|
الاستبداد والغرب: الحكاية نفسها دوما
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 2360 - 2008 / 8 / 1 - 11:25
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
قد يبدو أن احتلال العراق كان كسرا لمنوال غربي ثابت في التعامل مع المشرق العربي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، منوال كان يمنح الأولوية لاستقرار تحرسه دكتاتوريات محلية يدعمها الغرب مقابل ضمان مصالحه، البترولية والاستراتيجية والإسرائيلية. حرصت الولايات المتحدة بالذات على وضع احتلال العراق في سياق القطع مع تلك السياسة التي عمرت 60 عاما حسب الرئيس بوش في خطاب ألقاه عام 2003. السياسة الجديدة معنية بنشر الديمقراطية التي هي "خطة الله للإنسانية" حسب الرئيس الأميركي نفسه في الخطاب نفسه. ولبعض الوقت، بدا أن الدول أخذت تصنف إلى ديمقراطية ودكتاتورية، بعد أن كانت تصنف إلى معتدلة (معنا) ومتطرفة (ضدنا). إلا أن المركزية الأميركية ظلت ثابتة عند التحول القصير العمر من ثنائية إلى أخرى. فرغم أنه لا يقال عن الدول التي توالي الأميركيين إنها ديمقراطية، إلا أن فرصة وصف دولة بأنها دكتاتورية أكبر بكثير إن كانت على خصومة مع السياسة الأميركية. هذا فضلا عن أن ثنائية ديمقراطية/ دكتاتورية عمرت وقتا وجيزا، ربما لم يتجاوز 3 سنوات أو أربعة، أي بين 11 أيلول 2001 وعام 2005، أو 2006 حين سجل الإسلاميون المصريون إنجازا انتخابيا لافتا، وفازت "حماس" في انتخابات تشريعية في فلسطين، وتفجر الوضع العراقي بصورة كارثية. لكن ما نريد المجادلة فيه هنا هو أن غزو العراق ذاته وسياسة ما بعد أيلول الأميركية ذاتها تشكلان استمرارا عميقا للسياسات الغربية طوال نحو 90 عاما في "الشرق الأوسط". وحتى الراية الإيديولوجية ليست جديدة، فلم ينقض يوم على سياسات التدخل الغربي دون أن ترفع راية الحرية أو الديمقراطية أو الحضارة. هذا اشد ابتذالا من أن يحتاج إلى إلحاح خاص. وجوهر السياسات هذه يتمثل في استتباع المنطقة ومنع استقلال دولها. قد تأخذ هذه السياسة شكلا تدخليا فظا على نحو ما شهدنا في حربي 1956 و2003، أو شكل حرب بالوكالة تتولاها إسرائيل المسلحة حتى الأسنان كما في حرب 1967، أو في الغالب شكل تفاهمات أمنية وعسكرية ودبلوماسية، لكن الثابت فيها هو التدويل العميق للمنطقة، وتعطيل الديناميات الداخلية فيها. فمستقبل أي من البلدان العربية، المشرقية بالخصوص لا يتقرر بفعل ديناميات ذاتية، بل بفعل ديناميات إقليمية ودولية (شرق أوسطية)، تحوز الولايات المتحدة دورا مقررا في توجيهها والتأثير عليها. هذا التدويل مضاد للديمقراطية حتى لو جرى تحت راية الديمقراطية. فهو يعني منح دور حاسم في صنع حاضر ومستقبل المنطقة ودولها ومجتمعاتها لفاعلين غير منتخبين، مثل الإدارات الأميركية والحكومات الإسرائيلية والقوى الغربية الأخرى. نحن لا نشارك في انتخاب الرئيس الأميركي، رغم أن قراراته تؤثر تأثيرا لا مجال للمبالغة فيه في شؤون بلداننا. ولنسلم جدلا بان القرارات هذه توجهها أحسن النيات، إلا أن المعنيين بها لا يستشارون عند اتخاذها، وحتى حين تتكشف لها آثار مدمرة على حيواتهم فإنه لا نفاذ لهم إلى آليات مراجعتها وإعادة النظر فيها وتصحيحها. فإن كان من جديد في غزو العراق واحتلاله فهو بالأحرى اتساع الفجوة بين النزعة الامبراطورية المضادة جوهريا للديمقراطية وبين الراية الديمقراطية المرفوعة. على أن العالم العربي ليس ضحية لا حول لها ولا طول على نحو ما تحرص على قوله نظم ومنظمات تعلن العداء للسياسة الأميركية. فأساس ثبات منوال السياسات الغربية والأميركية في المنطقة هو تفضيل أطقم الحكم العربية تقييد مجتمعاتها وشلها ومنعها من أن يكون لها رأي في إدارة شؤونها العامة. وقبل أن نكون محرومين من النفاذ إلى آليات تصحيح ومراجعة السياسات الأميركية فإننا منزوعو التأثير على سياسات دولنا والحكومات الناطقة باسمنا. هذا يناسب الأميركيين لكنه ليس من صنعهم. وفي هذا لا تظهر الحكومات التي ترفع راية مقاومة الأميركيين أو ممانعتهم فرقا عن غيرها. بل إن النظامين البعثيين في العراق وسورية احتلا بجدارة المرتبتين الأولى والثانية كأسوأ نظامين عربيين في مجال انتهاك حقوق مواطنيهما والحجر عليهم سياسيا. ومعلوم أن بلاغة النظامين عالية النبرة حيال الغرب والأميركيين بخاصة، ولعلهما يحتلان المتربتين الأولى والثانية في هذا المجال أيضا. هذا فضلا عن أن سجل أولهما حيال الكويت والثاني حيال لبنان ليس مما يمكن الدفاع عنه إن على أرضية ديمقراطية، أو حتى على أرضية عروبية. وما نريد الخلوص إليه هو أن إمكانية تغيير منوال السياسات الغربية تجاه العالم العربية تقع أولا وأساسا على عاتق الدول العربية، ومعها المجتمعات والنخب العربية. وبعد أكثر من خمس سنوات على احتلال العراق يبدو لنا أنه ثمة خلاصتان أكيدتان. الأولى إن نظم الحكم العربية، بما فيها تلك التي ترفع راية العداء للغرب، تفضل التفاهم مع القوى الغربية لتأمين ذاتها وإدامة حكمها على الانفتاح على مجتمعاتها؛ والثانية إن التدخل الغربي، الأميركي بخاصة دوما، مناهض بنيويا للديمقراطية لأنه غير مسؤول أمام المجتمعات المتأثرة به، هذا حتى لو سلّمنا بأن النيات الدافعة إليه مثالية. وما قد نرتبه على ذلك هو أن الديمقراطية الممكنة في مجتمعاتنا لا يمكن إلا أن تكون خصما للدكتاتوريات المنشغلة أولا وأخيرا بخلودها، كما للتدخلية الغربية المنشغلة أولا وأخيرا بتفوقها المطلق والدائم. ومن وجهة نظر السياسة العملية فإن المخرج من هذا الوضع يتمثل في تحويل ديمقراطي لدولنا، أي في تحويلها من "دول خارجية" تغلق نخبها الملعب السياسي في مجتمعاتها وتلعب مع اللاعبين الدوليين والإقليميين، إلى "دول داخلية"، تتفوق تفاعلاتها وألعابها الداخلية على تفاعلاتها مع الخارج ولعبها معه.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في ضروب الشعبوية العربية وبعض خصائصها
-
الطغيان مخرجا من صعوبة السياسة
-
-الدولة الخارجية- وغريزتها السياسية
-
المثقفون والمسألة الإسلامية
-
في -التفكير العضوي- والأساطير والانحطاط...
-
ماركس لم يكن ملحداً؛ لماذا؟
-
مبادئ لسياسة معارضة عقلانية في شروط الكفاف السياسي
-
خواطر في شأن نحوس الليبرالية العربية وسعودها
-
نظريات الفساد السوري وبرامجها العلاجية المقترحة
-
غسان المفح يحاور ياسين الحاج صالح
-
سورية والسير على قدم واحدة
-
أي موقع للسلطة الدينية الإسلامية في الدولة الحديثة، عندنا؟
-
المثقفون والمخابرات والمؤامرات والتنوير...
-
المثقفون السوريون والتفاوض السوري الإسرائيلي
-
الوطنية التخوينية والتدين التكفيري
-
أفحمتُه، أفحمناهم... النقاش كاستمرار للحرب بوسائل أخرى
-
في نقد الأهل وأهل النقد
-
لبنان: السهل والصعب والغريب!
-
لبنان، سورية، إسرائيل وفلسطين: -نماذج مثالية- لدول استثنائية
-
في شأن الإصلاح السياسي والهوية الوطنية في سورية
المزيد.....
-
أهراءات مرفأ بيروت... صرح شاهد على أضخم انفجار شهده لبنان يض
...
-
زياد رحباني، الكائن الذي خُلق ليبدع ويلتزم
-
غزة.. 70 قتيلا منذ الفجر و-أوكسفام- تحذّر من إبادة جماعية
-
روسيا تدمر 18 مسيرة أوكرانية وحريق بمحطة قطارات فولغوغراد
-
دخلتا المجال الجوي المحظور.. اعتراض طائرتين فوق منتجع ترامب
...
-
اليمن.. مقتل 68 مهاجرا أفريقيا وفقدان العشرات إثر غرق قارب
-
استطلاع: 38% فقط من الألمان مستعدون للقتال من أجل وطنهم
-
الرئيس اللبناني: العدالة لن تموت الحساب آت لا محالة
-
علاء مبارك يشعل تفاعلا بفيديوهات لوالده عن دور مصر في دعم غز
...
-
-حصار السفارات-: اعتداءات على بعثات دبلوماسية أردنية ومصرية
...
المزيد.....
-
شعب الخيام، شهادات من واقع احتجاجات تشرين العراقية
/ علي الخطيب
-
من الأرشيف الألماني -القتال في السودان – ينبغي أن يولي الأل
...
/ حامد فضل الله
-
حيث ال تطير العقبان
/ عبدالاله السباهي
-
حكايات
/ ترجمه عبدالاله السباهي
-
أوالد المهرجان
/ عبدالاله السباهي
-
اللطالطة
/ عبدالاله السباهي
-
ليلة في عش النسر
/ عبدالاله السباهي
-
كشف الاسرار عن سحر الاحجار
/ عبدالاله السباهي
-
زمن العزلة
/ عبدالاله السباهي
-
ذكريات تلاحقني
/ عبدالاله السباهي
المزيد.....
|