أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فاتن نور - سيمفونيات و..مراحيض















المزيد.....

سيمفونيات و..مراحيض


فاتن نور

الحوار المتمدن-العدد: 2524 - 2009 / 1 / 12 - 09:45
المحور: الادب والفن
    



في صيف مضى، سرت بأمتعتي الثقيلة على الممر المؤدي الى ردهة الجنون، احدى ردهات المستشفى التي أنصفتني بوظيفة بعد ان بال الزمن على شهادة الدكتوراه التي احمل، وهي شهادة نادرة ومتخصصة جدا في سايكلوجيا المقارنات الآدمية وانعطافاتها المثيولوجية..
لم يكن كل شيء كما توقعته في مستشفى المجانين والأحوال النفسية تلك، واولهم النزلاء المقيمون بها منذ آواخر العصر الرومانطيقي، كانوا ظرفاء،حكماء فعلا ومجانين!
بذح ملفت للنظر في الأفضية والديكورات، اناقة خرافية وذوق ملائكي في اختيار الأثات والسجاجيد والمعلقات،
السوناتات والكونشيرتوات والسيمفونيات العالمية، الصادحة كانت في اروقتها ليل نهار.
كل شيء كان محيرا ومثيرا للجدل حتى المراحيض!، وهذا ما افسد فسحة الأمل التي دخلتني منذ نجاة سام، اذ وجدت المجانين في زبية الفن العاقل!

اول جلسة مع اول نزيل التقيت به كانت على شرفة المرحاض الكبير وحسب رغبته، آجل! لكل مرحاض شرفة مؤثثة، فمراحيضها كانت أجمل من حدائق فرساي وأنظف من جنات عدن، وقد خرجت من وراءها بنكسة اقعدتني ست سنوات عجاف فقط!..
فقد سألني النزيل وقتها مباغتا هدوء الإسترسال، وكنا نحتسي القهوة وننصت الى الناي السحري لموزارت: من اي بلاط أنت يا كسارة البندق
قلت له بأدب مهني، وبمعالجة إستكشافية ناعمة: افهم سؤالك تماما..انت تسأل من اي بلد أنا..آليس كذلك
لا ادري كيف اختفى النزيل بلمح البصر، ولم اره لغايته ، سمعت لاحقا بانه انتحر من شرفة مرحاض!، وبعد ان اصر على سماع سيمفونية الجمال النائم!

تكررت جلساتي مع النزلاء رغم قعودي منذ النكسة..
في جلسة مع أثنين توأم اذكرها جيدا، هاجمني الأقصر قامة وهو ينبش أنفه، بسؤال طويل ومكثف: آتذكرين جنيات الثلج والديك الذهبي والصبار والحلفاء..وبجعات فولتير ابن بطوطة وكونشيرتو روسو بن العاص..
أجبته بجدية، وكنت متيقنة تماما من كثافة خزينه المعلوماتي المبعثر، والمتزاوج دون فهرسة شرعية: بلى بلى، أنا مثلك تماما اتذكر كل شيء ..
يبدو أن "كل شيء" ازعجته قليلا اذ بدأ يقرض آنذاك، أظفاره بأسنانه المرصوفة بإتقان، والأكثر بياضا من سني اليتيم الذي ما أنفككت أناضل من اجل الإحتفاظ به..
أكمل شقيقه الأطول نسبيا،ساخرا او متسائلا: ولكنك يا كسارة اليمامة، لا تذكرين حتى رقم هذه الإفتتاحية التي بها نستعين، وتدعين تذكر كل شيء عن أبي الفرعون وانا لقيط..
أجبته وكأني تلميذ شاطر يحاول إفحام مدرسه، وكنت،كما خيل لي، قد فهمت مغزى السؤال: قطعا اذكره..نحن في الردهة رقم 14..ولكن....
..لم اكمل اجابتي او إستفهامي عن الشق الآخر فقد أصابتني نوبة ذهول لوهلة من شدة الفزع والإنبهار، بهرت فعلا بردة فعل التوأم وكأنها قادمة من جسد مجنون واحد، فقد دخلا في نوبة صرع طارئة لبضع دقائق كأنها ثلت قرن او ضعف، وعلى أثر الإجابة مباشرة..
..فجأة نهضا سوية، وبرمشة عين تحول المرحاض المتوسط الذي التقينا فيه، الى حلبة رقص وغناء..

لا اخفي إستجمامي وقتها، فقد رقصا بإتساق وحرفية وكأنهما من مقيمي الديسكوات، او مايكل جاكسون بعينه ولكن بوجهين مدغمين، اسود حي قبل التجميل/ابيض ميت بعده.
فسر لي جوزيف، عامل تنظيف زجاج الصالونات، وهو من المجانين المعتدلين الذين انضموا الى الحلبة وقتها، فسر لي مقطعا من مؤخرة الأغنية، لم يكن متمرسا في لغة الجنون التوأمي ومقدماتها، ويرطن احيانا بلغة الأنغلوا والبرابرة الجرمانيون مؤسسو اوربا..
وقد صرخ بوجهي بعد التفسير مرددا: ليحفظ الله القيصر، ليحفظ القيصر الله، انتصر الراعي المقتول، انهز ِموا بالزرع قبل الجنون!
معاناتي كانت طويلة ومشوشة بعد نزولي على متن التفسير، وصراخ جوزبف. اكثر ما شد انتباهي هو مفردة جنون، كيف يستوعب المجنون هذه المفردة وماذا تعني بالنسبة له، بعد مراجعات مضنية في بطون كتبي الأكاديمية وكراريس الرياضيات للمرحلة المتوسطة، وجدتها!:الحياة زخم لا محدود من المعادلات المتضخمة، ولا معادلة هناك دون طرفين متساويين وإن كانت بالغة التعقيد والتضخم ويصعب فكها، تبسيطها او حتى تصورها، فالمجنون يحسب العاقل مجنونا، تماما مثلما يحسب العاقل، المجنون مجنونا!، ومعنى الجنون وقيمته في الإتجاهين، تكامل وتفاضل ليس إلا!.


آخر سيمفونية سمعتها في تلك المستشفى بعد فصلي لإثارة الصرع، نوستالجيا الإنتحار، وإتاحة الرقص المسيء للذات الرومانطيقية، كانت واحدة من سيمفونيات بتهوفن الخمس بعد الصمم، سيمفونيته الخامسة ، الكارما.
ولكني اذكر مازلت، وانا قافلة بأمتعتي خارج المبنى، محبطة وبإنتظار باص ينصفني بمقعد شاغر، اذكر بأني سمعت اصداء سيمفونيته الثالثة، البطولة، تنبعث من صوب نوافذه المشرعة، وهي واحدة من اربع له قبل الصمم، تلك التي كانت هدية منه الى نابليون بونابرت، والتي غير اسمها لاحقا الى: سيمفونية البطولة للإحتفاء برجل عظيم . فقد خيب، كما يحكى، بونابرت آمال بتهوفن عندما اعلن نفسه امبراطورا لفرنسا.


مازلت عاطلة عن العمل بعد الفشل الذي حصدته في تلك الردهة، اشعر بالملل احيانا فقد تعودت على مفاجآت المجانين وردود افعالهم الفنية غالبا، عدا بعض المتطرفين!!
استجم غالبا بمعاينة مقولاتهم وأسئلتهم للوقوف على بواطنها ودلالاتها، ومنها اللغز المحير الذي تركه نزيل معاق كان قد هرب من المستشفى قبل رحيلي بيوم، وكان رسالة مختصرة جدا تركها على شرفة المرحاض الصغير، قال فيها: أنتظروني، ساعود حالا برقصة الموت الأخضر، بعد لقاء حفيدتي بارساني عند تاهات الأمبراطور حلاق أشبيليا!
وقد اكتشفت مما أكتشفته وبعد المطالعة، بأن رقصة الموت سيمفونية شعرية لعازف أرغن محترف ولد في باريس ومات في الجزائر!، والغريب حقا هو اسمه: سان!.وألأغرب أن تاهات: اعلى قمة في الجزائر!
اما الأمبراطور الحلاق فقد زارني في المنام بعد إقامته المطولة في عقلي الباطن،وتعارفنا خير معرفة ونحن الآن اصدقاء على طرفي نقيض!،وخصوصا في فنون الحلاقة..

فسحة أمل قد تدخلني قريبا للإحتفاء برجل مجنون!
حجر الأساس لبناء مستشفيات مماثلة بدأ يتناسل في هذا البلد او ذاك، وحسب لغو المجنون المنتحر ونطقه، في هذا البلاط او ذاك..
لا يهمني البحث عن علة هذا النشاط المعماري لاستضافة المجانين ورعايتهم، فأنا ابحث عن وظيفة فقط ، وفراغاتي مجندة لسؤال بوجهين ما زال يشغلني:
لماذا يفضل المجنون المرحاض عندما يلتقيه عاقل...ولماذا يقبل العاقل مرحاضا يجمعه بمجنون!
اما السؤال الذي لم اجند له اي فراغ يذكر، لقوة متن الجواب وتواتر سنده: لماذا حشرت في ردهة الجنون وشهادتي تنسجم ولحد ما، مع ردهة الأحوال النفسية!


فاتن نور
09/01/10



#فاتن_نور (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حافات وزوايا..
- إستطلاعات الرأي: فاقة فكرية ام إقصاء ام هلوسة
- لنسأل أينشتاين اذاً..
- (جيفة) بودلير..ورقصة زوربا..
- الجهاز الهضمي وكفاءته الديمقراطية في العراق!
- تجليات في سرة حلم..
- آخ لو تدري..
- رمضان بين الجميل والأجمل..
- المعادلة متوازنة..ولا بد ان يذبح المثقف العراقي !
- سقراط والسيوطي على هامش فتوى ومعالجة اسرية..2
- سقراط والسيوطي على هامش فتوى ومعالجة أسرية...1
- الجنس الاسلامي والتناشز بين عفة الفاعل والمفعول به...
- احبك مازلت تارة تلو تارة..
- العملية التربوية..مقدمة فلسفية جادة ونهاية ساخرة..
- نشيد الطفل العراقي...
- يسرقون النفط هناك وانا اسرقه هنا!...
- تصوف بفضيلة العشق...
- عتباتنا المقدسة بين الصرف الصحي والصرف المالي...
- الرب الأخير..وصيحات النبوغ
- حول جلجلة الاتفاقية الأمنية بين امريكا والعراق وزمنية الفوضى ...


المزيد.....




- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77
- المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي: إسرائيل تعامل الفنانين كإرهاب ...
- نيويورك: الممثل الأمريكي أليك بالدوين يضرب الهاتف من يد ناشط ...
- تواصل فعاليات مهرجان بريكس للأفلام
- السعودية تتصدر جوائز مهرجان هوليوود للفيلم العربي
- فنانون أيرلنديون يطالبون مواطنتهم بمقاطعة -يوروفيجن- والوقوف ...
- بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ ...
- مظفر النَّواب.. الذَّوبان بجُهيمان وخمينيّ


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فاتن نور - سيمفونيات و..مراحيض