أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هاشم تايه - ضيف الحجر














المزيد.....

ضيف الحجر


هاشم تايه

الحوار المتمدن-العدد: 1515 - 2006 / 4 / 9 - 12:47
المحور: الادب والفن
    


كان العام 1978 يطوي أيّام تشرينه الثاني الموحشة الأخيرة التي أفرطت في بردها.. كان برد تلكم الأيام حليف الوحوش التي شرعت تؤسّس جمهورية العبيد بالرعب..
في آخر ثلاثاء من ذلك التشرين كنت في غرفة المدرسين بمدرستي أنتظر هاتف الجرس لأمضي إلى صفّي..
قبل أن يبلغ عقرب ساعتي الثانية ظهراً جاءني أحد العاملين يخبرني بالمثول أمام السيد (ص) مدير مدرستنا، وفي غرفته وجدت زائراً غريباً حرص على الجلوس ببدلته السفاري التي نفختها جثته الضخمة في أقصى الزاوية بعيداً عن الباب... قرصني قلبي حين وجّهه مديري إليّ، وبكلمات لا بدّ أنّه انتزعها من قلب تشرين البارد قال الضيف الذي حضر من أجل اصطيادي إنّ شعبة الأمن في مديرية شرطة البصرة تدعوني للمثول أمامها للاستفسار... نظرتُ في وجه مديري فما وجدتُ في عينيْه إلاّ برد الخذلان، وبتهذيب أطرب الصيّاد أعربت عن استعدادي لتلبية الدعوة التي لا سبيل للاعتذار منها...
كانت أمامي فرصة للإفلات حين خرجت من الغرفة وحدي لأجلب حاجاتي التي تركتها في غرفة المدرسين.. كان باب عريض مشرعاً على ساحة المدرسة، وكان بوسعي الركض عبر الساحة وتسلق السياج والاختفاء في الأزقة القريبة، لكنّني، بسبب بطئي، نادراً ما أحصل على ردود أفعال عاجلة مناسبة، وغالباً ما يقتضيني التقاط ما في رأسي أن أبحث عنه حتى أعثر عليه، ودوماً أجد الجواب المناسب بعد يأس السؤال منّي ومغادرته إيّاي... وربّما كان الخجل قد حجب عنّي فضاء الساحة المفتوح لنجاتي، وكان سخيفاً، بل غبيّاً، ألاّ أغدر بزائري الضاري الذي قبض على كلمتي...
حملت حاجاتي الخفيفة ووجدتُه على الباب.. لا بدّ أنّه، هو المتمرّس، قد خشي أن أهرب... كانت فيات صفراء على باب المدرسة الخارجي، أصعدني في المقعد الأمامي وسدّ الباب، قبل أن يستدير ويجلس على المقود... وسرعان ما تحوّلت الفيات الصفراء إلى قفص محكمة يركض على الشوارع بين السيارات والعابرين، أطلعني فيه على كلّ ما اجتهدتُ في كتمانه، لأُوافقه عليه، فيريح به فريقه المنتظر من عناء إسقاطي.. وإذ وجدني بعيداً عمّا رغب فيه، أنبأني بأسوأ العواقب...
توقّفت الفيات الساخطة أخيراً في شارع قريب من مركز شرطة السعوديّة بالعشّار، أمام شقة صعدنا إليها على درجات سلّم حجري مفتوح... أنا الآن صاعدٌ برجليَّ إلى قيامتي ومعي حياتي البريئة التي عليّ عبء تحمّل أوزارها أمام قضاتي الرابضين في شقّة عالية قريبة من شقّة السماء التي يقطنها الله...
ما كنت في يومٍ ما بطلاً، ولم يكن الأسلوب الذي انتظمت فيه حياتي، ولستُ مسؤولاً عنه، بقادر على أن يهبني شيئاً من البطولة، لكنّ كرامتي وصدقي وأمانتي على الأشياء التي بُذِلتْ لي جعلتني أقرّر، وأنا أصعد آخر درجات سُلّم الهاوية، أن أدافع عمّا حملتُه إلى آخر حدود طاقتي...
كانت الشقّة مثل جورب بغرفتين متلاصقتين، وبسلّم داخلي ذي ذراعين، ذراع تصعد إلى سطح، وذراع أخرى تهوي إلى قاع... أدخلني صائدي غرفة رئيسه، غرفة بضوء محتْ لونه ستارة ثقيلة غطت النافذة الوحيدة... كان الضابط (و) يجلس إلى مكتبه قريباً من الجدار البعيد في العمق، أذهلني أنّ هذا الكائن كان زار مدرستي أكثر من مرّة، والتقى فيها بزميلي (إ)... جلست على المقعد الوحيد قرب الباب، فأحسستُ بنوابضه اللولبية تحرّكني من أسفل، ولعنتُ نفسي لأنني نزلت فيه برغبتي، وتوقّعتُ أن تتحرّك يد (و) فيقذفني المقعد إلى السقف، لكنّ ذلك لم يقع...
بلا مواربة كشف لي (و) ما في أوراقي التي سرقها له لصوصه، وأرادني أن أؤيّد ما جاء فيها باعتراف ينتهي بإمضائي... ولمّا فاته مني ما أراد، أخرجني من غرفته حانقاً، وأوقعني في يد فرقته، وكان عليّ أن أتحمل عزفها على جسدي...
لن أصف لكَ الشوط الذي قطعه جسدي في ملعب المروّضين العتاة، فلم تكن تعنيني البطولة...
إنّ ما صدمني كامن في طبيعة المكان، فوقوع الشقّة في حيّ سكني وفي قلب المركز المدني للبصرة، ومظهرها الداخلي الأليف بما فيها من أثاث ولوازم عاديّة لا يكشفان أبداً عن هويّتها الحقيقية، بل هما يتعارضان تعارضاً صارخاً مع وظيفتها البدائية اللاإنسانية التي مصدرها العنف...
إنّها، بما اشتملت عليه، أقرب إلى أن تكون مكتب محامٍ، أو مقرّاً لشركة مقاولات محليّة صغيرة... إنّ ما يصدم ويخيف يكمن في الانقلاب المباغت للمكان الذي يبدو أليفاً، وفي سرعة تخلّيه عن طابعه المسالم الهادئ وتحوّله إلى مأوى للجنون، لهذا يظل مظهر المكان قناعاً تختفي وراء ملامحه الوادعة روح الوحش.
ذراع السُّلَّم الهابطة إلى القاع تقع درجتها الأخيرة على بلاطة مربّعة ضيّقة، وعلى بلاطة القاع هذه أجلسوني حافياً في منتصف جولتهم الأولى... على الجدار المقابل وجدت مرآة طويلة في إطار من الخشب، لا بدّ أنها هنا لسبب وجيه عندهم، سبب يتصل بعملهم المضني... نظرتُ في المرآة فأبصرتُ شكلي الذي أتلفوه، وقالت لي المرآة الساخرة لمّا وجدتْني مروّعاً: إنكَ لن تحتفظ حتى بشكلك هذا !
هذا إذن معنى المرآة هنا، وهدفها المريع هو هذا، وذلك الهدف وجدتُه في غرفة القاع التي على يساري... غرفة فارغة يصفر فيها الفراغ، بلا باب، لا يزيد ارتفاعها على متر، ولهذا فلن تدخلها إلاّ زاحفاً، وحتى لو جلستَ فيها فإنّ سقفها سيضرب رأسك، إنّها شبيهة إلى حدٍّ بعيد بـ (باكيت سجائر غازي) الذي يعرفه من هم في عمري...
( إنني قبرك) ! ذلك ما تُنبئكَ به الغرفة- الباكيت..
في منتصف الليل هدأ مضيفيَّ، وعادوا إلى قناعهم الأليف الذي ستر ضراوتهم، فقد حصدوا ثمرتهم في الورقة التي أرغموني على ختمها بإمضائي....
قادني أحدهم خارج الشقّة، وأسلمني إلى الظلام الشامل، ولمّا رآني أعرج على درجات السّلّم الخارجي صاح بي:
" بإمكانكَ أن تقول إنّ عربة صدمتني في الطريق" !



#هاشم_تايه (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أجراس
- من أجل أمّي
- مَنْ يحلب القيثارة السومريّة في لندن ؟
- كولاج الألم
- لا أذودُ الطّيرَ عن شَجَرٍ
- صنائع الصحفي
- ديمقراطية تبحث عن مكان
- التشكيلي محمد مهر الدين فعل الرسم بين التجريد والرغبة في الب ...
- طريقٌ أم طرق ؟
- الرؤية الكونكريتية
- التشكيلية السورية هالة الفيصل الأنثى بعين الجسد
- أسمال ليست طاعنة في السن
- بصوت هادئ حمّال الأسيّة !


المزيد.....




- خرائط وأطالس.. الرحالة أوليا جلبي والتأليف العثماني في الجغر ...
- الإعلان الثاني جديد.. مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 الموسم ا ...
- الرئيس الايراني يصل إلي العاصمة الثقافية الباكستانية -لاهور- ...
- الإسكندرية تستعيد مجدها التليد
- على الهواء.. فنانة مصرية شهيرة توجه نداء استغاثة لرئاسة مجلس ...
- الشاعر ومترجمه.. من يعبر عن ذات الآخر؟
- “جميع ترددات قنوات النايل سات 2024” أفلام ومسلسلات وبرامج ور ...
- فنانة لبنانية شهيرة تتبرع بفساتينها من أجل فقراء مصر
- بجودة عالية الدقة: تردد قناة روتانا سينما 2024 Rotana Cinema ...
- NEW تردد قناة بطوط للأطفال 2024 العارضة لأحدث أفلام ديزنى ال ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هاشم تايه - ضيف الحجر