي. لم يعذبوني، كما كنت اخشى، حتى انهم لم يسلبوا متاعي. إلا أنهم حرموني من الطعام واللحاف ليلاً، فكان علي ان اعتمد على كرم السجناء الاخرين، الذين قاسموني طعامهم. كنت استطيع سماع اصوات تعذيب بعض المعتقلين في ساعات الصباح الاولى، لم استطع النوم ولم يكن هناك ما يقرأ سوى مجلة انكليزية تركها احدهم وراءه، احتوت على مقالة واحدة مهمة حول منزل كان يملكه الشاعر ديلن توماس. 34. خرجت من تلك الحفرة بفضل محققين عرفتهما منذ الثانوية في لوس انجيليس، وكذلك بفضل صديقي فرناندو فرنانديز، الذي كان في الحادية والعشرين حينها، ورغم انه يكبرني بعام واحد، إلا أنه امتلك قواما مماثلا لرجل انكليزي مثالي وهو ما حاول التشيلييون بشغف تقليده في ذلك الوقت. 35. غادرت التشيلي في كانون الثاني من عام 1974. ولم ارجع إليها ابداً. 36 هل كان التشيليون من جيلي شجعاناً؟ نعم لقد كانوا كذلك. 37. سمعت في المكسيك بقصة فتاة من منظمة الحركة الثورية اليسارية (مير) قاموا بتعذيبها بوضع جرذان حية داخل فرجها. استطاعت هذه الفتاة الهرب من البلاد فيما بعد إلى مكسيكو سيتي، حيث عاشت هناك، إلا أن حزنها كبر مع مرور الايام، حتى جاء اليوم الذي قضى فيه عليها. هذا ما قيل لي، إذ أني لم اعرفها شخصياً. 38. القصة ليست غريبة. فقد قيل لنا عن فلاحة من غواتيمالا تعرضت لاذلال يصعب ذكره. المدهش في الحادثة هو انتشارها في كل مكان. ففي باريس سمعت بقصة امرأة تشيلية عذبت بشكل من الاشكال قبل أن تهاجر إلى فرنسا. وقد كانت هي الاخرى عضوا بالحركة الثورية اليسارية (مير)، كانت في نفس عمر الفتاة التي بالمكسيك، ومثلها ايضاً، ماتت كمداً وحزناً. 39. في وقت لاحق، سمعتُ عن امرأة تشيلية تعيش باستوكهولم: كانت شابة، وعضوا حاليا او سابقا بمنظمة (مير)، عذبت بالجرذان في شهر تشرين الثاني 1973، وتوفيت كذلك، برغم استغراب الاطباء الذين عالجوها، من الاكتئاب، (موربيس ميلانكوليكيس) أو الموت الكئيب. 40. هل من الممكن أن تموت من الحزن؟ نعم من الممكن. من الممكن بألم أن تموت من الجوع. بل من الممكن أن تموت من الغضب. 41. هل كانت هذه المرأة المجهولة الاسم، والتي تعرضت مراراً للتعذيب والموت، امرأة واحدة، أم ثلاث نساء مختلفات تصادف اشتراكهن بنفس التوجه السياسي والجمال؟ بحسب احد الاصدقاء، فقد كانت امرأة واحدة، والتي، كما في قصيدة فاليخو ماسا تكاثرت في الموت إلا أنها لم تتمكن من البقاء بأي حال. (في الواقع، في قصيدة فاليخو، لم يتكاثر الرجل الميت ولكن الجموع المتضرعة له بألا يموت هي التي تكاثرت). 42. في زمن ما كانت هناك شاعرة بلجيكية اسمها صوفي بودولسكي. ولدت عام 1953 وانتحرت عام 1974. اصدرت كتاباً واحداً، عنوانه (البلاد المباح فيها كل شيء)، مركز مونتفوكون البحثي، 1970، 280 صفحة مصورة. 43. جرمين نوفو (1852-1920)، كان صديقاً لرامبو، عاش سنواته الاخيرة متشرداً ومتسولاً. اشتهر باسم هيومليس (عام 1910 اصدر ديواناً بعنوان قصائد هيومليس) وعاش على مقاعد الكنيسة. 44. كل شيء ممكن. على جميع الشعراء أن يعرفوا ذلك. 45. سئلت في احد المرات عمّن يعجبني من الشعراء التشيليين الشباب. ربما لم يذكروا كلمة الشباب بالتحديد وإنما المعاصرون . أجبت أنني معجب بريدريغو ليرا، على الرغم من أنه لا يمكن ان يطلق عليه كلمة معاصر (رغم كونه شاباً، اصغر سناً من اي منا) لأنه قد توفي. 46. رفاق الرقص في الشعر التشيلي الجديد: سليلو نيرودا، ذرية هيودوبرو الاشرار، تابعو ميسترال الساخرون، تلاميذ دي روكا المتواضعون، ورثة عظام بارا وعينيّ لاين. 47. اعتراف: لا استطيع أن اقرأ مذكرات نيرودا دون أن احس بكآبة شديدة. يا لها من كتلة متناقضة من المشاعر. كل ذلك الجهد لاخفاء وتجميل شيء بوجه مشوه. ما أقل السخاء، ما اقل المرح. 48. في احد مراحل حياتي، والتي اصبحت ورائي الآن، اعتدت أن المح ادولف هتلر في ممر بيتي. كل ما كان يقوم به هتلر هو التحرك جيئة وذهاباً في الممر دون ان ينظر إليّ عندما يمر من أمام باب غرفتي الموارب. في البداية اعتقدت انه الشيطان (من يكون غيره؟) وخشيت أنني قد جننت بلا شفاء. 49. اختفى هتلر بعد مرور اسبوعين، واعتقدت انه سيتم استبداله بستالين. إلا أن ستالين لم يظهر. 50. لقد كان بابلو نيرودا من اتخذ الممر مقراً لاقامته. ليس لمدة اسبوعين، كما فعل هتلر، ولكن لثلاثة ايام فقط بدت مدة مكوثه القصيرة دليلاً على تعافيَّ من الاكتئاب الذي عانيت منه. 51. إلا أن نيرودا كان يحدث ضجة (كان هتلر ساكناً مثل كتلة من الجليد العائمة)، كان يشتكي، مدمدماً بكلمات غير مفهومة، ماداً يديه امامه بينما امتصت رئتاه الهواء (هواء ذلك الممر الاوروبي البارد) باستمتاع. الحركات المتألمة والسلوك المستجدي في ليلة ظهوره الاولى تغيرت تدريجياً، حتى في النهاية بدا أن الشبح قد اعاد تكوين نفسه في شكل شاعر ودود، معتز بنفسه بإجلال. 52. في الليلة الثالثة والاخيرة واثناء مروره أمام باب حجرتي، توقف لبرهة ونظر إليَّ (لم يفعل هتلر ذلك ابداً)، ولكن الاشد غرابة أنه حاول التحدث معي، إلا أنه لم يستطع ذلك، معبراً عن عجزه ببضع حركات، وفي النهاية وقبل اختفائه مع خيوط الفجر الاولى، ابتسم لي (كما لو أنه يخبرني باستحالة التخاطب، إلا أن على المرء ان يواصل المحاولة؟). 53. منذ زمن قريب التقيت بثلاثة اخوة من الارجنتين، قدموا ارواحهم في وقت لاحق لقضايا ثورية في عدد من بلدان امريكا اللاتينية. إلا أن الخيانة المشتركة للاخوين الاكبر سناً أدت مصادفة إلى ادانة الاخ الاصغر، والذي لم يخن احداً، ومات، كما سمعت، وهو ينادي عليهما، رغم أنه على الاغلب قد مات بصمت. 54. ابناء الاسد الاسباني، كما قال روبين داريو، المولود متفائلاً. ابناء والت ويتمان، جوزي مارتي، وفيوليتا بارا، ممزقون، منسيون، في مقابر جماعية، في قعر البحر، القدر الطروادي لعظامهم المختلطة يثير الرعب في قلوب الناجين. 55. اتذكرهم هذا الاسبوع بينما يزور قدماء الألوية الدولية اسبانيا: شيوخ صغار الجسد ينزلون من الحافلات، ملوحين بقبضاتهم في الهواء. كان تعدادهم 40,000، لم يرجع منهم سوى ما يقرب 350 إلى اسبانيا. 56. اتذكر بيلتريان مورالس، اتذكر رودريغو ليرا، اتذكر ماريو سانتاغو، اتذكر رينالدو اريناس. اتذكر كل الشعراء الذين ماتوا تحت التعذيب، ماتوا بمرض الايدز، او بجرعة مخدرات زائدة، كل الذين آمنوا بجنة لاتينية امريكية وماتوا في الجحيم اللاتيني الامريكي. اتذكر اعمالهم، والتي قد تظهر اليسار كوسيلة للخروج من حفرة العبث والخزي. 57. اتذكر رؤوسنا المدببة الفارغة والموت اللامجدي لايزاك بابيل. 58. عندما اكبر اريد ان اكون نيرودياً في تضافري. 59. اسئلة للتفكر قبل الذهاب للنوم. لماذا لم يكن نيرودا معجباً بكافكا؟ لماذا لم يكن نيرودا معجباً بريلكه؟ لماذا لم يكن نيرودا معجباً بدي روكا؟ 60. هل كان معجباً بباربوس؟ كل شيء يدل على انه كان معجباً به وبشولوكوف، والبيرتي، واوكتافيو باث. رفاق غرباء في الرحلة خلال اليمبوس. 61. ولكنه اعجب كذلك بإيلوار، والذي كتب قصائد الغزل. 62. لو ان نيرودا كان مدمناً على الكوكايين او الهرويين، لو انه قتل تحت الانقاض خلال حصار مدريد عام 1936، او أنه كان عشيقاً للوركا واقدم على الانتحار بعد مقتله، لكانت القصة مختلفة بعض الشيء. لو أن نيرودا كان اللغز الذي، في اعماقه، كان حقيقةً! 63. في قبو الصرح المعروف باسم أعمال بابلو نيرودا ، هل يختبئ يوجلينو منتظراً أن يفترس أبناءه؟ 64. بلا أدنى احساس بالندم! ببراءة! فقط ببساطة لأنه جائع ولا يريد أن يموت! 65. كان بلا أبناء ولكن الشعب احبه. 66. هل علينا أن نعود إلى نيرودا كما نعود إلى الصليب، على ركب دامية، ورئات مثقوبة وعيون تمتلئ بالدموع؟ 67. عندما تصبح أسماؤنا بلا معنى، سيبقى اسمه متألقاً، سيبقى اسمه محلقاً فوق مدىً متخيل اسمه (الأدب التشيلي). 68. سيعيش جميع الشعراء، في ذلك الحين، في تجمعات فنية تسمى سجوناً أو ملاجئ. 69. وطننا المتخيل، الوطن الذي نتشاطره.



#محسن_ظافرغريب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رقص على كتفي الحرب والسلم
- حين ميسرة؛ البديل عسكرة
- ما كانَ العراق الذي بين الضّلوع
- ملوك: بلوز، روك، وبوب
- من الشعر النسوي الذكوري
- متعلم العودة ومثقف الدعوة
- قصيدُ حُذامُ شِعر ٌ حَذاميّ
- حُذامُ(*) شِعر ٌ حَذاميّ
- حزب العودة العميل
- الفأر الفار هدام ينتحل خوذة نبوخذ نصر
- البعثُ في الشِّعر الجّاهلي
- مولد وأربعينية ملك البوب
- خُمْبابا
- خُمْ بابا
- في اليوم العالمي للاجئين
- التَّوارد لدى السَّيِّد الوالِد
- أمين(*) سِرَّة -فيحاء- الصَّافية
- أمين Amin
- طائر الرّوح
- يحيا يحيى السماوي


المزيد.....




- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محسن ظافرغريب - شاعر ٌ يعتاش بقصِّه ِ مات!