أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ملف ذكرى ثورة أكتوبر الاشتراكية... الانهيار وأفاق الاشتراكية في عالم اليوم - صادق إطيمش - إنهيار التجربة وصعود النظرية















المزيد.....



إنهيار التجربة وصعود النظرية


صادق إطيمش

الحوار المتمدن-العدد: 2428 - 2008 / 10 / 8 - 09:34
المحور: ملف ذكرى ثورة أكتوبر الاشتراكية... الانهيار وأفاق الاشتراكية في عالم اليوم
    


قد يبدو هذا العنوان متناقضاً حينما يشير إلى صعود نظرية ، والمقصود بها هنا النظرية الماركسية ، في حين يؤكد على فشل التجربة التي إدعت بانها تبنت هذه النظرية ودعت لها من خلال برامجها السياسية والإقتصادية والإجتماعية التي عملت على نتفيذها من خلال التبني هذا . إن هذا التناقض هو الذي جعلته الماركسية أساساً للمسيرة الكونية من خلال صراع الأضداد المؤدي إلى التغيير ، والذي نرغب ان نتطرق إليه في هذا الموضوع مع التأكيد على نوعية التغير ومدى قربه او بعده من الجماهير الفاعلة والمؤثرة الأساسية في هذا التغيير.
منذ إنهيار التجربة الإشتراكيية والنقاش يدور في ألأوساط الفكرية العالمية وعلى مستويات مختلفة من الوعي حول بعض القضايا المتعلقة بموقف سياسي ما او بتبني وجهة نظر معينة ذات مساس مباشر بمجريات ألأمور التي يعيشها العالم اليوم بعد ان إختفت ملامح التجربة الإشتراكية وبعد أن ساد جو رحب لتبلور القناعات الفكرية التي تم إستنباطها بمعزل عن الإنحياز التنظيمي ألأممي او الإرتباط المبدأي . وإذا اردنا أن نقتصر البحث على ظروف معينة ، حتى لا يتشعب بنا ألأمر إلى متاهات بعيدة ، يمكننا دراسة التطورات التي رافقت إنهيار نظامين أرتبطا بنظريتين مختلفتين ، إلا أن ان النتائج التي ترتبت على كل منهما إختلفت جذرياً عن بعضها البعض. والمقصود هنا النظام البعثفاشي الذي ساد العراق لما يقارب أربعة عقود من الزمن ، والنظم الإشتراكية في أوربا الشرقية والإتحاد السوفيتي سابقاً.
إن المتتبع للسجالات الفكرية التي تجري حول هذه التجارب لا يصعب عليه كثيرآ أن يكتشف سطحية بعض الطروحات وتبني بعض المواقف التي ترتكز على العاطفة وترديد ما يقوله الغير أكثر من إتخاذها المنهج العلمي الثابت كأساس لإيضاحها والإقناع بوجهة نظرها .
لابد لنا بادئ ذي بدء من مناقشة ألأساس الفكري الذي يتبناه كل نظام يأخذ طابعآ إجتماعيآ والذي يسعى من خلاله لتثبيت ركائز هذا النظام وتفعيل مؤسساته المختلفة . بعبارة أخرى يجب التمييز الواضح بين النظام السياسي والإجتماعي كمؤسسة ، وبين الأساس الفكري الذي يقوم عليه هذا النظام . وعلى أساس هذا الفصل نستطيع متابعة التطور والتغيير الحاصل سلبآ وإيجابآ والتعامل مع واقع الحياة اليومي من خلال تقييم هذا التطور وإستيعابه ووضعه الموضع اللازم بين التغيرات السياسية والإجتماعية المختلفة في أي مجتمع من المجتمعات . إستنادآ إلى ذلك يمكننا التمييز بين :
1. إرتباط الفكر مع النظام السياسي والإجتماعي المؤسساتي القائم عليه إرتباطآ مصيريآ بعلاقة ينشأ على أساسها تحديد مصير ومستقبل كل منهما على ألآخر . أي ان النظام السياسي والإجتماعي الذي يُبنى على هذا ألأساس الفكري يستمد شرعيته من نصوص فكرية وضعها مفكروه إنطلاقآ من تصوراتهم النظرية لهذا المجتمع أو ذاك في هذه المرحلة أو تلك من مراحل التاريخ ألإنساني العميق ألأغوار . في مثل هذه الحالة يتجه هولاء المفكرون ومن يتقمص آراءهم ويعمل معهم على نشر أفكارهم وتفعيلها في المجتمع إلى شتى المحاولات لعكس هذه ألنظريات على الواقع العملي . وكثيرآ ما تصطدم مثل هذه المحاولات بالجدار الإجتماعي الذي لا يسمح بنفوذها من خلاله نظرآ لعدم إستطاعتها محاكات تطلعات الجماهير وتحقيق طموحاتها . ويتحقق هذا ألأمر بصورة أكثر وضوحآ وجلاءً إذا كان واضعو هذه الأفكار لا يملكون قاعدة فكرية رصينة ومستوى علمي مرموق يؤهلهم لصياغة نظريات ذات عمق إجتماعي . فتخرج مثل هذه ألأفكار إلى واقع الحياة اليومي المعقد لتجد نفسها بعيدة عن هذا الواقع الذي بدأ بلفظها بعد أن أثبتت التجربة عمليآ أن شعاراتها البراقة التي نشرتها كنصوص نظرية غير قابلة للتطبيق حتى ضمن المؤسسات التي أقامتها هي نفسها على أساس هذه ألأفكار . وهنا تبدأ المرحلة الثانية من التطورالتاريخي لهذه ألأفكاروالنظريات التي تبلورت على أساسها والمتمثلة بالصراع على البقاء والإستمرار بأي ثمن, مستخدمة السلطة القنعية للنظام السياسي وألإجتماعي الذي جاءت به لتحقيق مثل هذه الطموحات . فيبدأ دور إستعمال القوة والقسر والإرهاب , حيث يختفي دور القناعة , وحيث يحل الترهيب بدل الترغيب والعقاب قبل الثواب . تتميز هذه المرحلة من تاريخ التطور الفكري هذا بعدم التردد بإستخدام كافة وسائل البطش والتنكيل وإمكانيات ألإرهاب التي يُتيحها النظام القائم على هذه الأفكار ضد كل من يتجرأ على الوقوف موقفآ سلبيآ عدائيآ أو حتى موقفآ سلبيآ لا أُباليآ منها , وبذلك تسير هذه ألأنظمة إلى حتفها بقدمها وتضع بيدها اللبنات ألأولى على طريق إختفاءها التدريجي . أما المرحلة الثالثة من التطور فإنها ستضع نهاية ليس للنظام القائم فقط , بل وللأفكار التي أتت به أيضآ لأن مثل هذه الأفكار لم تنشأ وتتطور من خلال صراع جماهيري , بل إنها نشأت وتطورت كترف فكري من بعض من وضعوا أنفسهم , في غفلة من الزمن , بين صفوف مفكري المجتمع . لذلك فإن الإنهيار في هذه الحالة لا يقتصر على النظام السياسي والإجتماعي الذي أتت به هذه ألأفكارفقط , بل أنه يشمل ألأفكار نفسها أيضآ . وحينما نتكلم هنا عن ألإنهيارفينبغي أن يؤخذ ذلك ضمن مفهوم ألإنهيار الحقيقي بالنسبة للنظام ومؤسساته والإنهيار المجازي بالنسبة للأفكار . بعبارة أخرى يمكن تفسير ألإنهيار الفكري هنا بإعتباره ألإفلاس الجماهيري لهذه ألأفكار التي لم يعد لها ما يبرر إستمرار وجودها في المجتمع الذي لا يزال يعاني من وجودها حتى بعد إنهيارها , وذلك ما جعل تفسير إنهيارها الحالي بالمجازي الذي سيتحول إلى حقيقي ضمن مسيرة التطور التاريخي العالمي وبعد إختفاء وتلاشي البقية الباقية من أنصارها. والإنهيار الحقيقي يعني بدوره إختفاء مثل هذه الأفكار من حيز التأثير المباشر وغير المباشر في حياة الجماهير حاضرآ ومستقبلآ وهذا ما ينطبق على نماذج كثيرة من هذه ألأفكار وألأنظمة السياسية والإجتماعية التي إرتبطت بها. ولنا في الفكر النازي والفاشي والبعثي أمثلة حية في تاريخ البشرية الحديث . إذ إستطاع الفكر النازي بإستيلائه على السلطة بألمانيا من بناء نظام سياسي إجتماعي سيطر على كل مقدرات الدولة ألألمانية التي وجهها لتحقيق إهداف شوفينية قمعية تسلطية وضعت الشعب ألألماني في مآزق شتى لم يستطع التخلص منها بسهولة ولا يزال يعاني من آثارها السلبية حتى اليوم . فحين آل هذا النظام إلى السقوط , سقطت معه ركيزته الفكرية أيضآ ذلك السقوط المُشار إليه أعلاه . إن المتتبع للساحة السياسية ألألمانية اليوم سيجد حتمآ هنا وهناك بعض مظاهر الفكر النازي التي لم تختف من المجتمع نهائيآ , إلا أن هذه ألأفكار ميتة فعليآ بحيث لا يسجل وجودها هذا أي أثر على عموم التوجه السياسي الإجتماعي ألإقتصادي بألمانيا , والدليل الحيوي على ذلك هي صناديق ألإقتراع التي يبين الشعب الألماني من خلالها مدى إحتقاره لهذا الفكر وإستهجانه به. أو المظاهرات العارمة التي يواجه بها الشعب الألماني اي تحرك , ولو كان صغيراً من قبل مؤيدي النازية ، لإبطاله أو تحجيمه. إن فكرآ كهذا يسعى إلى موته الحقيقي الذي سيضعه في أوطأ موقع في مزبلة التاريخ طال الزمن أو قصر. وما يقال عن النظام والفكر النازي ينطبق أيضآ على النظام والفكر الفاشي بإيطاليا والمصير الذي آل إليه هذا الفكر بعد إنهيار نظامه وموقف الشعب ألإيطالي منه اليوم . لا أعتقد أن فكر البعث يختلف كثيرآ عن سابقيه النازي والفاشي . فهو فكر يستند على نفس ألأسس العنصرية الشوفينية للفكر النازي – الفاشي كما أنه أقام نظامآ تسلطيآ قمعيآ وضع العراق في متاهات شتى ساعيآ من خلالها إلى تطبيق سياسة عنصرية تنشد الهيمنة والإستحواذ ليس على مقدرات العراق فحسب , بل وعلى كل ما أستطاعت أن تناله يداه عن طريق القوة والإكراه والتشريد والتنكيل في دول أخرى غير العراق. إن فكرآ كهذا لا يجد غير القوة والبطش وسيلة لتحقيق أهدافه , يعكس إفلاسآ شعبيآ وفقدانآ لأية أرضية صلبة يستطيع الوقوف والصمود عليها بعد إنهيار نظامه , وما موقف الشعب العراقي المتفرج على إنهيار نظام البعث بالعراق إلا دليلآ صارخآ على إحتقار الشعب للفكر الذي أسس لهذا النظام وجاء به . وإنني لعلى ثقة تامة بهزيمة هذا الفكر العنصري القمعي من خلال صناديق الإقتراع أيضآ , حتى لو أُتيح له أن يساهم بالعملية السياسية الديمقراطية الجارية بالعراق ألآن . إن فكر البعث الذي فقد علاقته بالجماهير التي عانت منه ألأمرين لا يستطيع , حتى بوجوده المتناثر على الساحة العراقية اليوم , أن يِؤثر سياسيآ على التوجه المستقبلي للبلاد وهو سائر حتمآ على نفس الدرب الذي سلكته النازية والفاشية من قبله والذي ستسلكه كل ألأفكار المُشابهة من بعده ، حتى لو لبس جلد الثعالب وبرز إلى الناس باسماء وافكار جديدة يختفي وراءها .
2. إرتباط الفكرمع النظام السياسي والإجتماعي المؤسساتي القائم عليه إرتباطآ آنيآ تحدده فترة زمنية قد تطول أوتقصر يتم خلالها وضع النظام على محك التجربة العمليه التي تؤهله أو لا تؤهله لإستمرار تبني هذا الفكر والإلتزام بثوابته . تمامآ كما لاحظنا في المثال الأول فإن النظام السياسي ألإجتماعي يستمد شرعيته هنا أيضآ من نصوص فكرية ونظريات يحاول تفعيلها على الواقع العملي . إلا أن ألإصطدام هنا لا يحدث بين ألفكر والجدار ألإجتماعي , كما كان في المثال ألأول , بل بين الفكر والقائمين على تطبيقه وتفعيله على الواقع العملي . فمثل هذا الفكر سبق وأن إستمد أسسه تاريخيآ من حاجة الجماهير وتطلعاتها نحو حياة أفضل , ولم ينشأ كنتيجة لترف فكري أو فلسفة فوقية تحمل بين طياتها الطابع العنصري الشوفيني . لذلك يجري التّماس ألأساسي بين مستوى إدراك القائمين على تطبيق المبادئ النظرية لهذا الفكر وبين نتائج هذا التطبيق الذي سيمس حياة الجماهير التي لا تسمح بإبتزازها تحت أية واجهة كانت . وهنا تبرز العلاقة الجدلية التي تفرض نفسها سلبآ أو أيجابآ على النظام القائم وعلى ردود الفعل التي سيتبناها في حالة وقوف الجماهير أمام إستنزافها وإسترقاقها الذي لا تراه في جوهر الفكر , بل في أساليب القائمين على تطبيقه . وتمامآ كما رأينا في المثال ألأول فإن ردود فعل النظام ستكون هنا أيضآ مقترنة بأساليب القهر والإضطهاد التي يحاول النظام السياسي ألإجتماعي ومؤسساته أللجوء إليها للمحافظة على بقاءه وإستمراره رغم رفض الجماهير له . وهنا أيضآ سيقود هذا النظام نفسه إلى حتفه بيده ليضع الخطوات الأولى على طريق إنهياره الحقيقي . وبعكس ما رأيناه في المثال ألأول فإن الذي سينهار هنا النظام فقط وليس الفكر الذي إدعى هذا النظام بإنه يقوم عليه , وذلك بسبب إنطلاق هذا الفكر أساسآ وتاريخيآ من بين الجماهير التي تنشد تحقيق طموحاتها من خلاله . ألأمثلة التي يسوقها لنا التاريخ هنا كثيرة أيضآ , ويُعتبر موضوع حديثنا هنا , الفكر ألإشتراكي واحدآ منها . فعندما إنهارت النُظم التي كانت تدعي تبنيها لفكر ألإشتراكية العلمية , سجل إنهيارها هذا تحقيق مقولات ألإشتراكية العلمية نفسها التي وضعت الخطوط العريضة كثوابت مرنة على طريق تطبيقها الطويل المليئ بأشواك ألإستغلال ألإجتماعي والسياسي والإقتصادي وشخصت عمق الهاوية التي سيؤول إليها مصير من ينحرف عن تطلعات الجماهير وتحقيق أهدافها بالحياة الحرة الكريمة الخالية من ألإستغلال والإضطهاد . لا يجادل أحد اليوم , وحتى بعد إنهيار الأنظمة السياسية والإقتصادية في أوربا الشرقية , بوجود الفكر ألإشتراكي وتبنيه من قبل جماهير واسعة على كافة أرجاء المعمورة . فِكْر ألإشتراكية العلمية لم يتوار عن الساحة السياسية العالمية تتبناه وتعمل بإتجاهه, كمنهاج إقتصادي إجتماعي , كثير من ألأحزاب والمنظمات الجماهيرية التي لا زالت ترى فيه كثيرآ من الحلول الناجعة لمشاكلها المختلفة , سواءً تواجدت هذه الجماهير في مجتمعات ريفية متأخرة أو مجتمعات رأسمالية متقدمة .ولم يقتصر وجود الفكر ألإشتراكي على ألأطروحات والمفاهيم النظرية التي يتبناها هذا الحزب أو ذاك , بل أنه يشمل حركات سياسية وإجتماعية لها دورها الفعال في برلمانات وإدارات ومؤسسات كثير من المجتمعات وعلى مختلف بقاع المعمورة ولها تأثيرها الواضح على مجريات العمل السياسي والإجتماعي اليومي . إي إن الجماهير لا زالت متعلقة بهذا الفكر الذي أوصل ممثليها إلى البرلمانات المختلفة في كثير من دول العالم , دون أن يكون لسقوط ألأنظمة التي إدعت تمثيلها لهذا الفكر أي أثر يُذكر على ذلك . وكما يقال عن الفكر ألإشتراكي يُقال أيضآ عن الفكر ألإسلامي الذي نشأ أساسآ بين الجماهير وإنطلاقآ من تطلعاتها نحو حياة أفضل . إن إستغلال هذا الفكر الجماهيري من قبل عناصر وأحزاب وحركات سياسية تدعي ألإلتزام به وتطبيقه , فأسست أنظمة سياسية إجتماعية تقوم على فرضيتها هذه مستخدمة العنف والإضطهاد لإستمرار وجودها , لم يمنع سقوط مثل هده الأنظمة وإنهيارها. وعلى هذا ألأساس لا يمكن القول بأن إنهيار ألأنظمة التي كانت تدعي تبنيها للفكر ألإسلامي والذي تمثل سابقآ بالأمويين والعباسيين والعثمانيين , ولاحقآ بدولة الطالبان في أفغانستان والبشير- الترابي في السودان ، وربما غداً بالنظام التسلطي القمعي في إيران ، يُعتبر إنهيارآ للفكر ألإسلامي .
يندرج تحليل ما تقدم في فهم أصالة الفكروالتمييز بين الغث والسمين من إطروحة الفصل بين النظرية والتطبيق للفكر الذي يظل متأصلآ في المجتمع دون ألحاجة إلى نظام سياسي يحمي وجوده هذا، إذ أن محاكاة هذا الفكر لطموح الجماهير هي الضمانة ألأكيدة لإستمرار وجوده نظريآ وعمليآ . وهنا يتجلى عمق نظرية أرسطو طاليس في تمييزه بين وظيفتين للفكر، الوظيفة النظرية الساعية للحصول على المعرفة والوظيفة العملية الساعية لنشر ثمار هذه المعرفة بين الناس.
من القضايا المهمة الأخرى التي طالما يذكرها البعض حينما يجري الحديث عن فكر ألإشتراكية العلمية هي مسألة الموقف من الدين وإنطلاق هذا البعض من تفسير وتأويل بعض نصوص ألفكر ألإشتراكي وكأنها ترفض الدين وتعمل على إبعاد المجتمع عنه . لو إستطاع هذا البعض أن يغور في أعماق ألفكر العربي ألإسلامي , غير المرتبط بالحاكم المتسلط , لأطلع على السجالات العلمية الغزيرة المحتوى التي دونها بعض مفكري العرب والإسلام حول العلاقة بين النظرة إلى الحياة من الناحية الفلسفية والناحية أللاهوتية وكيف إستطاع هؤلاء ألأفذاذ من الربط بين ألإثنين ومن مواقع وزوايا مختلفة . لا يسعنا المجال هنا للدخول في تفاصيل هذا ألأمر, إلا أن إمكانية ألإطلاع على مثل هذه ألآراء لم يعد صعبآ اليوم , إذ أن بعض مخطوطات الفارابي وإبن سينا والغزالي وإبن رشد وغيرهم متوفرة ويمكن ألإطلاع عليها وإرتشاف عبيقها . ولغرض إعطاء صورة مصغرة عن العلاقة بين الفلسفة والدين وما نريد إستنتاجه من كل هذا نعرج على رأي الفارابي الذي إعتبر ألمِلّة ( ما نطلق عليه اليوم الدين ) بأنها بنت الفلسفة , ورأي إبن رشد الذي يقول بأن الشريعة أخت الحكمة ( ما نطلق عليه اليوم ألفلسفة ).
إنطلاقآ من هذه العلاقة بين الفلسفة والدين نستطيع الربط هنا أيضآ بين الفكر الفلسفي للإشتراكية العلمية وعلاقة ذلك بالدين. إن أشهر الإطروحات التي يجري التطرق إليها في هذا المجال بإعتبارها من إطروحات ألإشتراكية العلمية هي المقولة المنسوبة إلى كارل ماركس 1818 – 1883 بأن " الدين أفيون الشعوب " . قبل البدء بمناقشة هذه ألأطروحة وصحة ترجمتها إلى اللغة ألعربية من مصدرها ألأصلي باللغة ألألمانية , يجب التأكيد هنا على نقطتين أساسيتين تساعداننا على ولوج تفاصيل هذا الموضوع :
أولاهما مسألة تعريف الدين وكيف كان فلاسفة منتصف ا لقرن التاسع عشر, في ألمانيا خاصة , ينظرون إلى الدين كعامل إجتماعي .والفرق بين الدين والمؤسسة الدينية التي جعلت من نفسها الممثلة الوحيدة للدين.
وثانيهما أن كارل ماركس لم يُنظرإليه من خلال دارسي حياته وفلسفته على أنه رجل سياسة , إن كافة الدراسات التي جرت حوله تناولته كفيلسوف بالدرجة ألأولى . ومن هنا يجري التنبيه إلى عدم الخلط بين هذين المجالين في حالة تبني القوى وألأحزاب السياسية لفلسفة معينة ضمن نشاطها السياسي .
ففيما يتعلق بالنقطة ألأولى يجب هنا ألتأكيد على مناقشة دور الدين المسيحي في تلك الفترة العاصفة من تاريخ أوربا وألمانيا بالذات في منتصف القرن التاسع عشر, تلك الفترة التي إتسمت بالثورات الشعبية والإنتفاضات الجماهيرية التي كانت ثورة 1848 أعنفها وأشدها تأثيرآ على الفكر الفلسفي في ألمانيا خاصة .
وينبغي التطرق هنا بإختصار إلى أولئك الذين بدأوا الصراع مع الكنيسة والذي قاده كل من دافيد فريدريك شتراوس 1808- 1874 و لودفيج فويرباخ 1808- 1872 . لقد تعرض هذان الفيلسوفان إلى نفس المصير في علاقتهما مع الكنيسة, بإعتبارها المؤسسة الدينية الرسمية , إذ حرمتهما هذه المؤسسة من ممارسة عملهما ألأكاديمي وذلك بسبب موقفهما النقدي منها وعدم خضوعهما لأطروحاتها المؤسساتية التي إعتبراها بعيدة عن ألأصول ألإنسانية للفكر المسيحي . وهناك أمثلة حية في عالم اليوم تشير إلى نفس هذا السلوك المؤسساتي بإسم الدين , كالموقف الذي إتخذته الكنيسة الكاثوليكية من العالم أللاهوتي ألأكاديمي Hans Küng ألذي منعته من عمله ألأكاديمي في جامعة Tübingen بألمانيا في الثلث ألأخير من القرن الماضي , وذلك بسبب إنتقاده لبعض تصرفات المؤسسة الكنسية الكاثوليكية التي إعتبرها لا تنطلق من جوهر الفكر المسيحي . وهناك آخرون غيره في ألمانيا وخارجها ممن تعرضوا لهذه الإجراءات الكنسية . كما تعرض إلى نفس المصيرفي أوائل التسعينات من القرن الماضي أيضآ العالم المصري نصر حامد أبو زيد الذي حرمته المؤسسة الدينية ألأزهرية من ممارسة عمله ألأكاديمي في الجامعات المصرية , بل وأصدرت قرارآ قضائيآ بطلاقه ألإجباري من زوجته التي فرّت معه بعدئذ إلى هولندا , وذلك بسبب إنتقاده لذوي العمائم الحكومية في مصر .
فإذا علمنا بإن كل من شتراوس وفويرباخ كانا ينطلقان في فلسفتهما من الفكر الفلسفي للفيلسوف ألألماني هيجل 1770- 1831 الذي شكل ألأساس النظري , خاصة في جانبه الجدلي , للفلسفة الماركسية بعدئذ , لعلمنا مدى مساهمة هذين الفيلسوفين أيضآ في بعض أطروحات الفلسفة ألماركسية . وبالرغم من تعلق شتراوس حتى النهاية بالفلسفة الهيجلية فقد إنسلخ فويرباخ بعدئذ عنها, حيث تبنى جانب المعارضة اليسارية لها . يتبين لتا مما تقدم أن طابع الصراع الأساسي هنا لم يكن مع الفكر الديني , بل مع المؤسسة الدينية التي إعتبرت نفسها الممثلة الوحيدة لهذا الفكر , وصورت كل خلاف معها على أنه خلاف مع التعاليم الدينية نفسها . لذلك ينبغي أن لا نعجب اليوم من تكرار هذه الظاهرة على المستوى العالمي وبالنسبة لجميع ألأديان , والأمثلة الحية على ذلك كثيرة جدآ .
أما ما يتعلق بالنقطة الثانية فقد عمل ماركس على تبني الفلسفة الهيجلية ولكن بعد أن أوقفها على قدميها بعد أن كانت واقفة على رأسها , كما يشير إلى ذلك مؤرخو الفكر الفلسفي . وإنطلاقآ من الطريقة الجدلية الهيجلية والمنهج الماركسي المادي في البحث الفلسفي حلل كارل ماركس كثيرآ من الظواهر الإجتماعية التي عايشها ومنها موقف المؤسسة الدينية من أطروحات الثورات الجماهيرية في منتصف القرن التاسع عشر وخاصة ثورة 1848. لقد وقفت الكنيسة آنذاك وبشكل صريح إلى جانب طبقات النبلاء والأمراء والملوك الذي سبب إستغلالهم للجماهير الكادحة إشعال نيران الإنتفاضات الجماهيرية التي حاربتها الكنيسة حينما وقفت إلى جانب الطبقات ألمستغِلة ( بكسر الغين ) , إذ دعت إلى وجوب طاعة المتنفذين من ذوي ألأمر. وهنا نجد أيضآ ما يُشبه ذلك في التاريخ ألإسلامي حينما دعا بعض الفقهاء بالأمس كإبن تيمية وبعض فقهاء العصر الحديث كعبد العزيز بن باز وخلفاؤه من بعده إلى وجوب طاعة ذوي الشوكة إمتثالآ لقوله تعالى : وأطيعوا ألله والرسول وأولي ألأمر منكم , مفسرين هذا النص القرآني على أنه يوجب الإنصياع للحاكم المسلم حتى وإن كان ظالمآ , وهذا ما عارضه ألإمام النعمان أبو حنيفة في دعوته بوجوب الثورة على الحاكم الظالم مهما كان دينه .

لقد تبنت الكنيسة في ألمانيا آنذاك نظرية إلإندماج بين العرش والضريح الكنسي ( الهيكل الكنسي )
Thron und Altar وذلك يعني أن العرش يتمتع بخصائص مقدسة لا يجوز المساس بها وهذا ما يخول الملك الحاكم بالتصرف بالبلاد والعباد كما يحلو له . وعلى هذا ألأساس حددت الكنيسة موقفها من الحركات الثورية بوقوفها إلى جانب العروش ودعوتها لقمع الثورات بتوظيفها للطروحات الدينية في هذا الصراع . لقد أدى هذا الموقف الكنسي آنذاك إلى شعور الفلاسفة المؤيدين للثورة بضرورة مواجهة هذا ألتصرف الكنسي الذي أرادت الكنيسة من خلاله إبتكار فلسفة دينية لمحاربة التحرر,وتبلورت الحاجة إلى الرد على مثل هذه ألأطروحات , ولم يكن كارل ماركس إلا واحدآ من هؤلاء الناقدين للموقف الكنسي حينما قال أن " الكنيسة تستعمل الدين بوعي كافيون للشعب " . وعند التمعن في هذا النص بلغته ألأصلية ( ألألمانية ) نستخلص ما يلي :( يمكن مراجعة النص ألأصلي باللغة ألأصلية لهذه المقولة " أللغة ألألمانية " في كثير من المصادر التي تتطرق إلى الفلسفة ألماركسية . مثلآ :

kleine Weltgeschichte der Philosophie
Von: Hans Joachim Störig
Fischer Verlag , 1999 , S. 707


1. أن الكلام هنا موجه إلى المؤسسة الدينية التي تستعمل الدين وبوعي منها وبتوجه ديني كعامل من العوامل التي تؤدي إلى إخماد الثورة بإبعاد الجماهير عنها من خلال منع الناس من المشاركة بها إستنادآ إلى أطروحات دينية .
2. إن المؤسسة الدينية المعنية هنا بالذات هي الكنيسة المسيحية في أوربا عمومآ وفي ألمانيا خاصة في فترة الإنتفاضات الثورية في منتصف القرن التاسع عشر .
3. إن كلمة " الشعب " هنا جاءت بصيغة المفرد وليس الجمع " ألشعوب " , كما يجري ترديد هذه المقولة أحيانآ لترسيخ مبدأ التعميم . ومن خلال هذا النص نستطيع أن نلاحظ أن الشعب المقصود بذلك هو الشعب الألماني الذي حاولت الكنيسة شل حركته لمنعه من إستمرار الثورة على العروش الحاكمة آنذاك .

من الطبيعي جدآ أن يتبنى أي فيلسوف موقفآ خاصآ به بالنسبة لفهمه للدين من جهة وللمؤسسة الدينية التي لا تعبر عن جوهر الدين دومآ من الجهة ألأخرى . وتاريخنا العربي ألإسلامي مليئ أيضآ بمثل هذه ألأمثلة التي شكل إبن رشد , حينما أفتت المؤسسة الدينية بحرق كتبه بإعتباره زنديقآ إستنادآ إلى مقولة " من تمنطق فقد تزندق " , والحلاج الذي قطعت أوصاله المؤسسة الدينية أيضآ بإعتباره كافرآ, نماذج لا يمكن تجاوزها حين التطرق إلى الصراع الذي كان ناشبآ بين الفلسفة والدين سواءً في تاريخنا العربي ألإسلامي أو في تاريخ وحضارات الأمم والشعوب ألأخرى .

كما أن الموقف من الدين , أي دين وكدين أساسآ , أي بما يشير إلى ألأيمان بتعاليمه وأطروحاته أوعدمه لا علاقة له بتبني فلسفة معينة قدر علاقته بالقناعة الشخصية للفرد التي قد تشكل الفلسفة الحياتية التي يتبناها هذا الفرد جانبآ من جوانب هذه القناعة . أي أننا لا يمكن أن نقول أن كل من يتبنى ألإشتراكية العلمية كمنهج لحياته لا يؤمن بالدين أساسآ كفلسفة أخرى للحياة , كذلك لا يمكن القول أن كل من يؤمن بالفلسفة ألرأسمالية مثلآ هو إنسان متدين أصلآ . أن المجتمعات الرأسمالية مليئة اليوم بالكثير جدآ من المقتنعين قناعة تامة بالأنظمة الرأسمالية والفلسفة القائمة عليها في الحياة والذين قطعوا علاقتهم بالدين أصلآ ولإسباب عدة , بحيث أصبحت ظاهرة الملحدين في المجتمعات الرأسمالية ظاهرة طبيعية لها منظماتها التي ترعاها وتحافظ عليها قوانين الدولة ألرأسمالية ذاتها .

الدكتور صادق إطيمش



#صادق_إطيمش (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- صورة الإسلام في ألمانيا
- البلاء في فتاوى الفقهاء
- يهود العراق الجُدد
- عشرة أسئلة حول ندوة نادي الرافدين في برلين
- أما آن الأوان لتجارالمحاصصات أن يعلنوا إفلاسهم....؟
- دعوات غير مسؤولة لإخلاء العراق من مواطنيه ألأصليين
- وماذا بعد السبع العجاف.....؟
- صحافة السجون.....مرة أخرى
- باب التجيك منه الريح.....سده واستريح
- الشباب والإرهاب
- دور المثقف العراقي في مواجهة الطائفية
- مهرجان نادي الرافدين الثقافي في برلين
- اهازيج الشارع العراقي اليوم
- يا اهل العراق....هل انتم مؤمنون حقاً...؟ فالمؤمن لا يُلدغ من ...
- دروس تموز
- مدينة الثورة ....الإنجاز المسروق
- القضية الكوردية وإشكالات المسيرة 2/2
- القضية الكوردية وإشكالات المسيرة 1/2
- أصحوة أم كبوة....؟
- كتاب جدير بالدراسة والتأمل.....3/3


المزيد.....




- بتدوينة عن حال العالم العربي.. رغد صدام حسين: رؤية والدي سبق ...
- وزير الخارجية السعودي: الجهود الدولية لوقف إطلاق النار في غز ...
- صواريخ صدام ومسيرات إيران: ما الفرق بين هجمات 1991 و2024 ضد ...
- وزير الطاقة الإسرائيلي من دبي: أثبتت أحداث الأسابيع الماضية ...
- -بعضها مخيف للغاية-.. مسؤول أمريكي: أي تطور جديد بين إسرائيل ...
- السفارة الروسية في باريس: لم نتلق دعوة لحضور الاحتفال بذكرى ...
- أردوغان يحمل نتنياهو المسؤولية عن تصعيد التوتر في الشرق الأو ...
- سلطنة عمان.. مشاهد تحبس الأنفاس لإنقاذ عالقين وسط السيول وار ...
- -سي إن إن-: الولايات المتحدة قد تختلف مع إسرائيل إذا قررت ال ...
- مجلة -نيوزويك- تكشف عن مصير المحتمل لـ-عاصمة أوكرانيا الثاني ...


المزيد.....

- ثورة أكتوبر .. منجزات مذهلة تتحدى النسيان / حميد الحلاوي
- بمناسبة مرور(91) عاما على ثورة اكتوبر ((الاشتراكية)) الروسية / حميد الحريزي
- الرفيق غورباتشوف / ميسون البياتي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - ملف ذكرى ثورة أكتوبر الاشتراكية... الانهيار وأفاق الاشتراكية في عالم اليوم - صادق إطيمش - إنهيار التجربة وصعود النظرية