ثمة حقيقة من حقائق العمل السياسي لم تزل غائبة عند البحث من ضمن العديد من حقائق الحياة السياسية في العراق التي تم بحثها وتقليبها ، وهي حقيقة زمن موت الرئيس العراقي البائد سياسياً .
هناك من يقول أن الرئيس العراقي البائد مات يوم 9/نيسان حين دخلت القوات الأمريكية بغداد .
وهناك من يعتبر موته يوم القبض عليه في قرية الدور يوم 13/12 /2003 وأستسلامه للجنود الأمريكان بشكل مخزي ومهين وتنفيذه أوامرهم التي أضحكت عليه الدنيا بفحص فمه وشعره والألتزام بما أرادوه منه مع كونه كان يحمل مسدساً يشده على خاصرته وبندقية أوتوماتيكية كلاشنكوف مرمية في الحفرة الى جانب الدولارات .
وهناك من يقول أن الرئيس البائد مات يوم وطأت أول قدم لجيش أجنبي أرض العراق .
وهناك من يقول أن الرئيس العراقي البائد مات حين هرب من بغداد مختفياً في جحور لاتليق بالأنسان الذي يحترم نفسه وشعبه وقضيته وسلطة حكمه من أن يتخذها ملاذاً لسكنه وأختباءه من جنود الأحتلال وخشية من اهل العراق .
وهناك من يقول أن الرئيس العراقي البائد لم يزل ينتظر صدور قرار الموت السياسي العادل جراء ما أرتكبته يداه وعقله طيلة حقبة مريرة من حقب العراق السياسية .
وبين هذه الأحتمالات والتكهنات تقع حقيقة زمن الموت السياسي للطاغية العراقي .
وأذا أخذنا بعين الأعتبار أمتطاء الطاغية لظهر حزبه ( حزب البعث العربي الأشتراكي ) وتحويل قيادته القومية والقطرية وقاعدته الحقيقية الى مطايا لاتحل ولاتربط وليس لها القدرة على التصدي للخطأ او ممارسة النقد الذاتي أو ممارسة اساليب العمل السياسي مثل باقي الأحزاب والكتل السياسية ، والحقيقة ان كافة القيادات البعثية في العراق دون أستثناء ليس لهم معالم وأبعاد القيادات الحقيقية للأحزاب والتنظيمات السياسية ، وكذلك أمتهانة وأذلالة كوادر الحزب الحقيقية التي تمت تصفية العديد منها وتهميش الباقي الى العدم والأختفاء من دائرة الضوء والعمل على أحلال بدائل من الطفيليين والمصلحيين والنفعيين والطارئين في قيادته وربط مصيرهم وحياتهم بما يدره عليهم من هبات ومكارم وعطايا لم تكن حياتهم تستقيم وتستمر بدونها .
عمل الطاغية على أفراغ حزب البعث من محتواه وصيره مجوفاُ لاقيمة عملية له ولاعلاقة له بواقع الجماهير العراقية ولاأثر سياسي حقيقي له ، وأتخذه برقعاً يتبرقع به متى يشاء وكيفما يشاء ويحتاجه في مناسبات محددة ، وتحولت قياداته القومية الى عناصر منتفعة وتعيش على هامش رضا وقبول الدكتاتور العراقي وعلى هباته ومكرماته ، وفرض حكم وسيطرة العائلة على القيادة القطرية التي نخرها وهمش دورها وحول أعضائها الى دمى وتماثيل بلاستيكية ينفخهـــا و يحركها وفق مايشاء ويعمل بها مايشاء دون أن تكون لها القدرة على الأعتراض أو حتى الدفاع عن النفس ، كما فصل العلاقة الموجودة بين القاعدة وهذه القيادة ، فأصبحت القاعدة لاتعرف القيادة ولاعلاقة لها بها وليست معنية بما يحصل لها مهما كانت النتائج أو المتغيرات .
وفي الظاهر كان ثمة حزب يدعى حزب البعث يتم حكم العراق بأسمه أو تحت يافطته أو من وراء ستارته وهو حزب فرض نفسه بالقوة وبأساليب متعددة على العراقيين وتحول الى منظمة أمنية تابعة للسلطة ، ولم يجعل للعراقي أي خيار في عدم الأنتساب الى هذا الحزب الذي صار الحزب الواحد الذي يفترض انتساب العراقيين له دون ارادتهم ( كل مواطن هو بعثي وأن لم ينتسب للحزب ) ، بالرغم من كون الحزب لم يكن حقيقياً ولم يكن عقائدياً انما كان ستاراً وجداراً لتغطية حقيقة الحكم العائلي البغيض ، وعلى هذا الأساس أنتسب لحزب البعث المجوف الملايين من العراقيين أذعاناً وجلهم ممن لم يعملوا في الأحزاب والحركات السياسية سابقاً أو ممن عملوا في الأحزاب السياسية وتم تسقيطهم من حركاتهم واحزابهم ليجبروا على الأنخراط شكلياً في حزب السلطة بالرغم من كونه ستاراً مهلهلاً تتخذه السلطة الصدامية .
لاقيمة لأكبر كادر بعثي في العراق أمام عنصر من عناصر المخابرات او الأمن أو الأمن الخاص ، مثلما لاقيمة لأي قيادي بعثي في العراق مهما كانت منزلته وتضحياته أو درجته الحزبية أمام أتفه عنصر من عائلة الرئيس البائد وأقاربه .
وهكذا صارت حقيقة من حقائق الحياة السياسية في العراق وهي وجود حزب مجوف أشبه بالبالون المنفوخ الى أقصى درجة يستلم السلطة في العراق وتقام له هياكل كارتونية من القيادات القومية والقطرية والرأسية جميعها مجوفة ومنفوخة دون أن يكون هناك حقيقة حزب بهذا الأسم وفق معايير الفهم السياسي والأيديو لوجي للاحزاب ، فالجميع ضمن دائرة السلطة مخبرين وكتاب تقارير ومتبعين ضمن الأجهزة الأمنية ودوائر المخابرات التي ترتبط برأس السلطة .
لم تكن مهمة جميع قيادات وكوادر وأعضاء وأنصار الحزب سوى مراقبة الجماهير والتدقيق في أقوال وأفعال وحركات الناس وتقديم التقارير التي تتابع الحركة ضمن الحلقة الأمنية التي كانت تهم الطاغية والتي تخدم عملية أستمرار السلطة وتوفير الأمن والآمان للعائلة الحاكمة .
أذن زمن الموت السياسي لم يكن قد صار في التاسع من نيسان من هذا العام ولاعند دخول القوات المحتلة الى بغداد ولاعند القضاء على حزب البعث وتطويعه لتحويله الى مؤسسة أمنية تابعة الى سلطة قمعية مخابراتية اكبر منها ، ولافي يوم هروب الطاغية من بغداد هارباً من مواجهة القوات الأجنبية متخلياً عن ألتزاماته الأخلاقية كاشفاً عدم تمتعه بأية قيمة من قيم المجتمع العراقي المشهود له بالمواجهة والتحدي والرجولة والشجاعة ، وكذلك لم يكن في يوم القبض عليه مجحوراً في شق الأرض ملتصقاً بالتراب وبالشكل المزري الذي بدا عليه عند عرضه في التلفزيون مستسلماً بشكل ذليل أمام جنود الأحتلال .
أن الموت السياسي بدأ في داخل روح صدام حينما ماتت رجولته عند أستخدامه للسلطة والقوة والعنفوان والجدران الأمنية والحراسات عند مقتل أول بريء .
أن الموت السياسي لدى صدام حسين بدأ حين نخر جسد حزب كان ينتمي اليه وآمن بأفكاره ومبادئه فحوله الى دائرة من دوائر الأمن وقتل قياداته الحقيقية وأحل محلها شراذم لاعلاقة لها بالمباديء أو القيم أو الخلق الوطني ، أن الموت السياسي لدى صدام بدأ يوم أن صير نفسه واحداً أوحد وحين سيطرت نوازع السيطرة الكلية على نفسه من قدرته على السيطرة على كل شيء وأنه الأقوى وأنه الأغلى وانه القادر على العطاء وأنه بأستطاعته أن يوهب كل شيء .
أن الموت السياسي في عقل صدام بدأ يتضح ويأخذ ابعاد حقيقية يتجسد في نوازعه المريضة وأبتعاده عن الناس والأخلاص الى عائلته بالرغم من معرفته بتفاهة هذه العائلة وعدميتها وعدم تمكنها من مساندته بالرغم من القدرة والمال والزمن الطويل الذي أبقي العراق تحت سلطته البشعة وحكمة الجبار .
أن الموت السياسي بدأ يأكل في روح صدام حين سيطرت عليه السلطة وتلبست في عقله وأصبح لاهاجس لديه ولاهم ولامشكلة سوى كيفية المحافظة على السلطة وأستمرار السلطة والتمتع بالسلطة فحجبت عنه العقل والحكمة وكممت عنه الحقيقة التي ماعرفها مطلقاً في أي قرار من قراراته ولافي خطواته التي ابتعدت عن الحق والمنطق الأنساني فصيرته شبحاً يلهث خلف السلطة .
أن الموت السياسي بدأ في جسد صدام في الحفرة الكبيرة التي أوقع نفسه فيها حين عزل نفسه عن الجماهير التي يشك بولائها وجند سرايا وكتائب لجمايته منها ، معتقداً ان هذه الحمايات وأجهزة القمع والأجهزة الأمنية والمخابرات تستطيع أن تمنع أنتقام الشعب العراقي منه ، كما أنه بدأ يتفسخ سياسياً حين تصور أن له موقع سياسي بين الجماهير العراقية .
وهكذا صار صدام الميت سياسياً يحكم العراق ويبطش بشعب العراق ويعمد الى أنزال الضربات القوية بالعراق دون أن يعي حقيقة كبيرة لم يدرسها ولاقلبها في عقله الصغير حين لم يستطع التوصل الى أن العراق بالرغم من كل الضربات الصعبة والقوية فأنه شعب حي لم يزل تواقاً للحياة ولبناء المستقبل وأن قوافل الضحايا ماهي الا انعكاس طبيعي لأثبات أصراره على الحياة و موت الطاغية السياسي الذي ترفضه الحياة السياسية في العراق .