المدلول التاريخي السياسي لانتفاضة الشيوعيين في ايار 1958!

احمد سعد

الحوار المتمدن-العدد: 2259 - 2008 / 4 / 22 - 11:28
المحور: اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم
    

عبَرت الجماهير العربية الفلسطينية في اسرائيل، الاقلية القومية العربية الفلسطينية الباقية متجذرة في وطنها، العديد من المحطات الهامة خلال الستين سنة منذ نكبة شعبها العربي الفلسطيني، محطات تعتبر منعطفات تاريخية كفاحية صقلتها الجماهير العربية بالعرق والدماء ومآسي المعاناة في مواجهة سياسة الاقتلاع والقهر القومي والتمييز العنصري التي مارستها الاوساط الصهيونية الحاكمة، حكومات اسرائيل المتعاقبة لمصادرة الهوية القومية الوطنية العربية وحرمانها من حقها القومي والمدني والانساني في التطور على قواعد ومبادئ المساواة والعدل الاجتماعي في وطنها الذي اصبح مستباحا منذ انفتح جرح النكبة الفلسطينية. ولا يستطيع أي مزوّر للتاريخ، او أي قوة انتهازية تشويه معطيات الحقائق التاريخية عن دور الحزب الشيوعي الاسرائيلي الرائد والقيادي في بلورة الطابع الكفاحي السياسي لهذه المحطات الكفاحية، وفي صقل الهوية السياسية التقدمية النضالية السائدة بين الجماهير العربية. فالنكبة وليدة التآمر الاستعماري – الصهيوني – الرجعي العربي، ليست فقط مأساة اللاجئين الفلسطينيين وتحويل الغالبية الساحقة من الشعب الفلسطيني الى شعب من المشردين قسرا خارج حدود وطنهم في اوحش عملية تطهير عرقي عنصرية مخضبة بالدماء والدموع، بل رافقها ايضا معاناة قلة قليلة من ابناء وبنات الشعب الفلسطيني لم يتجاوز عددهم المئة والستين الف فلسطيني كانوا اشبه ما يكون الايتام على مائدة اللئام. وكانت السياسة الرسمية الصهيونية في السنوات الاولى بعد النكبة وقيام اسرائيل تتركز اولا على ترحيل ما يمكن ترحيله مما تبقى من العرب الفلسطينيين المتمسكين بتراب وطنهم، اقتلاع العرب وتنظيف "دولة اليهود" من "الغوييم"، نشر العدمية القومية بين العرب المتبقين عبر وسائل غسل دماغ منهجية لحقن العدمية وقطع الفرع المتبقي من امتداده الى شجرة الانتماء القومي والثقافي والحضاري الفلسطيني، تجويع ما تبقى من العرب بواسطة نهب ومصادرة الاراضي العربية واغلاق الهستدروت بطابعها العنصري كنقابة للعمال العبريين، لابواب العمل في وجه العمال والعاملات العرب. وتجسيد هذه السياسة العنصرية بمساعدة الحكم العسكري المفروض على الجماهير العربية وفقا لقوانين الطوارئ الانتدابية، الذي عمل حتى انتهاء اجله في الستة والستين على تمزيق عرى التواصل بين القرى العربية، بين القرى والمدن، بين العرب واماكن العمل بين العرب وسلك التعليم، وبين المناطق العربية، فاللجوء الى وسائل الارهاب وقطع الارزاق لتدجين العرب في حظيرة خدمة السياسة الصهيونية كانا الدالة البارزة للسياسة الرسمية المنتهجة ضد العرب، خاصة في العقدين الاول والثاني بعد النكبة وتواصل جرائمها باشكال متعددة حتى يومنا هذا!!



لمواجهة هذه السياسة الاجرامية، سياسة الاقتلاع والتطهير العرقي ونشر العدمية القومية واعتبار الجماهير العربية رقما شاذا واحتياطيا في معادلة تطور المجتمع الاسرائيلي المواجهة هذا وغيره برز الدور الريادي والقيادي للحزب الشيوعي ولرفاقه ورفيقاته في الدفاع عن حق البقاء وهوية الانتماء القومي للجماهير العربية وحقها بالمساواة القومية والمدنية. من غير الشيوعيين جند ووقف في طريق سيارات الترحيل والتهجير الصهيونية وافشل بعضا من مشروع التطهير العرقي الصهيوني، من غير الشيوعيين في الناصرة وام الفحم وكفر ياسيف وعيلبون وغيرها تمددوا امام سيارات الرحيل هم واصدقاؤهم ومنعوا حملة التهجير القسري. ومن غير الشيوعيين ونوابهم في الكنيست ومحاموهم بقيادة محامي الارض والوطن خالد الذكر المحامي حنا نقارة (ابو طوني) ناضلوا ونجحوا في صيانة حقوق الحصول على هوية المواطنة في وطن هم اهله الاصليون، من غير الشيوعيين عمل على رص وحدة الصف الكفاحي للجماهير العربية وتجنيد قوى يهودية دمقراطية ضد مخططات مصادرة الاراضي العربية السلطوية، ومن اجل فتح المدارس واقامة وانتخاب سلطات محلية وتزويد المدن والقرى العربية بالمياه والكهرباء وتوفير اماكن الدراسة في الجامعات والمؤسسات التعليمية العليا للطلاب العرب وفتح ابواب العمل في وجه العمال والعاملات العرب.



في قوانين الفلسفة ومقولاتها تؤكد معطيات زبدة تجارب التطور البشري "ان التراكمات الكمية تؤدي الى تغيرات نوعية، وان هذه التغيرات النوعية تؤلف انطلاقة جديدة ودفعة جديدة لتغيرات كيفية ونوعية"! فالتصاق الحزب الشيوعي بقضايا الجماهير المختلفة على مدار ايام السنة وعلى مدار السنوات، ومعالجة قضاياها ليس من شبابيك البرج العاجي وليس من وراء طاولات غرف التدفئة، بل من خلال العلاقة العضوية المباشرة في قلب المعارك الكفاحية وفي وقت يشغل فيه الشيوعيون الصف الامامي من المواجهة. فحقيقة هي ان قيادة الحزب الشيوعي للمعارك النضالية وقيام صحافة الحزب "الاتحاد" و"الجديد" و"الغد" بدورها الكفاحي بالمساهمة في دفن وهزيمة سياسة نشر العدمية القومية وصقل الهوية القومية الوطنية للجماهير العربية والاعتزاز بها، وهذه هي قمة الاممية التي تدافع عن المصالح الحقيقية القومية والوطنية. فقيام الحزب الشيوعي بدوره في الدفاع عن قضايا الجماهير رغم تعرض اعضائه. للسجون وقطع الارزاق قد عكس اثره في تعزيز ثقة الجماهير العربية بالحزب وفي صقل الوعي السياسي النضالي واستعدادها للمشاركة في المعترك الكفاحي دفاعا عن قضاياها وقضايا السلام والدمقراطية والتقدم الاجتماعي. فهل تثقيف الجماهير بلغة الدفاع عن حقوقها القومية والمدنية، بروح الاعتزاز بانتمائها القومي والدفاع عن حقوقها القومية، هل كل هذا يعتبر "اسرلة" بمعنى لجوء الحزب الشيوعي الى تدجين الجماهير العربية في حظيرة السياسة الصهيونية، يا دعاة القومجية الفارغة ودعاة المتمسك بحبل الله وفي غربة مع حبال قضايا الوطن والمجتمع الجوهرية.
لم يكن من وليد الصدفة ان الجأ الى هذا السرد الطويل قبل ان اتحدث عن المدلول التاريخي السياسي لانتفاضة الشيوعيين في عيد العمال العالمي الاول من ايار عام 1958 (الف وتسعمئة وثمانية وخمسين) فبدون هذا السرد عن حالة الجماهير العربية، خاصة في العقد الاول بعد النكبة وقيام اسرائيل، لا يمكن فهم وادراك الاهمية التاريخية السياسية لانتفاضة الشيوعيين ولدور الحزب الشيوعي في الدفاع عن قضايا الجماهير العربية، فهذا السرد يؤلف عمليا الخلفية الموضوعية والذاتية لانتفاضة الشيوعيين، فقد عكست جاهزية الجماهير لاحتضان هذه الانتفاضة عن وعي وادراك لاهمية مدلولها السياسي، خاصة في وضع تطورت فيه الجماهير العربية كمّا ونوعا وصقلت معارك الكفاح وشحنت وعيها السياسي والطبقي – الاجتماعي. ومن جهة ثانية مساهمة ارتفاع موجة حركة التحرر القومي العربية والعالمية المناهضة للاستعمار والمسنودة سوفييتيا، ان كان ذلك في مصر او سوريا او الجزائر او العراق وغيرها، قد اسهمت في رفع معنوية الشيوعيين والقوى الوطنية التقدمية في بلادنا.



فالسبب المباشر لانتفاضة الشيوعيين، القشة التي قصمت ظهر البعير، كان لجوء الحكومة وبالتواطؤ والتنسيق مع قيادة سقف النقابات (الهستدروت) التي كانت من نفس حزب "مباي" الصهيوني، الى اعلان الاحتفالات التقليدية للعاملين في الاول من ايار عيد العمال العالمي، الغاء المظاهرات الكفاحية التي ينظمها الحزب الشيوعي في عاصمة الكفاح الناصرة بمشاركة وفود من مختلف قرى الجليل وقوى تقدمية يهودية، ومظاهرة اخرى في عاصمة الكفاح العمالي ام الفحم بمشاركة وفود من مختلف قرى المثلث الشمالي والجنوبي. واصدر ذراع السلطة الارهابي، الحكم العسكري، اوامره التعسفية بمنع قيام مظاهرتي اول ايار في الناصرة وام الفحم!!
وكانت الذريعة السلطوية – الهستدروتية – المخابراتية العسكرية، استبدال احتفالات اول ايار وطي اعلام الكفاح الحمراء باحتفالات "العاشوراة"، أي الاحتفال بمرور عشر سنوات على اعلان قيام واستقلال اسرائيل وحرمان الشعب العربي الفلسطيني من هذا الحق. وفي تحديد الموقف في مواجهة القرار التعسفي الارهابي السلطوي برز تميز الموقف السياسي الطبقي والاممي للحزب الشيوعي. فقد اقر الحزب الشيوعي بقيادته الحكيمة المركزية والمنطقية والفرعية، العربية واليهودية كسر القرار السلطوي والدوس عليه وعدم التراجع، بل العمل على انجاح المظاهرتين المركزيتين في عاصمتي الكفاح الوطني، في الناصرة وام الفحم، وركز الحزب على ابراز دافعين اساسيين لاجراء مظاهرات اول ايار في موعدها وخرق اوامر السلطة واذرعها الارهابية، العامل الاول، انه لن يوافق الحزب الشيوعي ابدا على التنازل عن العلم الكفاحي الاحمر، علم الطبقة الكادحة وكل المظلومين، وسترتفع اعلام ايار في الاول من ايار مهما كانت التضحيات، فلا تراجع ولا اهتزاز في المواقف في القضايا المبدئية. وكحزب طبقي ثوري لن يتخلى الحزب عن هويته النضالية باوامر سلطوية. والعامل الثاني هو افشال محاولة السلطة تزوير الهوية القومية الوطنية للجماهير العربية وكأنها ليست جزءا من شعبها المنكوب المشرد ومسلوب الحقوق القومية، وتصوير هذه الجماهير وكأنها تسجد وتسبح في حمد "جنة الدمقراطية الصهيونية"، فعيد استقلال اسرائيل ليس عيد افراح شعب تنزف دماء نكبته حتى يومنا هذا وتمارس ضده مختلف اشكال التمييز والاضطهاد.
فموقف الحزب هذا ساهم عمليا في تصليب العمود الفقري للهوية القومية العربية والاعتزاز القومي بعيدا عن التعصف والشوفينية العنصرية. كما ثقف الحزب بموقفه هذا العلاقة العضوية الجدلية بين الطبقية والقومية الوطنية التقدمية. وتمسكا بهذا الموقف المبدئي انفجرت عمليا انتفاضة الاول من ايار في الناصرة وام الفحم، حيث تصدت جماهير المتظاهرين بعصي اعلام ايار وبالحجارة وبالصدور والايدي والارجل والشتائم للعدوان البوليسي الذي لجأ الى العنف لقمع المظاهرتين، وممارسة الارهاب ضد الشيوعيين واصدقائهم قبل وابان وبعد مظاهرات الانتفاضة الشيوعية، فأقيمت الحواجز على جميع الطرق المؤدية الى الناصرة وام الفحم لمنع وصول المتظاهرين، البعض وصل عن طريق الوعور مشيا على الاقدام، كما قام بوليس السلطة باعتقال القادة والناشطين من الناصرة وام الفحم ومختلف الفروع، وقذف الى المنافي البعيدة قادة ونشطاء شيوعيين (مفضل قراءة ما يكتبه الرفيق توفيق كناعنة الذي شارك في صنع هذه الاحداث وكان من ضحايا العدوان البوليسي في السجون، وكذلك ما يكتبه الرفيق عمر سعدي احد الرفاق القياديين في الشبيبة والحزب الشيوعي).



لا ابالغ اذا قلت واكدت ان بطولة الشيوعيين في انتفاضة الاول من ايار كانت القابلة لولادة محطات كفاحية اخرى كان الحزب الشيوعي من مهندسيها وقادتها، فالحزب كان المبادر لاقامة الاطر القطرية للعديد من آليات وحدة الصف الوطنية الكفاحية، خاصة في السبعينيات من لجنة الدفاع القطرية عن الاراضي العربية الى اللجنة القطرية للطلاب الثانويين، لجنة الطلاب العرب الجامعيين، لجنة المبادرة العربية الدرزية، حركة النساء الدمقراطيات وغيرها. كما أؤكد ان انتفاضة الشيوعيين في اول ايار الثمانية والخمسين كانت القابلة الشرعية لولادة "يوم الارض الخالد" في الثلاثين من آذار الستة والسبعين والذي كان للشيوعيين الدور القيادي في قيادته ونجاحه. فالمدلول التاريخي السياسي للانتفاضة الشيوعية في ايار وما سبقها وما تبعها يؤكد ان تبني قضايا الاقلية القومية والدفاع عن حقها بالمساواة القومية واليومية المطلبية تعتبر الجوهر الاساسي للاممية البروليتارية التي يتبناها الحزب الشيوعي.

#احمد_سعد (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين	حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات