تحسين كرمياني
الحوار المتمدن-العدد: 2424 - 2008 / 10 / 4 - 07:56
المحور:
الادب والفن
[سواء كانت الرياح عاصفة أو لطيفة/وقفت دوماً/يحدوها الأمل/هناك فقط/يستقر بصرها/لا يبدو ثمة سحر في مكان آخر..]..(توماس هاردي).
***
بدا الزقاق هادئاً يلفّه صمت نادر،لحظة أطلّت برأسها من شرفة المنزل،لم تكن هناك حركة ناس كما كانت ترى في وقفاتها السابقة،ركّزت ـ رغم وهج الشمس ـ عينيها عند نهاية الزقاق من جهة شمالها،من هناك كل أصيل يطل زوجها قادماً من عمله..!!
***
منزل فخم،صارت مالكته،كل شيء فيه يماشي رغباتها،حديقة واسعة ومكان يهيمن على مساحة شاسعة من الرؤية،اكتشفت نفسها كل أصيل تقف في الشرفة،تطل وتمنح روحها باقة سرور كلما يقبل الأصيل،تسعدها رؤية البشر،يتدحرجون أمام عينيها باتجاه سوق المدينة،كانت تعرف ميقات شروق ضوءه،متهادياً يشق صمت الزقاق بخطوات واثقة،مسترخية تستمتع بمشيته،ناحتة عينيها في كائن وديع هي مالكته الشرعية،وقبل أن يصل إلى باب الحديقة،يتوقف برهة،يستدير ليجابهها،يبسط كفه اليمين،يطبع قبلة على راحته،قبلة سريعة وشفافة ولا نهائية،ملوّحاً باسماً يلقي قبلته كأنه يحرر طيراً،تلك هي تحيته المعهودة كل أصيل لحظة أوبته من عمله،حالمة تفتح ذراعيها كي تتلقف قبلته لتحتضنها قبل أن تهبط راكضة درجات السلّم لتستقبله عناقاً وتقبيلا عند عتبة الباب،ثمة سيارات قليلة تمرق وعابرون بالكاد يتقاطعون خلاف الأيام الماضية،شيء ما تحرك فيها،شيء غير وارد،فجأة اندفعت هابطة درجات السلّم على غير مألوف عادتها،شيء ما استفاق وحسم قرارها وعند الدرجة الأخيرة للسلّم باغتها عصفور الساعة،لمحته يندفع من بيته الخشبي الصغير ليملئ فناء المنزل بصداحات لم تكن طبيعية..سمعتها حشرجات..تمتمت:
ـ حان موعد وصوله.
اتجهت إلى غرفة الاستقبال،سحبت طاولة الطعام إلى أسفل المروحة المشنوقة من وسط سقف الفناء،رصّت باقات الزهور الملوّنة،وضعت كعكة تزينها(شكولاته)،مترنمة سوّرتها بأصابع البرافين..
***
رغبة عمرها عام،استفاقت وساقتها،رغبة أشرقت مثل الشمس في بلاد(الإسكيمو)، لحظة تذكرت آخر احتفال بينهما،حدث ذلك قبل عام تحديداً،ففي مثل هذا اليوم،قبل سنة،كانت مسرورة تنطلق إلى المنزل استجابة لمكالمته الهاتفية..
لحظتها قالت لها أمها :
ـ هل حصل شيء.
ـ لم يفصح.
ـ لماذا يريدك إذاً.
ـ قال..يوم غد أريدك هنا.
في الصباح متلهفة،ضامئة،انطلقت كما لو أنها لم تره منذ دهور،لم تكن المسافة الفاصلة بينهما تتجاوز ساعات أربع،ما بين مدينة(خانقين)ومدينة(السليمانية)فيها تحتدم عواطف تتداخل معها توجسات مجهولة،شغلت نفسها بأمور كثيرة،رغبت أن تدنو من ضفاف نداءه،تاهت في براري متشعبة،لم تصل إلى مشارف التغير المفاجئ الذي باغتها رغم أنها لم تقض سوى ليلتين مذ وصلت إلى بيت أمها لقضاء أجازتها الشهرية،في الساعة السابعة صباحاً حزمت أمرها وغادرت بيت أمها،وعند الساعة الواحدة ظهراً كانت واقفة تضغط بسبابتها على جرس باب الفناء،بعدما وقفت وألقت نظرة على مكانها الأثير،وجدته غارقاً في صمت العاصفة،فتحت باب الحديقة،وازنت خطواتها وهيمنت على دقات قلبها،ليس من يستجيب لنقرات أناملها،فتحت حقيبتها واستعانت بمفتاحها الخاص،وجدت نفسها أمام مشهد لمّا يزل يمتثل بكل طقوسه،مشهد يمنحها كلما تحل ضيفة عليه،شعاعاً من أمل لا ينتهي،يرتسم بحرارته وبهاءه،تتذكر جيداً كيف سقطت حقيبتها من يدها وكيف اندفعت إلى غرفة النوم،تجمدت أوصالها،وكاد قلبها أن يندفع خارج صدرها،مستلقياً يستمتع بقيلولة الظهيرة،لم تتمالك نفسها،لم يطرأ بذهنها سبب تواجده في هذه الساعة بالضبط،في الساعة الواحدة دائماً يكون في عمله،انتشت،شيء ودود نفخ روحها،سارت على أصابع قدميها،صارت تشم أنفاسه،كظمت هيجان جوارحها،صارخة ألقت بنفسها عليه،نهض وحصل الذي حصل..
***
الآن هي تندفع تدفعها رغبة عارمة كأنّها فراشة تتنقل من زهرة لزهرة،تترنم بكلمات أغنية،بالكاد تخرج مخارجها،كانت مستأنسة بالغنّة والموسيقى،ولحظة تأكدت أنها انتهت من ترتيبات المنزل، ألقت نظرة إلى ساعة الفناء،سحبت عود ثقاب وأذكت النار في الرؤوس الخيطية المتمايلة،تقدمت من باب الفناء،سحبت المغلاق،فهو لم يفعل ما فعلته،كان الباب مغلقاً،استخدمت نسختها ودخلت عليه،أرادت أن لا تكلّفه مزيداً من الوقت،قد يكون أضاع نسخته وربما نساه في دائرته،اتجهت إلى غرفة النوم،وقفت أمام مرآة الزينة وفحصت نفسها بتمحيص،تأكدت من ترتيب شعرها واللمسات الخفيفة للمساحيق على وجهها،تعرف جيداً ذوقه،فهو ذو مزاج واقعي،يريدها كما هي بلا مساحيق تشويهية،وحين اقتنعت بأنها جاهزة،بكامل أنوثتها،تراجعت وهي تراقب نفسها من خلال مرآة(خزنة الملابس)قبل أن تستلقي على الفراش،كما كان هو قبل عام،أفردت يديها كأنها في لحظة تحليق،شعرت بتنميل لذيذ بدأ يتصاعد ويغزو عروقها،حاولت أن تنسف هذا الإيقاع المتنامي وأن تتخلص من الوثاق اللامرئي الذي راح يكبح جماح يقظتها وفوران دمها،أردية تمتد من حولها وتشدّها،نزتا عيناها واستحال الدمع إلى وشاح متكاثف راح يضبب الموجودات من حولها،مثل هذا الإحساس زارها قبل عام،يوم طارت إليه رغم علامات الدهشة ليفاجئها بما أجرى من احتفال سنوي كانت قد نسته،في ذلك اليوم وجدت الحل الملائم لتبديد قلقها،كان هو رغم قيلولته في انتظارها،أمّا الآن ليس ثمة حلول،وحدها تخوض غمار معركة شرسة،أرادت أن تنهض،أن تعمل شيئاً،ثمة موج يندفع بأقصى سرعته،موج عارم بلا رحمة، أكتسحها ولفّها وأخذها بين طيّاته،وجدت نفسها ببياض ترفل،منزرعة في حقل يانع بالخضرة، تحت سماء صافية يداعبها نسيم منعش،هبطت مركبة سماوية،فتيات حسان هبطن وتقدمن منها، قدنها وأجلسنها على مقعد وثير،حلّقت المركبة وتصاعدت نغمات موسيقية لتكتسح المسافات الضوئية المترامية،حقول زجاجية شفافة،كأنها ثلوج متراكمة،غابات تبرق متوهجة،بيوت بلون الحليب متناسقة،شوارع نظيفة مفروشة بطنافس ملوّنة،تمتد على أرصفتها أعمدة رخامية تشع من رؤوسها نيونات ضوئية تكثّف من قدسية المشاهد،انتبهت للوجوه،كانت بريئة طفولية وعلى ساحل بحر حليبي هبطت المركبة وترجلت لتجد مقعداً من ياقوت أحمر،ما أن جلست،صدح بوق فهاج البحر واندفعت أفواج من عرائس البحر لتشكّل أمامها صفوف متناسقة،ارتفعت مناديل وراحت ترفرف لتنعش المكان بلسعات من نسائم رطبة،انتبهت لضوءٍ يتقدم وقف إزاءها ونشر حزمة أشعة استحالت إلى كتاب،هدر صوت منغوم تردد صداه كأنها أجراس تتداخل :
ـ سلام على(نازنين)..أدخليها بريئة..
صدحت الثغور دفعة واحدة وتهادت أمواج الموسيقى واندفعت أسراب ملوّنة من طيور بييض وخضر وحمر وصفر وزرق لتغطي الرؤوس بوشاح(قوس قزحي)،انسحب الهيكل الضوئي فاسحاً المكان لضوء أخر يتقدم،ضوء ودود له مكان مقدّس في ذاكرتها،تقدم ووقف أزاءها،مد شعاعين،ومدت هي يديها وأخذت قبس استحال إلى باقة(نرجس )واستحال الهيكل الضوئي إلى زوجها..
ـ لم تأخرت يا(شيركو).
ـ كنت أبحث عن هديتك يا(نازي ).
ـ أو كنت تدري.
ـ وهل ينسى الإنسان يوم فرحه.
ـ أردت أن أفاجئك هذه المرة.
أحنى قامته وتراجع ليتوارى بين الجموع الحاشدة،قامت واندفعت في أثره،تنامى هرج وسرى، زعق بوق،وساد ذعر،رأت نفسها تائهة في صحراء تدحرجها ريح عاصفة تحت دفقات رمال تلوب،عطش غزا لسانها،صليل أجراس يمزق صدغيها،حاولت أن تتشبث بشيء لكن هوة كبيرة فاجأتها وابتلعتها..
***
انتزعت نفسها،هلعة تجلس،تمسك رأسها بيديها،وقبل أن تفعل شيئاً تحركت ستائر النافذة حركة أفعوانية مباغتة واندفعت ريح خانقة لتوزع نثار الزجاج المتشظي إلى أرجاء الغرفة،قامت وهرولت خارجة وجدت باب الفناء مخلوعاً،عند العتبة تحجرت كنصب حجري،سماء ملغومة،أشباح تتوامض وطائرات حربية تسبح في البساط الداخن اللامتناهي،قصف يتلاحق،ولولات نساء وأطفال يزعقون ويهرولون بلا وجهة،دخان ونيران تلتهم مساحات الرؤية،في تلك اللحظة أنتبه رهط من أبناء الزقاق وهم يغادرون منازلهم،وجدوا(شيركو)يتعثر،يقوم ويسقط اندفعوا إليه،لفظ أنفاسه قبل أن يتمكنوا من إسعافه،سادهم ذعر لحظة جذبهم منظر(نازنين)كانت تطل كملاك،ما الذي يجري..؟؟دار بذهنهم سؤال واحد،كانت ترفل بأسمال ملائكية كأنها نصب يحرس عتبة قلعة ،مرتعشة امتدت الأيدي لترفع الجسد الساجي،وجدوه يحتضن باقة نرجس،حملوه،مرتبكة خطت الأقدام كأنها أسيرة إيقاع جنائزي،كانت الطائرات لا ترحم،تحرث المنازل وتعجن البشر،وضعوا الجسد المضرّج بالدم أمامها،تجرأت أيدي بعض النساء،أن تمتد إليها،واجمة كانت،تحدق بصمت وذهول وتحدي،حين مسّها أوّل كف،انطلقت صرختها وانسابت لتسقط عليه..!!
***
#تحسين_كرمياني (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟