|
الولاء لمصر ولو كره الفرس المعاصرون
مهدي بندق
الحوار المتمدن-العدد: 2659 - 2009 / 5 / 27 - 09:55
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
من نافلة القول أن التاريخ لا يكرر نفسه مرتين بصيغة الحافر على الحافر ، حتى وإن تشابهت غايات صانعيه، أو تشابهت وسائلهم على منحدرات الشر والظلم . ففي المرة الأولى تنجم عن الحدث مأساة ٌ لا مفر منها . أما المرة الثانية فلا مندوحة من أن تأتي نتائجـُها في هيئة مهزلة كاملة الأوصاف . وتنطبق هاتان الحالتان على علاقة مصر بالفرس القدامى والفرس الجدد انطباقا ً لا يعكر عليه استبدال إيران المعاصرة راية َ الإسلام ببيارق الإمبراطورية الفارسية القديمة ، كما سنرى . تبدأ الوقائع التاريخية في هذه العلاقة بخطوة من قورش الأكبر ملك الفرس ، الذي طالما أبدى توقه لضم مصر توسيعا ً لملكه ، ثم هداه تفكيره إلي إبداء رغبته في خطبة ابنة الفرعون أحمس الثاني ، توطئة ً لتحقيق غرضه السياسي بالقوة الناعمة Soft Power بيد أن أحمس – ذا الوعي السياسي الأنضج – رفض الخطبة دون تردد ، مما جعل قورش يستشيط غضبا ً ، فراح يعد العدة للهجوم على مصر لولا أن عاجلته المنية . وما لبث ابنه قمبيز الثاني حتى اندفع بجيوشه لتنفيذ مخطط أبيه . في ذلك الوقت مات أحمس الثاني ، وتولى حكم مصر آخرُ فراعينها : بسماتيك الثالث ، الذي تصدى للغزو بنفسه ليسقط شهيدا ً في ميدان القتال عام 525 ق.م . بعده وقعت مصر في قبضة الفرس لمائتين وأربعة وتسعين عاما ً . تلك كانت مأساة المرة الأولى في علاقة الفرس بمصر : تلمـّظ ٌ وتحرش ٌ ، فهجوم فاحتلال ، وما أدراك ما الاحتلال ؟ هوان ومذلة وإفقار وطمس للهوية مدمر لجهاز المناعة . والدليل على هذا أن الإسكندر وخلفاءه البطالسة حين حلوا بالغزو محل الفرس في مصر ؛ لم يجدوا صعوبة تذكر في تحويلها عن بقايا مصريتها ، لتغدو إغريقية لثلاثة قرون تالية ، ثم تمسي – بالغزو أيضا ً- رومانية لأكثر من ستة قرون كاملة ، حتى انتزعها العرب من أيدي الرومان عام 641 ميلادي ، ليتخطفها منهم الأيوبيون الأكراد 1171 فالمماليك 1250 فالأتراك العثمانيون 1517 كان على الوطن المكفن حيا ً بأكفان المأساة المتجددة أن يظل يحلم طوال هذه العصور المظلمة باستعادة هويته المصرية ، ولكن الحلم لا يتحول إلى واقع حتى يهب الناس من سباتهم . وهو بالضبط ما جرى حين أسس محمد على أول دولة مدنية في مصر عبر تاريخها كله . عندئذ فحسب بدأ نضال الشعب لأجل استعادة هويته المصرية . وما مر قرن حتى تحقق له مبتغاه – إلى حد كبير - بثورته عام 1919 على الاحتلال البريطاني ، نابذا ً انتماءه لدولة الخلافة العثمانية ، التي ما لبثت حني سقطت عام 1923 . وحين اكتمل استقلاله بعد جلاء المحتل الأجنبي ؛ صار مركز الثقل في المنطقة العربية ، بل والشرق الأوسط جميعا ً ، إلى أن تعرض للضربة الامبريالية الصهيونية عام 1967 ، لكنه استطاع – بمعجزة حرب أكتوبر – أن يستعيد بعضا ً من أرضه التي احتلتها إسرائيل ، وأن يستعيد الباقي منها بالمفاوضات عام 1977 التي اعتبرتها الدول العربية تفريطا ً في الحق العربي ! وهكذا جرى تهميش الدور الإقليمي لمصر لأعوام عشرة ، كان فيها المد الإيراني يصعد تحت راية ما ُسمى بالثورة الإسلامية ، وهو شعار كان يعبر - في المسكوت عنه - عن حاجة إيران المعاصرة إلى بعث المجد الساساني الفارسي القديم ، إذ سرعان ما انكشف الغطاء " الإسلاموي " عن دولة ذات قوة نافية للاستقرار Destabilizing Force غايتها تأسيس إمبراطورية إقليمية بآليات التوسع على حساب جاراتها ، مبتدئة ً بدولة الإمارات العربية تقتطع منها جزر أبي موسى ، وطنب الكبرى والصغرى ، ومثنية ً بمحاولات فرض هيمنتها على دول مستقلة مثل لبنان [ بواسطة حزب شيعي موال لها ] ومثلثة ً باستقطاب حركة حماس ، تربطها بأجندتها التي تؤجل تحرير القدس لحين قيام الإمبراطورية " الإسلامية " الفارسية ! وفي هذا السياق يسعى آيات الله لتقسيم اليمن إلى دولتين من خلال تأليب الحوثيين ( من الشيعة الزيدية ) على الدولة الموحدة ، مرتئين في ذلك إضعافا ً للمملكة السعودية (موئل العالم السنيّ ) لتخلص عناصر القوة في العالم العربي لهم وحدهم .
الالتفاف حول شروط العصر غير أن إيران تدرك أن هذا كله ليس يجدي ما لم يتوج بوضع " القمر المصري " في الفـَلك الإمبراطوري الفارسي الجديد ، لا بطريق الاحتلال المباشر ، فذلك لم يعد ممكنا ً تبعا ً لشروط العصر ، وإنما من خلال محاصرة مصر بالصبية السياسيين [ حماس ] ، والحلفاء الأيديولوجيين [ الأخوان ] والعملاء المحليين [ تنظيمات الشيعة التابعة لحزب الله ] بل وبأبواق الفضائيات [ الجزيرة والمنار ] وهؤلاء يتصورون أنه من الممكن هدم الدولة المدنية المصرية ، وتشييد دولة دينية على أنقاضها ! ومن وراء هؤلاء جميعا ً يقف الفرس الجدد في انتظار التاريخ أن يكرر نفسه ، دون التفات إلي أن هذا التكرار، إن حدث ، فلن يتجلى سوى في هيئة مهزلة. وآية ذلك أن ما قام به الشيخ نصر الله من تحريض أحمق للقوات المسلحة المصرية لقلب نظام الحكم تحت شعار مناصرة أهل غزة ؛ لم يلق سوى الاستنكار والسخرية ، لاسيما وأن حزب الله لم يحاول إطلاق صاروخ واحد من الـ 40000 صاروخا ً التي يملكها ، بالضد على جيش العدوان الإسرائيلي ! وحتى حين انطلق – بالخطأ – صاروخان من الجنوب اللبناني ، سارع قادة الحزب الأشاوس بإعلان براءتهم ممن أطلقوهما!! قبلها كان الحزب قد حرض حلفاءه الحمساويين على الدفع بأنصارهم لتحطيم الحواجز عند معبر رفح وتسريب الألوف من كوادرهم وكوادر حزب الله ، ليقيموا في مصر كخلايا نائمة تنتظر أوامر الملالي الفرس كي تضرب وتدمر . ولكن ما انقضي عام حتى اعتقلت أجهزة الأمن المصرية أهم وأخطر تلك الخلايا .
الولاء لمصر دون غيرها
هذه الحادثة الأخيرة ، أثبتت للشعب المصري بما لا يدع مجالا ً للشك أن أمنه واستقراره مرتبطان بترسيخ الولاء للدولة وللوطن قبل أي ولاء آخر ، حتى وإن كان المخايلة الدينية . فلقد استبانت الجماعة المصرية في أغلبها الأعم أن الولاء السياسي تجاه الوطن هو القلعة الحصينة التي تتحطم أهداف الأعداء على أحجارها الصلدة ، والأكثر أنه القلعة التي تضمن لأصحاب الدين ( إسلاما ً كان أم مسيحية ) أن يمارسوا بداخلها شعائرهم وطقوسهم ومعتقداتهم . واكتشف المصريون أيضا ً أن الدولة المدنية إنما هي الضمان الأوحد لحرية العقيدة التي نصت عليها المواثيق الدولية ، ووثيقة حقوق الإنسان ، بل والدستور المصري الدائم ، رغم ما اشتبه على البعض حول ما أشارت إليه المادة الثانية من أن الإسلام دين الدولة. ذلك أن المخاطب بهذه المادة ليس القاضي ، بل المشرع الذي عليه أن يتجنب مالا يرتضيه الإسلام مثل إباحة البغاء أو الشذوذ أو تعدد الأزواج ...الخ . وبالتوازي مع هذا المبدأ أكدت المحكمة الدستورية العليا انعدام الأثر القانوني للنص على ديانة رسمية للدولة ، حيث أوضحت المحكمة أنه لا يجوز في مفهوم كفالة حرية العقيدة المنصوص عليها بالمادة 46 من الدستور، أن تيسر الدولة – سرا ً أو علانية – الانضمام إلى عقيدة ترعاها، إرهاقاً لآخرين من الدخول في سواها، ولا أن يكون تدخلها بالجزاء عقاباً لمن يلوذون بعقيدة لا تصطفيها، وليس لها بوجه خاص إذكاء صراع بين الأديان تمييزا ً لبعضها على البعض ، وذلك من دون إخلال بحق الدولة في إقامة الاحتفالات الدينية المتعلقة بالإسلام ، واعتبار أعياده الدينية عطلات رسمية. ومع ذلك راعت الدولة أن يكون يوم 7 يناير- مولد المسيح عليه السلام - عيدا ً رسميا ً مراعاة لشعور الأقباط الديني . فكيف لا يغلـّب المصريون بعد هذا ولاءهم لدولتهم على كل ولاء ؟ وكيف لا يفعلون وقد باتوا مكتفين من مآسي الفرس القدماء وما تلاها ، زاهدين في مهازل الفرس المعاصرين وما قد يتلوها ؟
#مهدي_بندق (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كل ضد إلى ضده
-
مياه الأمن القومي بعد إنفلوانزا الخنازير
-
هل يستقيل الكاتب من ديوان العولمة ؟
-
الإسكندرية والتهاب العصب الخامس
-
من عصاها تهرب الحواسب الكونية
-
قصيدة : نسخة وذراها الخروج عن النص ِ
-
لماذا لا يطلب الأخوان السلطة في مصر
-
كتاب البلطة والسنبلة - إطلالة على تحولات المصريين
-
غرام الأسياد بين الكفيل والأجير
-
النصر الحمساوي بلغة الخبراء العسكريين
-
حرب غزة : ثقافة الإبادة الجماعية ضد ثقافة الإنتحار الجماعي
-
إلى أين يذهب أهل غزة ؟
-
رومولوس العربي يبيع غزة
-
قصيدة : القادمون للهلاك
-
إسرائيل تعلن الحرب الثقافية على اليونسكو
-
الحوار المتمدن يصحح الممارسة اللغوية المعاصرة
-
حوار مع الشاعر المفكر مهدي بندق - أجراه وائل السمري
-
التفكيك ضرورة حياتية للعالم العربي
-
قراءة يسارية في أزمة الرأسمالية العالمية
-
سقوط امبراطورية اليانكي
المزيد.....
-
نيابة مصر تكشف تفاصيل -صادمة-عن قضية -طفل شبرا-: -نقل عملية
...
-
شاهد: القبض على أهم شبكة تزوير عملات معدنية في إسبانيا
-
دول -بريكس- تبحث الوضع في غزة وضرورة وقف إطلاق النار
-
نيويورك تايمز: الولايات المتحدة تسحب العشرات من قواتها الخاص
...
-
اليونان: لن نسلم -باتريوت- و-إس 300- لأوكرانيا
-
رئيس أركان الجيش الجزائري: القوة العسكرية ستبقى الخيار الرئي
...
-
الجيش الإسرائيلي: حدث صعب في الشمال.. وحزب الله يعلن إيقاع ق
...
-
شاهد.. باريس تفقد أحد رموزها الأسطورية إثر حادث ليلي
-
ماكرون يحذر.. أوروبا قد تموت ويجب ألا تكون تابعة لواشنطن
-
وزن كل منها 340 طنا.. -روساتوم- ترسل 3 مولدات بخار لمحطة -أك
...
المزيد.....
-
في يوم العمَّال العالمي!
/ ادم عربي
-
الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة
...
/ ماري سيغارا
-
الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي
/ رسلان جادالله عامر
-
7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة
/ زهير الصباغ
-
العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني
/ حميد الكفائي
-
جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022
/ حزب الكادحين
-
جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023
/ حزب الكادحين
-
جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023
/ حزب الكادحين
-
جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023
/ حزب الكادحين
-
جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023
/ حزب الكادحين
المزيد.....
|