حسن مدبولى
الحوار المتمدن-العدد: 2495 - 2008 / 12 / 14 - 10:03
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
يجهد البعض انفسهم فى محاولة اثبات ما هو مثبت بالفعل , ويصارع هؤلاء فى معارك دونكيشوتية مع طواحين الهواء لرفع رايات تجديدية , مرفوعة منذ ازمان طويلة, فالقيم الانسانية المجردة ,لا علاقة لها من حيث المنشأ بالقيم الدينية , هذا امر بديهى لا يحتاج اية صولات ولا جولات, ولا الادعاء البطولى بالقتال من اجل انهاء التخلف فى الوطن العربى ,وخاصة فى مصر, القيم الانسانية صفة فى الاشياء قوامها ان تكون تلك الاشياء موضع تقدير بشكل متفاوت من شخص الى اخر ومن امة الى اخرى , وفقا للمحددات او الخبرات او التراث الذى يحكم هذا الفرد او تلك الجماعة او الامة,اما العقائد الدينية فهى ثوابت الهية منزلة تؤدى الى نتائج تنعكس ايضا على الواقع الانسانى وفقا لتلك العقائد , لكنه ليس صحيحا ان العقائد او القيم الدينية ,تحبذ الحياة الاخرى فقط ( خاصة تعاليم الدين الاسلامى) , اذن الانسان فى واقعه المعاصر يقع بين سندانى القيم الانسانية التى توصلت لها التجربة البشرية,والتى من المفروض ان تنظمها قوانين وضعية حاكمة تعاقب وتزجر,وبين قيم دينية او عقائد او احكام الهية ,تحرم عليه الاتيان بافعال مرفوضة دينيا,لكنها قد تتطابق مع القيم الانسانية التى توصلت اليها البشرية.
القيمة من وجهة نظرنا يجب ان تكون شديدة الالتصاق بما يجب على المرء او الجماعة او الامة او الامم القيام به للنهوض والرقى والتقدم عن طريق ممارسات انسانية حميدة تستهدف فى اخر المطاف الى انماء الحضارة,واثراء المدنية بالمزيد من الانجازات, فاذا حدث تناقض ما بين التجربة الانسانية التى ترى قيمة ما فى شىء
ما ,تتعارض معها القيم او المبادىء الدينية,فلا بد من البحث والتأويل وايجاد الحلول التى تحقق مصلحة الجماعة ماديا ومعنويا.
ان الانفصال من حيث النشئة او الخلق او الايجاد ,بين القيم الانسانية والقيم الدينية ,واضح جلى, الا انه فى حالة الدين الاسلامى على الاقل(نحن نقرر واقعا)هناك ارتباط قيمى بالحالة التجريبية المعيشية الانسانية, فالقيم الانسانية الحضارية تحبذ العمل والعمال ,وهناك الكثير من الاحكام الاسلامية التى تزكى هذا المفهوم ,والقيم الانسانية ترفض الاعتداء على حرمات الاخرين ,والقيمة الاسلامية ترفض هذا ايضا , بل ان بعض الممارسات الغير مجرمة بالنكران انسانيا ,مثل شرب الخمر ,او الزنا بدون زواج , والتى تحرمها الاديان ,سوف تجدها منكورة فى الذاكرة الجماعية أو الشخصية البشرية,حتى من قبل من يمارسون تلك الافعال.
ومع كل ذلك فانه اذا كان المشكل فى مصر او فى العالم العربى, فيما يتعلق بالتخلف والانحدار, يرجع فقط الى هذا التماس القيمى بين التجربة الانسانية, والتعاليم الالهية,فنحن نؤكد ان ذات التماس متواجد بشدة فى العالم الغربى المسيحى,اذ ليس صحيحا ان هناك انفصال قيمى بات بين الموروث الدينى الاوروبى المسيحى وبين التجربة القيمية الانسانية هناك , فتحريم تعدد الزواج فى اوروبا وتجريمه قانونا ,لا يعود فقط الى القيم الانسانية, لكنه يعود بالاساس الى ان ذلك التحريم موجود فى العقيدة المسيحية التى يؤمن بها الاوربيون , ومعاداة اليهود فى اوروبا ,تعود تاريخيا الى الاعتقاد بخيانتهم للمسيح , كما ان عودة الاوروبيين الى مساعدة اليهود ,ليس مرده فقط الى الشعور بالذنب من حروب الابادة السابقة ضد اليهود , لكن العامل الدينى ايضا لعب دوره العقائدى فى تمكين اليهود فى فلسطين تمهيدا لعودة السيد المسيح بعد ذلك وفقا للاعتقادات المسيحية الاوروبية وغير الاوروبية, ومع كل ذلك فقد تقدمت اوروبا تقدما شاسعا فيما بقينا نحن محلك سر او للخلف, وهذا معناه اما اننا لم نتقدم انسانيا من الناحية القيمية, او ان القيم الدينية التى تتماس مع تجربتناالانسانية ,هى قيم متخلفة تشدنا الى السقوط ؟
الواقع التاريخى الاسلامى زاخر بالانتصارات الانسانية والعلمية والاجتماعية سواء بالنقل او بالابتداع ,وكذلك الفتوحات العسكرية, وليس مجاله ان نفرد امثلة على ذلك لكن يكفى,ان التماس بين التجربة الانسانية القيمية ,وبين التعاليم الاسلامية قد اثمر على الاقل امبراطورية كبرى بحجم الامبراطورية العثمانية, وقد اثمر على الاقل عن حضارة تايخية بحجم الحضارة الاندلسية, او جعل من مصر دولة عظمى تناطح الامبراطورية العثمانية , وتذهب بعيدا لشواطىء الروس واليونان , وهى معجزات بشرية بمقاييس تلك العصور, فنحن لا نقيم هنا مدى عدالة او عدم عدالة هذا التوسع البشرى بالمقاييس الحالية , كذلك هناك تجارب متقدمة بالصياغة العلمية والتقنية,بل والديموقراطية,مع ان روادها شعوب اسلامية اخذت باسباب التقدم ولم تتخل نهائيا عن خيارها العقائدى لصالح القيم الانسانية المجردة ,مثل ماليزيا,وايران,وتركيا ومصر الحديثة فى حقبة الستينيات.
اذن الخلل لا يكمن فى العقيدة الدينية الاسلامية , ولا فى عدم الفصم الكامل بين القيم الانسانية ,والمعتقدات الدينية, الخلل هو فى تجربتنا الانسانية المجردة فى القيم الانسانية الحضارية المتخلفة التى تحكمنا بفعل فاعل يريد استمراريتها,لاحكام سيطرته ,او النزوح الى قوامته, وانتهاء ريحنا من هذا العالم, المسألة ليست نظرية المؤامرة من الخارج الاستعمارى, بل هى فعلية المؤامرة الخارجية التى تملك ناصية الداخل وتسيطر عليه وتضرب متحرريه ومنتميه.
ان البديل الذى يقدم على انه البديل الاوفر حظا للعلاج فى المنطقة العربية,وهو بديل القيم الانسانية الغربية ,بحجة انها البديل المنتصر,واننا المتخلفون, هو بديل يؤكد ان اصحابه او مقترحوه , لا شىء لديهم للحل سوى الانسحاق امام الاخر ,والشعور بالدونية والهزيمة,وان هؤلاء يريدون لنا الايمان بتجربتهم الانسانية المهزومة تلك,وتجسيدها على انها قيمة عالية ثمينة غالية الثمن ,وفقا لاليات السوق الامريكى الحر, لكن تجربة هزيمة اليمين الحاكم فى امريكا,اسقطت ذلك الخيارالقيمى المزيف, فاليات السوق لا تصلح لتقييم وتحديد القيم المتبعة,فالقيم الانسانية ليست سلعة تباع وتشترى .
ان التقدم المادى ليس دليلا على التفوق القيمى,والا كان رجال الفساد فى مصر اصحاب القصور والمنتجعات والمصانع والمزارع والفضائيات والسفن الغارقة,هم اصحاب القيم الفضلى فى المجتمع المصرى, لكن هناك عوامل متعددة قد ادت الى تفوق هؤلاء ,اقلها قساوة هى استعباد الاخر ونهب ثرواته, لو ان لدى الغرب قيما انسانية محترمة ,لما سمح باعمال الابادة فى العراق ,ثم تحدث عن دارفور, ولما صدر الارهاب الى فلسطين , ثم قام بوصف حزب الله بالارهابى,ولما سمح للعنصرية البيضاء بان تسرق شعب زيمبابوى الافريقى مئات السنوات, ثم اذا تحرر ذلك الشعب وتمت اعادة بعض ما نهبته الاقلية العنصرية ,قامت القيامة وتحركت الادوات,واصبح موجابى رئيس ومحرر شعب زيمبابوى ديكتاتورا, بل ان هناك اتهاما رسميا حاليا من حكومة زيمبابوى ضد الحكومة البريطانية لكونها تشن حربا بيلوجية ضد شعب زيمبابوى, مما ساهم فى نشر الكوليرا ومصرع المئات هناك,وقدمت الحكومة بعض الادلة وطالبت بمحاكمة رئيس الوزراء البريطانى بتهمة الارهاب ,مما يجعلنا اتساقا مع التاريخ القريب جدا نؤكد تلك الاتهامات ,حيث سبق ان ساعدت بريطانيا اسرائيل فى حربها ضد لبنان عام 2006,حيث ساهمت بريطانيا- المتقدمة على المستوى القيمى الانسانى- فى تسهيل نقل القنابل العنقودية والانشطارية لضرب المدنيين فى لبنان,دونما اى رادع قيمى سواء انسانى او دينى او حتى قانونى ولا دولى ولا سياسى ولا بيئى؟
المطلوب منا ان نبحث تفصيليا عن الاسباب الحقيقية التى ادت الى تخلفنا,سواء كانت هذه الاسباب داخلية ,محلية ,ام خارجية ,وسواء كانت هذه الاسباب,تتعلق بالقيم الانسانية التى ننتهجها ,ام تتعلق بالقيم الدينية او منظومة الاوامر والنواهى المسيطرة والمرتبطة بالعقائد, لكن الخطأ كل الخطأ ان نلقى بالقفاز فى وجه بعد واحد,دونما اطمئنان او حكم عادل ,ثم نعلن الفوز المبين , مع اننا بذلك نكون قد سلمنا انفسنا لفائز لن يرحمنا ابدا ,وفقا للتاريخ والجغرافيا.
#حسن_مدبولى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟