أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - ياسين الحاج صالح - خواطر في شأن نحوس الليبرالية العربية وسعودها















المزيد.....


خواطر في شأن نحوس الليبرالية العربية وسعودها


ياسين الحاج صالح

الحوار المتمدن-العدد: 2331 - 2008 / 7 / 3 - 10:45
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


1
يفترض كاتب هذه السطور أن العالم العربي يلج اليوم مرحلة ليبرالية على الصعد الاقتصادية والإعلامية والثقافية، وبدرجة أقل الصعد السياسية والقانونية والدينية. اقتصاديات أكثر الدول العربية تنتظم حول السوق والمشاريع الخاصة منذ الآن. ودور الدولة الإنتاجي يتراجع بصورة ظاهرة، وتفرض حضوها مؤسسات خاصة في مجالات التعليم والصحة والاتصالات بدرجة غير مسبوقة. ولقد أسهمت شبكة الانترنت والأقنية الفضائية في كسر احتكار السلطات أسماع مواطنيها، وبدرجة أقل النطق باسمهم وتشكيل صورة البلاد. وتتحرر الثقافة شيئا فشيئا من العقائد المفروضة، بما فيها العقيدة الدينية، وهذا اتجاه مرشح لأن يتسع ويتعمق في العقود القليلة القادمة في تقديرنا. ومن غير المرجح أن تستمر الأطر السياسية والقانونية دون تغيير، وإن كانت تسجل تأخرا أكيدا عن التغيرات الظاهرة في المجالات الأخرى. إن العالم الذي عشنا فيها منذ خمسينات القرن العشرين يمعن في التحلل، دون أن يكون واضحا ماذا سيتشكل في محله.
وقد يكون من شأن نظرة راجعة تلقى على أيامنا هذه بعد جيل أو جيلين أن توقت مطلع الطور الليبرالي المستجد هذا بحدث 11 أيلول 2001 أو باحتلال العراق عام 2003. ومن وجهة نظر الزمنية المتوسطية (بالعقود والأجيال) قد يُمنح هذا الحدثان قيمة إيجابية نضن عليهما بها من وجهة نظر الزمنية القصيرة، المنشغلة بالحدثي والسياسي. إذ ربما يتراءى لمؤرخي المستقبل أن هجمات نيويورك وواشنطن، ثم سقوط بغداد، فتحت الباب لكسر ديمومة بنى سياسية وثقافية متصلبة فقدت أي معنى حضاري أو إنساني عام، فدشنت مرحلة ليبرالية ربما تمتد جيلا أو نحوه. لكن ربما يتعين أن نأخذ موقفا أكثر ارتيابا. إذ يقترن الطور الليبرالي الآخذ بالانبساط بأوضاع استعمارية أو شبه استعمارية تحاكي بصورة ما طورا ليبراليا سابقا عرفته مصر تحت الاحتلال البريطاني، وعرفته بلدان المشرق بعد ذلك وفي ظروف احتلال غربي أيضا. ولم يتمادَ هذا الطور بعد استقلال الدول العربية غير بضع سنوات، قبل أن يفسح المجال لحكم شعبوي معاد لليبرالية.
وليس في اقتران الليبرالية بالسيطرة الغربية، في وقت سابق أو اليوم، ما يبهج القلب. إذ نعلم أن سمعة الليبرالية، أي النظام البرلماني وحكم طبقة الأعيان، ومعها أيضا الحيوية الثقافية والنشاط الفكري والفني والتجديد الديني، قد تدهورت بسبب هذه الاقتران بالذات.
والحال إن انطواء الزمن الليبرالي العربي الأول يعود في تقديرنا إلى سمتين جوهريتين فيه. أولاهما ذاك الاقتران المشؤوم إياه بالشرط الاستعماري أو بالقرب من سياسات القوى الغربي النافذة التي قلما ظهر منها ما يشي بالود حيال العرب والعطف على أمانيهم. والثاني الموقع الامتيازي لشرائح من طبقة الأعيان المالكين لأراض واسعة أو من تجار وصناعيين مستجدين، متحدرين جميعا من أسر مرموقة محدودة العدد، سبق أن كانت نافذة أيام السلطنة العثمانية. من ناحية، إذن، النظام ضيق القاعدة الاجتماعية؛ ومن ناحية أخرى هو يتعارض مع التطلعات الوطنية والاستقلالية. وقد تجسد ذلك في حكم الوفد في مصر الكتلة الوطنية في سورية قبل انهيارهما معا في خمسينات القرن العشرين. وهو مصدر اقتران معاكس للوطنية أو القومية بـ"الاشتراكية" في بلداننا، على نحو ما تمثلت بكل من الناصرية في مصر والبعثية في سورية ثم في العراق. ستجمع الحركات الوطنية والقومية العربية على اختلاف تنظيماتها بين رفض ومقامة السيطرة الغربية، ورفض فكرها وثقافتها أيضا (أحرقت كتب فرنسية عام 1945[1] في سورية، وكتب انكليزية في مصر في الفترة نفسها تقريبا[2])، وبين مناهضة الطبقات العليا الحاكمة التي أظهرت ضعف تحسس بالمشكلات الاجتماعية والقومية. وستذهب ليبراليتنا ضحية قصورها في هذين المجالين. ولا ريب أن إقامة دولة يهودية في فلسطين عام 1948 وتشريد سكان البلاد الأصليين قد أبقى شعلة العداء العربي للغرب ملتهبة حتى بعد انطواء الحقبة الاستعمارية، وأضعف قدرة العرب على التماهي بالغرب المتقدم أو حتى الانفتاح على ثقافته وتنظيماته، فضلا عن تقويته النزعات العسكرية والقومية في الثقافة والثقافة السياسية العربية.
وبعد الحرب العالمية الثانية وجدت نخب شعبوية منحدرة من الشرائح الأدنى من الطبقة الوسطى في الأرياف والمدن، تعلمت في المدارس الحديثة التي افتتحت في الحقبة الاستعمارية، لكن فرص ترقيها الاجتماعي كانت محدودة بسبب تصلب النظام وبنيته الامتيازية، وجدت النخب تلك نموذجا قياسيا يشجعها على القطع مع "الديمقراطية البرلمانية" الهشة التي كانت عرفتها بلادنا في المرحلة الاستعمارية: الاشتراكية السوفييتية. كان هذه بدت مثالا ناجحا لتجاوز التخلف والتنمية، كما للعدالة والمساواة، وكما أخيرا للاستقلال ومواجهة مستعمرينا السابقين. لا يتعلق الأمر بتأثير أحادي الجانب من الجهة السوفييتية على النخب الشعبوية في بلداننا بل بالأحرى بظروف متقاربة: تخلف وبنى اجتماعية امتيازية لا تفسح مجالا لمشاركة اجتماعية وسياسية أوسع. وتشترك النخبتان القومية الشعبوية لدينا والشيوعية هناك في مقت عميق لليبرالية وعداء حاد للبرجوازية و.. شغف خارق بالسلطة.
على أنه ما كان للمشكلات الاجتماعية والجيوسياسية أن تطيح بالليبرالية العربية لولا أن هذه كانت هشة فوقية في الأصل. لقد افتقرت أولا إلى تراكم فكري أساسي قد يحد من تأثير الدين على الحياة العامة أو يشكل مركز قوة مقابل له. وقد ظلت مساهمات محمد عبده والكواكبي ورشيد رضا وقاسم أمين وعلي عبد الرازق وطه حسين.. أضعف من أن تؤسس لثقافة جديدة مستقلة عن الثقافة الإسلامية المهيمنة، وتنهض عليها شرعية جديدة مستقلة بدورها. وهذا التأسيس الذي لم ينجز لا يزال ينتظر الإنجاز اليوم. ولعل فرصه اليوم أكبر، لا أقل، مع تكشف الأزمة العامة لمجتمعاتنا أو لـ"حضارتنا" في العقود الثلاث الأخيرة. وهي أزمة قد لا ترتد إلى بُعد ثقافي وروحي فحسب، إلا أن هذا بعد أساسي فيها مع ذلك. إننا نعيش على معان ودلالات قديمة، ركبت عليها معان ودلالات وافدة من الغرب. وكلا نظامي المعنى هذين يظهران عجزا باديا عن القيام بدور ريادي أو هيمني لا غنى عنه من أجل توحيد مجتمعاتنا واستقرارها سياسيا ونفسيا، وتمدنها. فالهيمنة، بما تعنيه من رضا عام أو من تكون عمومية جديدة ينجذب إليها طوعا أكثرية السكان، تقتصد في العنف وتولد نموذجا سياسيا أنسب للاستقرار والتمدن. 
وفي المقام الثاني افتقرت الليبرالية العربية إلى تراكم مادي كاف لإطلاق رأسمالية محلية تفكك التكوينات الأهلية الموروثة و"تحرر" الأفراد وتزجهم في سوق محلية تشكل القاعدة الاقتصادية لأمة حديثة. وفي المحصلة تعذر لدينا نشوء برجوازية متعلمة ومهيمنة تجعل من مصالحها في الاستقلال (عن الدولة والدين والأطر الأهلية) ومن عدالتها (مساواة حقوقية بين المتنافسين) ومن حريتها في العمل.. مبادئ أخلاقية وقانونية وسياسية لنظام جديد، على نحو ما كان الحال في أوربا الغربية. هنا أيضا افتقدنا إلى نموذج ريادي أو هيمني يقتدى به.
 
2
ترى سردية شاعت في سبعينات القرن العشرين وثمانيناته أن أصل مشكلاتنا هو التبعية للنظام الرأسمالي العالمي. إن المفكر الماركسي المصري سمير أمين هو أبرز أعلام "نظرية التبعية" التي نشرت هذه السردية. وتقرر مدرسة التبعية أن التخلف وحده هو الذي يتقدم في ظل ارتباط بلداننا بالاقتصاد الرأسمالي العالمي، وأن التقدم الحقيقي يتطلب نموذج نمو "متمحور حول الذات" و"قطيعة مع السوق الرأسمالية العالمية" و"التبادل اللامتكافئ" المقترن بها. هذه النظرية تستعيد نظرية الامبريالية اللينينية، وتنبني عمليا على مبدأ القطيعة بين عالمين الذي آلت إليه نظرية الاشتراكية في بلد واحد اللينينية أيضا. وتبدو النظرية مناسبة كذلك لأية حركات قومية تجمع بين العداء للغرب والقطيعة معه وإرادة الانفراد بالسلطة. وإن لم تنحز نظرية التبعية صراحة للاستبداد فإنها لا تملك ما تقوله عنه. وكان سمير أمين بالذات يبدي غير قليل من الرضا عن الماوية في الصين وقطيعتها المفترضة مع الرأسمالية.
تدهورت سمعة هذه النظرية في العقد الأخير من القرن العشرين مع تدهور رصيد الشيوعية بكل تشكيلاتها. وأخذت تعاود الظهور نماذج تطورية لا ترى مفرا من الاندماج في النظام الاقتصادي العالمي من أجل التقدم التكنولوجي والنمو الرأسمالي. وتجد النماذج هذه في ماركس الأصلي وليس ماركس اللينيني مصدر إلهام لها. وهي تعيد الاعتبار للاندماج العالمي ووحدة التقدم البشري على حساب المقاربة اللينينية التي أخفق رهانها على تقدم وحضارة مختلفتين. والليبرالية ستستعيد شيئا من اعتبارها وقيمتها مع تراجع الثقة بالنماذج التنموية والاجتماعي المعادية للرأسمالية.
بيد أن هذا كله لا يحتاج إلى شطارة. فهو يبدو محصلة سلبية لإفلاس الشعبوية والشيوعية، دون وجود ما يثبت أن الليبرالية مؤهلة أكثر منهما لتكون إيديولوجية أنسب لتطور اقتصادي وسياسي وثقافي وحقوقي متماسك في مجتمعاتنا. وفي حدود اطلاع كاتب هذه السطور فإن الليبراليين العرب الخالصين قلما يتصفون بأنهم مقنعون. غير قليل منهم يتميزون بالرثاثة والتعصب وفرط اليقين، يجمعون بين عداء لا يميز لكل تعبيرات الإسلام السياسي وبين انحياز للسياسة الأميركية الشرق أوسطية، مضافا إليهما غفلة شبه تامة عن التحولات الاقتصادية والاجتماعية في المجتمعات العربية. إن ليبرالية واعية بذاتها يمكن أن تنشأ عبر نقد تشكلات الليبرالية الرثة المومأ إليها، وليس كاستمرار لها.
نفترض فيما يلي أن الليبرالية المستعادة عندنا تعنى (1) نموا رأسماليا تقليديا يقوم على اقتصاديات السوق؛ و(2) إعادة الاعتبار للوحدة العالمية وتصور أقل صراعية للعلاقات الدولية؛ و(3) إعادة بناء النظام القيمي والثقافي والسياسي حول الحرية: حرية الأفراد، بما فيها الحريات الدينية، وضبط سلطة الدولة وفصل السلطات واستقلال السلطة القضائية وما إلى ذلك. وسنناقش هذه الثلاثية على أرضية ما نفترض أنها ليبرالية أكثر تبصرا وتنبها للواقع.  
إن الكلام على نمو رأسمالي تقليدي لا يمكن أن يعني الفوضى الاقتصادية أو تخلي الدولة عن أي مبادرة أو تدخل في المجال الاقتصادي. ويفترض ألا يعني أيضا اتباعا دوغمائيا لوصفات المؤسسات المالية الدولية كما تتلخص في "وفاق واشنطن": تقليص الإنفاق العام بما في ذلك "رفع الدعم" الحكومي عن سلع الاستهلاك الأساسية، تحرير أسعار صرف العملات المحلية، "خصخصة" المشاريع الإنتاجية الحكومية، تشجيع الصادرات، خفض الحواجز الجمركية، محاربة التضخم... فأية سياسة اقتصادية بصيرة مطالب برعاية القطاعات الإنتاجية النامية حتى تتطور طاقتها التنافسية، ومدعوة إلى تعزيز التنافسية في الاقتصاد المحلي من أجل توسيع قاعدة النمو الرأسمالي بما في ذلك ضمان حرية تداول المعلومات واستقلال القضاء للبت في النزاعات المحتملة، وبما فيه تطوير التشريعات لتأمين بيئة مناسبة للاستثمار المحلي واجتذاب الاستثمار الأجنبي. مدعوة كذلك إلى القيام بوظائف اجتماعية مهمة على مستوى التأهيل التعليمي ونظام للضمان الاجتماعي يحمي الاستقرار السياسي ويرفع الطلب الداخلي. مدعوة أيضا إلى أن تكون قوية ضد الرأسماليين الذي يهربون أموالهم إلى الخارج أو يتهربون من الضرائب أو يضاربون في العملات، وليس فقط قوية ضد الفقراء والمهمشين على نحو ما تتسم به أوضاع ما بعد الشعبوية في مصر، وفي سورية أيضا في بضع السنوات الأخيرة. باختصار يتعين عليها التوسع في الإنفاق العام، وإن بطرق جديدة، تولي اهتمامها للتشغيل والحد من البطالة والتعليم والصحة العامة. كل هذا يجعل دور الدولة في الاقتصاد الليبرالي هذا أكثر تعقيدا ومشقة من دورها في "الاقتصاد الاشتراكي" والشعبوي. وهو بذلك بمثابة إعادة اعتبار للحكمة والكفاءة البشرية في العمل العام على حساب الإيديولوجية والسلطة. هذا ما يمكن أن تعنيه ليبرالية وطنية على المستوى الاقتصادي.
ولا يمكن للوحدة العالمية أن تعني نفيا أو غفلة عن عوامل الصراع في النظام العالمي، بل لعلها مدعوة لأن تكون أكثر تنبها إليه، في منطقتنا بخاصة. وهذا لسببين. الأول، أن انتهاء زمن الحرب الباردة دشن عندنا شكلا أشد تدخلية من الحضور الأميركي، وأكثر عسكرة وعدوانية وأقرب إلى الاستعمار القديم؛ وثانيا، لأن الليبرالية مطالبة عندنا، كي تؤخذ بعين الجد، بأن تتجاوز عقد نقصها الجيوسياسية الموروثة التي تجعل منها إيديولوجية محابية تكوينيا للغرب على نحو ما كانت الشيوعية محابية للاتحاد السوفييتي. إن الرفض المحق لتصور مانوي للعالم، على نحو ما أشاعته الشيوعية السوفييتية والماوية، وتشيعه اليوم إسلامية القاعدة وطباقها البوشي الأميركي، لا ينبغي أن يدفع إلى الوقوع في أحضان تصور عالم متناغم متسالم، حائز على كل الفضائل الممكنة، إلا أنه مفتقر إلى الوجود.
قد تكون الحساسية الليبرالية أقرب إلى معالجة الصراعات الدولية بالتفاوض والسياسة، لا بالعنف ولا بتغذية الاختلافات المطلقة، الإيديولوجية أو الحضارية أو الدينية. غير أنها لذلك تفتقر إلى قاعدة واقعية في "الشرق الأوسط"، حيث تأخذ الهيمنة الغربية شكلا شبه استعماري، وحيث تنزع المقاومات لأن ترتدي لبوسا دينيا. هذا يحكم على الليبرالية بأن تكون نافلة، خارج الموضوع أو irrelevant كما يقال بالانكليزية، إن لم تطور نظرا نقديا في العلاقات الدولية وتتجاوز نزوعها الفطري إلى موالاة الغرب.
وعلى أية حال لا شيء يحول دون أن يكون المرء ليبراليا، وأن يدرك في الوقت نفسه أن التفاوض والتسويات تقتضي هي ذاتها موازين قوى مناسبة، كما لا تكف عن إثباته حال الفلسطينيين والعرب عموما مقابل إسرائيل والمحور الأميركي الإسرائيلي. هذا لا يمنع الليبرالي الجاد من أن يلح على وجوب تجنب العرب مواجهات عسكرية مع أعدائهم في الشروط الراهنة، والتركيز عوضا عن ذلك على البناء المدني والنمو الاقتصادي وتحديث هياكلنا السياسية والاجتماعية والثقافية.
ليس بناء النظام القيمي حول مبدأ الحرية سمة لليبرالية إلا بقدر ما إن هذه انحلت في الحداثة وكفت عن كونها إيديولوجية خاصة، مرتبطة بطبقة بعينها أو بثقافة محددة. في الغرب وعندنا ثمة من يعتبر الحداثة شيئا خاصا بالغرب، لا بالمعنى الوصفي الذي يشير إلى نشوء الحداثة في ذاك الحيز من العالم، بل بمعنى جوهري يجعل من الحداثة هوية الغرب، وتاليا يكون رفضها من قبلنا فعلا تحرريا ورفضا للاستلاب. والحال يبدو لنا أن الحداثة اسم لعالم جديد متمركز حول الإنسان ومنفصل عن الدين. الانفصال هذا شرط الحرية، وأولها حرية الاعتقاد الديني. إن الدين لا يمكن أن يغدو موضوع اختيار حر دون أن يخسر سلطته المطلقة أو سيادته. وهو ما يعني أنه لا يمكننا أن ندافع عن حرية الاعتقاد الديني، ومنها بالضرورة حرية عدم الاعتقاد وحرية تغيير الاعتقاد، دون نزع السيادة من الدين. هذه عملية لا يزال يتعين إنجازها في إطار الثقافة العربية. ومن وجوه هذه العملية تكون نظام حقوقي جديد يضمن المساواة بين الناس بقدر ما أنه لم يعد له من أساس غير الإنسان.
أما الحقوق الأخرى، الحقوق المدنية أو الليبرالية، والحقوق السياسية أو الديمقراطية، بل والحقوق الاجتماعي أو الاشتراكية[3]، فهي مؤسسة على التحول الأساسي المنتج لشرعية جديدة وحرية جديدة منبثقة عن استقلال النظام الاجتماعي والسياسي عن السماء. نظمنا اليوم ليست نظما دينية، إنها نظم استبداد وتغلب مبتذلة لا دين لها، بيد أن من شأن بناء سيادة أو حاكمية جديدة، إنسانية وأرضية، أن يمكننا من هزيمة الاستبداد الأجوف هذا الذي يستقوي اليوم بمخاطر الحاكمية الدينية. لا يحكمنا الاستبداد بالدين، لكنه يحكمنا لأننا لسنا أحرارا في الروح. تحررنا الروحي الذي يقتضي تأهيل سيادة أرضية لا سماوية وإنسانية لا إلهية يفتح الطريق للتغلب على الاستبداد السياسي بيسر.    
الحداثة بهذا المعنى علمنة. والعلمانية هي الوعي الذاتي لعملية العلمنة الموضوعية هذه، لكنها تكتنز في كل بلد أو كل ثقافة التجربة الخاصة للعلمنة، أي لتحول السيادة، وما تواجه به من مقاومات وما تخوضه من صراعات وما تتشكل به من صيغ مختلفة كثيرا أو قليلا.
ولا تعني عملية العملنة هذه، ولم تعن إلا في أمثلة محدودة، محاربة الدين أو تحريمه. إنها تعني كما قلنا خفضا لسيادته فحسب، أو نزع الصفة السيادية عن السلطة الدينية لتغدو طوعية (محرومة من وسائل الإكراه) وجزئية (يواليها من يشاء، فـ"المؤمنون" جزء من "الأمة" وليسو الأمة كلها).
 
   
3
هل يمكن استيعاب الليبرالية في الثقافة دون المرور بعصر ليبرالي؟ تساءل المفكر والمؤرخ المغربي عبد الله العروي قبل أكثر من جيل. إذا احتكمنا إلى الواقع بين صدور كتاب المفكر الغربي "أزمة المثقفين العرب" في النصف الأول من سبعينات القرن العشرين واليوم، فإن الجواب هو بالنفي. فهل سوف تترسخ الأفكار والقيم الليبرالية في الثقافة والسياسة والمجتمع العربي في المرحلة الليبرالية التي نفترض أنها آخذة بالانبساط اليوم؟
منذ الآن ثمة بوادر تنوع ثقافي ونشاط فكري وفني وتفكير نشط في الدين مع بروز برجوازية جديدة، مكوناتها الأساسية من أثرياء السلطات الشعبوية السابقة[4] أو محاسيب وزبائن نظم الريع الاستخراجي. وهو يجري كما أشرنا فوق في شروط شبه استعمارية. وإذا كان الترحيب بهوامش المبادرة المستقلة الجديدة، على الصعيد الثقافي والاقتصادي، مرحبا به، فإن الحصافة تقضي بأن ندرك منذ الآن حدود هذه الهوامش. وهي في الواقع الحدود ذاتها التي انضبط بها طور ليبرالي أول عرفته منطقتنا: حكم أعياني جديد ومستوى متدن من سيطرة العرب على مصيرهم.
فهل يمكن ضمن هذه الشروط أن تُستوعب الليبرالية في ثقافتنا؟ هل يسعها أن تمسي ميثاقا لتفكير المثقفين ونشاطهم في المجال العام، بينما تلعب ضدها الشروط الجيوسياسية والشروط الاقتصادية الاجتماعية؟ وهل سوف ينتهي الطور الليبرالي المستجد فيجد المثقف الليبرالي نفسه مريرا ومعزولا على نحو ما آل إليه كمال عبد الجواد في ثلاثية نجيب محفوظ، أو كما قد يتمثل في عبدالله العروي نفسه اليوم؟ أم أنه سيتحقق هذه المرة تراكم ثقافي مهم يؤسس لإقلاع اجتماعي وسياسي أوسع آفاقا؟      
يمكن أن يؤخذ على الليبرالية العربية الكثير، إلا أن الاقتران بين الليبرالية والنهوض الثقافي لا شك فيه. ولقد أحسن مترجم كتاب ألبرت حوراني Arabic Thought in the Liberal Age 1798-1939، كريم عزقول، حين جعل عنوانه "الفكر العربي في عصر النهضة.."   
30 آذار 2008


[1] جرى ذلك إثر اعتداء الفرنسيين على البرلمان السوري وحاميته في 29 مايو 1945. يتكلم ياسين الحافظ المثقف والسياسي السوري المرموق عن محرقة الكتب كالتالي: "..تجمع الطلبة والأساتذة في ساحة الدير [مدنية دير الزور] العامة. فوقف أستاذ ديري هو الشاعر محمد الفراتي وطلب منا إحضار الكتب الفرنسية التي نمتلكها. فأحضرناها إلى الساحة وصببنا عليها الكاز وأحرقناها، بينما كان يلقي قصيدة ضد الفرنسيين يقول فيها: "مدنتمونا بالرقص تمدينا". ساعتذاك كانت عواطفي مع المحرقة، بطبيعة الحال"، ويعلق تعليقا كاشفا: "كان الطلبة مسرورين جدا، وخاصة الكسالي منهم الذين لا يعرفون الفرنسية". الأعمال الكاملة لياسين الحافظ، الطبعة الأولى، مركز دراسات الوحدة العربية، 2005؛ ص 56. وعلى هذا النحو نقش الارتباط بين "الأصالة" والكسل في وقت مبكر من استقلالنا. 
[2] وقع ذلك في شهر نوفمبر من عام 1945 في سياق حملة الإخوان المسلمين المصريين من أجل "مقاطعة ثقافية" للانكليز، "شملت إلقاء مجموعة ضخمة من الكتب المكتوبة بالانكليزية في "يوم الحريق" الذي تم بالفعل في الخامس والعشرين من نوفمبر". يراجع دكتور ريتشارد ميتشل: الإخوان المسلمون، ترجمة عبد السلام رضوان، الطبعة الأولى، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1977؛ ص 111.
[3] ينسب التمييز بين أجيال الحقوق الثلاثة إلى المؤرخ والسوسيولوجي البريطاني ت.ه. مارشال الذي يرى ان الحقوق الليبرالية صعدت في القرن 18 والحقوق السياسية في القرن 19، فيما صعدت ومطالب الحقوق الاجتماعية في القرن العشرين. يراجع كتاب ديريك هيتر: تاريخ موجز للمواطنة، ترجمة آصف ناصر ومكرم خليل، الطبعة الأولى، دار الساقي، بيروت، 2007؛ ص 167-168.
[4] العمود الفقري لها في سورية مكون مما نسميه الجيل البعثي الثالث أو جيل "أبناء المسؤولين"، وهم من مواليد ستينات القرن العشرين، زمن استيلاء البعثيين على السلطة. الجيل البعثي الثاني هو جيل الرئيس حافظ الأسد الذي حكم البلاد بين 1970 و2000، والجيل البعثي الأول هو جيل المؤسسين الذي أقصى من السلطة عام 1966، بعد اقل من 3 سنوات على الحكم البعثي. رمز الجيل الثالث هو الرئيس بشار الاسد بالطبع. 



#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نظريات الفساد السوري وبرامجها العلاجية المقترحة
- غسان المفح يحاور ياسين الحاج صالح
- سورية والسير على قدم واحدة
- أي موقع للسلطة الدينية الإسلامية في الدولة الحديثة، عندنا؟
- المثقفون والمخابرات والمؤامرات والتنوير...
- المثقفون السوريون والتفاوض السوري الإسرائيلي
- الوطنية التخوينية والتدين التكفيري
- أفحمتُه، أفحمناهم... النقاش كاستمرار للحرب بوسائل أخرى
- في نقد الأهل وأهل النقد
- لبنان: السهل والصعب والغريب!
- لبنان، سورية، إسرائيل وفلسطين: -نماذج مثالية- لدول استثنائية
- في شأن الإصلاح السياسي والهوية الوطنية في سورية
- -التفاصلية- والعلمانية ونقد الشأن الإسلامي
- حزب الله مقاوماً في .. بيروت
- شتاينماير ضد كانط
- جيل عربي ثالث أمام الواقعة الإسرائيلية
- خبز شعير.. عربي
- الأولوية، عربيا، للتقدم أم لمواجهة إسرائيل؟
- الدين كحق من حقوق الإنسان
- سلام في سورية من أجل سلام لسورية...


المزيد.....




- حميميم.. قوات روسيا تحيي عيد النصر
- الروس يحتفلون بعيد النصر في باريس
- بايدن: -لن نزود إسرائيل بالأسلحة إذا قررت مواصلة خطتها لاقتح ...
- بوادر توتر جديد بين إيطاليا ومنظمات إغاثية ألمانية
- انفجار إطار طائرة -بوينغ- أثناء هبوطها بتركيا (فيديو + صور) ...
- تقارير غربية تؤكد توجيه الجيش الروسي ضربات مدمرة لعتاد قوات ...
- الحوثي: ضوء أمريكي أخضر للإسرائيليين في رفح واستعراض ضد الشع ...
- غالانت يرد على تصريحات بايدن حول تعليق شحنات الأسلحة الأمري ...
- -مواجهة متوترة- بين ستورمي دانييلز وترمب في نيويورك
- البرجوازية والبساطة في مجموعة ديور لخريف وشتاء 2024-2025


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - ياسين الحاج صالح - خواطر في شأن نحوس الليبرالية العربية وسعودها