أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - ميثم الجنابي - الحركة الصدرية-غنيمة الزمن العابر وتضحية الانتقام التاريخي (2)















المزيد.....


الحركة الصدرية-غنيمة الزمن العابر وتضحية الانتقام التاريخي (2)


ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)


الحوار المتمدن-العدد: 2240 - 2008 / 4 / 3 - 02:16
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


إن للتاريخ مآسيه وعبره. ومهما حاولنا الإشادة بها وتقديمها حسب قواعد ما "ينبغي القيام به"، فإنها لن تجدي نفعا ما لم يجري تجريبها بوصفها عنصرا أو طبقة من عناصر أو طبقات التراكم الضروري في منظومة القيم السياسية والاجتماعية للدولة والأمة. وهي الحالة التي يمكن اعتبار الصدر والحركة الصدرية احد نماذجها الحية.
فهي الحركة التي نشأت من صلب الواقع العراقي وزمن الانحطاط الشامل فيه. وهو سبب احتواء الحركة وشخصيتها الكبرى على كل متناقضات الوجود التاريخي للعراق المعاصر. وهي تناقضات كانت تحتوي في أعماقها بالضرورة على صعود الحالة المتصادمة لنفسية وذهنية "الداخل" و"الخارج"، بوصفها الحالة الوجودية والمعنوية والإيديولوجية لتيارات مصطنعة لكنها فعلية بسبب سيادة الزمن التوتاليتاري والدكتاتوري. فهو الزمن الذي صنع مقدمات التجزئة والانحطاط، بحيث جعل من سيادة الأطراف والهامشية والأقلية في تاريخ العراق الحديث والمعاصر أمرا ممكنا. مع ما ترتب عليه من إضعاف وإنهاك لفكرة المركز الثقافي والمركزية الدولتية، وبالتالي صعود الغرائز وأولوية الجسد والعائلة والقبيلة والجهة، أي كل أشكال البنية التقليدية، ومختلف أشكال الصراع الهمجي.
ولعل "أعلى" النماذج "المتسامية" لهذه الظاهرة يقوم في بروز صراع وتناقض "الداخل" و"الخارج" في الفكرة الوطنية. وهو صراع واقعي وفعلي، وذلك بسب طبيعة الانقطاع في الفكرة الوطنية وتهشم الفكرة العامة في ظل الإحكام المطبق للدكتاتورية ونظامها الكلي. وذلك لان اللاضم الفعلي للكلّ هي قوى القهر والإجبار. وهي قوى لا تصنع في الواقع غير آلية التجزئة. وحالما تستحكم في بنية السلطة، فإنها تتحول الى "سياسة" تشمل كل شيء. أما النتيجة فهي الغربة والاغتراب في الوجود والموجود. وهي الحالة التي واجهها العراق بعد سقوط السلطة الصدامية.
فقد كان إسقاط السلطة الصدامية بالنسبة للولايات المتحدة جزء من إستراتيجيتها الخاصة ومصالحها الكونية. من هنا استحالة تناسق العملية الاجتماعية والسياسية لإعادة بناء الدولة والأمة مع الخطة الأمريكية المتقلبة من البحث عن "أسلحة الدمار الشامل" الى "الإطاحة بالدكتاتورية" الى "بناء الديمقراطية" و"نموذج الدولة العصرية في الشرق الأوسط". وهو سبب ظهور وتوسع وتراكم مختلف نماذج الصراع غير العقلاني. فقوى الداخل هي كمية من الاغتراب الاجتماعي الهائل، بينما قوى الخارج هي نوعية الاغتراب الشامل. من هنا استحالة الاتفاق والوفاق والائتلاف والتآخي والاتحاد وما شابه ذلك من صيغ هي الوجه الدعائي للتعويض عن فقدان الاتفاق والوفاق والائتلاف والتآخي والاتحاد. وهي الحالة التي لم يمكن بإمكانها أن تنتج بعد سقوط الدكتاتورية المفاجئ غير مختلف نماذج الهياج اللاعقلاني. وهو أمر ابتدأ بنهب وسرقة وحرق كل ما كان يواجه أو يعترض الجسد الفردي والجماعي، ومطاردة كل ما كان يثير في الغريزة شهوة الاندفاع حتى النهاية. من هنا تحول اندفاع قوى "الخارج" صوب مراكز القوة والسلطة والمال ومن ثم تصنيع نفسية الغنيمة، بينما كان اندفاع قوى "الداخل" يعادل صيرورة التكون والنشوء والنمو العاصف. وهي عملية كانت تعي نفسها وتتحسسها على أنها مواجهة وتحد واستمرار لقيم التضحية، مع ما يرافقها بالضرورة من شعور "متسام" للانتقام والثأر. وهو تناقض واختلاف له مقدماته المشوهة في تاريخ العراق الحديث والمعاصر، الذي أعطى له الاحتلال الأمريكي طابع الهجوم الكاسح.
بعبارة أخرى، لقد تحول رجوع قوى الخارج المعارضة الى رجوع قوة مغتربة وكاسحة من اجل السلطة، بينما كان صعود قوى الداخل أشبه ما يكون ببركان هائج. من هنا سرعة الاتهام الواضحة والجلية لمعارضة "الخارج" تجاه قوى "الداخل". لقد وجدت قوى "الخارج" نفسها بمكان العائلة الصدامية وقصورها وثرواتها وسطوتها. من هنا احتقارها للقوى التي نشأت من رحم الحياة العراقية. وهي الصيغة الجلية في نمط ونوعية الازدراء السياسي والتفسير المتسرع والاحتقار المبتذل للصدر والحركة الصدرية وغيرها من حركات العراق الفعلي.
بعبارة أخرى، لقد كان تناقض قوى "الداخل" و"الخارج" هو تناقض بين نفسية الغنيمة وذهنية التضحية. فالغنيمة هي الصفة الملازمة لهجوم الأقلية المحكومة بنفسية وذهنية السرقة، بينما التضحية هي التزام الأغلبية تجاه نفسها بمعايير المستقبل. وهي عملية طبيعية تاريخية يمكن تأملها في تاريخ كل التحولات العاصفة للدول. إضافة لذلك أنها العملية الوحيدة القادرة، في حال نشوء النخبة المواكبة لها، على إرساء أسس الرجوع الى مكونات الدولة والأمة، وفي الحالة المعنية الى مكونات العراق الجوهرية، وبالتالي تحديث وعصرنة منظومة التراكم الثقافية ومرجعياتها المتسامية والعملية المتعلقة ببناء الهوية. وشأن كل عملية معقدة ومتناقضة لا يمكن حلها إلا بصعود فكرة الأغلبية. وفي ظروف العراق الحالية والمستقبلية القريبة لم يكن بإمكانها أن تظهر بصورة غير صورة الأغلبية الشيعية. من هنا يمكن فهم سر الصعود السريع والمفاجئ والعنيف للحركة الصدرية.
لقد كانت الحركة الصدرية، حركة الأغلبية المهمشة، وقوى الداخل العراقي. وهي الحالة التي بدت غريبة ومفاجئة ومشوهة بالنسبة لأعين القوى السياسية التي تعودت على التعامل مع العراق وواقعه في "جلساتها" و"مؤتمراتها" في القصور والفنادق المدفوعة الأجر من جانب الدول الأجنبية وأجهزتها الأمنية واستخباراتها العسكرية. أنها لم يكن بإمكانها توقع "منافسة" اجتماعية سياسية، لان السياسة بالنسبة لها هو تحزب لا علاقة له بالمجتمع، وسياسة هي عين المؤامرة والمغامرة. وليس مصادفة أن تتحول شخصية الصدر والحركة الصدرية الى ميدان كل التجارب الممكنة والمحتملة للصراع العقلاني واللاعقلاني. وتكمن أسباب هذه الظاهرة في كون الحركة الصدرية هي تيار الداخل، وتيار المواجهة للمحتل، وتيار التضحية الوجدانية والاجتماعية، وتيار الانتقام التاريخي، ولغز المستقبل. وهي مكونات متراكمة ونامية ضمن سياق الصراع السياسي العنيف الذي ميز مرحلة سقوط الدكتاتورية وظهور مختلف الاحتمالات والإمكانيات القائمة في صلب الاحتراب العراقي الدفين.
فقد أثارت الأبعاد الذاتية للحركة الصدرية، بوصفها تيار الداخل العراقي ردود الفعل الظاهرة والمستترة، التي حاولت كل بمقدار ما فيها من "نقص عراقي" تبرير بقاياه المقلقة للعقل والضمير والوجود. فالأغلبية تتفق وتتوافق وتتآلف وتتحد وتتآخى على عدائها المبطن والعلني للحركة الصدرية. والجميع تحس بحكم الغريزة والجسد والتجربة والمصدر الداعم لديمومتها بالجذور العراقية الأصيلة للحركة الصدرية. من هنا استغرابهم من ظهور شخصية مقتدى الصدر والحركة الصدرية المفاجئ، وتحولهما الى قوة عارمة ورمز من رموز التيار العراقي العام. وهي ظاهرة أصابت بالحيرة اغلبهم بحيث لم يرو فيها غير "حركة تخريبية" وقوة معرقلة "للديمقراطية"، أي انهم لا يريدون "منافسا" و"معارضا"!! لكن إذا كانت الأدوار والقدرة لا تناط بالرغبة، فان الصدر والحركة الصدرية أخذت تمد جذورها وتمتد في أصقاع العراق، وتمتص رحيق وجودها من وجوده المهمش والخرب. وهي حالة متناقضة ومشوهة لحد ما، لكنها جلية جلاء الحركة وأتباعها.
فقد استغربت قوى "الخارج" إمكانية نشوء حركة "بين ليلة وضحاها"، وبروز مقتدى الصدر ذو الثلاثين عاما بإمكانياته "العلمية المحدودة"، على خلفية "كوكبة من السياسيين العراقيين المعروفين بتاريخهم النضالي". وهي عبارة تحتوي فيما يبدو على استمرار مبطن يطابق بين "التاريخ النضالي" والمعرفة! ولكي لا تكون هذه العبارة محل استهزاء وسخرية من هنا عادة ما يجري إلصاق الجهل بالصدر من اجل إبراز "العلم" المبطن لشخصيات لا تتعدى حقيقتها في أفضل الأحوال وصف "أنصاف المتعلمين". وبما أن السياسي في العراق لا يتفاخر بالعلم والمعرفة بسبب قدرتهما على إثارة الشكوك، من هنا يقين "تيار الخارج" بان سر الصعود الفعلي للصدر والحركة الصدرية ينبغي البحث عنه في "الخارج". والمثير في هذا "الدليل" هو اشتراك القوى المناوئة جميعا على اعتبار إيران هي المصدر! بعبارة أخرى لقد وجدت قوى الخارج في إيران مصدر العصا السحرية التي جعلت حركة من كان لا شيء كل شيء! وهي نتيجة تعكس تاريخ "تيار الخارج" الذي تعود على استمداد قوته من الخارج. فقد ارتبطت هذه القوى من الناحية التاريخية والسياسية بقوى خارجية عديدة، اغلب الأحزاب الشيعية بإيران، والشيوعيون بالاتحاد السوفيتي أولا و"بالامبريالية" الأمريكية لاحقا لاحقا! أما الحركات الكردية فقد كان وما يزال ارتباطها متشعبا لا يحكمه شيء غير منظومة الضعف التاريخ الذاتي والاستعداد السافر للارتماء بأحضان القوى الخارجية. من هنا سجلها الكبير، من الاتحاد السوفيتي الى إيران، ومنهما الى تركيا وسوريا، ومن وراءهما جميعا الى إسرائيل والموساد، وأخيرا الى ارتماء عبودي مطلق تحت أقدام الولايات المتحدة. ليس هذا فحسب، بل أن جميع هذه القوى جاءت الى سدة الحكم بفعل الغزو الأمريكي وعلى حرابهم ودباباتهم وتحت غطاء نيرانه "الصديقة"! من هنا غرابة الاتهام "الديمقراطي" و"الليبرالي" للحركة الصدرية بارتباطه بإيران! ولنفترض أن الأمر له نصيب من الصحة، فلما يصبح الارتباط بالخارج معقولا ومقبولا لهم وغير معقول ومرذول لغيرهم!! وهي مفارقة تضمحل بسهولة بسبب ما يمكن دعوته بمنطق الخروج على التاريخ والحقيقة والحق، أي منطق "أهل الخارج". فقد كانت وما تزال "قوى الخارج" مدعومة وممولة بقوة السلاح والمال الأمريكي، الذي تبدو "المساعدات الإيرانية" أمامه شيئا زهيدا وتافها. لكن الاتجاه العام لضعف قوة "الخارج" وازدياد قوة "الداخل" هو النتاج الطبيعي لتناقض ما أسميته بنفسية الغنيمة المحكومة بالزمن العابر، وذهنية التضحية والانتقام التاريخي. وهو اختلاف وتباين وتناقض يستمد مقوماته من تاريخ العراق الحديث وطبيعة الخلل الفعلي في بنية الدولة والنظام السياسي ووعيه الاجتماعي والثقافي. وهو خلل جعل من الممكن تجاهل أو انعدام القدرة على رؤية مصادر الإبداع الفعلي للواقع العراقي، وليكن في بعض مظاهره مناف للعقل والعقلانية. إن "قوى الخارج"، أي قوى الغنيمة العابرة تعجز عن رؤية إمكانية العراق الذاتية. من هنا شكوكها المرة بعقمه الذاتي! كما لو الوليد "الشرعي" و"الوحيد" هو أما دكتاتورية الأطراف الهامشية أو "نيازك" "المناضلين" المتساقطة في ظلماء الزمن الخرب للعراق! وما عداها "نغل" الدعم الإيراني!! أنها رؤية القلوب الخربة والعقول المرعوبة والأنفس السيئة! لقد تعودت على "مساعدة" الخارج، من هنا عجزها عن رؤية البدائل الممكنة من داخل العراق، كما لو أن تاريخه الحقيقي هو تاريخ "الخارج".
لقد نشأت وظهرت الحركة الصدرية من تحت ركام مدن العراق المهمشة والخربة والأرياف التالفة، وعقود الزمن الدكتاتوري، والعنف الاجتماعي، والعوز الاقتصادي، والحروب الداخلية والخارجية، والحصار، والظلم والضيم والشقاء والبؤس المادي المعنوي. فهي المصادر الفعلية، أو العصا السحرية لصعود التيار الصدري. وفيها أيضا يكمن سر كونه تيار المواجهة للمحتل. وهي المواجهة التي تحسستها قوى الاحتلال فيما يسمى بمقتل عبد المجيد الخوئي. وهي المواجهة التي بلغت ذروتها المكشوفة بعد عام من الاحتلال، في مجرى معركة النجف الكبرى في أواسط شهر مايس عام 2004. وفيها ومن خلالها تكشفت طبيعة وحجم الخلاف "المستقبلي" بين الحركة الصدرية والاحتلال الأمريكي.
وليس مصادفة أن تتراكم الصورة "البشعة" للصدر في المخيال السياسي الأمريكي، الذي وجد انعكاسه النموذجي في مانشيت أسبوعية نيوزويك الأمريكية في عددها الصادر بتاريخ 5 ديسمبر 2006 والتي رسمت على غلافها صورة لمقتدى الصدر تجعله اقرب الى الخيال الشعبي المشبع بنماذج الكليشات الأمريكية المسطحة عن القتلة والمجرمين. ولم يكن عنوانها "أخطر رجل في العراق"، سوى المظهر النموذجي لرؤية "الخطر" الكامن والقادم بالنسبة للمشاريع الأمريكية في العراق. وهي الرؤية التي حدت وما تزال تحدد في اغلب جوانبها للدعاية الأمريكية والمواقف العلمية من الحركة الصدرية بوصفها القوة الكبرى التي تتصف بصفات المواجهة الفعلية للاحتلال. وليس مصادفة أن تجري المطابقة بين "فرق الموت" و"جيش المهدي". رغم الخلاف الجوهري بين الاثنين. ففرق الموت هي لعبة أمريكية، بينما "جيش المهدي" فكرة عراقية. من هنا سخافة الفكرة الأمريكية التي تحاول أن ترسم ملامح "جيش المهدي" بمعايير العصابات والمافيا من خلال مطابقة مهمته مع نماذج الابتزاز المميز لعمل المافيات الصغيرة، مثل جباية الأموال مقابل توفير الحماية الشخصية للمواطنين (مثل أن يدفع أحد الأشخاص 13 دولارا في الشهر مقابل حمايته!! إضافة الى استيلائه على محطات الوقود واسطوانات الغاز والخمس التي تجمع في المساجد! وهي صورة تتسم بقدر كبير من السذاجة المدبجة للقارئ الأمريكي. خصوصا إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن "شركات الحماية" (المرتزقة ومحترفي القتل) تدفع وتستلم المليارات مقابل الابتزاز الدائم للدولة والسلطة والمجتمع والمستقبل العراقي!
غير أن الدعاية الأمريكية المحكومة بالسياسة العملية الهادفة الى إضعاف الجميع عادة ما تبرز بعض الجوانب اللاعقلانية المتأججة في مجرى الصراع الدموي واستعماله عند الحاجة تجاه هذا الطرف أو ذاك. وقد كانت الحصة الأكبر من هذا النمط الدعائي السياسي موجه ضد الصدر والحركة الصدرية. بحيث جرى تحويل الصدر من ممثل التيار الوطني العربي العراقي العام الى ممثل "التطرف الشيعي الطائفي" في مواجهته "للسنة". رغم أن ردود فعل التيار الصدري كانت في اغلبها محاولة لتحجيم التيار التكفيري والأصولي المتطرف والإرهابي المسلط على رقاب العزل والمواطنين العاديين. وهي الحرب التي خاضها على جوانب المجرى العام للفكرة الصدرية التي تضع أولوية العداء للاحتلال، وجوهرية القرار الوطني العراقي المستقل. وليس مصادفة فيما يبدو أن يشترك التيار الأصولي التكفيري الإرهابي ومختلف نماذج الطائفية السياسية السنية في التقييم العام والخاص للحركة الصدرية مع المواقف الأمريكية وتقييمها. والسر يكمن في أن الحركة الصدرية كانت من حيث شروط ظهورها التاريخي والسياسي تمثيلا نموذجيا لما أسميته بتيار الانتقام التاريخي، أي تيار الانتقام والثأر التاريخي من الطائفية السياسية للدكتاتورية الصدامية وزمن الإجحاف التاريخي لفكرة الدولة والأمة والمواطنة، أي كل ما وجد انعكاسه في ظهور وتبلور نفسية وذهنية الأقلية الحاكمة والمتسلطة والأغلبية المحكومة والمقهورة. ومن ثم لم يكن تقييم وممارسات الطائفية السياسية السنية بمختلف نماذجها العلنية والمستترة سوى الصيغة الإيديولوجية لفقدان السلطة والسطوة. من هنا أولوية وجوهرية عدائها للحركة الصدرية. فالعداء للاحتلال الأمريكي هو مجرد شكل من أشكال المراوغة والمزايدة العلنية. لكنها بدون رصيد وطني واجتماعي فعلي. من هنا طابعها الدموي التخريبي والمعادي للفكرة الوطنية والعربية الجامعة.
فالتقييم والصور التي تتفنن بها الطائفية السياسية السنية عادة ما تعدو حذو النعل بالنعل ما ترسمه الدعاية الأمريكية مع تلوين فاقع! ولكن من خلال إبراز ما تدعوه بالدور الإيراني. وهو "دور" عادة ما يتخذ صيغة الهوس الإيديولوجي، بحيث جرى تركيب مختلف السيناريوهات الهادفة الى شيء واحد - الاتهام والشتيمة. بل جرى رفع إيران والدور الإيراني الى مصاف القوة العملاقة الوحيدة القادرة على إدارة شئون الحرب والسلم في العراق! بعبارة أخرى لقد حولوا إيران الى قوة عملاق وشيطان العبث الشامل في العراق، بحيث تبدو الولايات المتحدة ملاكا صغيرا. أما الدول العربية، فإنها مجرد أقزام عليلة أو هباء منثور! وهي الصورة الشنيعة التي لا مخرج لكمالها بغير البحث عن الأصول الإيرانية لمقتدى الصدر! وهي صيغة اقرب ما تكون الى المواقف العنصرية المعجونة بطائفية سياسية تتعارض من حيث الجوهر مع فكرة العراقية والقومية العربية الثقافية. ومن ثم لا تعني هذه المواقف والتقييمات سوى الصيغة الظاهرية لطبيعة وحجم الانحطاط الشامل في الفكرة السنية الطائفية، بوصفها استعادة متخلفة للأموية القديمة. أما من الناحية السياسية، فان تضخيم الدور الإيراني ما هو في الواقع سوى الوجه الآخر لفقدان السلطة الطائفية. فالعدو الجوهري من وراء هذه الاتهامات والمواقف الإيديولوجية هو شيعة العراق، أي القوى التي "صادرت" سلطة الطائفية السياسية السنية. وبالتالي لا تعني فكرة القضاء على "الصفوية" في العراق سوى استعادة السلطة المفقودة. بمعنى أن محركها لا علاقة له بالوطنية والقومية والدين. على العكس أنها تقف في تعارض شامل مع هذه المكونات. وهو السبب الذي يجل من مواقفها تجاه الحركة الصدرية اقرب ما يكون إلى خليط غريب للنزعة العنصرية والطائفية. وهو خليط لا يصنع غير مسخ الكراهية العمياء والانجرار وراءها، كما نراه في نوعية وكمية الأساليب الإرهابية.
إن تحول الحركة الصدرية الى هدف التجريح والتشويه، والنقد والاتهام، والشتيمة والحقد، والابتزاز والمؤامرة، والمواجهة والصراع، والقتل والإبادة، تعكس ما أسميته بتمثلها لتيار التضحية الوجدانية والاجتماعية. وهو تمثل يستمد مقوماته من واقع العراق وتاريخه العريق. بمعنى انه يتمثل بقدر واحد مأساة الحاضر وذاكرتها المنقوشة في أعمق أعماق الضمير والوجدان، أي كل ما كان يتراكم ويتهذب ويتشذب في الروح والجسد والتضحية والانتقام. وهي المكونات التي تمثلت تاريخ العراق وأقوامه، أي أجياله المتناسخة في كافة الميادين والمستويات. وليس مصادفة أن تتصدر "بؤرة" التشيع التقليدي في "حوزتها العلمية" ومؤسساتها التابعة المعارضة الخفية ضد الحركة الصدرية. وهي المعارضة التي انطلقت من ألف باء "العلم" باتهامها الصدر بالجهل وإطلاق كلمة "الزعطوط" عليه و"الملا أتاري"!! وانتهاء بحبك مختلف المؤامرات الصغيرة والكبيرة ضده. وهي مؤامرات بدأت بإصدار منشور يسعى لتحصين الإرث التقليدي للعائلات الدينية المتسيدة، باسم "أبناء النجف الشرفاء"!! يتناول تحديد حد وحقيقة "جيش المهدي" بوصفه تطاولا على ارثها المقدس! وقد ورد فيه العبارات التالية "يتألف (جيش المهدي) من عناصر مشبوهة لفوا رؤوسهم بخرق بيضاء وسوداء لإيهام الناس على أنهم رجال دين بينما هم في الواقع مجرد شياطين... الإمام المهدي لا يحتاج إلى أي جيش من اللصوص، النهابين، والمنحرفين تحت قيادة أعور الدجال".
لقد تحول "جيش المهدي"، أي شباب الأرياف والمدن الشيعية المسحوقة الى لصوص ونهابين ومنحرفين! أما قياداته الوسطى فمجرد "عناصر مشبوهة" لفت على رؤوسها خرق بيضاء وسوداء! بينما تحول مقتدى الصدر الى "دجال اعور"! وهي توصيفات وتشبيهات لها دلالتها السياسية والثقافية والاجتماعية. فقد كان يشق على المؤسسة التقليدية رؤية هؤلاء المهلهلين يتطفلون على "علومها" وموقعها وتأثيرها الروحي والسياسي والاجتماعي. فقد وجدت البنية التقليدية للمؤسسة الدينية الشيعية وعائلاتها في الجموع لصوصا، وفي قيادتها شياطين، وفي قائدها دجالا اعور! وهو عين التقوقع السياسي والاجتماعي والثقافي عمن تتهالك المؤسسات التقليدية لتقديم نفسها بوصفها ممثلهم الشرعي الحقيقي الوحيد! وهي ظاهرة تعكس ما يمكن دعوته بالصيغة "الروحية" الملطفة والعادية لنفسية وذهنية الدكتاتورية المتغلغلة في كل مسام الوجود العراقي. من هنا تخوفها وهلعها من صعود "الغوغاء" وظهور "الدجال"، أي من القوة القادرة ليس فقط على مشاركتها زكاة الروح والجسد، وخمس الأعمال والنيات، بل واحتمال استبدالها بطور وجيل آخر. وهي الفكرة التي كانت ملامحها تلوح في العبارة المقتضبة للحركة الصدرية التي وجدت في نفسها ممثلة "الحوزة الناطقة"، أي النفي العملي "للحوزة الصامتة".
لقد بدت الحركة الصدرية كما لو أنها عنقاء الثورة التي أخذت تنافس من خلال تمثلها وتمثيلها "للحوزة الناطقة" و"المهدي المنتظر" مختلف مؤسسات وأشخاص "المرجعية الدينية". إذ وجدت هذه المؤسسات والأشخاص في الحركة الصدرية منافسا شاملا لها هو عين "الدجال الأعور"! وليس مصادفة أن يبدأ الصراع بين الحركة الصدرية وتيار "المرجعيات" التقليدية بعد يوم من سقوط السلطة الصدامية وبروز شخصية عبد المجيد الخوئي وعلي السيستاني. فقد كان الأول "لبرالي" الخارج الموالي للسيطرة الأمريكية، بينما كان الثاني سليل البنية التقليدية الهادئة وتقاليد التقية. من هنا ابتداء الصراع بمقتل عبد المجيد الخوئي، الذي جرى توجيه أصابع الاتهام فيه للحركة الصدرية. وسوف يقتل لاحقا الكثير بما في ذلك "شهيد المحراب". وهي عملية لا علاقة للحركة الصدرية بها بقدر ما أنها كانت تشكل بعض مظاهر التضحية الحتمية "للانتقام التاريخي"، أي احد مظاهر البركان الاجتماعي الهائج. فعندما جرى قتل الخوئي في 10 نيسان 2003 ، فان الأعين "الفاحصة" للاتهام المبتذل توجهت صوب البحث عن "أسراره" في "الصراع حول قبر الإمام علي وسرقة محتوياته"!! وهو واقع لا يخلو من صواب نسبي، لكنه لا علاقة له بحقيقة المجرى العام للاندفاع العارم للأغلبية من اجل تجسيد نفسها بأسرع وقت في ظل الفراغ الهائل الذي استتبع سقوط الدكتاتورية الصدامية. وهو فراغ ملأته قوى "الخارج" المندفعة شأن السيول وقت الأمطار العاصفة، بينما كانت حصوات السلطة السابقة تتدحرج حيث يأخذ بها المجرى، بين مسحوق ومكسور ومندثر ومرصوص في البناء الهش للجرف الأجوف! أما البسيطة العراقية، أي المعمورة بذكرى الحياة ومآسيها والخراب الشامل، فإنها ظلت تتعالى وهي تنظر الى أخدود السلطة الجديد على جسدها المنهك. لكنها قادرة في نهاية المطاف على تحويله الى جزء من تضاريسها. وهو الوصف البياني للحركة التاريخية الشائكة والمتعاركة من حيث آفاقها واحتمالاتها في ظروف الانتقال المعقدة للعراق من زمن التوتاليتارية والدكتاتورية الى تاريخ الدولة الشرعية والمجتمع المدني.
وشأن كل انتقال من الخراب الى العمران، لا يمكن لعمارته أن تكون نموذجية. على العكس. إن نموذجيته الضرورية تكمن في إشراك الجميع بالحركة والبناء. فهي الحالة الوحيدة القادرة على تنشيط عضلاته الجسدية وخلاياه العقلية. وهي الحالة التي تجسدت بصورة نموذجية في صعود الحركة الصدرية وأمثالها في ظروف العراق الجديدة. وذلك لأنها كانت تتمثل بصورة تلقائية عملية التحول العاصف. وهو السبب الجوهري الذي أثار لغط الحديث وسفاهة الاتهام وابتذال التقييم حول "سر" و"لغز" الحركة الصدرية. وهو لغز يمكن فهم أسراره في ظاهرة التقاء بقايا السلطة الصدامية ومعارضة الأمس المتربعة على سدة الحكم في العداء للحركة الصدرية، أو الاستهجان المشوه من جانب مختلف الحركات المناهضة للاحتلال والنظام السياسي الصنيع في ظروف العراق الحالية التي لا ترى في الحركة الصدرية شيئا غير أداة من أدوات السياسة الإيرانية في العراق، أو يدها الضاربة في معاركها الجانبية مع الولايات المتحدة .
إن "لغز" الحركة الصدرية جزء من "لغز" العراق الحالي، أي من كمية ونوعية المتناقضات الهائلة والمتحركة فيه، التي تجعل من الصعب حد وتحديد ما يجري فيه بطريقة "منطقية" خالصة، بما في ذلك رصف أحكام التقييم الجازمة والدائمة والثابتة. وهي ظاهرة وحالة سوف تبقى لفترة زمنية طويلة نسبيا. غير أن مسارها العام يتوقف على طبيعة التحولات اللاحقة في بنية الدولة والسلطة والمجتمع والاقتصاد والثقافة، وكذلك على طبيعة التحول المحتمل في الحركة الصدرية نفسها. فهي المعادلة المعلقة على آفاق المستقبل. بمعنى أن إمكانية تعليقها على كعبة البدائل يتوقف على كيفية كتابة وغناء أبياتها. وحالما تكتمل قصيدة الحركة الصدرية، حينذاك يمكن معرفة ما إذا كانت معلقة حقيقية أو مجرد كلام منظوم من قاموس اللغة، بلا وجدان ولا عرفان! أي بلا إبداع ذاتي.



#ميثم_الجنابي (هاشتاغ)       Maythem_Al-janabi#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مقتدى الصدر - ميتافيزيقيا الثورة الصدرية( 1)
- المركز السياسي والمركزية الثقافية
- كتاب (العراق والمستقبل – زمن الانحطاط وتاريخ البدائل).
- الدكتور علي ثويني – الفكرة المعمارية وهندسة الروح العراقي
- حدود الصراع الروسي الجورجي وتجارب -الثورات الملونة- (1-2)
- نهاية الزمن العرقي (الكردي) في العراق (2-2)
- نهاية الزمن العرقي (الكردي) في العراق (1-2)
- نهاية الزمن الطائفي في العراق
- تقسيم العراق – يقين الأقلية العرقية وأوهام الطائفية السياسية
- فلسفة الثقافة البديلة في العراق
- العراق ومرجعية الرجوع الى النفس
- (أشجان وأوزان الهوية العراقية) كتاب جديد لميثم الجنابي
- -الروافض- وفلسفة الرفض العراقية
- الحركة الصدرية - الغيب والمستقبل (6)
- الحركة المختارية والحركة الصدرية – الماضي والمستقبل 5
- عقيدة الثأر السياسي في العراق - من الحركة المختارية الى الحر ...
- عقيدة الثأر السياسي في العراق - من الحركة المختارية الى الحر ...
- عقيدة الثأر السياسي في العراق - من الحركة المختارية الى الحر ...
- عقيدة الثأر السياسي في العراقي - من الحركة المختارية الى الح ...
- مراقد الأئمة – مواقد الثأر الهمجي


المزيد.....




- مراهق اعتقلته الشرطة بعد مطاردة خطيرة.. كاميرا من الجو توثق ...
- فيكتوريا بيكهام في الخمسين من عمرها.. لحظات الموضة الأكثر تم ...
- مسؤول أمريكي: فيديو رهينة حماس وصل لبايدن قبل يومين من نشره ...
- السعودية.. محتوى -مسيء للذات الإلهية- يثير تفاعلا والداخلية ...
- جريح في غارة إسرائيلية استهدفت شاحنة في بعلبك شرق لبنان
- الجيش الأمريكي: إسقاط صاروخ مضاد للسفن وأربع مسيرات للحوثيين ...
- الوحدة الشعبية ينعي الرفيق المؤسس المناضل “محمد شكري عبد الر ...
- كاميرات المراقبة ترصد انهيار المباني أثناء زلازل تايوان
- الصين تعرض على مصر إنشاء مدينة ضخمة
- الأهلي المصري يرد على الهجوم عليه بسبب فلسطين


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - ميثم الجنابي - الحركة الصدرية-غنيمة الزمن العابر وتضحية الانتقام التاريخي (2)