أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - صبر درويش - في سياق نقد الفكر اليومي 2 حول المسألة الطائفية















المزيد.....



في سياق نقد الفكر اليومي 2 حول المسألة الطائفية


صبر درويش

الحوار المتمدن-العدد: 2133 - 2007 / 12 / 18 - 10:37
المحور: المجتمع المدني
    


حول المسألة الطائفية, أثير جدل واسع. وكانت الساحة الفكرية اللبنانية سباقة إلى هذا الجدل.
لقد كان الفكر بإزاء ظاهرة غاية في التعقد والغموض. وهو ما أعطى ذلك الجدل زخمه وحدته.
توقف هذا الجدل في لبنان, بعد اتفاق الطائف. وأغلق ملف الطائفية, كي تتحول هذه الأخيرة تدريجياً إلى أحد البداهات السياسية السائدة والمعترف بها, باعتبارها سمة من سمات الخصوصية اللبنانية.

في سوريا الوضع مختلف, ليس على مستوى البنية, فقط, وإنما على مستوى الفكر أيضاً الذي عالج هذه البنية, والمناخ السياسي الذي نما من خلاله هذا الفكر.
فغياب الجدل السياسي والفكري حول الطائفية, ليس نتاج غياب هذه الظاهرة, أو تقلص آثارها السلبية, بل قل أنه نتاج الضغط السياسي الذي استطاع أن يمنع - قسراً- فتح هذا الملف, وأي ملف آخر يمكن أن يهدد وجود النظام السياسي.
وأياً يكن الأمر فإن للمسألة الطائفية بعدان أساسيان. بعد نظري يبحث في مفهوم الطائفية, ومستوى آخر يبحث في أشكال تجلي هذه الطائفية.
في ورقتنا هذه سنركز على البعد الأول للمسألة, مستندين بذلك على نص يحاول أن يعالج الإشكالية قيد النقاش, وهو ما سنتناوله بالنقد والقراءة النقدية. إذن سننطلق في نقاشنا من نص السيد برهان غليون والمعنون " المسألة الطائفية ومشكلة الأقليات" , ويفترض في هذا النص- كما هو ملاحظ من العنوان- أن يناقش المسألة "الطائفية", وموضوعة الأقليات..؛ ونحن نتوقع أننا سنقع على تحديد نظري ما للمسألة قيد البحث, أو على الأقل رسم ملامح إجابات حول الإشكاليات المطروحة.
بيد أن النص لا يلبث يحبط آمالنا, ويشوش اللوحة أكثر مما سيوضحها. حيث سيكتشف القارئ, أنه سينتهي النص من دون أن يجد إجابة حول ما هي المسألة الطائفية؟ أو بالأحرى ما هي هذه الطائفية التي يجري تحليلها, وهذه الظاهرة إلى أي مرحلة تنتمي, أي ما هو الزمن البنيوي الذي تنتمي إليه.. ؟ وأما الأقليات فلن نعلم على الإطلاق ما المقصود بالضبط بها, فهل هي أقليات ثقافية مثلاً أم أقليات دينية, أم ربما طبقية, أو ربما جميعهم مجتمعين؟!!.
في الحقيقة علينا ألا نستبق النقاش, ولندع نتائجنا تأتي بعد قراءتنا النقدية للنص.

بما أن النص الذي بين يدينا لا يحدد لنا هوية واضحة لمادة بحثه, إذ ذاك علينا بذل قليلاً من الجهد, في سياق محاولتنا تأويل النص.
فكما هو غير واضح, يمكن أن تكون الأقلية المعتمدة هي أقلية اجتماعية, ثقافية ودينية معاً. وأما هذه السمة فهي من سمات المجتمع المتخلف, حيث[ تظهر التضامنات المحلية أو الأقلية إذن في أوقات الأزمة الاجتماعية بالدرجة الأولى حيث يصبح الصراع على السلطة صراعاً من أجل البقاء. ص15] وفي هذا السياق يميل الباحث إلى [ الاعتقاد أن ظهور تقسيمات أفقية عميقة بدل التقسيمات العمودية العصبوية ( الطائفية أو الإقليمية الجغرافية) هو من خصائص المجتمع المتطور, أي المستقر نسبياً والمتوسع اقتصادياً القادر على تعميق حركة الدمج الاجتماعي في نمط حياة واحدة.ص15]. وفي هذا المجتمع يلاحظ الباحث أن [ صراع الطبقات الذي يحل عندئذ محل الصراع العصبوي الطائفي و الإقليمي…. يتحول إلى آلية ذاتية لتعديل الفروقات الاجتماعية وتثبيت شرعية نموذج واحد ثابت للحياة. ص16].
وهنا نقع على أول تحديدين للمسالة قيد البحث, أولاً المسألة الطائفية هي مسألة تعود في منبتها إلى مجتمعات لحظة انحطاطها؛ وثانياً الصراع الأقلوي والطائفي.... إلى آخره, هو صراع ليس طبقي, فالصراع الطبقي ميزة المجتمعات " المتوسعة اقتصادياً".
وبما أن الباحث لم يحدد لنا "زمانية" محددة لهذا التحديد النظري, فلنا الحق أن نفترض أن استنتاجاته هذه قابلة للتطبيق في كل زمان ومكان. فهي استنتاجات عابرة للتاريخ. ومن هنا فإن [ كل مجتمع يتحول في مرحلة انحطاط نظامه الاجتماعي إلى مجتمع عصبوي.ص17]. وأما مسألة الأقليات فإنها لا تصبح مشكلة حقيقية إلا [ عندما يصبح لهذا التمايز الثقافي وجود سياسي مميز, أي تصبح الأقلية أو الطائفة حزباً سياسياً وقناة للسلطة.ص19].
وفي هذه اللحظة التي تتحول فيها الطائفة إلى حزب سياسي [ هنا نجد أساس المشكلة الطائفية] وبالتالي فإن [ الطائفية ليست الدين ولا التدين, إنما هي بعكس ذلك تماماً إخضاع الدين لمصالح السياسة الدنيا(!) سياسة حب البقاء والمصلحة الذاتية والتطور على حساب الجماعات الأخرى. ص20]. والطائفية هي أيضاً [سياسة الأقلية مهما كان دينها وعلمها.ص21].
والسؤال الذي يطرحه الباحث في هذا السياق هو [ لماذا فشل المجتمع السياسي في أن يحل تمايزات المجتمع المدني؟ص21].
وفي هذا السياق أطرح سؤالاً تشكل الإجابة عليه جذر إشكاليتنا: هل "الطائفية" ظاهرة ثقافية ..دينية.. إلى آخره أم هي بالضبط ظاهرة سياسية؟؟ وهل هناك فرق مفهومي بين الطائفية والطائفة؟.
إن إجابة الباحث في هذا الصدد واضحة بما فيه الكفاية حتى أولاً, ترى في الطائفية ظاهرة ثقافية دينية وذلك بشرط أن لا تتحول إلى حزب سياسي, وبالتالي يتحدد الحقل المعرفي الذي تنتمي إليه بما هو الحقل الثقافي. وثانياً عدم تمييز الباحث بين الطائفية والطائفة, وهذه ملاحظة سنجد مدى أهميتها لاحقاً.
أما النتيجة المترتبة على هذا التحليل, فهي أن الظاهرة الطائفية كظاهرة ثقافية هي موجودة منذ وجود الجماعات البشرية ( راجع هامش8 ص19) وبالتالي هي ظاهرة ثابتة من حيث الجوهر, بيد أن تجلياتها وأشكال التعبير عنها فهي المتغير بتغير الوضع العام للمجتمع.
وكما هو ملاحظ, لا يحدد الباحث مرحلة تاريخية واضحة لمادة بحثه, وذلك لنفس السبب الذي سقناه آنفاً, أي كون الطائفية ظاهرة عابرة للتاريخ, من حيث الجوهر, أما من حيث الشكل فهي متغيرة بتغير... في الحقيقة لا أعلم بالضبط ما هو هذا التغير, فهو إذن تغير بمكان ما, يؤثر على أشكال تمظهر الطائفية.. .

نقد الثقافوية:
للفكر الثقافوي مفرداته المميزة, وهذه المفردات وذاك الفكر, يعتمد التعميم أي عدم التحديد. فتصبح السياسة مثلاً, كشكل للممارسة الطائفية هي "سياسة حب البقاء والمصلحة الذاتية" وسوف يتكرر حب البقاء هذا في أكثر من موضع, ونحن نتساءل ماذا يعني في السياسة حب البقاء هذا؟!!
وعلى قاعدة الفكر الثقافوي أيضاً نتساءل كيف ينقسم المجتمع, أو للدقة نقول ما هي مكونات المجتمع, وما هو موقع كل عنصر في هذا المجتمع وعلاقته بباقي العناصر؟. في الحقيقة كثيراً من هذه الأسئلة يرفض أو قل أنه يعجز الفكر اليومي عن الإجابة عنها.
فالمجتمع الأوربي مندمج, ولماذا هو كذلك؟ لأنه قام "بتوسيع الاقتصاد", ولكن ما المقصود بالضبط بتوسيع الاقتصاد؟ وهذا الاقتصاد الذي دمج المجتمع ما طبيعته, أي ما هي بنية هذا الاقتصاد؟
وإذا كان للاقتصاد ذاك الدور "الدمجي" للمجتمع, ألا يحيلنا ذلك إلى رفض فكرة ثبات الظواهر الاجتماعية, ومنها الطائفية بطبيعة الحال وغيرها من هذه الظواهر؟
وإذا كان الكاتب يرفض فكرة ثبات الظواهر الاجتماعية فلماذا إذن لم يشر بشكل واضح إلى جملة الديناميات والشروط التاريخية الفاعلة في بنية المجتمع والمسئولة عن ظهور الظواهر الاجتماعية وأفولها؟
يقول الباحث [الدين هو أكبر سد ضد الطائفية] فهو [مازال السد الرئيسي أمام التفتت النهائي للجماعة.ص22]. في الفقرة الأولى يكون الاقتصادي هو العامل الموحد أي هو العامل المعيق لتفتت الجماعة "والانقسامات العمودية". وفي الفقرة الثانية يصبح هذا الدور مناط بالدين, وأنا كقارئ أنظر إلى هاتين الفقرتين وأتساءل مع شعور بالعجز عن كيفية التوفيق بينهما.
إن ميزة الفكر الثقافوي أنه يزعم نفسه فوق كل المواقع, فهو ينظر إلى "الموضوعية العلمية" نظرة تطهرية, تفرض على الباحث أن يترفع عن كل المواقع.
فلو قال الباحث أن المجتمع مكون من طبقات, وأن الصراع الذي يحكمها هو صراع طبقي, أي سياسي وليس صراعاً من أجل البقاء, فربما اتهم بالماركسية, ولو قال أن المجتمع مكون من أفراد أحرار, والعلاقة التي بينهم علاقة تعاقدية.. إلخ فإنه عندها قد يتهم بالليبرالية.. إلخ. وأما الخروج من هذا المأزق فلا يكون سوى عبر ابتداع صيغة توفيقية تقوم بالجمع بين المتناقضات, وهو ما يدعونه عادة بالموضوعية العلمية!!.

في مفهوم الطائفية:
في هذا القسم من الدراسة علينا التمييز بين الطائفية كعلاقة سياسية, وبين الطائفة كظاهرة اجتماعية- سياسية متجددة, بتجدد الشروط التاريخية المحددة, وهي محددة هنا بذالك التمفصل بين الطائفية كعلاقة سياسية والطائفة كظاهرة اجتماعية متجددة, في ظروف تاريخية محددة.
وبالتالي على البحث في سياق القبض على مفهوم الطائفية أن نتجه نحو القبض على الشروط التاريخية التي ساهمت بإنتاج هذه الظاهرة, أي الشروط التي جعلت من السيطرة السياسية تأخذ شكلاً طائفياً, والأسباب أيضاً التي جعلت من الصراع السياسي يأخذ طابعاً طائفياً.
ومن هنا يتحدد الحقل المعرفي الذي تنتمي إليه هذه الظاهرة, بما هو الحقل السياسي للصراعات الاجتماعية( الطبقية بلغتنا), كما وتتحدد الطائفية بما هي علاقة سياسية يفهم منها وعبرها الشكل الذي كيّف فيه الموروث الثقافي (والديني بطبيعة الحال) ومن ثم تم دمجه ضمن هذه الصيغة من الصراعات الاجتماعية.
في الحقيقة إن غياب هذه المسبقات النظرية, هو الذي يؤدي إلى الخلط بين الطائفية كعلاقة سياسية وبين الطائفة كظاهرة مختلفة ومميزة, وهو ما سنتوسع به في سياق النص.
أما الملاحظة الأخرى التي يجب أن نأخذها بعين الاعتبار, فهي تحديد المساحة الزمنية والجغرافية التي تقع عليها مادة البحث. فالظاهرة الاجتماعية يختلف مضمونها إن لم نقل مفهومها باختلاف الزمن البنيوي الذي تنتمي إليه. وبالتالي فإن تهميش هذه الملاحظة يؤدي بنا إلى التعاطي مع الظواهر الاجتماعية, كظواهر عابرة للتاريخ.


**************
قلنا أن الطائفية بما هي علاقة سياسية, هي شيء مختلف عما يدعى بالطائفة. فالطائفة هي شكل من أشكال الارتصاف السياسي المميز للتشكيلات السابقة على الرأسمالية , وبالتالي هي أقدم من حيث المبدأ من الطائفية.
إن هذا الشكل من الانتماء الاجتماعي- السياسي, يحيل إلى أشكال ارتصاف القوى الاجتماعية في المرحلة السابقة على الرأسمالية. وهذه الملاحظة ليست خاصة بمجتمعاتنا فقط, فهي إذن معممة نسبياً على مستوى أغلب التشكيلات الاجتماعية السابقة على الرأسمالية.
والسؤال الذي يطرح هنا: ما هي الديناميات التاريخية التي أدت إلى كسر هذا الشكل من الانتماء السياسي واستبداله بشكل آخر للانتماء؟ وهذا السؤال يفترض الإجابة عن السؤال الآخر, أي حول الأسباب التاريخية التي حافظت على هذا الشكل من الانتماءات الاجتماعية, ليس كانتماءات ثقافية, بل بالضبط كانتماءات سياسية. أي كيف تم تكييف هذه الانتماءات ومن ثم تم إعطاءها مضموناً سيا سياً, وذلك على الرغم من أن تلك التشكيلات التي احتوت هذا الشكل من الانتماءات يفترض بها أنها عبرت خط التطور الرأسمالي؟؟

****************

لقد قلنا أعلاه أن هذا الشكل من التعبيرات السياسية - الانتماء الطائفي- يعود كظاهرة, إلى المرحلة السابقة على الرأسمالية.
في هذه المرحلة يلاحظ أن التعبير عن الصراعات الاجتماعية, يتمظهر غالباً في شكله الديني, أو للدقة نقول أنها تتمظهر ضمن صيغة أيديولوجية ميتافيزيقية, ومن هنا يتبدى الصراع وكأنه صراع ديني, أو إذا شئتم, يتبدى وكأنه صراع على تأويل العقائد, وهو بطبيعة الحال ما يخفي الطابع الطبقي لهذا الصراع.
وأما البحث عن العوامل التي جعلت من الصراعات السياسية تأخذ هذا الشكل دون غيره, فالسبب يعود حسب زعمي إلى الدور المميز للمستوى الأيدلوجي في إطار التشكيلات السابقة على الرأسمالية.
للمستوى الأيديولوجي في إطار التشكيلات الما قبل رأسمالية دوراً مسيطراً. وذلك خلافاً للدور الذي يلعبه هذا المستوى في إطار نمط الإنتاج الرأسمالي. ولهذه الملاحظة أهمية حاسمة كما سنلاحظ مباشرة.
فعبر هذا المستوى تضمن الطبقة المسيطرة, استمرار سيطرتها الطبقية, وهو ما يمكن أن ندعوه بالاستلاب الأيديولوجي. إن هذا الاستلاب الأيديولوجي هو الذي يتيح للطبقة المسيطرة ضمان استحواذها على الفائض الاقتصادي, حيث تصبح هذه العملية مشروعة من الوجهة الاجتماعية, وذلك بالقدر الذي يبدو فيه المستوى الأيديولوجي أكثر تماسكاً. ومن هنا يمكن لنا أن نلاحظ انعكاسات هذا الدور الذي يقوم فيه الأيديولوجي في تحديد شكل الصراعات الاجتماعية وأشكال ارتصافها.

عصر الرأسمالية عصر مختلف.
هنا ستكف هذه الانتماءات عن التعبير عن نفسها كانتماءات سياسية. أي سيكف الصراع الطبقي من التعبير عن نفسه من خلال هذا النمط من الانتماء.
وبالتالي ستبرز أشكال جديدة للتعبير عن الصراعات الاجتماعية. هذه الأشكال الجديدة للانتماء الاجتماعي من نقابات وجمعيات وتنظيمات.. ستشكل فيما بعد مضمون مفهوم المجتمع المدني. وهو ما سيترافق مع استقرار الدولة الحديثة وجملة الظواهر الأخرى المرافقة للرأسمالية.

لقد أدى سيادة نمط الإنتاج الرأسمالي إلى تفريد المجتمع. فعصر الرأسمالية, هو عصر تحويل القن إلى فرد حر, وهذا التحرير إذا جاز التعبير, هو الذي سيشكل القاعدة التي انبنى عليها مفهوم العقد الاجتماعي. حيث هذا العقد لا يقوم سوى بين أطراف هم أحرار بالضرورة.
إن هذا التحرير وبالتالي هذا التفريد للمجتمع, سيكون نتاج جملة من الثورات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية... وهو ما سينعكس لاحقاً على تحديد نمط الدولة وكيفية اشتغالها. فالدولة الحديثة في هذا المعنى هي المرآة التي عكست جملة التطورات الفاعلة في قاع المجتمع الحديث بدوره. من هذه اللحظة لن تعود الدولة تدار من قبل النبلاء أو أصحاب الامتيازات.. إلخ. بل أصبحت تدار من قبل ما سيدعى فيما بعد بالبيروقراطية. وهو ما سيجعل مفهوم الكفاءة هو المفهوم السائد.
عبر هذه الصيغة من التطورات ستصبح علاقة أفراد المجتمع مع الدولة, علاقة أفراد مواطنين إزاء دولة هي دولة القانون أصلاً. وفي مرحلة من التطور ستصبح علاقة هؤلاء الأفراد- المواطنين مع الدولة تمر عبر توسطات, وأقصد هنا المنظمات والجمعيات والأحزاب.. إلخ.
وفي هذا السياق علينا الانتباه إلى أن جملة الانتماءات السابقة على الرأسمالية, كانتماءات الأفراد الدينية والطائفية..... لن تختفي من الوجود, بل على العكس ظلت هذه الانتماءات موجودة, بيد أن هذا الوجود اختلف جذرياً عن شكل وجودها في المرحلة السابقة.
فأشكال الانتماءات هذه ستتحول تدريجياً إلى طقس اجتماعي وثقافي فردي, أي معزول إلى هذا الحد أو ذاك في تأثيرها على السياسي.
وهذا بطبيعة الحال ما يشكل مغزى مقولة فصل الدين عن الدولة؛ إن الحديث يدور هنا حول مفهوم العلمانية.العلمانية هنا تتجلى كونها فصل جذري للمجالات الاجتماعية. بمعنى, أن من هذه اللحظة سيكون للدين مجاله المنفصل عن مجال السياسة.

****************
في البلدان التابعة سارت الأمور على العكس من ذلك. لماذا؟ في الحقيقة على الجدل أن يتمركز حول هذا السؤال بالضبط.
حول هذه المسألة دار جدل واسع تاريخياً, الإشكالية كانت تدور هنا حول نظرية للتخلف. وليس أول التيارات التي حاولت التصدي إلى هذه الإشكالية هي الثقافوية وليس آخرها نظرية المؤامرة.
وأما إعادة فتح هذا الملف مجدداً فهو دليل على أن المسألة لم تحسم بعد, وأن الإشكالية ما تزال قائمة وربما تتجلى بصور أكثر وضوح في المرحلة الراهنة.

*****************
قلنا أعلاه أن إنعاش الحوار حول جملة الظواهر الاجتماعية المغرقة في التخلف, يعكس أن المسألة المثارة تكتسب أهمية مميزة في المرحلة الراهنة. لماذا؟.
لي رأي حول هذه المسألة.
أزعم أن بروز جملة هذه الظواهر التي أسميناها بالمتخلفة, ومنها بطبيعة الحال ظاهرة الطائفية ومشكلة الأقليات.. إلخ, يتزامن مع انهيار المشاريع الوطنية للتنمية في أطراف النظام العالمي وتحديداً في تلك البقع الجغرافية التي أسميناها بالمهمشة. وسوف أركز على هذه الملاحظة.

لم يقد التوسع الرأسمالي, إلى تعميق الرأسمالية على مستوى عالمي. فالبرجوازية في مرحلة المد الإمبريالي لم تخلق عالماً على صورتها وذلك خلافاً للتفاؤل المبالغ فيه والذي قدمه ماركس في بيانه الشيوعي.
ما حدث هو العكس. فتوسع الرأسمال على صعيد عالمي, سينتج نمطين من التشكيلات الاجتماعية. فتوسع الرأسمال هذا وعلى قاعدة التقسيم العالمي للعمل, سيؤدي إلى بروز تشكيلات متخصصة في التصنيع وهي التي ستدعى بتشكيلات المركز, وأخرى متخصصة بالزراعة وإنتاج المواد الأولية والتي ستدعى بالتشكيلات الطرفية؛ وهو ما استفاضت نظرية التبعية بشرحه.
وأما التفاؤل الذي كان سائداً منتصف وأواخر القرن التاسع عشر, حول " إيجابية وتقدمية التوسع الكولنيالي" فإن آليات اشتغال النظام الرأسمالي ستثبت العكس من ذلك. حيث ستظهر أمم متقدمة وأخرى تابعة. وأن هذه الظاهرة ستتعمق وتزداد اتساعاً وحدة مع الوقت. ( في عام 1900 كانت الفوارق في الإنتاجية بالنسبة للفرد على صعيد العالم 1 إلى 2, بينما هذه النسبة تصل إلى 1 إلى 100). بمعنى آخر أثبت النظام أنه لا يميل إلى التجانس بل على العكس حيث يميل إلى الاستقطاب أي تفاوت التطور على صعيد عالمي.
لن تتراجع هذه الظاهرة مع مرحلة ما يدعى بعولمة النظام. ما سيحدث هو اتساع الهّوة بين التشكيلات الاجتماعية, وظهور ما بات يعرف بالتشكيلات المهمشة.
أزعم في هذا السياق, أن فهم أغلب الظواهر الاجتماعية والسياسية.. - ومنها أشكال الانتماءات الاجتماعية- تفهم على قاعدة هذه اللوحة بالتحديد, أي على قاعدة فهم الكيفيات التي يشتغل عبرها النظام, على صعيد عالمي.
*************
لم تتعمق الرأسمالية في التشكيلات الطرفية, ولم تتكرس في هذه البلدان الظواهر المرافقة لهذه الرأسمالية. فظلت هذه الرسملة, رسملة منقوصة.
عملت شعوب هذه البلدان على كسر هذه المعادلة, فاشتعلت حين إذ ثوراتها التحررية.
بعد الحصول على الاستقلال السياسي كان لابد من استكمال هذا التحرر عبر التحرر الاقتصادي, أي إنعاش مشاريع التحرر الاقتصادي.
على هذه الأرضية نمت النظم التي ستدعى تقدمية حيناً, ووطنية حيناً آخر, وشعبوية في كثير من الأحيان.
في ظل هذه المعطيات, أي في ظل انتعاش المد التنموي, ستخطو هذه البلدان خطوة إلى الأمام في سياق تطورها التاريخي.
وفي البلدان العربية كما في باقي البلدان الطرفية, ستتراجع حدة الانتماءات و الظواهر السابقة على الرأسمالية, وسينحو المجتمع باتجاه تكوين علاقات جديدة, كان يفترض بها أن تكون مسايرة لمناخ العصر؛ لقد كانت محاولة جادة لدخول عصر الحداثة.
لقد كانت التنمية هاجس الجميع, ورغبة هذه الشعوب في ولوج التاريخ والتحول إلى فاعل في هذا التاريخ, تأتي في سلم الأولويات. كانت لحظة بناء عظيمة, بعظمة الحلم الذي كان يحلق في سماء هذه الشعوب.
بيد أن التاريخ لا يلبث بعد عدة عقود من بدأ هذه التجربة, أن يصفع هذه الشعوب على خدها الأيسر!!.
في الحقيقة تمخض عن هذه العقود الطويلة من النضال, جملة من النتائج, والتي كان في مقدمتها أن أعيد رسم الخارطة السياسية الجغرافية للعالم.
هنا سينجح قسم من البلدان الطرفية في التقدم في مسيرة التصنيع, وبالتالي سينجح في احتلال موقع مندمج في النظام العالمي الجديد؛ وقسم آخر من هذه البلدان سيفشل في تحقيق أي شيء يذكر, بالتالي ستتحول تدريجياً إلى بلدان مهمشة.
تتصف هذه البلدان الأخيرة كون قاعدتها الصناعية ما تزال هشة على أبعد درجات الهشاشة. فهي في أحسن الحالات ما تزال تخضع للتقسيم الكلاسيكي للعمل. فهي باختصار بلدان مصدرة للخامات.
تنتمي بلداننا العربية إلى هذه المجموعة من البلدان. أي باختصار تنتمي بلداننا إلى تلك البلدان التي فشلت بإنجاز أي شيء يذكر, بالتالي فشلت هذه البلدان في سياق محاولتها التقدم نحو التاريخ.
الطبيعة الكومبرادورية للبلدان المهمشة:
سيترتب على هزيمة هذه البلدان, عودة الكومبرادورية بأبشع صورها. فالنظم الحاكمة هنا ستنحو للانخراط تدريجياً بنمط كومبرادوري, يسقط من أجندته أي مفهوم للتنمية. وأما المجتمعات المحكومة من قبل هذه النظم, فستسقط في لولب ركودي, يستحضر كل أشكال ومظاهر التخلف والانحطاط.
إن فشل هذه النظم هو الذي سيدفع هذه المجتمعات إلى إنتاج وإعادة إنتاج كل أشكال ومظاهر المرحلة السابقة على الرأسمالية؛ وأنا أسمي هنا كل أشكال الانتماءات الاجتماعية الطائفية والعشائرية والإثنية... إلى آخره, بالظواهر السابقة على الرأسمالية. وأربط عودة هذه الأشكال بفشل مشاريع التنمية من جهة, وما ترتب على ذلك من فشل هذه البلدان في تعميق قيم الحداثة من جهة أخرى.
لقد كان نمط الإنتاج الرأسمالي قد حرر القن من نير قنانته, كما حرر الدولة من سلطة الدين, وفي هذا السياق سيحرر العقل من أوهامه الغيبية, وأما النتائج التي ستترتب على هذا التحرير, فهي خلق الإنسان الحر أي المواطن, بالتزامن مع بناء الدولة الحديثة, في إطار عقل سائد ينتمي إلى ما سيدعى فيما بعد بعصر الحداثة.
إن الحديث يجري هنا حول كيفية ربط الأشكال التاريخية لتطور المجتمعات, مع الأشكال التاريخية لتطور نظم الإنتاج. وهذا لا يحيل إطلاقاً إلى دراسة اقتصادية, أو اقتصادوية - باللغة الدارجة- كما قد يظن البعض. بل هذه الرؤية تفترض الانتقال إلى حقل المادية التاريخية الرحب.
حيث في هذا الحقل يصبح من الباطل الحديث عن " صراع من أجل البقاء" مرددين بذلك صدى أسوء نظرية سيسولوجية أنتجها العالم الحديث وأقصد هنا بالنظرية الدارونية الاجتماعية.
***************
عبر هذا المنظور تتبدى الطائفية كونها الشكل السياسي, وربما الشكل الوحيد لسيطرة النظم السياسية في البلدان المهمشة. وأنا هنا آخذ مفهوم الطائفية بأوسع صوره. فالعلاقة التي تربط بين الطائفية كشكل للسيطرة الطبقية وبين هذه النظم, هي علاقة بنيوية. أي بما هي الشكل الوحيد الذي من خلاله تضمن هذه النظم سيطرتها على المجتمع.
فهذه النظم لا تقم لها قائمة إلا عبر شكلين أساسيين من أشكال الممارسة السياسية, الأول وهو الممارسة الديكتاتورية, والثاني تمزيق المجتمع عبر توظيف كل الأشكال الممكنة, من توظيف الموروث الثقافي إلى توظيف تنوع المجتمع في حد ذاته, وذلك في سبيل إنعاش تمايزات وهمية, تحرف التناقض فيه عن مستواه الحقيقي أي الطبقي.
ومن هنا نلاحظ أنه لا يوجد مشروع محدد تعمل هذه النظم على إنجازه فكل ما لدينا هنا عبارة عن نظم أقصى ما تحاول إنجازه هو الحفاظ على سيطرتها السياسية, وذلك حتى لو كان ذلك بالمرور على تحطيم المجتمع وتفكيكه.. .
إن هذا الشكل الإنتباذي للصراع الطبقي هو الذي يشكل القاعدة الموضوعية لاشتعال كل أشكال الانفجارات الاجتماعية ا(القذرة),وهو بالضبط الذي يفرغ الصراعات الاجتماعية من جدواها, وهو أيضاً ما يذهب باتجاه تأبيد سيطرة هذه النظم الطبقية. أليس تزامن انفجار الحرب الطائفية في لبنان على سبيل المثال مع كل تأزم للنظام الطائفي دليل على ذلك؟
وانطلاقاً من الملاحظات السابقة, نجد أن الدين ليس سداً ضد تفتت الجماعة كما وصل إلى هذه النتيجة الغريبة برهان, بل إن الدين بما هو جزء من الموروث الثقافي, كان حاجزاً, بمعنى من المعاني, ضد انهيار هذه النظم. ألم يلعب الدين تاريخياً هذا الدور؟.
ما أحاول التركيز عليه هنا, أن الحفاظ واستمرار هذه الأشكال من الانتماءات الاجتماعية ليس ناتج خصوصية مزعومة, كما أن هذه الأشكال لا تعبر عن نفسها- وهو نفس الشيء- كونها ظاهرة عابرة للتاريخ. بل علينا فهم هذه الظاهرة بما هي نتاج فشل مشاريع التنمية في تحديث بنية المجتمع من جهة. وكونها نتاج شكل محدد من الممارسة السياسية الذي انتهجته هذه النظم في سياق تأبيد سيطرتها السياسية, من جهة أخرى.

أليس هذا ما يحدث في مجمل بلداننا العربية وفي سوريا بشكل خاص؟ ألم يؤدي هنا تفكيك المجتمع وتحويله إلى كانتونات طائفية, إلى تفريغ النضالات الإجتماعية من مغزاها؟ كما أن ذلك ألم يضمن استمرار سيطرة نظم لم يعد هناك في التاريخ من شبيه لها؟
***********************
- انتهى- 18-10- 2006
1- برهان غليون, دار سينا للنشر, بدون تاريخ.
2 - ولنلاحظ هنا, أن أول من ميز مفهومياً بين الطائفية والطائفة, المفكر الغني عن التعريف, مهدي عامل, راجع للمؤلف في الدولة الطائفية.
3- حكماً لمسألة الطائفة بعداً ثقافياً, بيد أن نقاش هذا البعد الثقافي ينتمي إلى حقل معرفي مختلف عما نعمل عليه هنا.
4- تشاركنا في هذا الانتماء بلدان إفريقيا جنوب الصحراء, إضافة لبعض البلدان الأخرى كباكستان وبنجلادش.. إلى آخره, ولنلاحظ هنا أن الظواهر التي نحاول تحليلها متشابهة في مجمل هذه البلدان. فلنأخذ شكل الصراعات الاجتماعية على سبيل المثال. فهنا نلاحظ أن أغلب هذه الصراعات لها طابع قذر, حروب أهلية, عنف أهلي, انفجار إثني, إسلام سياسي..إلى آخره.
5 - حول مفهوم الشكل الإنتباذي والشكل الانجذابي للصراع الطبقي, راجع مهدي عامل في التناقض.



#صبر_درويش (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- التضخم في سوريا
- الطبيعة الهيكلية لليد العاملة السورية
- أزمة.. أم انهيار اقتصادي
- الحادي عشر من أيلول
- سيناريوهات المرحلة الراهنة
- نقد الفكر اليومي
- علاقة الداخل والخارج في الفكر اليومي السوري
- في مواجهة الأزمة.. المعارضة والنظام السوري الحاكم
- الفقرفي سوريا
- أسطورة التدخل الأمريكي
- الأبعاد الاجتاعية للمشروع الديموقراطي
- نقد مصطلح العولمة


المزيد.....




- الأمم المتحدة تحذر من عواقب وخيمة على المدنيين في الفاشر الس ...
- مكتب المفوض الأممي لحقوق الإنسان: مقتل ما لا يقل عن 43 في ال ...
- مسئول بالأمم المتحدة: إزالة الركام من غزة قد تستغرق 14 عاما ...
- فيديو.. طفلة غزّية تعيل أسرتها بغسل ملابس النازحين
- لوموند: العداء يتفاقم ضد اللاجئين السوريين في لبنان
- اعتقال نازيين مرتبطين بكييف خططا لأعمال إرهابية غربي روسيا
- شاهد.. لحظة اعتقال اكاديمية بجامعة إيموري الأميركية لدعمها ق ...
- الشرطة الاميركية تقمع انتفاضة الجامعات وتدهس حرية التعبير
- صحف عالمية: خيام غزة تخنق النازحين صيفا بعدما فشلت بمنع البر ...
- اليونيسف تؤكد ارتفاع عدد القتلى في صفوف الأطفال الأوكرانيين ...


المزيد.....

- أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال ... / موافق محمد
- بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ / علي أسعد وطفة
- مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية / علي أسعد وطفة
- العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد / علي أسعد وطفة
- الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي ... / محمد عبد الكريم يوسف
- التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن ... / حمه الهمامي
- تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار / زهير الخويلدي
- منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس ... / رامي نصرالله
- من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط / زهير الخويلدي
- فراعنة فى الدنمارك / محيى الدين غريب


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - صبر درويش - في سياق نقد الفكر اليومي 2 حول المسألة الطائفية