أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - محمد عثمان ابراهيم - الغوث في زمن الحرب (1-2)















المزيد.....


الغوث في زمن الحرب (1-2)


محمد عثمان ابراهيم

الحوار المتمدن-العدد: 2598 - 2009 / 3 / 27 - 09:03
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
    


خلال الخمسين عاماً الماضية قدمت أوروبا والغرب تريليون دولار لأفريقيا فارتفع معدل الفقر في القارة السمراء من 11% إلى 66%
***
تعتبر وكالات الإغاثة والمساعدات الدولية أكثر أهمية من الجيش والشرطة بالنسبة لكثير من دول الغرب ودون الحصول على وظائفها تستقيم شروط قاسية وتحقيقات أمنية غاية في الشمول والتعقيد
***
" إذا كنت أعرف أن هناك من سيأتي برغبة معلنة في فعل الخير، فإنني سأهرب"
هنري ديفيد ثوريو 1817-1862 م
***
إلى خليل سربل خليل ، لست أدري أين هو الآن إذ كان آخر عهدي به أن تركنا في الهلال الأحمر السوداني وانتقل للعمل موظفاً في سفارة السودان في موسكو. كان حركياً إسلامياً نقياً وشجاعاً بلغت به قدرته أن عين من هم مثلي تحت أمرته دون أن يشغل نفسه بمواقفنا السياسية (المشاغبة حينئذٍ) أو ولائنا الحزبي وقد كنا منه على طرف نقيض، لكن هذا ليس بيت القصيد.
ذات مساء هاديء في سنكات جاءنا د.خليل وكنا قد أكملنا للتو دورة تدريبية لموظفي الجمعية بالبحر الأحمر. بدأ كلامه معنا وهو يصلح عمامته فحدثنا حديثاً عجباً. قال إن عملنا الخيري والإنساني عمل كبير وهام ومؤثر مشيراً إلى أن العالم كله يتجه الآن صوب الإهتمام بأنشطة المنظمات الطوعية وأن هذه المنظمات مقبلة على أدوار كبيرة في مجالات التنمية ودرء الكوارث مما لم يكن للعالم قبل به ودراية، في سالف العقود الماضية. وتحدث بإسهاب عن جهود الغرب لإستغلال وإساءة إستخدام هذه المنظمات مشيراً إلى أن أوروبا والولايات المتحدة تسعيان وفق مخططات مدروسة لإستخدام هذه المنظمات كذراع ثالث من أجل تحقيق ما يسمى بالنظام العالمي الجديد. إمتد الحديث ولم تكن هناك أسئلة كما لم يكن هناك حوار، لكن الكثيرين منا شعروا بالإنتشاء بأنهم يعملون تحت أمرة هذا الرجل الحاذق.
كان الكثير من موظفي المنظمات الطوعية على يقين بسلطة (الخواجة) وسطوته وبأنه هو الذي يملك مفاتيح كل شيء. وكان الخواجة يملك بالفعل صنع الكثير فمع تساهل قوانين العمل كانت المنظمات تملك الحق في تعيين من تشاء وفي فصل من تشاء دون إبداء الأسباب. كان (الخواجة) يملك حق فعل أي شيء بتواطؤ الدولة وجهازها الرسمي. كانت بعض المنظمات تقوم بفصل جميع العاملين لديها كل ثلاثة أشهر لئلا تثبتهم في وظائفهم كما يقتضي القانون و قد ظل البعض على هذه الحال سنيناً عدداً دون أن يجرؤ واحد منهم على المطالبة بتثبيت في الوظيفة التي خبرها وخبرته لئلا يخسر كل شيء. كان ذلك تكتيكاً ناجحاً من المنظمات التي تتشدق بالأخلاق لحرمان عامليها من حقوقهم الطبيعية في العمل وفقاً للقانون، لكن لم يكن هناك من يحفل بالقانون. أذكرضمن أولئك (الخواجات) بريطانياً إسمه مايكل لورينتيزن كان معروفاً بإسم (ميك). كان شاباً جاهلاً وجلفاً وبذيء اللسان وكان يتعامل مع موظفيه بصلف لا يجارى. رأيته مرة يقذف بأوراق وكتاب على الأرض في سوء سلوك غير مسبوق أمام عدد من موظفيه، لكن ماذا يفعل الموظفون وليس لهم من حام إزاء هذا الرجل، حتى الدولة، التي كانت حينها تقف إلى جانبه. يحكى أنه وجه مرة كلمة بذيئة لأحد عماله من أبناء الهدندوة بصوت عالٍ جداً ، لم يدرك الرجل كنه الكلمة لكنه استل سيفه، لتنقذ الخواجة المصعوق قبيلة من العمال الكرام وتحلف على الرجل بأغلظ الإيمان أن يعفو عنه. حين مرض (ميك) ذات مرة أسعف بطائرة في بلد يموت الناس فيه جراء جرعة من حليب فاسد.
كان لخليل سربل في (الخواجات) رأي وكانت له عزيمة. قمت ذات مرة بتسجيل محاضر إجتماعات عقدها مع ممثلين لعدة منظمات أجنبية أذكر منها دانماركية ونرويجية وربما بريطانية وكان رأيه أن تنسق جميع هذه المنظمات العاملة جهودها تحت إشراف الهلال الأحمر السوداني حتى يتم تفادي تكرار البرامج وتتم الإستفادة بشكل أكبر من خبرات الموظفين المتنوعة لخدمة جميع الخطط التنموية والإغاثية للمنظمات ونحو ذلك. تذرع الموظفون الأجانب (بإنجليزيتهم المتقنة ولكناتهم الثقيلة) بعدة عوائق فنية وتحججوا بعدد من الأسباب لكن الرجل أذهلهم بقوله الفصيح : " يا أبيض يا أسود، هل تريدون التكامل أم لا؟ أنني أريد فقط إستيضاح هذا الأمر منكم الآن". الحق أن الرجل كان واثقاً من كلماته وكانوا هم في غاية التأدب والتهذيب في حضرته لكن الهلال الأحمر السوداني خسر الرجل الحاذق ضمن صراعات الإسلاميين إذ خسر إنتخابات الجمعية ضمن فريق محمد محي الدين الجميعابي وفازت بتلك الإنتخابات جماعة بروفيسور مأمون يوسف حامد وهذا حديث آخر.
***
بعد ما يتجاوز ال (16) عاماً من حديث خليل سربل، أدركت الحكومة فعلاً أن المنظمات الطوعية الأجنبية هي إحدى أذرع النظام العالمي الجديد وأنها تضمر للبلدان التي تعمل فيها السوء فقررت طرد (13) منها وفق حيثيات شديدة الإقناع وفق ما أورده الأستاذ/ علاء الدين بشير في تقرير له نشر على موقع السودان للجميع على شبكة الإنترنت حيث أفاد "أن ميزانية هذه المنظمات تبلغ مليار و 880 مليون دولار في العام وتمتلك 5 الاف و 805 جهاز اتصال منها 1850 جهاز HF للاتصال بعيد المدى , 1352 HF متوسط المدى يستخدم للاتصال بين الاقاليم و 63 جهاز V.SAT لنقل الصورة والصوت و 12 جهاز ربيتر لتقوية الاتصال كما تمتلك 794 جهاز ثريا". هذه إمكانيات هائلة ويصعب ضبط إستخدامها ، كما أنها تهدر ميزانيات المنظمات في أمور لا تفيد ضحايا الحرب المستهدفين بأعمال الإغاثة كثيراً. هذا النوع من المساعدات معروف بإسم (المساعدات المرتدة لأصحابها Boomerang Aid) ولعل النظر والتأمل في ميزانية أي منظمة خيرية أو إغاثية يكشف الكم الهائل من الأموال المهدرة على العاملين عوضاً عن المستفيدين.
طردت المنظمات وقضي الأمر، لكن النظام العالمي لم يرض بأن تقطع ذراعه الثالثة فطفق يهدد ويتوعد السلطة بالويل والثبور ناسياً أنه أفرغ كامل جعبته من الرصاص وإنه ليس أمامه الآن سوى انتظار رد الفعل.
لم يهتف العالم وجون هولمز وقادة الأمم المتحدة حين أرسلت الحكومة الأرترية خطابات شديدة التهذيب تطلب من العديد من المنظمات الخروج من البلد الفتي مرة واحدة. لم يجأر أي من هؤلاء بالشكوى لصحف العالم لأنهم يعلمون أن قول اسياس أفورقي هو آخر الكلم. قال أفورقي لقناة الجزيرة (الخدمة الإنجليزية) إنه يمكن لهذه المنظمات أن تذهب لإطعام الجوعى في أثيوبيا، لكنها لن تذهب لأنها غير معنية بالجوع وإنما بالسياسة، وإذا كانت حقاً معنية بالجوع فلتذهب إلى أثيوبيا فعلاً وهي التي تعتمد على الإعانات لتمويل 97% من ميزانيتها السنوية.
مارس السودان حقه الطبيعي في إبقاء من يريد وطرد من لايريد فطفق العالم يهدد ويتوعد والمسئولون هنا ممن اعتادوا التصريح وتودد وسائل الإعلام يبدون ويعيدون "إن قرار طرد المنظمات قرار نهائي". لم أستعذب هذا التصريح فمن نافلة القول إن القرارات التي تصدر غير نهائية. إن القرارات في الدول المحترمة تصدر بعد دراسة حيثيات والحصول على إستشارات وما دام هذا الأمر تم فلابد أن قرار الطرد هو الأصوب وهو الصحيح. يا أيها الحكام من محبي الظهور في وسائل الإعلام أرفعوا أييدكم عن الأمر وقوموا إلى عملكم يرحمكم الله!
في ذات الوقت تناولت بعض وسائل الإعلام أن رئيس جمعية الهلال الأحمر الكويتي السيد/ برجس حمود البرجس كتب رسالة إلى السيد/ بيكيلي غيلاتي ( وهو إثيوبي بالمناسبة) السكرتير العام للإتحاد الدولي لجمعيات الصليب والهلال الأحمر يعرب فيها عن كريم إستعداد جمعيته لملء الفراغ الذي نتج عن قيام الحكومة بطرد بعض منظمات العون الإنساني من إقليم دارفور، لكن الخبر تمت تغطيته بصمت مريب حتى من قبل أجهزة الإعلام السودانية.
لو كانت الأمم المتحدة والدول الغربية حريصة على مساعدة النازحين وضحايا حرب دارفور، لاستبشرت بمثل هذا القرار فمنظمات الصليب والهلال الأحمر ما زالت على صلة طيبة بجميع أطراف النزاع، كما إن مثل هذا القرار سيوفر الكثير من الأموال التي كانت تهدر في الإدارة والإتصالات والتنسيق حيث سيكون مركز القرار واحداً بدلاً عن ثلاثة عشر مركزاً مختلفاً في عواصم الغرب المختلفة. ستنتفي الحاجة للمترجمين وهدر المعلومات ما بين ثقوب الترجمات وستكون اللغة الغالبة للعمل هي العربية وربما الإنجليزية فقط. سيمكن الحصول على مزيد من المتطوعين من المستهدفين أنفسهم بحكم روابط الدين واللسان مع المنظمة صاحبة العون. ستقل الحاجة على الموظفين الأجانب وسيحصل المزيد من السودانيين من أهل دارفور على وظائف جيدة بعد أن فتكت الحرب بإقتصاديات العائلات وغير ذلك من الفوائد، لكن من يريد مثل هذه الفوائد؟
هناك حقيقة في عالم المنظمات الطوعية وهي ما يسمى ب(مجتمع العمل الإغاثيAid Work Community). هذه جماعة عالمية ضخمة وغير منتظمة من الموظفين الحكوميين والدبلوماسيين الدوليين والخبراء والأكاديميين والنشطاء والطيبين، ورجال الأعمال المتهربين من الضرائب عبر إستغلال الثغرات القانونية التي تمكنهم من التبرع للأعمال الخيرية مقابل الحصول على إعفاءات، وممثلين وفنانين وجواسيس وأوغاد و مغامرين وممرضات ورجال إعلام وكتاب وصحفيين ومصورين وباحثين عن المجد وساعين تحقيق إنتصارات إلهية وساسة طامحين وغير ذلك. هذه الجماعة ضخمة جداً وهائلة ومترابطة المصالح ومتشابكة الصلات تربطها مصلحة واحدة وهي وجود الكارثة ثم تفريغ طاقاتهم الهائلة لخدمة تلك الكارثة أي منحها أطول عمر ممكن. هذا وضع طبيعي فإذا انتهت الكارثة أين يذهب كل هؤلاء؟
إن الفئة التي ذكرتها لا تشغل نفسها كثيراً بدرء آثار الكوارث الطبيعية فتلك لا تحقق مجداً ولا تربح مالاً في وسائل الإعلام وإلا لكانت كارثة التسونامي والأوبئة من إيدز وغيره قد استنفذت طاقة العالم لكن الحقيقة إن العالم لم يفعل شيئاً إزائها لأن تلك الكوارث لا تناسب مجتمع العمل الإغاثي. لم يشغل العالم نفسه بملايين من البشر يأكلون–من بؤسهم- أحذيتهم كل صباح ولا يجدون ماء صالحاً للشرب ولا غذاء ولادواء ولا ولا لأن هذه الكارثة ليست نتيجة حرب و(المجتمع الإغاثي العالمي) لا ينشط إلا في ظروف الحرب ولا يصطاد إلا في مائها العكر حيث يمنح طرفاً ما صكوك البراءة والطرف الآخر شهادات اللعنة، هو يمنح الحروب طاقتها على الإستمرار والفتك بالأبرياء ليهنأ موظفوه بالمجد والمغامرة والسمو وتفادي البطالة.
ليس هناك جديد في ما نقول وليس ثمة كشف جديد فيه فحين منحت منظمة (أطباء بلا حدود) جائزة نوبل للسلام عام 1999، أثيرت تساؤلات عديدة حول إستحقاق المنظمات الطوعية عموماً لجوائز السلام، ودار جدل كبير حول دور المنظمات في إطالة أمد الحروب عبر توفير الإمدادات اللوجستية لطرفى المعركة. منظمات العون الغذائي تقدم الطعام والشراب والسكن والأمان في المعسكرات وهي بهذا تجعل الإقامة في تلك المعسكرات محتملة بل ومفضلة في كثير من الأحيان. في مناطق كوارث كثيرة داخل وخارج السودان يبذل الفقراء غاية جهدهم و كل ما في وسعهم ليتم إستيعابهم في معسكرات المتأثرين بتلك الكوارث (طبيعية كانت أو من صنع الإنسان) لسبب بسيط هو أن الحياة في تلك المعسكرات –للأسف الشديد- أفضل وأركن إلى الدعة من بيوتهم الأصلية.
منظمات الخدمات الطبية تقدم العلاج للجميع من حيث المبدأ، لكن في مناطق الحرب فإن الجنود هم أيضاً بحاجة للدواء، وتوفُر مستشفيات متحركة ذات تجهيز عالٍ وحديث، يناسب فيما يناسب الجيوش الصغيرة مثلما يناسب المدنيين بطبيعة الحال.ليست بحوزتي وثائق أعتمد عليها الآن لكني أذكر تماماً إنني شاهدت الخبير البريطاني والباحث في الشأن السوداني أليكس دوفال ينتقد حصول المنظمة على الجائزة.
ومن داخل المنظمة كانت هناك أصوات ترفض الجائزة إذ صرح رئيس فرع المنظمة في اليونان أوديسيس بودوريس لبي بي سي (10/12/1999) " إن إعتماد المنظمة على وسائل الإعلام الغربية وعلى الدعم الحكومي جعلها تبدو كمؤسسة تمثل سياسات وطنية". لم يحفل أحد بحديث الرجل المحترم ، لأن العالم تخلى عن الإستماع إلى حكمة أثينا منذ قرون.
خلال الخمسين عاماً الماضية قدمت أوروبا والغرب تريليون دولار لأفريقيا كان غالبها ما بين عامي 1970 و1998 وهي نفس الفترة التي ارتفع فيها معدل الفقر في القارة السمراء من 11% إلى 66%. هذه ليست إحصائيات مني لكن صاحبة الإحصائية هي الباحثة والأكاديمية المرموقة دامبيسا مويو. حصلت مويو التي تعمل أمها مديرة لأحد المصارف ووالدها أستاذاً جامعياً في اللغويات، على بكالوريوس الكيمياء من جامعة لوساكا- زامبيا ، ثم ماجستير إدارة الأعمال من الجامعة الأمريكية في واشنطن العاصمة ، ثم الماجستير من مدرسة كينيدي للحكم بجامعة هارفارد والدكتوراة في الإقتصاد من جامعة أوكسفورد. عملت مويو في العديد من الوظائف الرفيعة منها مستشارة في البنك الدولي ورئيسة قسم الأبحاث والإستراتيجيات الإقتصادية في مؤسسة (قولدمان ساكس) المالية والإستشارية الكبرى. منذ شهرين فقط أصدرت مويو كتاباً يصب جام لعنته على الإعانات الغربية لأفريقيا بعنوان (مساعدة ميتةDead Aid ) وصفته صحيفة القارديان البريطانية (19 فبراير 2009) بأنه يأتي في زمن شح كتب الأفكار الكبرى التي تقدمها نساء. خشي البروفيسور بوول موليير (Paul Mollier) أستاذ الإقتصاد بجامعة أوكسفورد ومدير مركز دراسات الإقتصاديات الأفريقية على طالبته السابقة مويو من مجتمع العمل الإغاثي الرهيب الذي شبهه، من طرف خفي، بمجتمع التنظيمات الإرهابية، حين قارن بين مويو وبين الناشطة الهولندية السابقة أيان حرسي علي التي أجبرها المتطرفون الإسلاميون على الإختباء. قد تجد في الكتاب ما تتفق فيه وما تختلف عليه مع الكاتبة لكن الخلاصة واحدة وهي إن الإعانات الغربية غير مفيدة إن لم تكن ضارة.
تتناول الكاتبة ظاهرة دخول نجوم التسلية والترفيه في مجتمع الإعانات وهو ما تسميه (المساعدات ذات البريق Glamour Aid) حيث نرى نجوم الغناء مثل بوب غيلدوف وبونو يوزعون الفتاوى حول التنمية في أفريقيا وتساءلت الكاتبة ما إذا قام مايكل جاكسون بتوجيه النصح لبريطانيا حول أزمة السوق العقاري أو قامت إيمي واينهاوس بتوجيه النصح لأمريكا حول أزمة الإئتمان، ماذا سيكون رد الفعل عند مواطني وساسة تلك الدول؟
في نموذجنا السوداني يستمع الكونغرس والرئيس أوباما نفسه إلى رأي جورج كلوني حول قضية دارفور ويستمع الإعلام الغربي إلى ميا فارو حول أوضاع حقوق الإنسان في السودان، فماذا سيكون رد فعل البرتو فرنانديز (القائم بالأعمال الأمريكي) أو باتريك نيكولوزو (السفير الفرنسي) أو د. روزاليند مارسدن (السفيرة البريطانية) إذا بدأت الحكومة السودانية في إستشارة ندى القلعة وجمال فرفور وحنان بلوبلو (لهم كل المحبة والتقدير) حول الأوضاع في تلك الدول، واستمعت إليهم ،وبدأ هؤلاء في توجيه النصائح والإستشارات والإنتقادات للحكومات الغربية في أجهزة الإعلام السودانية والعالمية؟
لقد بدأ كتاب الدكتورة دامبيسا مويو في تحريك الرمال الساكنة ، ومنذ أن تركت وظيفتها الرسمية في يناير الماضي، دعتها الحكومة الرواندية للتشاور حيث التقت بالرئيس بوول كيغامي وبعض أعضاء حكومته كما زارت كينيا وتنزانيا للتشاور مع صناع القرار فيها، مما يوحي بأن الحكومات الأفريقية بدأت تأخذ كتابها وآرائها بقدر كبير من الجدية على الأقل ، ويعكس في نفس الوقت إحباط تلك الحكومات من جدوى المساعدات الغربية.
***
هناك جدل واسع يدور في مؤسسات أكاديمية محترمة حول ضرورة قيام المنظمات بفعل الشيء الصحيح ( Doing the right thing) في عملها الطوعي أي ضرورة الموازنة بين واجباتها الإنسانية وحاجة المجتمعات التي تقوم على خدمتها إلى السلام والإبتعاد قدر المستطاع عن التورط في خدمة أجندة سياسية أو حتى عسكرية. هناك جدل حول ضرورة خضوع هذه المنظمات لمحاسبة المجتمعات التي تقوم على خدمتها، ليس على صعيد المحاسبة المالية ولكن المحاسبة حول البرامج وسبل تنفيذها وما إلى ذلك على الأقل. المنظمات الآن مسئولة أمام حكومات الدول التي تمول أنشطتها وهي في الغالب حكومات غربية معادية لنظام الحكم في السودان أو معادية للسودان نفسه.
يتم تمويل أنشطة المنظمات كما يعرف كل المهتمين عن طريق الإستجابة للمشروعات (Proposals)التي تقدمها إلى جهات التمويل وبما أن الممول الأكبر لأنشطة المنظمات الطوعية الغربية هو الحكومات فمن الطبيعي ألا توافق تلك الحكومات على مشروعات لا تتفق تماماً مع سياساتها. في كثير من الأحيان تطلب الجهات الممولة تعديل المشروع حتى يتواءم إلى أقصى حد مع سياساتها وتوجهاتها. لدى غالب الحكومات الغربية وكالات متخصصة للعون الأجنبي مثل الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) التي تقوم بتلقي ميزانياتها مباشرة من الدولة ثم تتولى عبء تمويل المنظمات الأصغر عن الدولة. هذه المنظمة وغيرها منظمات حكومية ذات أهمية قصوى بالنسبة لدولها، ويحمل مسئولوها في الغالب صفة دبلوماسية، ويخضع العاملين بها لإختبارات قاسية وفحص أمني (Security Clearance) لا يترك شاردة ولا واردة إلا أحصاها في حياة الموظف خلال فترة تصل إلى عشر سنوات سابقة. في أستراليا يشترط البرنامج الأسترالي للمساعدات الخارجية (AUSAID) على المتقدمين إلى وظائفه، تقديم معلومات شخصية مفصلة عن حياتهم بالإضافة للحصول على الجنسية وذلك للحصول على الفحص الأمني الوطني. وفي كندا تعين وكالة العون الدولي الكندي (CIDA) موظفيها من داخل الخدمة المدنية الكندية إلا إذا تعثر الحصول على شخص ذي مؤهل نادر أو شديد التخصص والحكمة في ذلك واضحة وهي أن الشخص المعين في الوكالة لديه سجل في العمل الحكومي ربما يمتد لسنوات ويمكن الحصول على تقارير كافية عنه سواء من رؤسائه أو من الأجهزة المختصة. لسنا في حاجة للمضي كثيراً في رصد حالات مشابهة فالحقيقة بيّنة ولاتحتاج إلى كبير عناء للوصول إليها وهي إن المنظمات الطوعية غير الحكومية هي في الواقع منظمات ذات طابع أكثر حكومية من الجيش والشرطة ففي الولايات المتحدة وبعض الدول الغربية الأخرى يمكنك الخدمة في الجيش والشرطة والحصول على فرص الترقي بسهولة ويسر، لكن كل ذلك لا يؤهلك للخدمة في وكالات العون الإغاثي!
حيث أكبر ديمقراطية في العالم تحتاج المنظمات الطوعية وغيرها في الهند إلى ما يقارب العامين للحصول على الموافقات الرسمية اللازمة للحصول على تمويل أجنبي لأنشطتها. ومنذ عام 1976 إعتمدت الهند على قانون صارم هو (قانون تنظيم المساهمات الأجنبية) الذي يعرف إختصاراً بإسم (FCRA). أقر هذا القانون كما يقول منطوقه " لتنظيم قبول وإستخدام الإعانات والإكراميات الأجنبية والتأكد من أن المؤسسات البرلمانية والإتحادات السياسية والمنظمات الأكاديمية وغيرها إضافة إلى الأفراد الذين يعملون في مواقع هامة في الحياة العامة يؤدون مهامهم بشكل ملائم لجمهورية ديمقراطية ذات سيادة" والهدف من ذلك القانون هو " كبح إستخدام الدعم والإكراميات الأجنبية لأنشطة وأهداف شائنة ومعادية".
لم يصرخ أحد في العالم ضد الهند التي تقول التقديرات ان أطفال شوارعها فقط يبلغون أحد عشر مليوناً، بأنها بضبطها وتنظيمها المفرط لأنشطة المنظمات الأجنبية والتمويل الأجنبي فإنما تعرض حياة الملايين من شعبها للموت ولم يوجه أحد للحكومة الهندية تهمة إرتكاب جريمة حرب. لو تركت الهند الحبل على الغارب للتمويل الأجنبي لبقيت الأمور على ما بلغته في ستينات القرن الماضي ، حيث كان الحديث عن تمويل السي آي إيه لنقابات العمال هناك حديثاً أكثر من عادي ولا يثير حفيظة أحد، كما يروى.
نواصل..





#محمد_عثمان_ابراهيم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الأحزاب التأريخية ، كم لبثتم في الأرض؟ (2-2)
- الأحزاب التأريخية ، كم لبثتم في الأرض؟ (1-2)
- دليل السكنى في بيت المجتمع الدولي (2-2)
- السودان: دليل السكنى في بيت المجتمع الدولي (1-2)
- روزمين عثمان : الماما قراندى في الخرطوم
- عرض لرواية النمر الأبيض الفائزة بجائزة مان بوكر
- فرنسا و السودان : زاد الحساب على الحساب (2-2)
- فرنسا و السودان : زاد الحساب على الحساب*(1)
- نحو دبلوماسية سودانية بديلة (2-2)
- نحو دبلوماسية سودانية بديلة (1-2)
- السودان: بداية التأريخ و سلفاكير الأول (2-2)
- السودان:بداية التأريخ و سلفاكير الأول (1-2)
- صحيفة استرالية تدعو لضم حماس لعملية السلام
- قصة الدبدوب السوداني تكشف عقدة الدونية الإسلامية*
- أهل الخير يمارسون الشر في دارفور
- من دفاتر المخابرات : أوراق الأحمق
- صمت مريب حول الغارة علي سوريا
- كيف ضل الغرب
- المساعد الجديد للرئيس السوداني ، صورة مقربة 3-3
- المساعد الجديد للرئيس السوداني ، صورة مقربة(2-3)


المزيد.....




- أثار مخاوف من استخدامه -سلاح حرب-.. كلب آلي ينفث اللهب حوالي ...
- كاميرا CNN داخل قاعات مخبّأة منذ فترة طويلة في -القصر الكبير ...
- جهاز التلقين وما قرأه بايدن خلال خطاب يثير تفاعلا
- الأثر الليبي في نشيد مشاة البحرية الأمريكية!
- الفاشر، مدينة محاصرة وتحذيرات من كارثة وشيكة
- احتجاجات حرب غزة: ماذا تعني الانتفاضة؟
- شاهد: دمار في إحدى محطات الطاقة الأوكرانية بسبب القصف الروسي ...
- نفوق 26 حوتا على الساحل الغربي لأستراليا
- تركيا .. ثاني أكبر جيش في الناتو ولا يمكن التنبؤ بها
- الجيش الأمريكي يختبر مسيّرة على هيئة طائرة تزود برشاشات سريع ...


المزيد.....

- كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل ... / حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
- ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان / سيد صديق
- تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ ... / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- المثقف العضوي و الثورة / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- الناصرية فى الثورة المضادة / عادل العمري
- العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967 / عادل العمري
- المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال ... / منى أباظة
- لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية / مزن النّيل
- عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر / مجموعة النداء بالتغيير
- قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال ... / إلهامي الميرغني


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - محمد عثمان ابراهيم - الغوث في زمن الحرب (1-2)