|
مروه.... -النوبية-
سعد هجرس
الحوار المتمدن-العدد: 2722 - 2009 / 7 / 29 - 07:22
المحور:
السياسة والعلاقات الدولية
من يتابع حملة الغضب العارمة ضد القاتل العنصري الألماني الذي اغتال الشابة المصرية مروه الشربينى فى مدينة دريسدن، يتصور أنه لا مكان لعنصري بيننا، وأننا جميعا نرفض العنصرية ونزدريها جملة وتفصيلا. لكن النزاهة تقتضى منا أن نتريث قليلاً وان ننظر فى المرآة لنرى أنفسنا دون مساحيق تجميل أو أوهام ذاتية. فإذا فعلنا ذلك بأمانة سنضبط أنفسنا متلبسين بازدواجية المعايير والكيل بمكيالين.. لدرجة النفاق. فالبعض قد هرول للمشاركة فى هذه الحملة انطلاقاً من الدفاع عن "الحجاب" أولا وقبل كل شيء، ومع احترامنا للحجاب وحق كل فتاة وسيدة فى ارتدائه إذا أرادت ذلك، فان هذا يطرح سؤالا مباشراً : هل كنا سنرى نفس حملة الغضب إذا كانت الضحية فتاة مصرية غير محجبة؟ وهل كنا سنرى نفس حملة الغضب إذا كانت الضحية فتاة مصرية مسيحية؟ اجتهادي الشخصى فى الإجابة عن هذين السؤالين هو ان اغلب من شاركوا فى هذه الحملة الغاضبة كانوا سيغضون الطرف عن الجريمة ويديرون ظهورهم لها.. وكأنها لا تعنيهم من قريب أو بعيد. وإذا كان الأمر كذلك.. فهل نجد وصفا له غير " العنصرية" وازدواجية المعايير؟1
البعض الأخر من حملة مشاعل الغضب لم يروا فى الحادث المؤلم مجرد قاتل عنصري، بل شاءوا تعميم صفة العنصرية على جميع الألمان، بل ذهب فريق من هؤلاء ابعد من ذلك ليلصق تهمة العنصرية بجميع الأوروبيين بدون استثناء، مع التأكيد حينا على أن الحقد الأسود يملأ قلوب هؤلاء الغربيين ضد العرب والمسلمين منذ الأزل، والقول حينا آخر أن مصرع مروه الشربيني مجرد جزئية صغيرة فى لوحة كبيرة إسمها "الحقد الصليبي الغربي" على العرب المسلمين ... بالمطلق. أليس هذا التعميم بدوره بمثابة عنصرية مضادة، تلوث شعوبا بأسرها دون تمييز رغم ان احد المبادئ الإسلامية هو أن "لا تزر وازرة وزر أخرى"؟!
الأعجب .. أن هؤلاء الذين وزعوا اتهامات العنصرية على الألمان والأوروبيين وكل أبناء الغرب... بسبب حادث مصرع الفتاة المصرية وابنه شربين، نسوا أو تناسوا أن كثيراً من المواطنين الألمان، وأكثر منهم من الأوروبيين عموما، قد تعرضوا للقتل على أرضنا بأيدي مصريين مسلمين. أعطوا لأنفسهم حق اغتيال سياح أبرياء جاءوا لزيارة بلادنا والاستمتاع بآثار حضارتنا الفوعونية والقبطية والإسلامية. فلماذا نطلب من الآخرين عدم تعميم تهمة الإرهاب على كل المصريين والمسلمين نتيجة مثل هذه العمليات الإرهابية، ونصر على اتهام كل الألمان-وجميع الغربيين – نتيجة حادث فردى وقع على الأراضي الألمانية؟! هل هناك اسم لذلك غير الكيل بمكيالين؟! والأكثر إثارة للعجب أن هؤلاء الذين يلصقون كل الاتهامات بالغرب هم أنفسهم الذين يطرقون جميع الأبواب ويلجأون لكل السبل المشروعة وغير المشروعة للهجرة إلى أوروبا والإقامة الدائمة بها. فإذا كانت بهذه البشاعة وتلك العنصرية فلماذا التكالب على الهجرة إليها؟ وما هو تفسيرهم لأنهم يتمتعون هناك بحقوق لا يحصلون على عشر معشارها فى أوطانهم العربية والإسلامية ذاتها بما فى ذلك حق نقد الحضارة الغربية ونمط الحياة الغربي؟!
أما ما يثير الغثيان فهو أن من يتباكون على حقوق الإنسان فى ألمانيا، وأروبا، ويمتعضون من عنصرية الغرب لا يبالون بالممارسات العنصرية داخل بلداننا، ليس فقط ضد الآخر غير المصرى، وإنما ضد بعضنا البعض. والممارسات العنصرية، التى لها شهادة منشأ مصرية مائة فى المائة، ليست فردية، أو عرضية، وإنما هى ممارسات جماعية ومؤسسية إذا جاز التعبير. والبارز منها على السطح الممارسات العنصرية التمييزية ضد المرأة، وضد الأقباط، وضد النوبيين. فالمسألة النوبية – على سبيل المثال – قد امتدت سنوات وعقود منذ تهجير أبناء النوبة من قراهم إثر تعلية خزان أسوان ثم بناء السد العالى، وما ترتب على ذلك من إغراق بلداتهم وبيوتهم. أى أنهم قدموا تضحية عظيمة من أجل تنمية مصر بأسرها. ومع ذلك فإنهم لم يحصلوا بالمقابل إلا على جزاء سنمار، حيث تعاملت معهم البيروقراطية المصرية بعنجهية واستفزاز، وقررت لهم تعويضات هزيلة، ثم قامت بالتسويف والمماطلة فى إعطائهم حقوقهم، إلى أن تدخل الرئيس حسنى مبارك شخصياً – كالعادة – وكالعادة أيضاً واصلت البيروقراطية العتيدة هوايتها فى الالتفاف على القرارات الرئاسية ومحاولة تفريغها من مضمونها مثلما حدث مع الوعد الرئاسي بإلغاء عقوبة الحبس للصحفيين فى قضايا النشر. وعلى الجانب الثقافى استمرت محاولات التهميش للثقافة النوبية، وإلصاق صفات سلبية غير مقبولة بالنوبيين. من ذلك مثلا قيام مسئول بمديرية الشباب والرياضة بأسوان مؤخراً بوصف النوبيين بـ"البرابرة". وعلينا أن نعترف بأن هذا ليس مجرد موقف فردى، وإنما هى ممارسات شائعة فى مجالسنا الخاصة والعامة، بل فى الأفلام والمسلسلات المصرية التى دأبت على إسناد دور "السفرجى" و"البواب" وغيرها من الوظائف المتدنية إلى شخص نوبى وإطلاق إسم "البربرى" عليه، حتى الفنان الكبير محمد عبدالوهاب فى احد أفلامه الشهيرة يخاطب الطفل الأسمر الذى يخدمه بلقب "البربرى الصغير"! وإزاء ذلك قال الناشط الأديب النوبى حجاج أدول أن وصف النوبيين بالبرابرة إساءة من موظف عمومى، مضيفاً أنه ستتم ترجمة هذه الإهانة، التى وصفها بالعنصرية، ونشرها فى الصحف الأجنبية والمواقع الالكترونية والفضائيات، وجمع توقيعات من النوبيين فى الداخل والخارج، ومطالبة رئيس المجلس القومى للشباب بتقدم اعتذار رسمى عما صد من المسئول. وقال البيان الذى أصدره "أدول" أن حدوث هذه الإهانة بمدينة أسوان، التى تعيش فيها نسبة عالية من النوبيين يمثل انتهاكا صارخاً للكرامة النوبية، مشيرا إلى أن مكتب الموظف الذى أهانهم موجود بديوان المحافظة، أي بجوار محافظ أسوان. ومع ذلك لم يتحرك أحد. وعزا ذلك إلى ما اسماه بـ"العنصرية المتفشية" فى مصر. وأنهى بيانه بقوله "لن نتحمل أكثر مما تحملنا من "العنصرية البغيضة". هذا مجرد شكل واحد من أشكال العنصرية التى ينزلق كثير من المصريين إلى التورط فى أوحالها، وممارستها جهاراً نهاراً حتى فى بعض وسائل الإعلام. ومن النفاق أن ننتقد عنصرية الغرب بينما نمارس نحن هذه العنصرية ضد بعضها البعض. ومن قبيل إختلال الأولويات أن نقيم الدنيا ولا نقعدها لتعرض مصرى واحد للتمييز العنصرى خارج حدود الوطن بينما نصمت صمت القبور أمام ممارسات تمييزية عنصرية جماعية تتم بين أبناء الوطن على ضفاف النيل. ومن قبيل اللامعقول أن نتشدد فى المطالبة بحقوق فرد واحد تعرض لأذى أو ضرر فى الخارج مثل "مروه" ونتهاون أمام حقوق مئات وآلاف المصريين مهدرة فى الداخل لسنوات وعقود، مثل حقوق أبناء النوبة التى يتم اغتيالها على رءوس الأشهاد والتى ينتسب أهلها إلى حضارة "مروه" العريقة أيضا!!
فإذا كنا مخلصين حقا لقضية مروه الشربينى، ولا نريد المتاجرة بدمائها، كل لصالح أجندته الخاصة غير المعلنة سواء كانت هذه الأجندة دينية أو سياسية، فلنحول مأساتها ومحنة أسرتها إلى نقطة انطلاق لمناهضة التمييز العنصرى بكل أشكاله فى الداخل والخارج.. ولتكن البداية بتنظيف البيت من الداخل.
#سعد_هجرس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أيها المصريون: اعقلوا قليلا!
-
جنيه 2005 العجيب
-
وصف مصر بالمعلومات
-
دماء على أرض مصر
-
مفارقات القبض علي عبدالمنعم أبو الفتوح!
-
بعد رواج مزايدات المتاجرة بدماء مروة الشربيني متي نعلن الحرب
...
-
لماذا رفض -غالى- مناقشة قضية -مروه-؟!
-
مال.. وصاحبه غائب!
-
ازدواج المعايير .. وازدواج الشخصية
-
الإصلاح الزراعي... الثاني 1 2
-
التطبيع .. وسنينه
-
خطاب ليس ككل الخطابات »2«
-
خطاب ليس ككل الخطابات (1)
-
الحرب الأهلية الصحفية .. الجديدة!
-
اقتصاد المعرفة: سلاح الأغنياء وأمل الفقراء (1)
-
اقتصاد المعرفة: سلاح الأغنياء وأمل الفقراء (2)
-
»الخصخصة« و»الفلفصة« »1«
-
-استثمار- الموت
-
دورة الزمان: من ترومان إلى أوباما!
-
مصريون -مع- التمييز!
المزيد.....
-
مصدر يوضح لـCNN موقف إسرائيل بشأن الرد الإيراني المحتمل
-
من 7 دولارات إلى قبعة موقّعة.. حرب الرسائل النصية تستعر بين
...
-
بلينكن يتحدث عن تقدم في كيفية تنفيذ القرار 1701
-
بيان مصري ثالث للرد على مزاعم التعاون مع الجيش الإسرائيلي..
...
-
داعية مصري يتحدث حول فريضة يعتقد أنها غائبة عن معظم المسلمين
...
-
الهجوم السابع.. -المقاومة في العراق- تعلن ضرب هدف حيوي جنوب
...
-
استنفار واسع بعد حريق هائل في كسب السورية (فيديو)
-
لامي: ما يحدث في غزة ليس إبادة جماعية
-
روسيا تطور طائرة مسيّرة حاملة للدرونات
-
-حزب الله- يكشف خسائر الجيش الإسرائيلي منذ بداية -المناورة ا
...
المزيد.....
-
افتتاحية مؤتمر المشترك الثقافي بين مصر والعراق: الذات الحضار
...
/ حاتم الجوهرى
-
الجغرافيا السياسية لإدارة بايدن
/ مرزوق الحلالي
-
أزمة الطاقة العالمية والحرب الأوكرانية.. دراسة في سياق الصرا
...
/ مجدى عبد الهادى
-
الاداة الاقتصادية للولايات الامتحدة تجاه افريقيا في القرن ال
...
/ ياسر سعد السلوم
-
التّعاون وضبط النفس من أجلِ سياسةٍ أمنيّة ألمانيّة أوروبيّة
...
/ حامد فضل الله
-
إثيوبيا انطلاقة جديدة: سيناريوات التنمية والمصالح الأجنبية
/ حامد فضل الله
-
دور الاتحاد الأوروبي في تحقيق التعاون الدولي والإقليمي في ظل
...
/ بشار سلوت
-
أثر العولمة على الاقتصاد في دول العالم الثالث
/ الاء ناصر باكير
-
اطروحة جدلية التدخل والسيادة في عصر الامن المعولم
/ علاء هادي الحطاب
-
اطروحة التقاطع والالتقاء بين الواقعية البنيوية والهجومية الد
...
/ علاء هادي الحطاب
المزيد.....
|