فلتتان ، أو زلتا لسان خطيرتان أدلى بها موفق الربيعي عضو مجلس الحكم المعين من قبل الحاكم الأمريكي في العراق سمعناهما مباشرة على المحطات الفضائية دون وسيط أو عنعنة بسند متصل أو غير متصل وينبغي التوقف عندهما .
فبصرف النظر عن كون الربيعي مشهور بإدمانه الشديد على الإدلاء بالتصريحات على شاشات الفضائيات وحائز على الرقم القياسي في هذا المضمار حيث سجل له أحد الإعلاميين العراقيين أحد عشر تصريحا ولقاء مع وسائل الإعلام في يوم واحد خلال مؤتمر لندن الطائفي العنصري للمعارضة العراقية المتحالفة مع الأمريكان ، بصرف النظر عن ذلك فهو ولع شخصي وشأن ذاتي لا علاقة لنا به ، فإن من الإنصاف القول أن الفلتة الأولى كانت شهادة صادقة وعفوية لصالح نضال المقاومة العراقية من أحد أعداء هذه المقاومة المعروفين حيث نفى الربيعي أية علاقة لصدام بالمقاومة العراقية وشرح ساخرا - ومعه ملء الحق - أن شخصا معزولا ومنقطعا وليس لدية أية وسائل للاتصال مثل صدام الذي ألقي القبض عليه في قبره الضيق لا يمكن أن يكون له أية علاقة بالخارج وإن شخصا جبانا سلم نفسه مع انه كان مسلحا ليس من الممكن أن تكون له علاقة بأية مقاومة .
هذه الشهادة المهمة والتي نتفق معها تمام الاتفاق تفند أكاذيب الأمريكان وأصدقائهم في مجلس " بريمر " ذاته عن هوية وقيادة المقاومة ومحاولة ربطها بصدام لتخويف العراقيين وإبعادهم عن مهمة الدفاع عن كرامتهم وسيادة بلدهم الذي يريد الأمريكان ابتلاعه ،ولكن هذه الشهادة العفوية لن تمر كما نعتقد مرور الكرام فلا بد وان الأسطة "بريمر" سيعاقب الربيعي عليها عقوبة لن تقل عن " ملصة أذن " ، خصوصا وإنه - الربيعي - لا يتعكز على حزب سياسي خاص به كسائر " المناضلين " الذين لم يسمع أحد بأسمائهم قبل عاصفة الصحراء وثعلبها وعقربها ، وكل خرجيته السياسية هي المساهمة في البيان المشبوه وسيئ الصيت والمسيء للمسلمين العراقيين الشيعة والذي يحمل عنوانا يقول " بيان شيعة العراق " الذي شارك في إصداره قبل الغزو .
الفتلة الثانية الأخطر ،والسلبية هذه المرة ، جاءت أيضا على لسان الربيعي على إحدى الفضائيات ، وأكد فيها - و هو بالمناسبة طبيب ويملك عددا من العيادات الطبية الراقية والغالية الثمن في لندن ، ولا تسأل "من أين لك هذا ؟ " فتعتقل بتهمة الإلحاد – أكد الربيعي إذن (أن صدام حسين الذي رفض الاعتذار للشعب العراقي ووصفه بالغوغاء ،والذي واصل سخريته من هذا الشعب وشهداءه ، صدام هذا إنسان مريض نفسيا بل هو مريض في حالة خطرة وأن أبرع علماء النفس والأطباء النفسيين سيحتارون في حالته ... ) والواقع فالسامع العراقي يتفهم مقصد موفق الربيعي ألا وهو الإبداع في توجيه الشتائم للطاغية صدام ، و يمكن أن نتفق مع الربيعي على نوعية مجرم دموي مثل النموذج المقصود ، ولكن أن تصل السذاجة بسياسي عراقي إلى درجة تقديم شهادة طبية مجانية ينقذ بها رأس عدوه وعدو شعبه لا لسبب إلا لأنه أراد أن يتفاصح قليلا أمام القنوات الفضائية فهذا أمر - للأسف الشديد - لا تفسير له غير العته ولا علاقة له بالذكاء البشري قط ! ترى ماذا لو تقدم غدا عدد من محامي صدام ورجاله المدسوسين في كل فج في العراق وخارجه وطالبوا بإطلاق سراح موكلهم " المسكين " وعدم تقديمه للمحاكمة بل ووضعه في مستشفى للأمراض العصبية لأنه مريض بشهادة "العبقري" موفق الربيعي ؟
ماذا لو وافقت أمريكا تحت ضغط مشاكلها السياسية على هذا الطلب ؟
هل سيخرج علينا الربيعي عندها بشهادة طبية جديدة يقول فيها إن جورج بوش الصغير هو المريض نفسيا ؟
طبعا لن يجرؤ الربيعي على قول كلام كهذا إذ ليس بوسعه توجيه الشتيمة إلى ولي نعتمه ومن أوصله إلى مجلس الحكم بالإعدام .. عفوا ، مجلس الحكم بدون إعدام هذه المرة وهاكم التفاصيل الخاصة بالتسمية الجديدة : يبدو أن فلتة الربيعي الثانية لم تأت من فراغ ،بل أن وراء الأكمة ما وراءها ، وأن هناك نشاطا محموما من أجل إنقاذ الطاغية من حبل المشنقة من قبل دول كبرى أولها بريطانيا العجوز ،العدو التاريخي للشعب العراقي ، ليس رفضا لعقوبة الإعدام لسبب فلسفي أو أخلاقي يعتقد به كاتب هذه السطور اقتناعا عميقا مثلا بل ثمنا لصفقة جرت على الأرجح مع صدام جعلته يسلم نفسه بهذه السهولة والسلاسة إلى جنود الاحتلال فقد أبلغت وزارة الخارجية البريطانية اليوم الأحد السلطات العراقية أن بريطانيا تعارض عقوبة الإعدام في حال أرادت محاكمة صدام حسين. وجاء في الأخبار التي تناقلتها وسائل الإعلام اليوم الاثنين أن "بيل رامل " سكرتير الدولة للشؤون الخارجية أعلن في تصريح لهيئة الإذاعة البريطانية بي.بي.سي أن "مجلس الحكم العراقي أعلن صراحة في الفترة الأخيرة انهم (العراقيون) يريدون إنشاء محكمة خاصة بمساعدة دولية، ومن المهم أن يحل العراقيون بأنفسهم هذه المسألة".وأضاف " رامل " أن بريطانيا تحرص على التذكير في هذه الظروف بموقفها من عقوبة الإعدام. وقال "إن موقفنا من عقوبة الإعدام معروف منذ فترة طويلة: نحن نعارض عقوبة الإعدام". )
وبين الشهادة الطبية التي قدمها الطبيب موفق الربيعي مجانا ، ولأسباب لا علاقة لها بالفطنة والعبقرية وبداهة السياسي الحذر والمتبصر ، وبين تصريحات السكرتير البريطاني "بيل رامل " ثمة خيط رفيع من الدخان قد يصل من يتابعه إلى حقيقة ما يراد بالعراق والعراقيين . ولعل من أول واجبات المثقفين الشجعان هي تحذير الناس من أمثال هؤلاء السياسيين المريبين فالمثل السائر - في اليابان !!- يقول ( إن من يسرق تبرعات جمعت لإنقاذ مريض بالسرطان لا يمكن ائتمانه على مستقبل بلد يطفو على بحيرة من النفط ! )
وبالعودة إلى المؤتمر الصحفي الذي عقده عدد من أعضاء مجلس الحكم بعد الإعلان عن خبر اعتقال الطاغية نعلم أن عدنان الباججي صرح فيه بأنه يقترح أن يكون يوم الربع عشر من كانون الأول الذي ألقي فيه القبض على الطاغية عيدا وطنيا ، و يمكن لكل عراقي حر ومعاد للدكتاتورية والظلم أن يصفق لهذا الاقتراح بشرط أن يلغى قرار العار والشنار الذي أعلنه بحر العلوم سابقا والقاضي باعتبار يوم سقوط بغداد الأسود أي التاسع من نيسان هو الآخر عيدا وطنيا العيد . شخصيا ، سأصفق بسرعة ، وأضع يدي على قلبي إذ يبدو أن قضية الأعياد الوطنية ستتحول إلى صراع بالـ... بين الحزبين الرئيسيين في مجلس الحكم : حزب "رامسفيلد" بقيادة الجلبي من جهة وحزب "كولن باول " بقيادة الباججي من جهة أخرى وكاتب هذه السطور ليس من هذا الحزب ولا ذاك بل من صنف اللاحزبيات النقدية .
كما لوحظ في المؤتمر الصحفي الذي شارك فيه عدد من أعضاء مجلس الحكم وجود أحمد الجلبي مع أن " دورته الشهرية " في رئاسة المجلس قد انتهت قبل عدة أشهر ولكن يبدو أن حزب رامسفيلد أصبح يزج فيه أمام عدسات الكاميرات في كل مناسبة عسى أن يرتفع وزنه السياسي الذي لا يزيد على وزن الريشة ، ولكن الذي لا يخفى على كل عين هو أن الجلبي بدا حزينا ،متوترا ،شاحبا وقليل الكلام أثناء المؤتمر الصحافي بعكس ما يقتضيه الحال والمناسبة من سرور وهيصة وزغاريد ، ويبدو - والله أعلم بالسرائر – أن الرجل حزين على مبلغ الخمسة وعشرين مليون دولار التي وعدت إدارة بوش بتسليمها لمن يدلي بمعلومات تؤدي إلى اعتقال الطاغية وتلك الخمسة وعشرون مليون التي كما يبدو طار بها الكاكه جلال الطالباني بعد أن ساهمت مليشياه الخاصة في عملية "الفجر الأحمر " .
أما الحال التي ظهر بها الطاغية فكانت مهينة فعلا ، ولا بد أنها أسعدت نوعين من الناس لا يجوز الخلط بينهما : النوع الأول هم ضحاياه المظلومون الذين قمعهم وسفك دماءهم ودماء أحبتهم ونحن من هؤلاء، ونوع آخر لا يختلف عنه في الظلم والبربرية وسفك الدماء بل في الموقع الجيوسياسي والانتماء والهوية الشخصية من أمثال شارون وبوش .
لقد وصِفَ صدام بأنه بلطجي من قبل خصومه وأعدائه السياسيين كثيرا ، ومع أن الكلمة غير موجودة في اللهجة العراقية ولكنهم استوردوها من اللهجة المصرية . والحقيقة فلا يوجد عراقي واحد مطلع على سيرة صدام حسين ،وخصوصا في سنواته الأولى ، يمكنه رفض تلك الصفة ، فقد كان فعلا بلطجيا ، ولكنني شخصيا كنت أعتقد أن ممارسة السلطة و تعاطي السياسية لمدة تزيد عن الثلاثة عقود قد تحول البلطجي إلى دبلوماسي ، أو لنقل إنها قد تجعله " بلطجيا من النوع الدبلوماسي" ولكن الرد الذي رد به صدام على مَن زاروه في زنزانته من أصدقاء الاحتلال يؤكد خطأ اعتقادي ذاك ، فمَن شبَّ على شيء من البلطجة شاب عليه ! والدليل أنه حين سأله أحدهم لماذا : لماذا يا صدام قتلت الشهيد محمد باقر الصدر والشهيد محمد الصادق الصدر رد صدام عليهم ساخرا ومتسائلا :
- الصدر لو الرِجل ؟!
أي الصدر أم القدم ؟! ولا ندري إن كان صدام قد قال كلمة "الرجِل " فعلا أم أنه قال كلمة قبيحة أخرى ولكن الرواة حوروها وغيروها لأسباب دبلوماسية يجيدها ويعرفها المستر "بيل رامل" سكرتير الخارجية البريطانية والداعي لعدم إعدام الطاغية !