(إنه وادي العيون ...فجأة وسط الصحراء القاسية العنيدة ،تنبثق هذه البقعة الخضراء وكأنها انفجرت من باطن الأرض أو سقطت من السماء . / مدن الملح / التيه ) موهبة عبد الرحمن منيف تشبه معجزة "وادي العيون" الذي قدمه للقارئ بهذه الكلمات المتألقة ،القليلة ، المنتقاة والمكتفية بذاتها كقطع الماس . إنها تشبه تلك المعجزة الصحراوية الفردوسية لجهة إنها جاءت بهذا الزخم والثراء والرهافة الجمالية من كيان هو الأفقر ثقافيا وحضاريا وسياسيا في عصرنا الحاضر وهو الأكثر استلابا وتهميشا وفسادا وتبعية وتخلفا روحيا على الرغم من أنه الكيان الأوسع جغرافيا والأغنى بثروته النفطية والأبرز والأندر في رمزيته الروحية لكونه يضم المدنيتين الأكثر قداسة في العالم الإسلامي مكة والمدينة . وكما انفجر "وادي العيون " من باطن الأرض أو سقط من السماء كرقعة قدت من الفردوس دارت واشتغلت موهبة منيف دوراتها الأبرع والأروع تاركة خلفا تراثا سرديا هو واحد من بين الكنوز السردية الأنضج والأجمل والأكثر امتلاء بالمعنى والأمل في الآداب العربية والعالمية القديمة والمعاصرة .
ربما تُفَسِّرُ هذه الفجاءةُ الظاهرية في المسار القدري لهذا المبدع هشاشة أو عدم جدية علاقته الانتمائية الرسمية أو الوثائقية مع الدولة "المحمية الغربية " التي يُنسَب إليها نسبا "أبويا" ليس له مطرح رحب في كل ما كتبه منيف ، بل إنك لتعدم أن تجد اسم تلك "الدولة" في آلاف الصفحات التي خطها يراعه دع عنك أنه قام بعملية استبدال حرفية ودلالية شاملة لأسماء العلم الخاصة بتاريخية الجغرافيا الروائية التي تحركت فيها أعماله .
نَصف علاقة منيف بعدم الجدية والهشاشة المقصودة من قبله ، ولكننا نؤكد عمق انتمائه لوطنه الذي حرم منه بقوة العسف البوليسي للطغمة البدوية السلفية الفاسدة والمدعومة من العدو التاريخي للأمة . تلك الطغمة التي أرسلت قبل قليل نطاسيها السمان ومتحذلقيها المشتغلين بالقطعة ليفعلوا بمنيف ما فعلة "وحشي" بجسد الشهيد حمزة فهاهم يرطنون بأغاني الحنان وهاهي مشاعر الأسف لكونه مات خارج " وطنه " تهطل من حكامهم على الراحل الذي طاردوه طوال عمره كما يطارد الأرنب البرى أو الحصان الجامح في فيافي وبوادي نجد . الأمكر من هذا وذاك ،والأكثر إشعارا بنقمة هؤلاء الظلمة الصغار على المبدع الفذ الذي عاقبهم بإبداعه ، لقد تذكروه " مواطنا " ، فقط حين استحال جثة ! فهل حقا أنهم صرحوا بأنهم سيرسلون طائرة خاصة لنقل جثمانه إلى "أرض الوطن " ؟ أحقا إنهم سيعيدون له ولأطفاله الجنسية السعودية ؟ و ما عسى منيف سيفعل " بجنسيتهم وبجنسهم كله " بعد أن نال مجد المبدعين وشرع يؤدي عمله الجديد كشهاب متألق في سماء الأدب العربي ؟ هل يعتقد هؤلاء الناس الساعون لاغتيال رجل ميت أنهم يمكن أن ينجحوا في إزالة البصقة الكبيرة التي تركها على جبين زمانهم ومجدهم المنخور بالديدان ؟
ولكن أليس ثمة من تناقض بين القول بعدم جدية العلاقة الانتمائية الرسمية والانتماء الإنساني العميق للوطن بوصفه الإنسان وليس الحجر والشجر والأبراج المعدنية التي نشرها المهندسون الغربيون في كل مكان عند منيف ؟ لا يمكن أن يقول بتناقض هذين الرأيين غير الجاهل أو المتجاهل لطبيعة الإشكالية التي تنطوي عليها العلاقة بين منيف والمبدعين العرب الذي يشبهونه من جهة وبين الدولة القطرية التابعة بغض النظر عن اسمها من جهة أخرى.
معروف أن عبد الرحمن ولد في الأردن لأب نجدي وأم عراقية لتكون شريكة حياته فيما بعد من سورية . هذه الهشاشة أو عدم الجدية لا تعني رفضا مقصودا لنمط العلاقة المواطنية التقليدية بقدر ما تعني تحول هذا النمط إلى شكل آخر من العلاقة هو نمط العطاء الإبداعي المسرف في تصعيده الوجودي ، فهل كانت الجزيرة العربية جديرة بخماسية "مدن الملح " المذهلة ؟ نعم ! وهل كانت تلك "المملكة " جديرة بالمواطن العربي الغريب عبد الرحمن منيف ؟ الإجابة معروفة سلفا !
وكما كانت "الجزيرة العربية" شعبا وأرضا وتاريخا قصة حب منيف الأولى كانت "أرض السواد" قصة حبه الأكثر وهجا ولوعة وحرارة وألما قاده – هذا الألم - إلى الاشتعال الداخلي فالانطفاء النهائي جسديا قبل أن يطفئ الغزاة الأمريكان شمعة انتصارهم الأولى على أهل "أرض السواد" وإسقاط بغداد بثلاثة أشهر .
شخصيا، وحين أخلع معطف المفاجأة برحيل منيف ، إذ إنني عشت متوقعا عملا كبيرا لعبد الرحمن منيف بعد كل عمل ينتهي منه وهذا هو الدأب منذ أن قرأت له "شرق الأبيض المتوسط " قبل أكثر من ربع قرن عراقي ، أقول : حين أبتعد عن مفاجأة خبر الرحيل أرجع إلى نفسي أتساءل أليس معجزا أن يستمر هذا الرجل الغريب ،المطارد ،الشجاع والمحروم من الوطن على قيد الحياة والإبداع كل هذا العمر الطويل بذلك الجسد الذاوي والشبيه بجسد محتضَر نسيته المنايا ؟
الأعمال السردية الخالدة التي صنعتها عبقرية منيف النادرة تكشف لنا عن أمرين مهمين يسمحان لنا بفهم خصوصية هذا المبدع . الأول هو أنه قدم حلا قريبا من الكمال ردم به الهوة التقليدية بين الكم والكيف في المنتَج الإبداعي . وللتدليل على صحة هذه الفرضية يمكن الاحتكام إلى ذلك الكم الكبير من المنتَج نفسه لنرى أنه لم يكن يكرر ذاته أو نمطه أو نوعه بل كان في كل عمل من أعماله وخصوصا عمليه الملحميين " مدن الملح " و " وأرض السواد " مختلفا وجديدا ومفاجئا ولكنه ظل محافظا على السوية الجمالية العالية ذاتها من حيث التقنيات السردية والمضامنين الجوهرية التي تستبطنها . الأمر الثاني هو أن الراحل قدم كل هذا المنتَج الإبداعي دون مساومات حدثيّة عارضة أو غير عارضة غير أن ذلك لم يكن مجانا فقد كان يموت يوميا ويكابد هزائم عالمه العربي ساعة بساعة ولكنه لم يتخل قط عن الأمل كما تقول لنا أعماق سردياته الجميلة .
لقد صار الصبر ترياقا في المراحل الأولى من عمر منيف الإبداعي ليتحول إلى "نوع من الحل" بعبارة الشاعر اليوناني الإسكندري كافافي في المراحل الأخيرة أو لنقل في النصف الثاني من تاريخ هزائم العرب المعاصرة .
ولكن أي نوع من الصبر ذاك الذي تحصن به الأمل عند عبد الرحمن منيف ؟ إنه بكل يقين ليس الصبر المنكفئ داخل قوقعة الانتظار السلبي . وهو ليس الصبر الخاوي من أي مغزى أو فعالية حقيقية تجاهد كالأسد الجريح رماح زمانها الرديء ولم يتكلس حاملها والمتسلح بها كشاخصٍ نفلٍ لا يقدم بوجوده الواقعي ولا يؤخر بل هو الصبر الفعال المتحرك والمنافح عزلته الفردية من جهة لكي لا يسقط في العدمية ،والمحافظ عليها كتعويذة سحرية من جهة أخرى ،ليديم بواسطتها شعلة إبداعه الأصيل حيث لا إبداع من الناحية الإجرائية بلا عزلة حقيقية هي أشبه بعزلة النجم البعيد توفر للفنان إمكانية جيدة للغوص العميق في مياه الأبدية والجمال وعطايا الزمن الآخر والمختلف عن الزمن العادي الذي شبهه ديكارت ذات يوم بالفضاء الذي يعرفه الفيزياوي .
كان الصبر الفعال المنتِج هو الدرب الطويل والهدف المنشود في آن واحد في حالة منيف ولكن فرادته - من ناحية أخرى - كانت فرادة بشرية ولهذا السبب بالضبط كان يقترب في أحايين كثيرة من تخوم الانشغالات قصيرة العمر للسياسي والناقد والمنظِّر الاجتماعي ..وحتى هنا كان يقارب تلك التخوم ولكن بمزاج وروحية الصابر الكبير والمبدع المتفرد . بهذا الفهم أو بهاتين العينين ، يمكننا مثلا أن نقرأ مقالاته المتأخرة التي كتبها بعد سقوط بغداد في جريدة " السفير " ،فعلى الرغم من انه راح ينبش في تاريخ العراق القديم والبعيد نسبيا بحثا عن المتشابهات والنظائر ليفتح لنفسه جبهة خاصة به يقاتل فيها من أجل العراق بعيدا عن طواطم وتشنجات السياسي العراقي المسطَح ، ولكنه لم يفقد إحساسه بالأمل رغم أن مياه الحزن صارت أكثر كثافة في نصوصه تلك . وكيف لا يخالط ماء الحزن الأسود حبر منيف وتلك المدينة التي سقطت بعد أن أُسقِطت داخليا تحمل اسم بغداد التي لم يقدم ولا نحسب أن أحدا حتى من أبنائها سيقدم في المستقبل عملا هائلا وبناء سرديا خالدا مثل " أرض السواد " . حين أُسقِطَت فسقطت بغداد كانت المنية قد أكملت أربعة أخماس طريقها نحو قلب منيف الذاوي ولكن المسلح بالأمل حيث الأمل هو الحل ..
وهكذا كان : قبل أن يحول الحول على سقوط بغداد كسب العدو جولة ولكن عبد الرحمن منيف كسب الحرب – حرب الأمل والمعنى - كلها !