أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - منذر بدر حلوم - ثقافة التخويف وعنف الضعيف















المزيد.....

ثقافة التخويف وعنف الضعيف


منذر بدر حلوم

الحوار المتمدن-العدد: 758 - 2004 / 2 / 28 - 07:09
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


    يقول إدمون بلان في بحث له عنوانه(العنف وقد أصبح مؤسسة لدى السلطة الاستبدادية) هو أحد فصول كتاب شاركه فيو ولوجاندر وبيرو تأليفه, وصدرت ترجمته إلى العربية عن وزارة الثقافة السورية تحت عنوان(المجتمع والعنف), عام 1975: إنّ " أكثر الحكّام استبدادا [..]عندما يدفعهم الخوف أو الجنون إلى إطلاق آلة القمع كلّها دون حدود, فإنهم يهيئون الانفجار الذي سيقضي عليهم ". ففي لجوء السلطة إلى العنف دليل على ضعفها, فليس في مجابهة الكلمة ببندقية قوة, كما لا قوة في تجنيد جهاز الدولة القمعي, بما في ذلك القضائي منه, ضد مجموعة أفراد عُزّل لا يتجاوز ما يفعلونه الإعلان عن وجهة نظر أخرى, وجهة نظر مغايرة لوجهة نظر السلطة, في إدارة مؤسسات الدولة وشؤون المواطنين. إنّما لعنف الضعف آلية توليد ذاتية تؤدي إلى نتائج لا تقتصر على أوساط الحكم ومؤسساته بل تطول المجتمع برمّته. فهذا العنف ينجم, أصلا, عن شعور الحاكم المستبد بالضعف ورهاب خيانة البطانة له وانقلاب الرعيّة عليه. لذلك يصبح العنف والقمع المرافق له آلية تعويض عامّة عن ضعف شخصي يعانيه الحاكم أكثر مما هو فعل سياسي. ولذلك, أيضا, يصعب توقّع غير العنف والتعسف من حاكم ضعيف. وسرعان ما تقع القوى المستفيدة من نظام الاستبداد على الآلية التعويضية هذه فتوهم الحاكم بالمزيد من الأخطار التي تتهدد وجود نظامه بل وجوده الشخصي, فيودي به خوفه, بالنتيجة, إلى أن يصبح دمية بين يدي مبدعي الخوف. وبذلك تخرج آلية التعويض الشخصية هذه عن حدود الفردي إلى العام, لتصبح آلية إدارة للدولة, تحكم العلاقات ليس فقط بين النظام والمجتمع, بل وبين الحاكم المستبد ومؤسسات الاستبداد نفسها. فتقوم لعبة تخويف متبادل مولّدة للمزيد من العنف. بما يعني أنّ مرض الحاكم ينتقل إلى المؤسسات فيصبح عنفُ الضعف مقياسَ القوة لديها, فتبالغ في البطش وتستسهل التخوين على التفكير, والسجن على الحوار, وينتقل ذلك إلى المواطنين لتصبح علاقتهم بمؤسسات الدولة علاقة عدوانية, يُعبَّر عن ضعفهم فيها بمظاهر كتجاوز القوانين والعبث بالممتلكات العامة..الخ. لكن قوة عنف الضعف عندما تصل إلى هذه الدرجة من الانتشار وتخترق سويات المجتمع المختلفة, لتصبح لغة متبادلة بين بعض مؤسسات السلطة الاستبدادية وبعضها الآخر, وبينها جميعا من جهة والمجتمع من جهة أخرى, وبين قوى المجتمع نفسه, تتحوّل إلى منظومة تولّد آليات تنظيمها الذاتي وبقائها. فإذا كان النظام الاستبدادي باستسهاله تخوين معارضيه والزج بهم في السجون على حوارهم يجد حلاّ مؤقتا, فإن هذا الحل لا يطيل من عمره كثيرا, لكنّه يهيئ لنظام مثيل له. فنظام الضعف العنيف لا ينتهي إلى نظام مغاير له جوهريا, إنما إلى نظام آخر من طبيعته. أي, ينتهي التعسّف إلى تعسّف من نمط آخر, ويستبدل بالعنف عنف آخر. ولذلك فما يقوله بلان عن أن" النظام الاستبدادي لا يحصل إلا على نجاعة  قصيرة المدى [من استسهاله للعنف] وإن عقائديته المتطلبة تمنعه من التجدد عند الضرورة, وإن أحاديته المطلقة  تمهّد, عاجلا أم آجلا, لمجابهات عنيفة ", يكون صحيحا من حيث أنّه ينتهي إلى عنف لا إلى حوار, إلى تدمير لا إلى بناء, خاصّة في ظرف تكاد تنعدم فيه خيارات السلطة البديلة عن العنف, في ظل " عبادة الفرد [..] وتقديس العقيدة الرسمية وغطرسة قيادات الحزب الواحد ".
    أمّا بيير فيو فينتهي من بحثه في ضرورة العنف السياسي إلى القول بعدم قدرة أي حكم, مع استثناءات نادرة تستوجب الاستنكار كما يقول, على " الاستمرار طويلا وانتزاع شرعيته بالقوة فقط وبالضغط وحده [فـ] نجاعة الجهاز البوليسي لا تحول دون لجوء أشد الأنظمة الدكتاتورية قسوة إلى جهاز إعلامي, غالبا ما يكون عملاقا, لإرساء سلطتها على تأييد أكبر عدد من الناس. وهي تظهر بذلك أن الحكم في نظرها يُدعَّم في نهاية الأمر بالتأييد أكثر منه بالضغط ". لكن يجب ألاّ يفوتنا أن الإعلام, هنا, يتأسس على العنف والإرهاب, وأنّه يكون عاجزا عن تحقيق أية نتائج ما لم يكن مسبوقا بإرهاب ومترافقا معه. فعلى خلفية من ممارسة البطش أو التلويح باستخدامه, يوجّه الإعلام موجاته لجرف تأييد من لا حول لهم إلا بالتأييد. وهنا نجد آلان بيرو يقع في بحثه (التقنية والسلطة والعنف), على ما يمكن تسميته بعنف اللاعنف الذي يعلّق عليه النظام أهمية كبرى لـ " الحؤول دون قيام أي تساؤل حول قيمته الخاصة ومعناه الحقيقي, ويسعى إلى إبطال مفعول كل اتهام يوجّه ضده. وإن بعض أساليب اللاعنف التي تبناها النظام هي وسيلة تهدف في الوقت نفسه إلى إغلاق كل منفذ, وإلى حجر الناس داخل عنف النظام الخفي". ويصل الأمر إلى درجة أن جوهر الأرقام قليلا ما يعني الناس, ليس البسطاء منهم فقط إنما والمعنيين بالشأن السياسي, فسرعان ما يصبح الرقم الكبير نفسه سلاحا إرهابيا ضد من يتسلّحون بالأرقام الصغيرة, أو سلاحا قانونيا يستخدمه ليس فقط الدكتاتور إنما والمتحمّسون لوطنية الدكتاتور, فينتهي الأمر بأحد رجال القانون (المعارضين لنظام شبيه بنظام صدّام) إلى القول عن صدّام بأنه رئيسٌ مُنتخب, ونسي أن يقول بنسبة 100%.
    وهكذا يكون الإعلام , كما تكون الثقافة, في ظل التعسف, أداة لا عنف مؤكّدة للعنف وداعمة له. أمّا العنف فليس من الصعب على مؤسسة الحكم الإعلامية إيجاد ما يسوّغه, وتبرئة الحاكم من شروره. يتطرق فرانسوا لوجاندر في بحثه عن(وجوه العنف المتعددة) إلى سر نجاح هتلر من خلال العودة إلى عمل سيرج تشاخوتين (اغتصاب الجماهير بالدعاية السياسية), فيرى أن الوسيلة الكبرى التي فرض بها الفوهرر ذاته وسيلة بسيطة هي(الإقناع بالقوة). وهذا ما يدعوه تشاخوتين (الاغتصاب النفسي بدعاية عاطفية قائمة على الخوف)". فتحت ضغط منظومة إعلام السلطة يبدأ المجتمع, بما في ذلك قواه المعارضة, بإنتاج إيحاءات وتعبيرات تكون وليدة استجابات لإيحاءات السلطة و خطابا على خطابها, أي تكون منفعلة, بالمعنى المباشر للكلمة, بخطاب السلطة. وبذلك يقع المجتمع وقواه المعارضة للتعسف في شرك الإعلام واللغة, فينتجان ما تريده السلطة بالضبط , وإن بدا بصورة مقلوبة. وربما تكون أهم خاصية تمتاز بها اللغة المشتركة, أي لغة إعلام السلطة واللغة المنفعلة, اللغة واللغة المضادة, أنّها, كما يقول لوجاندر, تتخذ " طابعا استبداديا, بل كاذبا أو إرهابيا, يبلغ من تضييقه على الرأي العام, ما يخنق لديه كل معارضة والسعي نحو حرية تود لو تقوم (باستعادة) للكلمة تعيد إليها معنى مبتكرا. لقد أصبحت اللغة أداة مراقبة ". بحيث تغدو" حرية الفكر مستحيلة الحدوث لأنه لا يكون هنالك كلمات يمكن التعبير بها عن جريمة الفكر", كما يقول أورويل في روايته(1984). ولذلك يجب التحرر من (الخطاب المضاد) لخطاب السلطة كأساس للتحرر منها. فما لم تكن القوى المعارضة للتعسف قادرة على إنتاج خطابها الخاص المغاير من حيث الجوهر لخطاب السلطة, لن تكون قادرة على التحرر, أي ستكون عاجزة عن أن تخدم الحرية أو الديمقراطية.
    وبعد, فثمة من يشتق من ضرورة الدولة وضرورة الإكراهات التي تقوم عليها ضرورة عنف, فيشتق, بالتالي, من ضرورة الدولة القوية ضرورة تعسّف واستبداد, كأن لا مفر للبشرية من ثنائيات: ضعف- قوة؛ بناء– ضحايا؛ حريّة– فوضى؛ تعسّف– قوة..الخ. الأمر الذي ينتهي بصاحبه, بالنتيجة إلى التسليم بمبدأ الغاية تبرر الوسيلة, أو مبدأ (الأعمال بالنيات) ذي النتائج المدمّرة على حياة الإنسان, بل على البشرية عموما. وفي سياق نقد هذا المبدأ يرى بيير فيو كيف أن الأخذ به " سيبرر, في الداخل, تجاوزات خطيرة وأحيانا أسوأ أنواع العنف [التي] تمارَس حيال المواطنين المشبوهين, كما سيبرر, في الخارج, المجابهات الدموية بين أمم لا تحركها إلا مطامعها الخاصة, ضاربة باعتبارات الأخلاقية الدولية أو حق الشعوب عرض الحائط", منتهيا إلى إدانة الممارسة الثورية التي تأخذ به. فغالبا ما يستخدم العنف, مسوّغا بغايته الثورية, ضد الخصوم السياسيين والشخصيين.
    من بين أنماط العنف السياسي تجد فروم يتوقف مليا في فصل(مشكلة وعي البنية الاجتماعية والعنف) من كتابه(روح الإنسان) عند العنف الثوري, أو ما يقول عنه مفهوم " الممارسة الثورية" الذي– والتعبير له– يقودنا إلى مفهوم صعب للغاية ومثير للجدل هو فهم الفلسفة الماركسية لمفهوم العنف".  ولما كانت الأحزاب الماركسية وكذلك الأحزاب التي قامت بتصفية الماركسيين تستلهم ممارستها للعنف الثوري من ماركس لا نجد أفضل مما جاء لدى فروم ردا يعيد بعض الاعتبار لماركس:"فالفكرة عن الثورة السياسية المنجزة بمساعدة العنف لم تولد في الماركسية على الإطلاق, بل يمكن المسارعة إلى تأكيد أن المجتمع البرجوازي استند إلى هذه الفكرة على مدى القرون الثلاثة الأخيرة. فما الديمقراطية الغربية إلاّ وريثة الثورة الإنكليزية والفرنسية والأمريكية؛ وثورة فبراير 1917 الروسية وثورة 1918 الألمانية لقيتا ترحيبا حارّا من الغرب, على الرغم من أنّهما تمّتا بواسطة العنف. ولذلك, فمن الواضح أن استياء الغرب المعاصر من استخدام العنف يتعلّق بالجهة التي تستخدم القوة, والجهة التي تُستَخدم القوة ضدها [..] وتجدر ملاحظة أن نظرية ماركس عن الثورة بالقوة, على الرغم من أنها تأتي في سياق التقاليد البرجوازية (باستثناء إنكلترا وأمريكا), إلا أن واضعها يخطو خطوة إلى الأمام في نظريته, مقارنة بمنظّري العنف البرجوازيين[..]فقد رأى ماركس أن أي قوة سياسية تعجز عن إحداث شيء جديد مبدئيا في الحياة ما لم تكن وليدة التطور الاجتماعي والسياسي لهذا المجتمع أو ذاك. وبالتالي, فالعنف (إذا كان في العموم ضروريا) يقوم, إذا صح التعبير, بمنح التطور القائم بذاته دفعةً أخيرة. وفي هذا السياق يقول ماركس إن العنف قابلة كل مجتمع حامل بالجديد. وتتمثل خدمة ماركس الكبيرة في تجاوزه للمعتقدات البرجوازية التقليدية. فهو لم يؤمن بقدرة العنف الإبداعية, ولم يتسلح بفكرة أن يتمكّن العنف السياسي بذاته من إنجاز نظام اجتماعي جديد. ولذلك, فإن العنف, من وجهة نظر ماركس, يلعب في أقصى درجاته دورا مؤقتا فحسب, وليس دور العنصر الحتمي والفاعل باستمرار عند تغيير بنية المجتمع."
    أمّا بلان, الذي بقول منه افتتح المقال, فينظر في عنف الأيديولوجيات التي تأخذ على اختلافها " بتصور واحد للتطور الإنساني" هو مصدر كل بلاء, منتهيا إلى أنّ " أخطر انحراف تبتلى به [الدول الاستبدادية] يقوم على اعتقادها, أو تظاهرها بالاعتقاد, بأن وجودها الخاص والجائز يستنفذ جميع التحقيقات الممكنة [..] فكل معارض هو فوضوي يريد إحداث الخراب. وفضلا عن ذلك, فهي تعتبر نفسها المؤتمنة الوحيدة والمختصة على إرادة البلد ومصيره: وكل معارض هو خائن مأجور للأجنبي. ويجب أن يظفر برنامجها السياسي بتأييد الجميع المطلق: وكل نقد هو مساس بأمن الدولة. أخيرا إن هيمنتها تنزع إلى أن تشمل جميع الفعاليات: وكل تنظيم مستقل هو خصم لها".ويمكن للمرء تقديم كثير من الأمثلة الداعمة لكل بند من بنود هذا التوصيف من واقع الاستبداد المحلي, إذا كان من مواطني دولة مُستَبَدٍ بهم وبها. ثم يأتي حديث بلان عن عنف الدولة الاستبدادية ليس أقل مطابقة, وليس لنبوءة فيما يقول أو لوحيٍ خُصَّ به, إنما لأن واقع الاستبداد واحد في العالم كله بصرف النظر عن العقائد السياسية والدينية والانتماءات القومية أو غيرها. فالدولة, وفقا لبلان,  تستغل المبدأ الحقوقي القائل بأنها " تحتفظ لنفسها بحق الإكراه" لـ " يصبح [الأخير] سلاحا رهيبا في الأنظمة الاستبدادية. فإن الجهاز البوليسي والعسكري يتسع اتساعا ضخما, ويمارس رقابة دقيقة, يستحيل معها اعتماد أي مرجع آخر ذي بال [..]وتحتكر الدولة الإعلام, ولا ترضى عن الثقافة إلا عندما تخدم (عظَمة النظام). وإن الخوف من الوشاية والقمع, يحتجز قسما من الشعب في سلبية لا تليق بالإنسان. بيد أن بلان سرعان ما يتنبّه إلى وجود دكتاتوريات ثورية, دكتاتوريات يسارية, لا يجوز من حيث المبدأ وضعها في خانة واحدة مع الدكتاتوريات اليمينية الرجعية. فذلك, من وجهة نظره, أمر غير جائز ما لم يكن ممكنا بناء نظام ديمقراطي" في جميع الأوضاع". ثم يأتي ليفسر لنا ما يعنيه بالأوضاع جميعها, طارحا حالات حدّية تتساوى فيها الأنظمة, حيث تُعّلَّق طبيعة النظام لصالح الحالة الاستثنائية أو الحديّة كحالة الحرب" الأهلية أو الخارجية" , أو حالات ضرورة النهوض الثوري بمجتمع متخلف يعاني نقص الكوادر والأطر, متجاهلا أن مفهوم الدولة نفسه يتغير, مطاوعا حالة الحرب, أو حالة التعسّف الثوري, متجاهلا, أيضا, أن الحرب تكون بحد ذاتها حالة تعسفية وحالة تخدم التعسف في آن معا. فتحت اسم الحروب الوطنية يسحق المعارضون للنظام ويزج بهم في السجون أو يُمنحون (شرف الشهادة) بوضع أجسادهم المستنزفة بين نيران العدو ونيران سرايا التأديب, كما فعلت الستالينية مع معارضيها في الحرب (الوطنية العظمى), وتحت اسم حروب التحرير يُدفع بالمعارضين بل ببشر معينين دون غيرهم إلى خطوط الموت بصفتهم معارضين محتملين كونهم ينتمون إلى مذهب دون غيره أو شعب دون سواه, كما فعل صدام في قاديسيته مع إيران؛ وباسم الحرب أيضا تعلّق القوانين والدساتير ويعمل بالأحكام العرفية وتنفق ميزانيات الدولة على جيوش وظيفتها حماية النظام, أو إضعاف ذاتها حتى لا تكون قادرة إلا على مواطنيها... وهكذا تكون الحرب بالنسبة للأنظمة التعسفية شرط وجود. وهو أمر يعيه جيدا القائمون عليها, لذلك تراهم يبادرون إلى خلق توترات دائمة مع بعض جيرانهم وعقد تحالفات مع البعض الآخر, تحالفات تهدف إلى خلق المزيد من التوترات, كما يلجؤون إلى إدارة حروبهم الداخلية والخارجية بحيث لا تنتهي أبدا, فلا تثمر هزيمة ولا نصرا, بل هي لا تثمر إلا الموت الذي باسمه يحتل التعسف عرش الوطن." فالهيئات الحاكمة لا يقاتل بعضها بعضا, بل الحرب تعلنها هيئة حاكمة ضد رعاياها أنفسهم, وغرض الحرب ليس احتلال الأراضي أو الحيلولة دون هذا العمل, بل هو الإبقاء على كيان المجتمع سليما لا يمسه أذى", كما يقول أورويل في (1984). أما السلامة, فمفهوم تحكمه مصلحة الطبقة الحاكمة التي تشكل الحرب- كما يقول أورويل- ضمانة لبقائها " أهم من جميع الضمانات". وهذا لا يعني أن ليس ثمّة حروب تحرير وطنية تستوجب حالة بناء وطني خاصة, إنما يعني أن الحروب الوطنية نفسها تقع ضحية التعسف فتصبح لا حرب ولا سلم ولا نصر ولا هزيمة, والجيش نفسه يدخل في حالة اللاتعيين هذه فيتردد بين أن يكون حارسا للقصور والمزارع وفزاعات على الحدود يعرف العدو المتواطئ ماهيتها جيدا, ويصبح الجستابو والـ ك.ج.ب والمخابرات جيشا فوق كل جيش. ولذلك فإننا نرى لا منطقية بلان في قوله بـ "أنه لا يجوز منطقيا " مساواة دكتاتوريات اليمين بدكتاتوريات اليسار.
    فالدكتاتوريات الثورية تقوم بممارسة العنف انطلاقا من مقولة (الثورة المستمرة), بما يعني استمرار وجود أعداء, واستمرار التهديد, وبالتالي وجود ما يسوّغ ممارسة العنف (الثوري) على الدوام, في حركة تصاعدية لا يبدو أن من تستهدفهم ينتهون, بل هم ينبعون باستمرار, لكأنّ عنف السلطة حاضنة تولِّد المزيد منهم. وعلى الرغم من وجود هذا الممكن النظري إلا أن الأمر في الواقع لا يتعدّى أن يكون توليدا مصطنعا لأعداء وهميين وجودهم لا بد منه لاستمرار الثورة, أي لاستمرار التوتر الذي تبدو معه الممارسة الثورية طبيعية. أمّا الممارسة الثورية فتعني من حيث الجوهر ممارسة العنف, وأمامها يتساوى الثوريون والانقلابيون بصفتهم عسكرا يختصرون الطريق إلى السلطة, وإلى دكتاتورية الأقدام الثقيلة. فالعسكر في استيلائهم على السلطة لا يفوتهم أن يتجمّلوا بالثورة والأهداف الثورية, ويبدون, طالما هم يملكون القوة, غير معنيين في أن يرى الآخرون في استيلائهم على السلطة ما يرون.
-انتهى-
  



#منذر_بدر_حلوم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من يشتري الحرّية بلقمة؟!
- أليس مخجلا أننا لا نخجل؟!
- من الشعراء الذين أعدمهم ستالين - زارني بوريس كورنيلوف
- العقل صانع الموت أو - أي الموتين يختار العراقيون؟
- منارة ماياكوفسكي
- الطاغية في انفصاله عن ضحاياه واتصاله بهم
- البحث عن عربي - غياب الترجمات عن العربية في روسيا
- ظاهرة فومينكو أو فيروس التاريخ
- الكتاب و جيل ما بعد البيريسترويكا - ماذا يقرأ الروس ؟
- قوة النموذج - إدوارد سعيد في عيون الكتّاب الإسرائيليين - الر ...
- الآن وهنا ! دعوة الأدب إلى القَصاص -بين تولستوي ودستويفسكي و ...
- إله الإرهابيين
- إدارة العلم في عصر العولمة وفقدان الهوية
- ولادة الصهيونية- الفصل السابع من كتاب الكسندر سولجينيتسن - م ...
- الليلة جرح روح ضعيفة
- أنشوطة اللاسامية و وجع الكتّاب الروس
- من (إيفان دينيسوفيتش) حتى (مائتا عام معا) سولجينيتسن واليهود
- سولجينيتسن في شَرَك المعايير المزدوجة ؟
- أولغا بيرغوليتس - حصار الروح
- أنّا أخماتوفا - نصف قرن في قفص الاتهام


المزيد.....




- البنتاغون: انتصار روسيا في الصراع الأوكراني سيكلف الولايات ا ...
- الجيش الإسرائيلي ينشر ملخص عملياته في رفح (فيديو)
- زخارف ذهبية وعرش خشبي.. مقاطع مسربة من -قصر بوتين- تكشف عن ...
- ممثلة إباحية تدلي بشهادتها عن علاقتها الجنسية بترامب في المح ...
- غموض يحيط بمقتل رجل أعمال إسرائيلي في مصر، ما الذي نعرفه عن ...
- محيطات العالم تعاني من -ارتفاع قياسي- في درجات الحرارة هذا ا ...
- بعد أشهر من المماطلة.. اتهامات تطال فون دير لاين بتجاهل وعرق ...
- اتفاق أوروبي على استخدام الأموال الروسية المجمدة لتسليح أوكر ...
- وزير مصري سابق يوضح سبب عدم تحرك جيش بلاده بعد دخول إسرائيل ...
- كيم جونغ أون يودع -سيد العمليات الدعائية- في كوريا الشمالية ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - منذر بدر حلوم - ثقافة التخويف وعنف الضعيف