أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هاشم تايه - من أجل أمّي














المزيد.....

من أجل أمّي


هاشم تايه

الحوار المتمدن-العدد: 1460 - 2006 / 2 / 13 - 08:19
المحور: الادب والفن
    


وجدتُ أمّي حانقة، حانقة عليّ جداً، كان وجهها المحصور بفوطتها الأبديّة السوداء ممتقعاً، وكان الظلام يملأ حفرتيْ وجنتيْها، كانت قد أحضرتني إليها في الوقت الذي تملكه هي، ولا أملك منه، أنا، ولا حتّى ثانية صغيرة، وبنفس عذابها الصموت الذي أخرجتني به إلى الدنيا وجدتُها، وارتعتُ حين رأيتُ تقاطيعَها نهْبَ قناعتها الأليمة الرّاسخة بأنّني المسؤول عن إقامتها في هذا المكان منذ أربعين عاماً... لم أستطع أن أقبّل يدَها أو أرتمي على قدميْها بأشواق الأعوام الأربعين، وانقلبت لهفتي خوفاً في كلّ خطوة قدّمتْني إليها وحين انتزعتْ يدي منّي رأيتُ أسنانها تطبق على إصبع في كفّي اليمنى، لكن لم أر الدم الذي سال وما أحسست بوجع الإصبع المعضوضة في الظلمة الباردة...
أنجاني النهار من عقاب أمّي، لكنه لم يزحزح صخرة الإثم التي جثمت على صدري، ورأيتُ، في نهاري الناجي، الملعقةَ التي تقلّبت، في صباح عتيق، على قرصٍ مشتعلٍ بالنار قبل أن ترتفع وتطير في الهواء، فتحرق في طيرانها، الهباءات الصغيرة الشاردة في الفضاء وتسقط بنارها على كفّي... تلك كانت عاقبة بكائي... ترفع أمّي ملعقة النار بطرف فوطتها العتيدة وتدسّها في باطن يديّ، لتنقذ نفسها من عويلي مصدر عذابها الطويل... وهكذا قُدّر لي أن أرى ثمرات دموعي كراتٍ صغيرة بأغشية رقيقة تنفخها نار الملعقة تحت جلد يدي... كم كان عدد تلك الكرات المؤلمة التي تلقفتْها طفولتي الباكية؟ كم كان عدد الملاعق التي حملتْ جرعاتِ النار وداوتْ بها أمّي، بلا أملٍ، مرضَ بكائي؟ أنّى لي أن أعرف وأنا أجهل أعداد الدموع التي أسقطتْها عيناي في عمر من البكاء؟... غالباً ما كانت عقوبة الكيّ تنتهي بذيل طويل من العذاب، فقد كان يجري إذلالي علناً لأكون درساً لأترابي الذين كانت ترغمهم أمهاتهم على مشاهدة النفّاخات الموجعة التي تشوّه يدي الصغيرة، كنتُ أرتعب كلّما انتُزِعَتْ يدي منّي وعُرِضَتْ بِكُراتِها الرخوة وقد انبثقْنَ من بطن كفّي وظهرها، وتدلّيْنَ بأغشيتهنَّ الصّفر الواهنة، وكان شعوري بالمهانة يُذكي رغبتي في البكاء... كنتُ أُقاوم ناهبي يدي، وأكافح الأصابع الصغيرة التي تنقذف كالدبابيس لتفقأ كراتي المنتفخة فلا أفلح إلاّ بعد أنْ أتكبّد موجة عاتية من البكاء، حينذاك أُطاع ويكون بمقدوري أن أدفن يدي التي عوقِبتْ تحت إبطي...
كانت أمّي تخذلي لتزيد من آلامها، وكنت ألمحها تبكي بلا دموع على طست تتصاعد من قاعه أبخرة مائه الساخن فيما كانت أصابع يديْها العاريتين إلى المرفقين تنتفان بلا هوادة ريش دجاجة غرقت في الحوض المعدني الحامي...
كنتُ أراها بدموعي تمسح ندمَها بساعدها المعروق بالريش المبتلّ كلّما وجدت عزاءها فيما تقوله أمّهاتُ أترابي: "كان الله في عونك".
لم يرحل عنّي بكائي إلاّ بعد أن وسم وجهي بعلاماته، جفنين تورّما، وشفتين تهدّلتا، وأنف انتفخت أرنبتاه، وحزّ ينطلق من بين حاجبَيَّ شاقّاً جبهتي، وبين هذه العلامات كان يشقّ على ابتسامتي أن تجد مكاناً على صفحة هذا الوجه الباكي...
شغلتني عقوبة الليل عن كلّ شيء، وفكّرتُ في أمّي، وقلتُ:
" لا بدّ أن بكائي البغيض يقيم الآن معها ويُنغّص عليها مكانها الذي فرّت إليه متخليةً حتى عن حياتها".
وصحتُ من دون أن يسمعني أحد:
" كيف أستعيد أمّي الحانية؟"
كانت أمّي ذكيّة، فيوم رضيت بالرّحيل وغابت تركت توأمتها في مكان ليس بعيداً عنّي لتحوم حولي وتتحقّق من علّة بكائي التي قد يكون مصدرها رغبتي في طردها، كما كانت تظنّ، وبعقل شعوري رأيت تلك التوأمة، وعرفتُ أين تقيم، وقرّرتُ أن أزورها من أجل أمي، وهكذا مضيتُ إليها مُجَلّلاً بقناعتي المخيفة التي تقول لي إنّ أمّي تسكن في توأمتها...
وكان عليّ، من أجل أن أدعم نواياي الطيبة في زيارتي، أن أذهب إلى السوق... فاشتريت فوطتيْن سوداويْن، وجوربيْن رقيقيْن، وبلوزة من الصوف بصفٍّ طويل من الأزرار العريضة اللامعة، وخفّيْن خفيفيْن وقنينة عطر بدينة نامت في صندوق مستطيل من الكارتون الصقيل الزاهي، ووضعتُ هدايا أمّي التوأمة في كيس نايلون مزيّن بالألوان وأطبقت بكفي على عروتيْه، كانت يدي تؤرجح الكيس الطويل فأسمع في رحمه خشخشةَ أكياس النايلون التي تحفظ حاجات أمّي وهي تحتك ببعضها وكأنّها سعيدة بتعرّفها على بعضها، وبلهفتها إلى أن تجتمع وتتضام وتتوحّد حين تمتلئ بأعضاء الكيان المنتظر الذي تُحمَل إليه... قرعتُ بابها فتلقاني صبيّ في نحو الرابعة عشرة من العمر، وسمح لي بأن أتبعه في المجاز الضيّق، لكنّه سرعان ما التفت إليّ وقيّد قدميّ في منتصف المجاز بقوله " سأخبرها بمجيئك". وكان عليّ أن أنتظر بكيسي النشوان...
ومن غرفة في آخر الحوش دخل فيها الصبيّ، جاءني صوتها يصرخ:
" ماذا يريد منّي، ألم يكفِهِ قتلُهُ أُمَّه ليأتي فيقتلنيّ ؟"
كان النهار الذي أعادني بهدايا أمّي يوشك على الفناء، ولم يكن أمامي غير أن أنتظر الليل لتزورني أمّي فأقدّم لها هداياها قبل أن تشرع في معاقبتي...



#هاشم_تايه (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مَنْ يحلب القيثارة السومريّة في لندن ؟
- كولاج الألم
- لا أذودُ الطّيرَ عن شَجَرٍ
- صنائع الصحفي
- ديمقراطية تبحث عن مكان
- التشكيلي محمد مهر الدين فعل الرسم بين التجريد والرغبة في الب ...
- طريقٌ أم طرق ؟
- الرؤية الكونكريتية
- التشكيلية السورية هالة الفيصل الأنثى بعين الجسد
- أسمال ليست طاعنة في السن
- بصوت هادئ حمّال الأسيّة !


المزيد.....




- فيلم -معركة تلو الأخرى-.. دي كابريو وأندرسون يسخران من جنون ...
- لولا يونغ تلغي حفلاتها بعد أيام من انهيارها على المسرح
- مستوحى من ثقافة الأنمي.. مساعد رقمي ثلاثي الأبعاد للمحادثة
- جمعية التشكيليين العراقيين تستعد لاقامة معرض للنحت العراقي ا ...
- من الدلتا إلى العالمية.. أحمد نوار يحكي بقلب فنان وروح مناضل ...
- الأدب، أداة سياسية وعنصرية في -اسرائيل-
- إصدار كتاب جديد – إيطاليا، أغسطس 2025
- قصة احتكارات وتسويق.. كيف ابتُكر خاتم الخطوبة الماسي وبِيع ح ...
- باريس تودّع كلوديا كاردينال... تكريم مهيب لنجمة السينما الإي ...
- آخر -ضارب للكتّان- يحافظ في أيرلندا على تقليد نسيجي يعود إلى ...


المزيد.....

- سميحة أيوب وإشكالية التمثيل بين لعامية والفصحي / أبو الحسن سلام
- الرملة 4000 / رانية مرجية
- هبنّقة / كمال التاغوتي
- يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025 / السيد حافظ
- للجرح شكل الوتر / د. خالد زغريت
- الثريا في ليالينا نائمة / د. خالد زغريت
- حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول / السيد حافظ
- يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر / السيد حافظ
- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هاشم تايه - من أجل أمّي