أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - منذر بدر حلوم - خدمة الطغيان في فضحه أورويل في (1984) خادم الأخ الكبير















المزيد.....

خدمة الطغيان في فضحه أورويل في (1984) خادم الأخ الكبير


منذر بدر حلوم

الحوار المتمدن-العدد: 787 - 2004 / 3 / 28 - 10:21
المحور: الادب والفن
    


تشكّل رواية أورويل (1984) مصنعا لإنتاج الخوف, لإنتاج كائنات مرعوبة يقعدها الخوف ليس فقط عن الفعل بل وعن الرغبة أيضا. فما ونستون بقوامه الصغير الضعيف إلا كائن صنعه الخوف, صنعه حضور الحزب الطاغي, وحضور آلته الرقابية وجهازه القمعي, وحضور عيني (الأخ الكبير) المتوعدتين في كل مكان حيث صوره تملأ المباني والشوارع والساحات, وحضور الستار الناقل الذي يبث الرعب وينقل الانفعالات وردود الأفعال التي قد تكون قاتلة, وحضور أجهزة التنصت المزروعة في كل مكان, ثم حضور عيون الوشاة المخبرين وآذانهم, الصغير منهم والكبير.. وإذا كان وجود ونستون وجوليا قائما على الخوف ولقاؤهما سعيا إلى الخلاص منه بفعلٍ يدركان انتحاريته, ففي متابعة حياتهما في واقع أورويل الروائي ما يغلق الآفاق ويخلق في النفس رقيبا شديد الوطأة عليها ينتهي بها إلى العجز.
"الأخ الكبير يراقبك" وصورته المعلّقة في كل مكان, لا تفقد لونها, بخلاف كل شيء آخر, وثمة طائرة هليوكوبتر على القارئ أن يراها باستمرار تحوّم فوق الشوارع والمباني ويرى رجال الطاغية القابعين فيها يتلصصون على الناس من نوافذ البيوت, كما على القارئ أن يمتثل مع ونستون سمث لأوامر الستار الناقل الرهيب:" سمث, نعم أنت يا سمث, انحن أكثر" يصرخ الستار الناقل بونستون بينما كان يؤدي تمارين الصباح الرياضية . ", وفي مكان آخر:" سمث! ونستون سمث رقم 6079 أخرج يديك من جيبك!". أمّا إذا كان القارئ ممن يبحث ذهنه عن منفذ يضعه خارج الرقابة ولو قليلا فسرعان ما تطبق الرواية الخناق عليه, حيث لا فائدة من محاولة إدارة ظهرك للستار الذي يمكن أن يكشف, من خلال الظَهر, عن طبيعة الحركات, وبالتالي فلا مفر من تكييف الحركات وتعابير الوجه بحيث تبدو مُرضية لا تثير الشكوك. وهنا نكون أمام خضوع لسلوك يجسد إحدى آليات التأقلم مع الخوف, فنكون أمام حلقة من سلسلة تكيفية, تنتهي بصاحبها إلى أن يكون عجينة يشكّلها الخوف كيفما يشاء. قد تبدأ هذه الآلية بالكذب, لكن الكذب لا يكون كافيا لاستمرارها فلا بد من التكيف مع الكذب لتحقيق التوازن النفسي والتصالح مع الذات, بما يجعله لا يبدو كذبا فيصبح من حقائق الذات. وبالتالي يكون التكيّف هنا تكيّفا من الدرجة الثانية, درجته الثانية هي القبول والتمثُّل. ثم يأتي إبداع الكذب والابتكار فيه. وهذه الخطوة الثالثة تقتضي إنتاج الخوف من جهة, وإنتاج آليات التأقلم مع الخوف من جهة ثانية. وهكذا تجد ونستون يلتفت تلقائيا إلى الستار الناقل وقد" اكتسى وجهه طابع التفاؤل وثوب الرخاء ". بيد أن الخاضع لتأثير درجة دنيا من الخوف يظن, واهماً, في التأقلم معها ما يقيه درجة منه أشد وأثقل وطأة, ناسيا أن التأقلم مع درجة ما من الخوف يعني, تلقائيا, استحضار الدرجة الأعلى منه, الدرجة التي يتم القياس بها والتأقلم اهتداء بما تكون عليه, اتقاء لشرّها. فتنتهي محاولة التأقلم مع درجة من الخوف إلى معاناة درجة أعلى في سلسلة تنتهي بالانهيار. وهذا ما يكون عليه مصير ونستون وجوليا, حيث يكون في قبولهما العمل دون أمل انهيار أمام سطوة الواقع." عليكما أن تتعودا الحياة بدون نتائج وبدون أمل لأنكما ستعملان فترة من الزمن ثم يلقى القبض عليكما تفترقان وبعدها تموتان" يقول لهما أوبرين الرجل الكبير في شرطة الأخ الكبير.
إضافة إلى انسداد الأفق الذي تفضي إليه محاولات التأقلم مع واقع الأخ الكبير, ثمة انسداد آخر يكون في الإيمان بحرّية السعي. فلما كان السعي إلى الحرية يفترض ألا يكون الطريق محكوما بأفق مسدود, اقتضى من صاحبه توهم طريق مفتوح أو الحلم بوجوده في حال غيابه الواقعي. وهو سعي يقوم على فهم أن تكون إنسانية الإنسان في اختلافه وفي رفضه لا في تماثله وانصياعه. هكذا تقول فلسفة الحرية, أما واقع (1984) فيسخر من هكذا سعي وهكذا وعي, حيث يجعل البقاء إنسانا مشروطا بشروط لا إنسانية البتة, ويجعل الرفض الإنساني أشبه بعناد حيواني, الأمر الذي يقود ليس إلى البقاء إنسانا بمقدار ما إلى البقاء حيوانا. ذلك أنّ مُعارض الطغيان في واقع أورويل الروائي أعجز من أن يطرح على نفسه سؤالا من نمط: كيف ينبغي العيش كي يبقى الإنسان في شتى الظروف إنسانا؟ السؤال الذي انتهى ليف فوسكريسينسكي إلى طرحه من قراءته لـرواية الكسندر سولجينيتسن (يوم واحد من حياة إيفان دينيسوفيتش). وأما بالرفض وحده فلا تتحقق إنسانية الإنسان.
وثمة انسداد للأفق يكون باللجوء إلى العقل هربا من الخوف. وذلك ما يتبينه القارئ من علاقة ونستون بجوليا وأوبرين. فليس, فقط, علاقة ونستون بسلطة الحزب وطغيان الأخ الكبير تنبني على الخوف, بل وعلاقته بجوليا تتأسس على الخوف والحقد النابع منه وتنبني عليهما. فقد كان يشعر" بانقباض يخالطه خوف وعداء إذا رآها على مقربة منه ". ولما كان الخائف يفقد القدرة على المبادرة تجده يستجيب لمبادرات الآخرين محاولا التمييز بين ما يتهدده بخطر وما لا ينتظر خطر منه. لكن مقاومته الواعية للخوف, من منطلق حفاظه على شخصيته, تجعله يخطئ. وهذا ما حصل لونستون في علاقته مع جوليا, من جهة, وعلاقته مع أوبرين من جهة ثانية. فونستون الذي يتوجّس شرا من رؤيته لجوليا, معتقدا بأنها تراقبه وتتعمد الوجود حيث يكون, يرى في عيني أوبرين نصيرا ضد تعسف الحزب, نصيرا يسعى إليه, كسعي المنوَّم مغناطيسيا إلى هدف دون غيره. وبذلك يرتكب خطأ مزدوجا تقوده إليه آليات المحاكمة والاستجابة المحكومة بالخوف. فقد تبين أن جوليا تحبه وأن أوبرين ينصب شباكه الأمنية حوله ليقضي عليه. وهنا نقع على تربية لصالح الغريزة. فلو أنّ ونستون استجاب لنداء" قلبه (الذي راح) يخفق بشدة ", وللشعور بالرعب والفزع والحيرة من ألا يكون أوبرين متآمرا ضد الحزب, لو استجاب للدافع الذي راح" يحفّزه للهرب", لما انتهى" إلى رطوبة القبر و وحشته". فإذا أخذنا بعين الاعتبار مصير ونستون النهائي تكون الغريزة, المحمولة على رسالة أورويل, أضمن من العقل, ويكون في اللجوء إليها منجاة لا في اللجوء إلى العقل. وهكذا جعل أورويل العقل يخسر أمام الغريزة, وجعل خسائره متلاحقة متصاعدة تنتهي بصاحبه إلى الكفر به والتخلي عنه. فمن صدمة أن يكون أوبرين غير ما رآه ونستون, إلى صدمة أن يكون في المرّة الثانية أفظع مما كان في الأولى, وفي الثالثة أفظع مما في الثانية, تربية لصالح التخلي عن العقل والاستسلام للغريزة التي تقود إلى مخارج أنجع من أجل البقاء. وليس فقط أوبرين في الرواية خادع بل الضوء أيضا. فأورويل يقدم لنا من خلال مفهوم (المكان الذي لا ظلام فيه) ضوءا لا ينتصر على الظلام, فلا ينتصر به الخير على الشر والعدل على الظلم, بل ضوءا يستخدم في الزنزانة أداة تعذيب.
وهناك انسداد للأفق غيره, يطمس المستقبل بالسواد, انسداد يكون بعقم الأمل فيما يمكن أن تفعله الأجيال القادمة. فالتربية من أجل الخوف لا تستهدف الكبار وحدهم ولا تقتصر عليهم, بل هي تطاول الجميع. ولكن, في الوقت الذي تعتمد فيه على جبن العقل عند الكبار, فإنها تعتمد بدرجة كبيرة على متعة اللعب ورغبة التعرف على العالم واستكشافه عند الصغار. وهكذا فهي تنتهي عند الصغار, غالبا, إلى تربية من أجل الوشاية, أي إلى تربية مخبرين, يعملون بحماس عندما يكبرون على اصطياد الأعداء المفترضين. يبين أورويل في روايته كيف أن هذا الرعب, الذي يُربَّى الناس عليه كبارا وصغارا, يترافق مع تربية من أجل الحقد على الآخر, على كل آخر. ويقود, بالتالي, الأطفال خاصة, إلى وضعِ كل ما لا يكونونه في خانة الآخر, بما في ذلك أهلهم بصفتهم آخر. ولذلك يغدو طبيعيا " أن يخشى الآباء أبناءهم وتخاف الأمهات من بناتهن" وأن يأتي يوم لا يعود فيه أحد يجرؤ" على الثقة بزوجته أو ابنه أو صديقه", كما في (طاعون) كامو, حيث " لا يمكن لأحد أن يثق في جاره, لأنه قادر على أن يمنحه الطاعون دون أن يشعر, ويستفيد من استسلامه إليه لكي يلوّثه بالجراثيم".
وبعد, أيضا, ينسد الأفق في (1984), بغياب معيار يمكن الاحتكام إليه والتكيف اهتداء به. فديمومة واقع الأخ الكبير تقتضي "حملات تطهير وتبخير" مستمرة. وهذه الحملات" جزء ضروري من دولاب عمل الحكومة " التي تخضع بدورها للتربية تحت ضغط الخوف, بل وتحت ضغط التشكيك المستمر بصدق ولائها. وبالتالي تخضع للاصطفاء, بصرف النظر عن وجود ما يصطفى على أساسه أو غيابه. ذلك أنّ الواقع القائم على الخوف ليس من طبيعته رفع حد السيف عمن يشملهم, ناهيك عمّن يقوم عليهم. وهذا ما يشعرنا به أورويل في كل صفحة من صفحات روايته فيكون الأفق المسدود, حيث لا أفق حتى في الولاء الخالص والخضوع المطلق والتبعية الكلية. فحين يكون لا بد من ضحايا, ولا يكون ثمة ضحايا تنطبق عليهم قنوات الموت, يتم الاختيار العشوائي الذي في عشوائيته إرهاب القدر. وهي واحدة من آليات نزع مقومات تماسك الشخصية, آلية تنتهي بنزع الشخصية نفسها. فطالما هناك محدِّدات للتكيف, أي طالما هناك أهداف يتم السعي إليها وقواعد ومعايير توجه هذا السعي وتضبطه, يمكن للإنسان أن يتأقلم إلى حد بعيد, محتفظا لنفسه بوهم الفعل الذاتي المستقل, من خلال أن التكيف وفقا لشيء محدد يعني, نظريا, وجود شيء آخر يكون الإنسان حرّا في أن يتكيف بما يوافقه أو لا يتكيف. أمّا عشوائية المعيار فتجعل كل شيء صالحا لأن يكون معيارا, وبالتالي تقتضي التأقلم بما يوافق كل الأشياء الممكنة. الأمر الذي يعني فقدان الشخصية.
تَشكّلُ الشخصيةِ أو إعادة إنتاجها تحت ضغط الخوف والجهل يؤدي إلى إنتاج ما يسميه أورويل بـ (الروح الوطنية البدائية). وهذه الروح تسم الطبقة البروليتارية التي" من غير المرغوب أن يكون لدى أفراد[ها] شعور سياسي قوي. فكل ما يطلبه الحزب منهم روحا وطنية بدائية يمكن اللجوء إليها عندما يتطلب الأمر قبولهم لساعات عمل أطول وأكثر أو لحصص من المواد الغذائية أقل", بل للتضحية بحيواتهم عن طيب خاطر حين يطلب منهم وطن الأخ الكبير ذلك. ولا يحتاج تعميم الجهل تحت سلطة الخوف إلى الكثير من الجهد. بل إن انبناء الجهل يترافق تلقائيا مع انبناء الشخصية لصالح الخوف.
وثمّة ألعاب يلجأ إليها الخاضع للخوف متوهما أنّه يلعب مع السلطة فيكون حرّا من حيث هو يلعب. كأن يرى في التعبير عن ولائه للسلطة, واحتفاله بأعيادها, والتسابق لإنجاز المطلوب منه حيلا تتضمنها اللعبة, اللعبة- المسابقة التي تفضي, كأي مسابقة أخرى, إلى ربح أو خسارة, ناسيا أنّ اللاعب يخضع لشروط لعبةٍ ليس هو واضعها. فإذا كان ثمة قاعدة يفرضها اللاعب في مواجهة سلطة الأخ الكبير فهي قاعدة تتحدد بشرط البقاء على قيد الحياة, وعليها تنبني المهارات, وأهمها مهارة تَمثُّل الوهم في أنّك" تخرق القانون وتكسر القواعد وتبقى حيّا ". ويفوت اللاعب الغارق في اللعبة أن كسر القانون يكون من طبيعة القانون نفسه وخرق القواعد يكون من طبيعة هذه القواعد فيكون مؤكدا لها ضامنا لاستمرارها. وهنا أيضا يسد أورويل الأفق. فذلك كله لا يجدي نفعا, كما لم يجد جوليا نفعا مشاركتها بحماس في المواكب ورفع رايات الحزب وأعلامه ومشاركتها الجماهير هتافهم سعيا نحو التخفي تحت شخصية أخرى موالية تكون بمنأى عن الأذى. أمّا لقاؤها الممنوع بونستون فينطوي على لعبة مع العيون, لعبة تؤكد وظيفة هذه العيون, بل تؤكد الخضوع لها, وإن بالسلب. فجوليا هذه في سعيها إلى لقاء ونستون, كسراً لقواعد الحزب, لا تستطيع حيال عيون الحزب التي تفانت في الهتاف أمامها إلا التخفي, إلا محاولة الخداع, مدركة أن تطوعها للعمل في مختلف هيئات الحزب ومشاركتها الحماسية له في أنشطته لا تفيدها هنا في شيء. ولذلك تبدو أسيرة الحزب والجماهير والزحام. وهنا يبرع أورويل في وضعنا, كقرّاء, وسط الزحام, وسط الجماهير, لنرى جوليا تستخدم مهارتها" في الكلام دون تحريك الشفاه", ونرى كيف تتكشّف عن أسيرةٍ على خلفية مرور قافلة من الأسرى. فرغم الزحام كان خوف ونستون أقوى من أن" يدير رأسه وينظر إلى وجهها لما ينطوي عليه هذا العمل من حماقة. ولذلك ظل يحملق أمامه, وبدلا من أن يرى عيني الفتاة رأى عيني ذلك الشيخ الهرم الأسير الذي يسير إلى مصيره المجهول". وهكذا تحل عينا الأسير الخائفتان محل عيني جوليا فتكون أسيرة الخوف القاطن عيني ونستون ويكون هو أسير العيون.
وثمة انسداد آخر تنغلق معه الآفاق إيذانا بالموت, انسداد يأتي من واقع تسيطر فيه سلطة الأخ الكبير ليس فقط على الفكر, بل وعلى كل شيء. والأمر لا يتعلّق فقط بالسيطرة على لقمة الناس والتحكم بها والعمل بمبدأ سهولة قياد الجائعين, إنما وبالسيطرة على ممكنات الواقع لتكون عصية على غير السلطة, فتكون مغلقة أمام من لا يراها بعينيها. " ولعلّ أفظع ما قام به الحزب هو أنّه استطاع إقناع الناس بأن مجرّد الدوافع ومجرد الشعور لا قيمة له ولا يؤبه له, وفي نفس الوقت حرم الناس من جميع أنواع السيطرة على العالم المادي". وذلك يقود, إن لم يكن إلى الاستسلام والخضوع, فإلى اللامبالاة, حيث" طول الانتظار يولِّد عدم الانتظار", كما يقول كامو في (الطاعون).
أما المقاومة فتغدو شكلا من أشكال الانتحار. فواقع, كواقع (1984) لا تستطيع, مهما فعلت, أن تغيّر فيه شيئا, يغدو سجنا حقيقيا. وأية حريّة في هكذا واقع تكون حريّة في سجن. فما هي حدود حرية السجناء يا ترى؟ أن يتوهموا فضاءً أكبر من الفضاء الذي هم فيه؟ أن يغمضوا أعينهم على الأحلام كقسيس شالاموف الأعمى الذي يصرخ في وجه ابنه ردّا على شكواه من طول نومه:" يا لك من أحمق, أنا عندما أكون نائما أرى!", " أن يتوهّموا أنّهم يتصرفون تصرّف الأحرار, وأنّه لا يزال في وسعهم الاختيار"؟, كما في (الطاعون)؟ أن يشعروا, مثل رامبير, " بشناعة تلك الحرية التي يجدها المرء عندما يكون معدما"؟, أن يمارسوا السلطة على المسجونين معهم ؟ فتكون حريتهم حريّة الضحايا في أن يكونوا جلاّدين؟ أن يمسحوا من ذاكرتهم أي وجود آخر خلا الوجود الذي هم فيه, فيبدو لهم العالم كلّه منطويا في وجودهم وبالتالي تبدو لهم سعة وجودهم سعة الكون؟ أن يتخففوا من ذاكرتهم الـ " ذاكرة (التي) لا فائدة منها" في زمن (الطاعون)؟ أن يموتوا رغم أنف جلاّديهم الذين يريدون لهم أن يعيشوا سجناء فيحرموهم متعة تعذيبهم وقهرهم ؟ كشاعر شالاموف الذي مات دون حكمه بعشر سنوات..
وريثما يجد القارئ إجابات, يغدو طبيعيا أن ينطق ونستون وجوليا على سريرهما بحكم الموت على نفسيهما قبل أن يعلنه صوت حديدي بلحظات:" قال ونستون: إننا نحن الأموات. ورددت جوليا صدى كلماته قائلة: نعم إننا نحن الأموات. وقال صوت حديدي من ورائهما: إنّكم أنتم الأموات, فقفزا وانفصلا عن بعضهما واصفر وجه ونستون واكفهر وابيضت عينا جوليا وغدا لون بشرتها كلون الحديد وانتصب شعر رأسها. وكرر الصوت الحديدي قول: إنكم أنتم الأموات (..) قفا حيث أنتما لا تتحركا حتى آمركما بذلك". وإذا بزجاج الصورة يتكسّر ويخرج منها من يتولى إصدار الأوامر التي توجه إلى المعتقل عادة لحظة الاعتقال, بل الأسير لحظة الأسر, أوامر من نمط: قف, ارفع يديك فوق رأسك, دُر.. وأمام ذلك, ينطفئ آخر ضوء في الحلم فيسودّ الواقع انسجاما مع لون الرجال الذين جاءوا لاعتقاله وجوليا برفقة صاحب البيت شارنجتون, الذي وثق به ونستون وتبيّن أنه عضو في شرطة الفكر. أمّا ضوء الواقع فلم يكن أكثر من:" قنديل يضيء (طريقهما) إلى السرير, و(..) مقصلة تقطع (رأسيهما) إلى القبر".
أمّا انسداد الأفق الكلي, وانسدال الستارة على الحياة, فيكون بالقضاء على آخر وهم يجمّله الإنسان بالأحلام.وهذا ما كان مع صحوة ونستون وجوليا على وهم الأمان حيث ليس فقط الأطفال والكبار يعملون مخبرين بل والشيوخ والصور وأشجار الغابة والجدران, فلا يريان فيما يمكن أن يكون بعد ذلك إلا الموت. يبحثان عن حل في تبديل مكان عيشهما, في تبديل عملهما, في تبديل لغتهما, بل في تبديل جلدهما للعيش طليقين في مكان ما, بصيغة ما.. بيد أن ذلك كله يجابه بضحكة الواقع الفولاذية الساخرة فيستفيقان على معرفة" أن كل هذه الأفكار ضرب من السخف وأنّه في الحقيقة لا مهرب لهما". وأمّا بعد الرغبة في العيش الطليق, في الحرية فلا يكون إلا الموت, ذلك أن شيئا بعد ذلك مهما كان شكله لا تقبله السلطة بل لا يتقبّله عقل منظومتها, حتى لو كان على هيئة استسلام كامل وخضوع تام. يقول أوبرين لونستون المعتقل:" لا تتصور بأنك ستنقذ نفسك مهما استسلمت لنا استسلاما مطلقا. إننا لم نبق على حياة أي شخص ضل الطريق ". ولا ترسم (1984) أيا من الآفاق الأخرى الممكنة, بل هي تتجلى عن واقع روائي أشد تماسكا وأكثر وحدة منظومية وأكثر انغلاقا من أي واقع فعلي انبنت على تصوره. وهي إذ تكون كذلك تنتهي بقارئها إلى العجز عن إيجاد صيغ لخلاص ونستون وجوليا وأمثالهما, عجز يقود إليه تماسك البنية الأمنية للرواية, البنية التي تطبق الخناق على القارئ وتسد أمامه الآفاق. فتخدم الرواية من خلال ذلك الطغيان الذي قامت على تعريته.
وما أشبه زمن طغيان الأخ الكبير بزمن الطاعون, وبلاد يحكمها طاغية ببلاد تفشى فيها الطاعون. يقول البير كامو في تحليله للخوف الممسك بخناق الناس على خلفية تفشي الطاعون:" هناك في التاريخ لحظات يعاقب فيها من يجرؤ على القول بأن اثنين واثنين تساوي أربعة بالموت (..) والمسألة ليست في أن تعرف ما هي المكافأة, أو ما هو العقاب الذي يستتبعه هذا التفكير, وإنما تنحصر المسألة في أن تعرف ما إذا كان اثنان واثنان تساوي أربعة أو لا. فمواطنونا الذين جازفوا في هذا الوقت بحياتهم كان عليهم أن يقرروا ما إذا كانوا في وقت الطاعون أم لا, وما إذا كان من الواجب عليهم أن يكافحوه أم لا.وقد دأب (كثيرون) يقولون: إنّه لم يعد هناك جدوى من أي شيء. وإنه يجب أن نجثو على أقدامنا [..] ولكن النتيجة كانت دائما ما عرفوه, وهي: أنّه يجب علينا الكفاح بطريقة أو بأخرى, ولا ينبغي أن نجثو على أقدامنا". وفي هكذا زمن يكون من شأن أي إنسان مهما كان مغمورا وبدا تافها أن يغدو بطلا بمجرّد" أن يعطي ما للحقيقة للحقيقة وما لجمع اثنين واثنين حاصل جمعهما وهو أربعة, كما يعطي للبطولة ذلك المكان الثانوي الذي لا تستحق غيره". لكن هذا الفعل, على تفاهته, يغدو عصيا على التحقق تحت سلطة الخوف, فيكون حاصل اثنين واثنين مساويا لما يمليه الخوف في حضرة الأخ الكبير.
-انتهى-



#منذر_بدر_حلوم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سلطة رأس المال الصهيوني من الشعارات إلى الحروب
- فلاديمير بوكوفسكي وحدة الواقع – فصام الفكر
- خمسة وعشرون كاتباً يشعلون - حرائق كبرى
- فكرة الثقافة - والسعي إلى الخلود
- ثقافة التخويف وعنف الضعيف
- من يشتري الحرّية بلقمة؟!
- أليس مخجلا أننا لا نخجل؟!
- من الشعراء الذين أعدمهم ستالين - زارني بوريس كورنيلوف
- العقل صانع الموت أو - أي الموتين يختار العراقيون؟
- منارة ماياكوفسكي
- الطاغية في انفصاله عن ضحاياه واتصاله بهم
- البحث عن عربي - غياب الترجمات عن العربية في روسيا
- ظاهرة فومينكو أو فيروس التاريخ
- الكتاب و جيل ما بعد البيريسترويكا - ماذا يقرأ الروس ؟
- قوة النموذج - إدوارد سعيد في عيون الكتّاب الإسرائيليين - الر ...
- الآن وهنا ! دعوة الأدب إلى القَصاص -بين تولستوي ودستويفسكي و ...
- إله الإرهابيين
- إدارة العلم في عصر العولمة وفقدان الهوية
- ولادة الصهيونية- الفصل السابع من كتاب الكسندر سولجينيتسن - م ...
- الليلة جرح روح ضعيفة


المزيد.....




- -ربيعيات أصيلة-في دورة سادسة بمشاركة فنانين من المغرب والبحر ...
- -بث حي-.. لوحات فنية تجسد أهوال الحرب في قطاع غزة
- فيلم سعودي يحصد جائزة -هرمس- الدولية البلاتينية
- “مين بيقول الطبخ للجميع” أحدث تردد قناة بطوط الجديد للأطفال ...
- اللبنانية نادين لبكي والفرنسي عمر سي ضمن لجنة تحكيم مهرجان ك ...
- أفلام كرتون طول اليوم مش هتقدر تغمض عنيك..  تردد قناة توم وج ...
- بدور القاسمي توقع اتفاقية لدعم المرأة في قطاع النشر وريادة ا ...
- الممثل الفرنسي دوبارديو رهن التحقيق في مقر الشرطة القضائية ب ...
- تابع مسلسل صلاح الدين الايوبي الحلقة 22 .. الحلقة الثانية وا ...
- بمشاركة 515 دار نشر.. انطلاق معرض الدوحة الدولي للكتاب في 9 ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - منذر بدر حلوم - خدمة الطغيان في فضحه أورويل في (1984) خادم الأخ الكبير