أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - صبر درويش - حول الدولة















المزيد.....



حول الدولة


صبر درويش

الحوار المتمدن-العدد: 2506 - 2008 / 12 / 25 - 10:04
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


مقدمة
لقد كان مخطط ماركس الفكري, يتوزع إن جاز التعبير على ستة محاور أساسية, كما يستعرض هو ذلك: 1- رأس المال,2- الملكية العقارية,3- العمل المأجور,4- الدولة,5- التجارة الخارجية,6- السوق الدولية .
في الرأسمال سيعالج ماركس المحاور 1,2,3, وهو ما سيشكل في مجمله نظرية نمط الإنتاج الرأسمالي؛ توفي ماركس قبل أن ينجز مشروعه, فبقيت المحاور الثلاث الأخرى من دون استكمال.
تحيل المحاور التي ستشكل فيما بعد مضمون الرأسمال, إلى الاقتصاد السياسي, وهو ما سيعبر عنه ماركس بنقده الاقتصاد السياسي, هذا بينما تحيل باقي المحاور إلى نظرية في السياسة التي حقلها المادية التاريخية.
أسس ماركس المفهوم المادي للتاريخ, التاريخ هنا سيصبح تاريخ صراع الطبقات. في الرأسمال, سيخضع ماركس المرحلة الرأسمالية, أهم مرحلة من مراحل تطور هذا التاريخ, للتحليل, وفي هذا السياق سيؤسس مفهوم نمط الإنتاج, سيكون الرأسمال التحليل المنهاجي الأعمق لنمط الإنتاج الرأسمالي, آلية اشتغاله, شكل التراكم والكيفيات التي يتجلى عبرها, مفهوم السلعة, شكل تمفصل القطاعات الإنتاجية .. إلى آخره.
هذا وقد كان في نية ماركس " أن يعرض الطبقات الثلاث الكبرى في المجتمع الرأسمالي النامي- الملاكين العقاريين, الرأسماليين, الأجراء- المقابلة لأشكال المداخيل الثلاث الكبرى: الريع العقاري, الربح, الأجر ". بيد أن الوقت لم يسعف ماركس. وظلت هذه المحاور تنتظر الأغناء من القادمين بعده.
في كتابه الطبقة والأمة.. يشير سمير أمين إلى هذا النقص. ويؤكد على ضرورة إغناء النظرية السياسة, وهو ما سيؤكده فيما بعد في كتابه نحو نظرية للثقافة .
هذه البداهة, يرفض الكثيرين الاعتراف بها, وعلى قاعدة ذلك, يتم تجميع كم هائل من المقاطع والرسائل والجمل المنزوعة من سياقها .. , وذلك في سبيل تكوين نظرية في الدولة قالها ماركس, وهو في الحقيقة لم يقلها.
والحال, أن الاقتصاد السياسي الذي أرساه ماركس, هو في الحقيقة نقد للاقتصاد السياسي. وهذه الملاحظة التي تغيبها لحظات الانحطاط, تعود وتلوح في الأفق, في كل مرة يلح علينا التاريخ بتجاوز الانحطاط.
**************
في هذا السياق أود أن أدلي بملاحظة أخرى, وذلك فيما يتعلق بكيفية التعاطي مع شكل تمرحل فكر ماركس؛ فكثيراً ما شن هجوم شرس على تقسيم فكر ماركس. حيث تم رفض فكرة تقسيم فكر ماركس إلى ماركس الشاب وماركس الناضج, هذا التقسيم الذي اعتمده ألتوسير في قراءته الرأسمال . بيد أن القراءة المتأنية, تجعلنا نلاحظ وبشكل واضح, الحد الفاصل, بين كتابات ما قبل مدخل ال57, وكتابات ما بعد هذه المرحلة, وأقصد هنا بالضبط كتاب رأس المال, مضافاً إليه مدخل ال57.
في الحقيقة ماركس قبل ذاك التاريخ, هو غيره بعد هذا التاريخ.
وللبرهنة على ذلك يكفي أن ننظر إلى النسق المعرفي الماركسي في المرحلة الأولى, وشكل تطور هذا النسق في المرحلة الثانية.
أما أهمية هذه الملاحظة فسنلمسه لا حقاً في سياق نصنا.
********************
1- الدولة ظاهرة اجتماعية, وهي لذلك نسبية التحديد, دائمة التعريف. ولأن الظاهرة الاجتماعية تتصف بالتغير- النسبي- الدائم, كما وتتصف بالتاريخانية, لذا على الفكر أن يجدد دائماً رؤيته لهذه الظاهرة ويعيد تحديدها في كل مرة تتغير فيها الشروط التاريخية المحددة.
في سياق قراءتنا النقدية لنص جاد الكريم الجباعي, المعنون " الماركسية والديموقراطية ", سنركز بشكل أساسي على إشكالية الدولة. ونحن نعلم من خلال قراءتنا للنص المذكور, أن الباحث يركز على ثلاثة إشكاليات أساسية, نعتقد أنها تصب في مجملها في النظرية السياسية. وهذه المحاور هي: الإنسان, الديموقراطية, الدولة, وكلها من وجهة نظر ماركس (الشاب), كما سنلاحظ بعد قليل.
على مدار النص يستعرض الجباعي وجهة نظر يفترض بها أن تمثل وجهة نظر ماركس بالتحديد, حول المسائل المثارة أعلاه. ونحن لنا الحق أن نتساءل هل فعلاً ما أورده الجباعي يشكل فعلاً وجهة نظر ماركس؟
للإجابة على السؤال السابق كان لابد من العودة إلى ماركس ذاته ومساءلة فكره, حول الإشكاليات المطروحة أعلاه, كما كان علينا العودة إلى فكر هيغل أيضاً, والنظر فيما قاله, وكل ذلك لاكتشاف أن ما استعرضه الجباعي هو فكر هيغل أم فكر ماركس؟ وفي المحصلة وهو الأهم, هل نحن بصدد البحث عن نظرية في الدولة أرساها ماركس, أم نحن بصدد العمل على إنتاج نظرية في الدولة, في الحقيقة هي لم تنتج بعد؟.

يسعى النص الذي بين أيدينا, لأن يكون فلسفياً؛ أي أن يقدم رؤية فلسفية للدولة, وهو ما يجعل من الدولة في ذاتها, مادةً للبحث.
بيد أننا مع مزيد من التدقيق, سنلاحظ أن الدولة المعنية بالبحث هنا, ليست الدولة بشكل عام, وإنما هي بالضبط الدولة التي أنتجت في مرحلة سيادة نمط الإنتاج الرأسمالي.
في الحقيقة حتى على هذا المستوى, لن نقع على تحديد فلسفي دقيق للمسألة قيد البحث. فكل مالدينا هنا, عبارة عن تعميمات, أزعم أنها تشوش على المعرفة, أكثر مما تساهم في إنتاجها.
فعلى الرغم من إلحاح الباحث على التمييز بين شكل الدولة, ومضمونها, ودعوته الشبه نبوية إلى إعادة المضمون إلى الشكل .. إلخ, على الرغم من كل ذلك, أقول, أن الباحث لم يغادر سطح الدولة, وليس شكلها أو مضمونها؛ وذلك من خلال عبارات غامضة, يراد منها أن تكون لغة فلسفية, بيد أنها لا تلبث أن تسقط فيما يدعى "بالتجريد الفارغ".
***************

1-1: في الديمقراطية:
يقول الجباعي" لا يتضح القول إن الديمقراطية تجاوز جدلي لليبرالية من دون الإشارة إلى العوامل والشروط التي أنتجت هذا التجاوز" ص170.
يتضح مما سبق, أن الديمقراطية تعبر عن كونها لحظة تجاوز جدلي لليبرالية. والذي يربك في هذه العبارة, الغامضة, هو بالضبط غياب التحديد النظري للديمقراطية ذاتها. فكل ما لدينا هنا, عبارة عن تعميمات, كتعميم التجاوز الجدلي الديمقراطي لليبرالية.
أما ما هي هذه التناقضات الجدلية التي أفضت إلى هذا التجاوز, وما هي أطراف هذه التناقضات.. إلخ فإننا لن نعلم كما أن الباحث لن يخبرنا بذلك.

ليست الديمقراطية بحال من الأحوال تجاوزاً جدلياً, لليبرالية. كما أنها ليست امتداداً لها. فالديمقراطية في أبعادها الاجتماعية والتاريخية, ولدت كنقض لليبرالية.
أعرف الديمقراطية هنا, بما هي فعل تحرير لطاقات الفاعلين الاجتماعيين. أي أنها فعل تحرير للفاعلية التاريخية للبشر. وهي محرز إنساني بقدر ما هي نتيجة للصراع الطبقي على صعيد عالمي.
هذا بينما تتبدى الليبرالية بما هي فلسفة البرجوازية وأيديولوجيتها المسيطرة. ومن هنا يصبح من العبث إحالة تاريخ الديمقراطية إلى تاريخ الليبرالية. وكأن بالديمقراطية لحظة من لحظات تطور الليبرالية ذاتها.
وأنا حين أعود وأؤكد هذه البداهات, فليس ذلك من باب الاستعراض المبتذل. بل قل أن ذلك نتيجة الخلط العجيب الذي يواجهنا في سياق النص كله. وهو الشيء الذي يدفعنا إلى إعادة طرح ألف باء الفكر الماركسي من جديد .
***************
لا تفترض الليبرالية الديمقراطية.
إن نظرة متفحصة, لتاريخ تطور النظام الرأسمالي, والفكر الليبرالي المرافق له, تتيح لنا فهم تاريخ الديمقراطية بما هو تاريخ نقض السياسة الليبرالية. وأنا أقول سياسة ليبرالية, بما هي شكل تحقق الفكر الليبرالي على الأرض.

تنبني الفلسفة الليبرالية على ثلاثة ركائز أساسية وهي مفاهيم المساواة والعدالة والحرية. وهذه المفاهيم هي بالضبط ما كان يوماً شعاراً للحداثة, وهي هي التي كانت يوماً شعاراً لثورة 1789 الفرنسية.
أحبطت ثورة الفلاحين في فرنسا 1789. وأحلامها في العدالة والمساواة والحرية, ذهبت أدراج الريح, ولم تتحقق.
كان يفترض في هذه الثورة الانتقال من سلطة الطغيان إلى سلطة الحرية والعدالة والمساواة, إذا جاز التعبير. ما حدث هو العكس. إذ تم هنا استبدال سلطة طغيان الإقطاع بسلطة طغيان رأس المال.وهو على كل حال ما فتح الباب أمام ظهور اليعقوبية فيما بعد.

تفترض الفلسفة الليبرالية الحرية,وتفترض هذه الحرية وجود أفراد أحرار, يلتقون بملأ إرادتهم في السوق. أفراد لا أحد يملكهم وهم لايملكون شيئاً سوى قوة عملهم وذلك بعد أن كانوا طردوا من الأرض.ومن جهة ثانية تفترض أيضاً وجود أفراد أحرار لا يملكون سوى رأس المال.
للطرف الأول من المعادلة الحرية الكاملة في الاختيار؛ فهم قادرين على القبول في تأجير قوة عملهم وفق الشروط التي يمليها عليهم السوق.وهم قادرين أيضاً على رفض هذا التعاقد والاختيار بملأ إرادتهم الموت جوعاً.
لم تكن هذه المعادلة هدف من أهداف الثورة الفرنسية, كما أنها لم تكن حلم ذلك القن المتخلص حديثاً من قنانته. لقد رفضت المعادلة هذه, وهو الذي بطبيعة الحال ما دفع قادة الثورة إلى استبدال شعارها بشعار آخر هو لا لله لا لقيصر لا للخطباء. أليس لذلك من دلالات تاريخية؟
في الحقيقة نحن هنا بإزاء إضفاء مضمون جديد لمفهوم الحداثة.
لم تولد الديمقراطية كتقييد لليبرالية كما يزعم البعض؛ كما أنها ليست الابن البار لليبرالية.
إن كان علينا أن نرى بوضوح الممارسة الشفافة لليبرالية, علينا حين إذ التوجه إلى مهد الليبرالية, وأقصد هنا إنكلترا بداية استقرار نمط الإنتاج الرأسمالي فيها.
يفترض النظام الرأسمالي وجود أفراد أحرار, بيد انه يفترض بهؤلاء الأحرار أن يكونوا أحراراً من كل أشكال الملكية ما عدا ملكية قوة عملهم.
يحول النظام الرأسمالي وسوقه المقدسة, هذه الملكية- أي قوة العمل- إلى سلعة, ترمى في السوق كباقي السلع. بيد أنها تمتاز عن جميع السلع كونها تمتلك خاصية خلق القيمة.هذه القيمة التي تتضمن الربح إله رأس المال. الربح أو قل السعي وراء الربح هو جذر النظام الرأسمالي.
إن تحقيق أكبر قدر من الربح يشكل هاجس رأس المال.هذا الهاجس يفترض إخضاع قوة العمل وإدماجها في إطار نظام الإنتاج الرأسمالي, كما يفترض استنزاف قوة العمل هذه إلى آخر حد ممكن.
إنكلترا قدمت تجربة غنية عن ذلك. فعلى امتداد القرن الثامن عشر وحتى منتصف القرن التاسع عشر سوف تصل ساعات العمل إلى 15 و16 و 18 ساعة عمل. أما شروط الحياة اليومية لهؤلاء المسحوقين, فعلى المهتم مراجعة السرد الغني الذي يقدمه ماركس حول ذلك في كتابه رأس المال.
ماذا يعني ذلك؟ يعني ذلك أن الفلسفة الليبرالية تفترض الربح, وليس الحرية كما يتوهم البعض؛ وأن هذا الربح يفترض حجم من المآسي الاجتماعية تمر بالضرورة عبر إخضاع قوة العمل إلى شروط غاية في البؤس.
بالضد من هذه الممارسة السياسية لليبرالية البرجوازية, بدأت التكوينات الديمقراطية بالظهور.
يقول صاحب النص الذي ننقد ".. كانت الديمقراطية البرجوازية في غربي أوربا وشمالها تحمل جنين الاشتراكية, أو قابلية نمو الثورة الديمقراطية البرجوازية وتحولها جدلياً إلى ثورة اشتراكية" ص 170.
في الحقيقة, ما يلفت الانتباه فيما سبق, هو التكرار الأشبه بتعويذة, لمقولة "التجاوز الجدي"؛ ونحن نتساءل هنا, هل يكفي هذا الترداد لمقولة التجاوز الجدلي, حتى تتضح لنا حركة الصراعات الاجتماعية, وتعقد مستويات هذا الصراع؟!.
في النص الذي بين يدينا ثورة برجوازية, ولدينا ذاك التحول السحري لها, إلى ثورة اشتراكية. ولدينا أيضاً تلك العبارات الغامضة والفجة في تعبيراتها المعرفية. فما معنى أن تحمل البرجوازية في رحمها جنيناً اشتراكيا؟!.
إن ما يحاول الجباعي تجنبه في هذه العبارات الغريبة, هو القول المعروف في أغلب الأدبيات الماركسية. حول جملة الصراعات والتناقضات التي تولد في رحم نظام الإنتاج الرأسمالي. وأقصد هنا التناقض الأساسي بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج... إلخ. وإمكانية تجاوز هذا التناقض نحو الاشتراكية, وأنا أقول هنا إمكانية, وذلك كي أبقي الباب الآخر مفتوحاً على الخيار الثاني أي التحول نحو الهمجية.

وأما القول بأن البرجوازية بما هي طبقة اجتماعية, فإنها تحمل في صيرورتها جنين أو أجنة اشتراكية ! فهذا هو الغريب في القول. وهنا ربما اختلط الأمر على "الباحث" بين البرجوازية كطبقة اجتماعية وبين نمط الإنتاج الرأسمالي.

يحذر الكاتب في بداية نصه من الانسياق نحو "الليبرالية الأمريكية الجديدة",بيد أنه لا يلبث يقرر" الباحث المنصف, يستطيع ملاحظة نمو القيم والمبادئ والأفكار والتصورات الليبرالية والديمقراطية وانبساطها في المنظومة الماركسية,التي لم تقم بأكثر من إنضاج العنصر الاشتراكي في كل منها وإعادة صوغها ضمن نسقها ورؤيتها." ص171.
في هذه الفقرة سيصل الاختزال والتبسيط إلى أعلى مستوياته. فالماركسية لم تقم بأكثر من إنضاج هذا العنصر الاشتراكي أو ذاك, وهذا التبسيط سنجده مرافقاً لسياق النص بالكامل. كقول الباحث بأن "الاشتراكية أقدم تاريخياً من الماركسية" وكأننا بذلك سنقع على اكتشاف عظيم. أو قوله, ولاحظ هنا: "إن تجاهل مقولة الاستلاب(كذا) التي صاغها هيغل ثم أعاد صوغها فويرباخ, ومن ثم أدمجها ماركس في منظومته.... ". المسألة ستختزل هنا إلى صياغة وإعادة صياغة, ومن ثم إلى دمج. ألا يسقط كل هذا الحد المعرفي بين المفاهيم؟ ألم نسمع كثيراً من ذاك الترداد والتكرار, الذي يتهم ماركس بأنه لم يفعل شيء سوى أنه قام بدمج مقولة العمل المحالة هنا إلى ريكاردو في بنية منظومته المعرفية... إلخ؟.
والأدهى من ذلك, عندما يقرر "الباحث", أن من أهم التؤيلات الاستبدادية للفكر الماركسي, أو على حد تعبير الباحث نفسه, المنظومة الماركسية "افتعال قطيعة أبستمولوجية بين مؤلفات الشباب ورأس المال.. ". وهذه الملاحظة ذاتها سنجدها مكررة عدد لا يحصى من المرات عند مرجعية الباحث الغير معلنة, وأقصد هنا الياس مرقص.
بيد أن التدقيق- وهي نزعة يفتقد لها الباحث- في فكر ماركس قبل مدخل عام 1857 تشير إلى مجموعة من الملاحظات, أهمها تلك التي تدلل على عدم اكتمال منظومة ماركس المعرفية من جهة, وتأثر ماركس بالمفاهيم الهيغلية من جهة أخرى.
في الأيديولوجية الألمانية, سنجد لدى ماركس الكثير من تلك المفاهيم الغامضة, والغير واضحة, كقوله مثلاً "لا يظهر هذا الإنتاج إلا مع زيادة السكان, وهو يفترض من طرفه تعاملاً بين الأفراد. وإن شكل هذا التعامل لمشروط بدوره بالإنتاج ..". أما هذا "التعامل" فهو ما سيصبح في رأس المال "علاقات الإنتاج".
هذا بينما مصطلح "المجتمع المدني" الذي كثيراً ما كان ماركس يردده قبل المدخل, فإنه سيستعيض عنه بمفهوم "التشكيل الاجتماعي الاقتصادي "؛ وحتى مصطلح "شعب" هو بدوره سيسقط من المتاع الفكري لماركس "الناضج". يقول مارتن نيكولاس مقدم كتاب الغروندرايسا ".. بعض المصطلحات التي استخدمها ماركس لم تنفصل كلياً ويتضح تميزها بعد عن معجم ريكاردو .. إن بعض العناصر في نظرية النقود, كدورها ((كرمز)) تبدو مصاغة بتعبير غير دقيق إذا قارناها بكتابات ماركس اللاحقة والمنشورة.".
في الحقيقة المسألة ليست مسألة صياغة ودمج واستعارة.. إلخ, بل هي بالضبط عملية تطور منظومة معرفية تحيل إلى قطيعة أبستمولوجية تتوج ثورة معرفية.
هذه المسألة لن يميزها الكاتب, وذلك خصوصاً عندما يعجز عن التمييز بين مفهوم" نمط الإنتاج" ومقولة "التشكيل الاجتماعي الاقتصادي" ((بالمعنى الكلاسيكي) ).
وأياً يكن الأمر, فإن ما يعنينا في هذا السياق, مسألتين أساسيتين, الأولى وهي فتح ملف المسألة الديمقراطية على المستوى المعرفي, والثانية هي التأكيد على أن ماركس قد وضع خطوطاً عريضة, غائمة وغامضة وغير مكتملة, حول الدولة والمسائل المرتبطة بها؛ أي أن ماركس لم يضع نظرية أو أسس لنظرية في السياسة. وهو ما سندقق به في مكان آخر.
************
قلنا أعلاه أن سياق تطور الديمقراطية أتى نقضاً لليبرالية.
النظام الرأسمالي, نظام إنتاج تقدمي. أي أنه شكل حركة تقدمية إلى الأمام في سياق تاريخ تطور البشرية. "فما تم إنجازه في الخمسة قرون الأخيرة, لا يقارن بحال من الأحوال بما أنجزته البشرية في عدة ألوف من السنوات". هذا أيضاً ما أكده البيان الشيوعي منذ زمن قد يكون ليس بالبعيد.
مع رصد المنحى الذي راح يتطور عبره النظام, أعيد طرح السؤال, ولو بكيفية مختلفة: هل هناك ترابط – تمفصل بين التقدم الاجتماعي من جهة, وآلية اشتغال النظام من جهة أخرى؟؟.
التطور الإمبريالي للنظام سيشكل رداً حاسماً على المسألة قيد النقاش.
الأيديولوجية الليبرالية ستقدم إجابات متماسكة "الرأسمالية, أو للدقة التطور الرأسمالي, سيقود تلقائياً إلى خلق عالماً على صورته, أي أن الرأسمالية ستقود إلى التجانس". هذا الوهم الذي كان شائعاً لن يسلم من التأثر به حتى ماركس.
على مستوى الممارسة سيكون العكس.
أي أن النظام لن يعمل سوى على الاستقطاب, وتعميق الاستقطاب على صعيد عالمي؛ فآلية اشتغال النظام الرأسمالي, لن تدفع بعجلة التقدم الاجتماعي للأمام.
الحروب الخارجية التي قادتها الدول الرأسمالية- وهي دول ديمقراطية كما نعلم- ستشكل تكثيفاً حياً للفكر الليبرالي.
بالضد من هذه الممارسة السياسية الليبرالية, ستتطور المسألة الديمقراطية؛ نحن هنا بإزاء تطور حاسم للديمقراطية على صعيد عالمي.
وأنا أقول هنا صعيد عالمي, كي أميز سياق تمرحل المسألة الديمقراطية؛ فنحن نعلم أن النضالات الديمقراطية, كانت أصلاً ظاهرة أوربية بامتياز, وهو ما ميز التاريخ الطويل لنضال الطبقة العاملة الأوربية.
في المرحلة الامبريالية, سيتوسع مفهوم النضال الديمقراطي, ليشمل نضالات الشعوب الواقعة تحت مروحة الاستعمار, هنا سيتمفصل الديمقراطي مع الوطني مع الطبقي.
إن هذا التطور اللاحق للديمقراطية, هو الذي سيجعل من التنمية الاجتماعية- وهو أي التنمية ما يشكل رديفاً لمفهوم التقدم- وجهاً آخر لها.
وهذه خطوة حاسمة, في تاريخ تطور المسألة الديمقراطية؛ الديمقراطية ستتبدى كونها الوجه الآخر للتنمية.
*******************
ينمو الاستلاب الاقتصادي, بشكل مطرد, مع نمو النظام الرأسمالي. ليس المقصود هنا بالاستلاب, فقط اغتراب المنتج عن إنتاج هو إنتاجه أصلاً, وهو وجه حاسم في أهميته, ما عنيناه إضافة إلى ذلك, كون الاستلاب يعبر عن نفسه بما هو فعل احتجاز لطاقات وفاعلية هؤلاء المنتجين. فالاستلاب في هذا المعنى, هو عملية تقييد للفاعلية التاريخية للبشر, تنمو بشكل مطرد مع كل نمو للقاعدة الموضوعية التي ينبني عليها, أي مع كل نمو لآليات اشتغال النظام.

أعرّف الديمقراطية تعريفاً يكاد يكون سلبياً؛ فالديمقراطية هي عكس الاستلاب, الديمقراطية فعل تحرير, بإزاء الاستلاب الذي هو فعل احتجاز. الديمقراطية هي رافعة تاريخية لمفهوم التقدم الاجتماعي, بخلاف الاستلاب الذي هو معيق لهذا التقدم.
هذا التحديد هو الذي يفتح الباب أمام النضالات الاجتماعية, في مسعاها إلى تجاوز الاستلاب الاقتصادي, وذلك من خلال تجاوز العوامل المولدة له؛ وذلك بخلاف استلاب هيغل الذي يتأبد بتأبد الروح الإنساني.
يغفل الجباعي هذا الفرق الجوهري بين الاستلابين, ويخلط بينهما, بطريقة عجيبة, فيخرج باستنتاج مفاده" أن جهل مقولة الاستلاب( كذا) التي صاغها هيغل ثم أعاد صوغها فويرباخ وأدمجها ماركس في منظومته أساساً من أسسها.." ص172.
ماركس لم يقم هنا سوى بعملية أخذ ثم دمج مقولة الاستلاب الهيغلية, المصاغة فويرباخياً, في منظومته.
الباحث ماركسي. وهنا المصيبة؛ فهذا الكلام مقبول ممن يجهلون أو يتجاهلون الماركسية. أما أن تكون ماركسياً وعاجزاً عن وضع ذاك الحد الفاصل بين المفاهيم, فهنا تكمن المصيبة, مصيبة أن تتكلم بلغة خصمك, فتختلط حين إذ المواقع وتضيع الحدود, أليست هذه السمة من سمات الفكر اليومي؟؟.
والسؤال الذي يطرح هنا, يطرح حول العلاقة التي تربط بين النظام الرأسمالي من جهة ومفهوم التقدم من جهة أخرى.
يقودنا الحديث عن مفهوم التقدم إلى الحديث عن مفهوم الحداثة.
التقدم ظاهرة قديمة قدم الإنسان ذاته, بيد أن وعي التقدم, فهو ظاهرة جديدة؛ أزعم أن هذه الظاهرة تحيل إلى عمق مفهوم الحداثة, كما يؤكد على ذلك سمير أمين .
إن عصر الحداثة هو عصر التقاء الإنسان مع تاريخه. في هذا العصر, سيصبح التاريخ, تاريخ الإنسان الفعلي, وسيصبح هذا الأخير هو من يصنع تاريخه, ولا شيء آخر سواه.
هذه الثورة المعرفية, هذا التحرير للبشرية, لن يلقى ترجمة حرفية له, على مستوى الممارسة؛ ما سيحدث أن الرأسمالية ستحرر الإنسان المنتج من قيود الإقطاع, لتعيد زجه في قيود العمل الأجير الذي يفترضه رأس المال.
سيكون أمام الحداثة مشوار طويل تختطه لنفسها.

لن تقدم الرأسمالية "الرفاه للجميع", كما وعدت بذلك فلسفتها الليبرالية, ما ستقدمه هو الاستلاب الاقتصادي, الذي سيتبدى هنا كونه سمة محايثة لآليات اشتغال النظام. ( وذلك بخلاف "استلاب" هيغل المحايث للروح الإنساني). وسيتعمق هذا الاستلاب مع تعمق النظام الرأسمالي وتوسعه العالمي.
يقول سمير أمين- الذي أدين له بكثير من استنتاجاتي- ( الاستلاب نقيض الحرية, والحداثة تتحدد بإعلان أن الكائن الإنساني فردياً وجماعياً, هو صانع تاريخه ومسؤول عنه, وتضع بالتالي في مقدمة المسرح المتخيل المجتمعي وهو التعبير الأرفع عن الحرية الإنسانية, إلا أن الحداثة القائمة بالفعل حتى اللحظة, ليست سوى حداثة رأسمالية.)

إن تعميق الديمقراطية, بما هي فعل تحرير للفاعلية التاريخية للبشر, تعني بالضرورة تجاوز القاعدة الموضوعية للاستلاب, بما هو تجاوز للاستلاب ذاته. أليس النضال الديمقراطي بالإطار الذي نطرحه هنا, هو في ذات الوقت تعميق للحداثة, ودفع لهذا المشروع خطوة إلى الأمام؟؟.
ولكن كيف يتم هذا التجاوز؟
للفكر الاقتصادي البرجوازي نظريته المتداولة في المسألة.
تقول هذه النظرية بالتلاقي- التطابق بين آليات السوق من جهة, والديمقراطية من جهة أخرى. فتعميق وتحرير فعل آليات السوق يقود وفق وجهة النظر هذه إلى تحقق وإنعاش الديمقراطية.عبر هذه الصيغة تصبح الديمقراطية مرادفاً طبيعياً لآليات اشتغال السوق.

على مستوى الواقع, سيكون العكس هو الصحيح!.
فآليات السوق لن تفضي إلى مزيداً من الديمقراطية, بل على العكس, سيؤدي تحرير هذه الآليات إلى مزيد من الاستلاب, بالتالي إلى مزيد من التهميش.
في الحقيقة ستعبر هذه المعادلة عن نفسها من خلال تبلور التناقض الرئيسي الذي راح يحكم مسيرة تطور النظام على صعيد عالمي, هنا سيتحدد هذا التناقض بما هو تناقض رئيسي بين قوى السوق من جهة, والديمقراطية في إطار الصيغة التي قدمناها أعلاه من جهة أخرى.

إن تقدم المشروع الديمقراطي يفترض ربط هذا المشروع بمشروع التنمية؛ ليست التنمية المشروطة ديمقراطياً سوى خطوة أساسية ومحورية, في سياق تطور مشروع الحداثة وتقدمه.
يفترض هذا التلاقي بين التنمية والديمقراطي, دوراً جديداً للدولة. ما هي طبيعة هذه الدولة, وما هو الدور الذي يمكن أن تلعبه في سياق إنعاش مشروع تنموي ديمقراطي؟؟.

2-1: في الدولة:
حتى وقت قريب والماركسية تعرف الدولة بما هي آلة للقمع الطبقي, بينما نقيضها الليبرالي, فقد راح يعرفها بما هي الجهة الضابطة والموفقة لتناقضات المجتمع.. إلخ.

أخضع أنجلس الدولة للتحليل, وراح عبر إخضاع تاريخ هذه الأخيرة, يستكشف القاعدة الموضوعية- التاريخية, التي ساهمت في إنتاج الدولة.
في الحقيقة لم تذهب دراسته الأنثربلوجية سوى في اتجاه تأكيد الاستنتاجات السابقة التي كان قد توصل إليها هو وماركس. الملكية الخاصة هي بالضبط ما يشكل جذر الدولة, فشكل الملكية في هذا المعنى هو المحدد لشكل الدولة, وهو القاعدة التاريخية التي تقوم عليها هذه الدولة.
*************

في الحقيقة نحن بإزاء ظاهرة غاية في التعقيد, وذلك خصوصاً عندما نعلم أننا بإزاء ظاهرة متغيرة وملتبسة في ذات الوقت.
لدينا الكثير من الدراسات التي حاولت أن تحيط بهذه الظاهرة؛ ويؤكد هذا الكم الهائل من الدراسات, تعدد مستويات ظاهرة الدولة و تشابك هذه المستويات.
في هذه الورقة التي بين أيدينا سنكتفي بوضع مجموعة ملاحظات, تذهب جميعها في الإطار المحدد لهذه الورقة.

الملاحظة الأولى التي أود طرحها, تتركز حول التفريق المنهجي بين شكل الدولة ونمطها.
يتحدد نمط الدولة بنمط الإنتاج, في هذا المعنى يصبح لكل نمط محدد من الإنتاج, نمط دولة محدد بدوره. هذا بينما شكل الدولة فهو محدد على العكس من ذلك, بجملة الصراعات الاجتماعية الفاعلة في قاع التشكيل الاجتماعي.
بالاستناد إلى هذه الفرضية, يمكننا القول أنه لدينا في ظل نمط الإنتاج الرأسمالي نمط دولة واحدة هي هنا الدولة الرأسمالية؛ بيد أن شكل هذه الدولة فهو متعدد ومتغير بتغير الصراعات الاجتماعية في إطار بنية اجتماعية محددة.
وهكذا سنجد أنه في ظل الرأسمالية ذاتها, لدينا شكل الدولة الديمقراطية, وشكل الدولة الملكية الدستورية وشكل الدولة الاستبدادية... إلى آخره؛ بيد أن النمط السائد للدولة, هو نمط الدولة الرأسمالية.
الملاحظة الثانية التي لا بد من الإشارة إليها, قلنا أعلاه أن الدولة ظاهرة اجتماعية معقدة, وهي لأنها كذلك, لا تعرف مرة واحدة وإلى الأبد, وفي سياق نقاشنا الدولة الرأسمالية على وجه الخصوص, سنلاحظ أننا بصدد نقاش تمرحل هذه الدولة, أي نحن بصدد دراسة أطوار للدولة, تعكس الأشكال التي راحت عبرها تتطور.
بالاستناد إلى هذه الملاحظة, سنحاول تثبيت فرضيتنا حول شكل الدولة في ظل مرحلة الانتقال.
2-2: بصدد الأساس الموضوعي للدولة:

يقول صاحب النص الذي ننقد".. وفي نقده فلسفة الحقوق عند هيغل يضع ماركس أساساً منهجياً لرؤيته الديمقراطية أو لرؤيته الدولة الديمقراطية, قوامه (( المجتمع المدني ليس انعكاس الدولة بل الدولة هي تعبير المجتمع المدني)), الدولة الديمقراطية ستغدو عنده الدولة السياسية التي ينتجها المجتمع المدني على أنها شكل وجوده السياسي, والتي تصير دولة مادية يتحد فيها الشكل السياسي والمضمون الاجتماعي." ص 174.
في الحقيقة إن أكثر ما يربك في نص الجباعي بشكل عام, غياب الزمن, وأقصد هنا التحديد الزمني. فتحديداته النظرية وكأنها عابرة للتاريخ, لا نعلم بالضبط إن كانت هذه التحديدات خاصة بالدولة الرأسمالية أم بالدولة بشكل عام. وهو ما دفعنا بطبيعة الحال إلى تأويل النص الذي بين يدينا, واعتماد المرحلة الرأسمالية باعتبارها المرحلة المعنية بالنقاش, وذلك استناداً إلى مجموعة من الملاحظات المتناثرة هنا وهناك والتي تحيل إلى النظام الرأسمالي.
على كل حال وبالعودة إلى النص السابق, سنرى أن ماركس وفق التأويل الجباعي كان يرى في المجتمع المدني أساساً للدولة, فالدولة في هذا المعنى هي تعبير المجتمع المدني.
بيد أن هيغل - ويا للمصادفة- كان يرى أيضاً في العائلة والمجتمع المدني أساساً للدولة؛ فما هو الجديد في نقد ماركس فلسفة الحق عند هيغل؟!.
نحن هنا أمام خيارين, إما أن ماركس كان قد نقل عن هيغل وجهة نظره في الدولة, وبالتالي يصبح من غير الجائز تسمية نقده لفلسفة الحق بالنقد, أو أن فكرة ماركس حول الدولة لم تصل بشكل واضح إلى الجباعي.

ومن خلال التدقيق في فكر هيغل حول الدولة, سنجد أن هذه الأخيرة عنده" هي الوحدة في الاختلاف للمبدأ الكلي للأسرة والمبدأ الجزئي للمجتمع المدني" الدولة هي " وحدة الأسرة والمجتمع المدني "؛ الدولة في هذا السياق, تحقيق لجوهر أخلاقي, فهي" تجسيد للإرادة العامة الجوهرية, وهي العقل في ذاته ولذاته" .
تشكل الدولة عبر وجهة النظر هذه, ضرورة عقلية, وهو الاستنتاج الأهم الذي يقوم عليه فكر هيغل حول الدولة. فعبر هذه الصيغة ستصبح معارضة الدولة هي هي معارضة العقل, بما هي أي الدولة تجسيد لهذا العقل الكلي. وهو ما يؤدي إلى الوقوع في الخطأ على حد تعبير هيغل ذاته.
هيغل حاول أن يضع خطوطاً عريضة, لدولة قائمة على الأرض بالفعل؛ ولم يعتني بدرجة كافية بدولة المستقبل, وذلك على العكس من ماركس؛ فهل كانت تلك الدولة- النموذج, هي نهاية تطور الدولة, أي هل شكلت هذه الدولة نهاية التاريخ عند هيغل؟؟
في الحقيقة لا تنشغل دراستنا في الإجابة على هذا السؤال المهم, فكل ما يشغلنا هنا هو تثبيت وجهة نظر هيغل في الموضوع قيد النقاش, واستخلاص بعض النتائج من ذلك.

لقد كنا لاحظنا أعلاه أن هيغل يصل إلى استنتاج مفاده" الدولة هي وحدة الأسرة والمجتمع المدني" فعلى هذا النحو تنتقل دائرة المجتمع المدني إلى دائرة الدولة. هيغل, فلسفة الحق".
والمثير في المسألة هنا, هو ذاك الاستنتاج الذي كان قد توصل إليه الجباعي, حيث تبدت له الدولة على أنها" تناقض في ذاتها ما لم تعترف بأساسها الفعلي أي العائلة والمجتمع", حيث ستظهر هنا العائلة والمجتمع بما هما أساساً للدولة.. إلى آخره.
فهذا الاستنتاج يصح إحالته إلى هيغل كما كنا قد رأينا, أما أن يختلط الأمر على الجباعي ويحيل استنتاجاته إلى ماركس, فهنا الغريب في الأمر.

عند هذه النقطة بالتحديد, سنجد أن ماركس -وكذلك أنجلس- سيقدم جديده في الفهم المادي للدولة.
سيربط ماركس نشوء الدولة, بالشكل التاريخي لنشوء الملكية الخاصة.وهو ما سيدفع ماركس وانجلس, إلى الإنكباب على دراسة تاريخ التشكيلات الاجتماعية المختلفة, الذي هو في المحصلة شكل من أشكال دراسة تاريخ نشوء الدولة.
تزايِد اهتمام ماركس بالاقتصاد السياسي, سيدفعه إلى ربط تاريخ تطور التشكيلات الاجتماعية, بتاريخ تطور الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج. عبر هذه الصيغة من التحليل, لن تعود الدولة معلقة في الهواء, كما أنها لن تكون "واقع الفكرة الأخلاقية"؛ بل ستكون " نتاج المجتمع عند درجة معينة من تطوره", وهنا كان لابد من دراسة هذا "المجتمع عند درجة معينة من تطوره", وذلك في سياق دراسة الدولة.
في نقده برنامج غوتا, ستكون الفكرة أكثر نضجاً لدى ماركس, حيث سيردد ".. إن المجتمع الحالي إنما هو المجتمع الرأسمالي القائم في جميع البلدان المتمدنة(..) أما الدولة الحالية فهي على العكس تتغير مع الحدود, فهي في الإمبراطورية البروسية الألمانية غيرها في سويسرا... ومع ذلك فإن مختلف الدول في مختلف البلدان المتمدنة تتصف جميعها بطابع مشترك, رغم تنوع أشكالها, هو أنها تقوم في أرض المجتمع البرجوازي الحديث المتطور رأسمالياً."
يتضح مما سبق أن هناك نمط واحد ومحدد للدولة تنتجه شروط إنتاج محددة بدورها,بيد أن أشكال هذه الدولة فهو المتغير بتغير "الحدود", أي باختلاف الشروط التاريخية الخاصة بكل تشكيل اجتماعي محدد. وما هذه الشروط سوى شروط الصراعات الاجتماعية, أي شروط الصراع الطبقي الخاص بكل تكوين اجتماعي.
إن دراسة جملة الصراعات الاجتماعية, الفاعلة في التشكيلات الرأسمالية, هو في نفس الوقت دراسة لأشكال تمرحل الدولة الرأسمالية؛ وهذه ملاحظة علينا تذكرها لاحقاً.
*********************
تمخض عن جملة التطورات والصراعات الاجتماعية, في بلدان المركز, ما بات يعرف "بالدولة الديمقراطية", والسؤال لا يلبث يقفز هنا: ما طبيعة هذه الدولة الديمقراطية؟ وما هو بالضبط الشكل الذي يمكن أن تتطور من خلاله؟
يجيب الجباعي في نصه:" الدولة الديمقراطية ستغدو " دولة سياسية", والتي ستصير " دولة مادية". يقدم لنا النص الذي منه نقتبس, ثلاث أشكال للدولة, واحدة ديمقراطية, وأخرى سياسية, والأخيرة التي هي الدولة المادية. ولكن ما الفارق أو الفوارق الأساسية التي تميز كل شكل من هذه الأشكال عن الآخر؟ وما هي المحددات التي تحكم هذا الانتقال من شكل إلى آخر؟ كل هذه الأسئلة الجباعي ليس معنياً بالإجابة عنها, كما أن النص الذي بين أيدينا سيلتزم الصمت حيال كل هذه الأسئلة.
فكعادة الفكر اليومي, لن يقدم لنا الجباعي سوى أفكار غامضة ومشوشة. فما هي حجته حول الأسباب التي ستجعل من الشكل السياسي للدولة المادية يتحد مع المضمون الاجتماعي, ومتى سيحدث هذا الاتحاد, أي هل سيحدث في ظل سيادة النظام الرأسمالي, أم في ظل "ما بعد هذا النظام", كل هذه الأسئلة عبثاً نحاول إيجاد أجوبة عنها.
يقول الجباعي نقلاً عن لسان ماركس- وكالعادة من دون ذكر أي مرجع- "عنده-أي عند ماركس- الدولة التي لا تعترف بأساسها الطبيعي ولا ترضي الإنسان الفعلي ليست دولة ديمقراطية" ويتابع في القول " الدولة الديمقراطية هي دولة جميع أفرادها" ... " الدولة الديمقراطية هي التي تصفي جميع العلاقات التي يكون فيها الإنسان كائناً مهاناً مستعبداً عاجزاً ومحتقراً" ص182-183.

منذ أكثر من قرن ونصف, والدول في بلدان المركز الرأسمالي, هي دول "ديمقراطية", وتعترف هذه الدول "بأساسها الطبيعي", ولكن ما معنى هذا الاعتراف؟ يعني هذا الاعتراف, أن جميع أفراد الدولة هم مواطنين على قدم المساواة, أمام الدولة, التي هي في المحصلة دولة القانون. هذه الدولة التي تحفظ حقوق المواطن وتكفل له حق الرأي والاقتراع.. . إلى آخره. ويمكن أن نتابع أيضاً في وصف هذه الدولة الديمقراطية, ولكن ألا نكون بذلك لا نفعل شيء سوى وصف الدولة الحديثة ذاتها- والتي ربما يكون ماكس فيبر قد أحسن وصفها- هذا الوصف الذي يمكن أن نجده حتى في أكثر الأدبيات ابتذالاً؟ وهذه الدولة الحديثة أليست هي ذاتها الدولة التي ولدت في أحضان الرأسمالية, وراحت تتطور عبر سياق تطور النظام نفسه؟ ومن ثم أليست هذه الدولة التي يجري وصفها هي الدولة السائدة في أغلب بلدان العالم المتطور رأسمالياً؟.
إذا كانت أغلب هذه الدول في إطار هذه التشكيلات المحددة, هي دول ديمقراطية, فما هي صيرورة صراعات القوى الاجتماعية الفاعلة في هذه المجتمعات, وبالتالي ما هو الشكل الذي ستتطور عبره الدولة انطلاقاً من هذه الصراعات؟
وفي المحصلة هل الدولة الديمقراطية المتحد فيها الشكل السياسي بالمضمون الاجتماعي, هي نهاية الدولة, أم هي مرحلة –ومرحلة فقط- من مراحل تطور الدولة؟؟.

******************* يتبع





#صبر_درويش (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- السوق الاقتصادي..الاجتماعي
- في سياق نقد الفكر اليومي 2 حول المسألة الطائفية
- التضخم في سوريا
- الطبيعة الهيكلية لليد العاملة السورية
- أزمة.. أم انهيار اقتصادي
- الحادي عشر من أيلول
- سيناريوهات المرحلة الراهنة
- نقد الفكر اليومي
- علاقة الداخل والخارج في الفكر اليومي السوري
- في مواجهة الأزمة.. المعارضة والنظام السوري الحاكم
- الفقرفي سوريا
- أسطورة التدخل الأمريكي
- الأبعاد الاجتاعية للمشروع الديموقراطي
- نقد مصطلح العولمة


المزيد.....




- شاهد: تسليم شعلة دورة الألعاب الأولمبية رسميا إلى فرنسا
- مقتل عمّال يمنيين في قصف لأكبر حقل للغاز في كردستان العراق
- زيلينسكي: القوات الأوكرانية بصدد تشكيل ألوية جديدة
- هل أعلن عمدة ليفربول إسلامه؟ وما حقيقة الفيديو المتداول على ...
- رئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركية يتهرب من سؤال حول -عجز ...
- وسائل إعلام: الإدارة الأمريكية قررت عدم فرض عقوبات على وحدات ...
- مقتل -أربعة عمّال يمنيين- بقصف على حقل للغاز في كردستان العر ...
- البيت الأبيض: ليس لدينا أنظمة -باتريوت- متاحة الآن لتسليمها ...
- بايدن يعترف بأنه فكر في الانتحار بعد وفاة زوجته وابنته
- هل تنجح مصر بوقف الاجتياح الإسرائيلي المحتمل لرفح؟


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - صبر درويش - حول الدولة