أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هاشم تايه - الرّسّام سارداً تشكيليّاً















المزيد.....

الرّسّام سارداً تشكيليّاً


هاشم تايه

الحوار المتمدن-العدد: 2496 - 2008 / 12 / 15 - 07:00
المحور: الادب والفن
    


(1)
تخضع أعمال العديد من الرسامين لنزوعهم إلى تحويل فضاءاتهم التشكيليّة إلى فضاءات سردية يقسر خلالها الرسّام عناصر لغته البصريّة على الامتثال لمطالب الوصف، وللرغبة في إنتاج تأثير شعوري خاص عبر إنشاء مشاهد تمثيليّة داخل أجواء منتخبة منتجة لذلك التأثير. ويعمد بعض الرسامين إلى كتابة حدث ما أو مشهد من حدث بلغة مرئيّة قوامها خط ولون وشكل وظل وضوء وفضاء.. بحيث يصبح السطح التصويريّ مجرّد مسرح لشخوص وأشياء تتفاعل في إطار الحدث الموصوف بتلك اللّغة...
وهذه النزعة في الجمع بين الرسّام والسارد أو الرسّام والمؤلّف الذي يروي ويصف رافقت فنّ الرسم منذ انطلاقة أوّل خطّ من خطوطه على جدران الكهوف – سطوح الرسام القديم التصويريّة- التي استقبلت أحداث الإنسان الأوّل بلغة بصريّة عززت قدراته، وكشفت قواه، وتوصّل من خلالها إلى تصوّر نتائج أفعاله، وجني ثمراتها على الجدار قبل جنيها في الطبيعة بوساطة سحر وسيلته التي لم تكن تعدو رسماً على الحجر لفعل قام به أو سيشرع بالقيام به...
ومايزال الرسم إلى يومنا هذا مذبذباً بين الخضوع لمطالب السرد والوصف والتوثيق، وبين الإخلاص لمنطقه الخاص كخطاب بصريّ تعمل عناصره لذاتها، وينطلق تأثيرها من طاقاتها.
وحين يجمع التشكيليّ في شخصيته الرسّام والسّارد فإنّ نتائج عمله ستقع بين ثلاثة احتمالات:
الأول يتمثل بخضوع سلطة الرسّام لسلطة السّارد، وينجم عن هذا الاحتمال اضطلاع عناصر الرسم بدور وحيد يستنفد طاقاتها لصالح مطالب الوصف، وهذا الدور يسلبها حيويتها، ويجعلها خاملة، ضعيفة القدرة على المشاركة كعناصر أساسيّة في إنتاج التأثير الجماليّ. والفنان الذي يطغى فيه السّارد على الرسّام لا يسمح عادة لعناصر لغته بأن تذهب خارج سلطته كسارد بالرسم، بعيداً عن الوظيفة السّرديّة التي أرادها أن تنهض بها، غير معنيّة بإطلاق قواها المختزنة كأدوات تعبير تستجيب لفعل الرسم الذي من بين أكبر وظائفه تحرير عناصره من أي ضغط يعوق حركتها ويقيدها عن الفعل في مدى متسع تمارس فيه دورها كمُنتِجات للتأثير. وفي ظل هذا الاحتمال يُحرَم العمل الفنيّ من توهّج عناصر لغته، ويصبح فاعلاً بغير أعضائه...
الاحتمال الثاني: أن يوازن الرسام بين هويته الرئيسة كرسام، وبين رغبته في استثمار السرد أو الوصف في أثره المرسوم، وفي هذا الاحتمال تنهض عناصر الرسم بوظيفة الوصف من دون أن تتخلّى عن إخلاصها لدورها المستقلّ المشارك في صناعة التأثير الجمالي، ويمكن أن نعدّ أعمال الرسّام مارك شاجال ممثلة لهذا الاحتمال..
وفي الاحتمال الثالث يكون الرسّام كرسّام من القوّة بحيث يُخضع المشهد أو الحدث الذي يظهر على سطحه التصويريّ لفعل عناصر لغته، فيصبح الحدث مجرّد مناسبة سانحة تُحرر فيها قوى الرسم طاقاتها وتخلص لنفسها إخلاصاً يفوق إخلاصها لما تصف، ويمكن أن نعد جورنيكا بيكاسو مثالاً لذلك؛ فهي سرديّة تشكيليّة رمزيّة لحدث عنيف، لعبت فيها عناصر الرسم دورها بلا حدود، وظهر ذلك من خلال وفرة الخطوط فيها وقوّتها وثرائها وتحرّكها بلا تحفظ، وكذلك من خلال التضادات التي نجمت عن تصادمات الأضواء بالظلال، فضلاً عن التشويهات والتحويرات التي خضعت لها الأشكال، وخلقتها قوى الرّسّام الهائلة كرسام لا يكتفي بمجرد الوصف.

(2)
حامد مهدي رسّام استثمر أداته في سرد حدث اختلط فيه الواقع بالخيال، أو في وصف مشهد افتراضي ابتكره الخيال ونبع من لاشعوره.
وفي مواجهة واقع صلب بالغ التحجّر فضّل حامد مهدي، أن تكون مهيمنته كصاحب رؤية فنيّة، إنشاء عوالم مثالية حالمة تعويضيّة تتناغم فيه الكائنات والأشياء بإلفة في فضاء طلق بعيداً عن أيّما إكراه، بحيث يصبح متاحاً للكائن أن يتحرّر حتى من فيزيقياه، ويتشكّل على هواه غير خاضع لأيّما قانون بما في ذلك القانون الطبيعي.
إنّه كرسّام مؤلّف، أو سارد، ينشئ على سطوحه التصويريّة، بأهمّ عنصريْن من عناصر الرسم- الخط واللّون- فنتازيا يبتكرها خياله وتشخص في مشهد، هو في الغالب فضاء طبيعي مفتوح يعرض على مسرحه علاقات افتراضيّة للمؤاخاة بين انسان وحيوان ونبات وجماد... ولا تخلو بعض أعمال حامد مهدي من نزعة رومانسيّة تُمجّد الحياة العفويّة البسيطة في أحضان الطبيعة... كما لا يعدم مشاهد لوحاته من فرصة قراءة قصّة مكتوبة بالخط واللون، كتلك اللّوحة التي تحكي قصّة إنسان يقرّر الهرب من أهوال واقعه، فيحمل حبيبته، أو زوجته، ونخلة صغيرة من نخيل موطنه، ويمضي فارّاً بهما إلى أبعد نقطة، إلى القطب بثلوجه وصقيعه، وهناك تستقبله البطاريق وأقواس قزح ويعيش بينها...
ولا بدّ من الإقرار بأن رسومه التي بين أيدينا تنتمي إلى زمن تخطاه عمر التشكيل العراقي وخلّفه وراءه، بعد أن جرى، هذا التشكيل، لاهثاً وراء موجات التحديث العارمة المتلاحقة التي لا تكاد تترك له فرصة ليتشكّل بمنطق تطوره من الدّاخل إلاّ في النادر القليل من التجارب.
يجمع حامد مهدي في أعماله بين الطبيعي وبين الثقافي، بين المحافظة على الشكل الواقعي وبين المبالغة في تحويره تحويراً يتعملق فيه أو يتقزّم، بين العلاقات الواقعية القائمة وبين العلاقات التي ينشئها اللاشعور، بين الخضوع لمطالب الوصف خضوعاً يخذل عناصر لغته ويحرمها فرصة إطلاق طاقاتها، وبين دفع هذه العناصر لتمسك بزمام المبادرة الفنيّة وإدارة فعل الرسم بقواها الخاصّة، بين التفصيل وبين الاختزال، بين تسطيح الأشكال، وبين إبرازها سميكة، بين العناية بالسطح التصويريّ ودعمه بمواد تُفعّل دوره، وتجعل منه شريكاً في إحداث الأثر، وبين إفقاره وتجريده من أيّة فاعليّة..
وبين أعمال حامد مهدي لوحات يمكن النظر إليها بوصفها بدائل إيقونيّة رمزيّة لمعارك مكبوتاته التي تطحن لا شعوره.
وحيث يطغى السرد والوصف في أيٍّ من أعماله يكون التأثير الذي نستقبله فيها ناتجاً لا عن عناصر الرسم التي اعتُقِلتْ وحُبَسَتْ عنها طاقاتها وأضحت مجرّد وسائل تشكيل خارجيّة تخدم مقاصد بعينها، ويصير أهم ما تقوم به هو الإخبار والوصف، وإنّما يكون التأثير فيها ناجماً عن تجسدّات موجوداتها على نحوٍ يكتفي برسم صورة دلالة ما، وربما لهذا السبب تتراجع المتعة البصريّة في بعض أعماله فتصبح ثانويّة بالقياس إلى المتعة الشعوريّة التي نحصل عليها جرّاء التوجيه المضمر داخلها الذي لا فكاك لنا منه، وقد فرض علينا مهمّة حلّ الشفرات المبثوثة في نص تشكيلي واصف أفرغ سطحه لإنشاء علاقات ثيميّة صادمة خارج حدود القانون الطبيعي، ومنطق الأشياء.
وكأن حامد مهدي يبذل قواه لكي يُمتّع أذهاننا قبل أن يُمتّع أبصارنا. ويبدو لي أنّه يعاني من ثقل موضوع ذي طبقات كثيفة، وأنّ إخلاصه لتحرير هذا الموضوع بعوالمه الباهظة قد حال بينه وبين ضرورة قيامه بإنطاق عناصر لغته على نحوٍ تتجلّى من خلاله فاعليّة قواها في إنتاج التأثير الجمالي. ولهذا أيضاً نجد الطبيعة الوظيفيّة المحددة لبعض مفردات لغته، فخطوطه تكتفي في الكثير من لوحاته بوظيفة رسم حدود الأشكال، وتنحصر وظيفة الألوان في ملء المساحات الفارغة وإمداد الخطوط بالمزيد من الدّعم لإبراز الأشكال، وإظهار صفاتها. وغالباً ما تكون هذه الألوان مخففة باللّون الأبيض، وغير صريحة، وتفتقر إلى الكثافة والثراء. وإذا تجاوز اللّون هذه الوظيفة المحددة فلمجرّد إثارة انطباع نفسي أو رمزي يتعلّق بدلالة عامّة.
وكما تفعل السينما يجمع حامد مهدي في مكان واحد حدثين يقعان في مكانين مختلفين. ففي واحدة من لوحاته أراد أن يجمع بين الأثر الخارجي المحسوس الذي يتركه المطر الساقط على أجسادنا، وبين أثره الدّاخليّ العميق المتغلغل في أعماقنا فيطلق شهواتها ورغائبها ومكبوتاتها. وفي هذه اللّوحة يُخبرنا الرّسّام بسردٍ مرئي أن مطرا سقط على شارع في مدينة، فأقفر هذا الشّارع إلاّ من امرأة متشردة حملت طفلاً تحت عباءتها وسارعت تهمّ بمغادرة المكان هرباً من رشقات المطر، وأن طفلاً وجد في المطر فرصة للمرح فانطلق يركض وراء أترابه، ولم ينس الرّسام السّارد تأثيث هذا المشهد الخارجي لحدث المطر بتفاصيل مهمّة أخرى، فوراء الشخصيات الرئيسة هناك اختزالات لشخصين يحتميّان بمظلّة، وقريبا منهما ركنت دراجات هوائيّة على جذوع أشجار، وأشكال سيّارات، ونلمح على البعد إحدى إشارات المرور.
هذا المشهد الخارجي للمطر خرقه مشهد داخليّ انتزعه الرّسّام من مكان آخر لعلّه غرفة في منزل، والقرينة الدّالة على انتزاعه من مكان آخر هو عريّ جسديْ الرجل والمرأة فيه بالمقارنة ببقية الشخوص، وعدم اكتراثهما بانهمار المطر، فضلاً عن اعتكاف قطّ قربهما. والرسّام هنا يمّوه علاقة الرجل بالمرأة اللذين يمارسان في الظاهر العزف على آلتين موسيقيتيْن، في حين هناك قرائن ترجّح ممارستهما الحبّ لا العزف، وبين هذه القرائن انتصاب الرّجل العاري فوق المرأة العارية المستلقية، ووجود القطّ الذي يُكثف هذه الممارسة ويحرسها كرمز وكمعادل. ولا تخلو آلتا العزف وعملية العزف برمّتها عن أن تشي بفعل جنسي مُخصب تتمّ ممارسته في أجواء إخصاب طبيعي يمارسه المطر. ونكون هنا أمام مشهد يتفاعل فيه الطبيعي والإنسانيّ على مهاد فرشته الثقافة.
وفي لوحة أخرى تظهر فتاة تعتمر قبعة تحت المطر وإلى جوارها قطّ شريد منتصب الذيل يموء بجوعه الأبديّ، ويتحرّك باحثاً عمّا يطفئ جوعه. وفي هذه اللوحة ينتصر الرسّام للغته، متخففاً من أثقال السرد والوصف، فتنطلق خطوطه وألوانه حرّة على السطح خارج حدود الأشياء.. الخطوط مائلة أو مستقيمة، متلويّة في الفضاء أو متعرّجة، هابطة وصاعدة، والألوان في تناغم حركيّ معها تنتشر هنا وهناك بضربات فرشاة متحررة تمحو تفاصيل الأشياء، وتوشك أن تجعل السطح تجريداً تعبيريّاً لا يدحضه إلاّ جسد القطّ الصريح الذي نسمع مواءه الذائب في أصداء المطر المنهمر عبر ايقاعات الألوان المتضاربة ببعضها وتصادمات الخطوط النّافرة المنطلقة...



#هاشم_تايه (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قصائد
- جدل حول قصيدة النثر في بيئة مُسرْطَنة
- سليلة الملائكة
- عصفور آب
- معرض أطفال العراق في حفل زواج
- الشعراء العراقيّون يغزون أمريكا
- كيسُ القُبَل
- نُزهة قاتلة
- على مفرق الحجر
- سياحة عمياء
- بعيداً عن الوحل خذني
- حوار مع الفنان العراقي هاشم تايه
- ميثولوجيا عراقية
- مصالحة في الهواء الطلق
- ذُعْر لا يقوى على حمله الهاتف
- كلاسيك
- المربد ... الصوت والصدى
- ضيف الحجر
- أجراس
- من أجل أمّي


المزيد.....




- -بنات ألفة- و-رحلة 404? أبرز الفائزين في مهرجان أسوان لأفلام ...
- تابع HD. مسلسل الطائر الرفراف الحلقه 67 مترجمة للعربية وجمي ...
- -حالة توتر وجو مشحون- يخيم على مهرجان الفيلم العربي في برلين ...
- -خاتم سُليمى-: رواية حب واقعية تحكمها الأحلام والأمكنة
- موعد امتحانات البكالوريا 2024 الجزائر القسمين العلمي والأدبي ...
- التمثيل الضوئي للنبات يلهم باحثين لتصنيع بطارية ورقية
- 1.8 مليار دولار، قيمة صادرات الخدمات الفنية والهندسية الايرا ...
- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هاشم تايه - الرّسّام سارداً تشكيليّاً