أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - إبراهيم اليوسف - بلند الحيدري رائد الحداثة الشعرية المنسي- 2/2















المزيد.....



بلند الحيدري رائد الحداثة الشعرية المنسي- 2/2


إبراهيم اليوسف

الحوار المتمدن-العدد: 690 - 2003 / 12 / 22 - 05:12
المحور: الادب والفن
    


هكذا ، بغتة ، يحزم بلند الحيدري آلامه وغربته وانكسارا ته المديدة ، يفرد أوراقه البيضاء على الطاولة ، حيث تتوزع بينها أحلامه المنخوعة ، وقصائده التي لم تكتمل ، وعناوين أصدقائه المذرذرين في تخوم خرائط الناس .

يؤكد لمن حوله وهو يستلم بطاقة دعوة لحضور مهرجان " أصيلة " أنه سيطير إليها من مطار هيثرو ، يتوهم هؤلاء : انه حقاً سيقصد " اصيلة " التي شغف بها ، ودأب على حضور الفعاليات الثقافية التي تقام فيها ، لأنها تجمع على مدار أيام من الغبطة أحباءه ، وأصدقاءه فرسان الكلمة ، ممن نثروا على حين غرة ، ليحمل كل منهم صليبه على غرار دعبل الخز اعي ..

يقول :" قيل لي أن مهرجان " أصيلة " لهذا العام كان مهرجاناً فذاً بمن حضره من أدبائنا ومفكرينا الكبار ، وبمن أسهموا معهم من أدباء ، ومفكرين من العالم ، وبما القي فيه من دراسات ، وما حظي به من مناقشات وقد تعذر علي أن أحضر هذا المهرجان لأسباب قاهرة ".

طبعاً ، انه قد قال هذا الكلام في إحدى مقالاته في مجلة " المجلة " في العام 1992 ، وها هو بعد أربع سنوات ، يُدعى إلى المهرجان نفسه ، إلا انه لا يستطيع الحضور لأسباب قاهرة أيضاً ،ا ٌذ يؤثر- وعلى حين غرة -الغربة الأبدية على مثل هذا السفر ...!.

" يوجعني يا سيدي

أن لا أعرف نفسي حراً

إلا في الغربة

إلا في حلم يوجز ني بحراً

وبقايا من سفن "...!!

ولد بلند في 26 أيلول 1926 – في مدينة السليمانية – في أسرة أرستقراطية ، معروفة بشغف أبنائها بالعلم ،وكان أبوه عسكرياً ذا مزاج حاديعتبر الشعر نقيصة !

ولقد كُتب على بلند أن ينتقل إلى أكثر من مكان ، قبل أن يستقر المقام بأسرته في بغداد، تلك المدينة التي كانت النقطة المهمة في تجربته الحياتية .

ومنذ نعومة أظفاره ، كان بلند يرى نفسه مختلفاً عن سواه ، مشاكساً ، غير قادر على الانضواء تحت سلطة الأب البطريركية ، على الرغم من  أن كل أسباب المعيشة والسعادة كانت مهيأةله في قصور أبيه ، وانه كان قادراً أن يتناول طعامه " بملعقة من ذهب " على غرار ما كان  يقال عن احمد شوقي، بيد انه تمرد على أعراف أبيه ، واثر الانفصال عنه كما فعل أخوه (صفاء) ، مستأثراً العيش على غرار العامة والبسطاء .

ومن أطرف ما يروى عنه عمل عرضحالجياً ، أمام مبنى وزارة  الداخلية التي كان خاله داود باشا الحيدري قد ترأسها.و لعل نزعة التمرد التي عنده ,هي التي قادت سعدي يوسف لأن ينعته بالابن الضال بل وان يعترف هو بشكل شخصي إذ يقول عن سوء علاقته بأبيه :" لم أكن أفهم  أبي ، ولم يكن يفهمني فتركت القصور ..."!!

إن هذا الكلام ، لا يعني على أية حال إدانة أسرة بلند ، المتمرد ، والمشاكس ، لأن أسرته معروفة بحب بنيها للعلم ، ومتابعة عدد كبير منهم للدراسة في الخارج ، وكان في هذه الأسرة السياسي ,والثائر, والشهيد جمال الحيدري ، الذي قتله انقلابيو  1963 ، بل وفيها المربي ، ورجل الدين, وغيرهم من وجهاء المجتمع وأعيانه .

أجل ، صحيح ، إن بلند من مواليد السليمانية ، المدينة التي ولد فيها كتّاب ، وأدباء ، وساسة ، وصحافيون ، وقادة ... وغيرهم ، إلا أن بغداد تعتبر المحطة الثانية في تجربته ، بل هي بحق مرحلة التأسيس لموهبته في الرسم ، والكتابة باللغة الام التي نظم الشعر من خلالها لأول وهلة ، منذ طفولته الأولى .

 في مدينة بغداد عاش بلند أيام شبابه الأول ، وفيها تعرف على المبدعين والمثقفين الأوائل كجواد سليم ... وفائق حسن ..وعبد الملك نوري وفؤاد التكرلي – كما قال البياتي – ممن كانوا يخوضون معاً نقاشات حول قضايا الثقافة ، والإبداع ، والفن إلا أن بيروت تعتبر المحطة الثالثة في تجربة الشاعر حياتياً, وابداعياً ، إذ استمر فيها فترة طويلة من الزمن .

واسهم هناك في إرساء اللبنات الأولى لمشروع الحداثة الشعرية في مجلة شعر إلى جانب أدونيس وغيره ممن كان الشاعر قد سبقهم أصلاً عبر مشروعه البلندي ، بيد أن أعاصير المنفى القسري ، رمت به فيما بعد بعيداً عن بيروت التي قال فيها

 :" بيروت

يا موتاً أكبر من تابوت

يا موتاً لا يعرف كيف يموت

لن يعرف كيف يموت ...!!"

 بل خصها ببضع قصائد منشورة في ديوانه " الى بيروت مع حبي " لأنه أضطر  منذ العام 1982 للإقامة في لندن ، إلى أن وافته المنية هناك !

خفقة الشعر

إخفاق الحياة

اصدر بلند في العام 1946 ديوانه الأول " خفقة الطين " قبل أن يصدر كل من السياب, ونازك, والبياتي ممن اعتبروا من الرواد دوواينهم الأولى ، غير أن الدراسات التي تناولت الشعر عراقياً, وعربياً, كانت تتجاهل اسمه لاعتبارات شتى وللأسف الشديد ، مكتفية بذكر أسماء انداده, الذين كانوا أنفسهم يشيدون بدوره كأول الرواد يقول السياب :" هناك عدد من الشعراء ، أكنُّ لهم كل التقدير والإعجاب وعلى رأسهم بلند الحيدري ..!!".

ولقد كتب عنه البياتي في جريدة الأهالي ، بعد صدور ديوانه " أغاني المدينة الميتة " كان قد اعجب بها بلند أشد الإعجاب ، بل انه اقتطع منها عبارة صار ناشرو كتبه يضعونها على أغلفة دواوينه الصادرة فيما بعد تباعاً ، كشهادة من أحد أترابه العمالقة وإذا اعتبرنا " خفقة الطين " أوراق اعتماد هذا العملاق في عالم الشعر ، فان أعماله المتتالية : " أغاني المدينة الميتة " 1951 بغداد   - "جئتم مع الفجر" 1960 بغداد- " خطوات في الغربة " 1965 بيروت- تأكيدعلى ابداع الشاعر ، وتفرده كصوت ذي خصوصية ، ولعل ديوانه " حوار عبر الأبعاد الثلاثة " 1972 وزارة الثقافة العراقية, والذي كان عبارة عن قصيدة واحدة ذات نفس ملحمي ، لفتت الانتباه أكثر إلى هذا الشاعر المهم الذي غذ الخطا بالروح نفسها التي قدم فيها :" أغاني المدينة الميتة " هذا الديوان الذي أثر في أصوات مجايليه ولاحقيه على حد سواء ، بل انه اثرى به المشهد الشعري أيضاً كان محط اعجاب الجميع .

توقف بلند منذ بداية تشكل وعيه المبكر ، عند قضايا تنم عن فهم عال لقضية تهميش انسانه ، وهدره لذاته ، ووقته بفعل الية منظمة ، لذلك فلقد نادى بتأسيس جمعية " الوقت الضائع " التي ضمته مع عدد من أترابه الذين اتفقوا واياه على هذه الفكرة ، وشاطروه في الشغف بالثقافة ، ويبدو ان نبوءة الشاعر قد صدقت ، لأن أوقاته التي لم يهادنها تحولت الى سكاكين تحزُّ روحه ، وصفوه ، ليصح فيه قول المتنبي :" على قلق كأن نار تحتي ..." ولعل احساسه الشخصي المفرط هنا ، بعدم التمكن ، وبسبب من جملة ظروف من استغلال هذا الوقت على الشكل المطلوب ، كان له صدى في نصوصه التي تشير إلى ذلك جيداً ، بل ان هذا الشعور قد رافقه  حتى وقت قريب يقول وهوفي لندن 1992 وعلى الرغم من انه قارئ عنيد جداً : " واعترف با لكثير والكثير من الكتب مما وصلني من اخوة بررة (...) ما زالت مكومة على رفوف مكتبتي ، ولم يتح لي حتى ان اقلب بشئ من العناية التي تفرضها الامانة في الحكم له ، أو الحكم عليه ....".

إذاً ، ثمة حقيقة مهمة أغفلها جل النقاد الذين تناولوا الحداثة الشعرية و هي أن بلند و كما يرى ياسين رفاعية في مقدمة الحوار الذي أجراه معه في 4/8/1977 (ملحق الثورة الثقافي ) بقوله :هذا الحوار مع الشاعر يكشف لنا أشياء عن شخصية كانت غافلة عن معظم متابعيه ، وهو واحد من الرواد ، بل أنه كان أول المجددين في الشعر قبل السياب ، و الملائكة،لكن الضجيج الذي رافق السياب آنذاك غطى على بلند الذي كان يؤثر ذلك الحين العمل بصمت)).

كما أن قصيدة بلند ، لم تكن في حقيقتها نسخةً مكرورةً عن نصوص مجايليه ، بل أقول : ممن جاؤوا بعده كالسياب و نازك و البياتي ...‍‍‍‍ ، وبدوا فجأةً رواداً، بل أنها كانت نسيج نفسه فقط ...،فهي مختلفة بصورتها ، ومفرداتها،و إيقاعها، و مناخها ، و هندستها ،! إذ كان يعمل أزميله البرونزي في عاج المفردة ، ليقدمها شبيهةًبروحه هو، لا سيما و أنها العصية التي لم تتكئ على أنموذج محتذى ، وبهذا,فإن بلند أي ((العالي)) بالكردية إسم يشفع له المسمى الذي يسم تجربته الفنية ...

كان بلند رغم طيبته و دماثة أخلاقه و غيرته ، و حبه لكل الناس ، عنيداً لا يرعوي قط ، حيث أنه لم يتقيد بإشارات المرور و النواميس ، ولم يخف يوماً من أية ضريبة يدفعها ، بل لم يفكر برضاء أحد ، يعبر عن رأيه دون أن تثنيه سطوة ما عن رؤاه ، و نزقه ، و مشاكساته ، و إستفزازيته ،حتى وإن كانت آراؤه غير دقيقة ، أو غير مقنعة ، إذ أنه تسبب في نيل سخط كثيرين على حد سواء ، دون أن يكترث بردود الفعل ، مهما تعاظم حجمها ، ودفع بسببها الضرائب الفادحة ، منها تلك العزلة التي ضربت حوله منذ منتصف السبعينات .

و لعل آراءه "غير الدقيقة " التي نال خلالها من لغته الأم و أذمها ، انعكست عليه سلباً ، رغم أنه و برأيي لم يكن يروم الحط من لغة ليعلي من شأن أخرى ، و إنما كان يريد الدفاع عن انقطاعه عن الكتابة الكردية ، لغته الأم ، وانبهاره بلغة الضاد ، كونها لغة المدرسة ، و الشارع ، و الدائرة، والإعلام ...

الناقد و الفنان التشكيلي :

على الرغم من إن بلند قد بخس حقه كأحد رواد الحداثة الشعرية ، إلا إن إسمه عرف على نطاق واسع لدى قرائه ، و محبي شعره, و يظهر أن هذه الشهرة قد طغت عليه كناقد تشكيلي و رسام مهم ...، إذ كان ذا حس مرهف ، و ذائقة عالية و ربما إن لصداقته لعدد من الفنانين التشكيليين، ك: نزار و جواد سليم و فائق حسن أثر بارز  ًفي تنشئة هذه الموهبة و تكوين ملامحه الأولى . و يعتبربلند  رائداً أيضاً في مجال النقد الفني إلى جانب جبرا إبراهيم جبرا لأنهما معاً من الأوائل الذين كتبوا في هذا المجال الهام التي يتطلب أدواته ووعيه و تذوقه على نحو خاص .

ولقد كان جبرا يأخذ عليه انه لم يطوّر تجربته في الفن التشكيلي بالدرجة نفسها التي طوّر فيها  تجربته الشعرية ، إلا انه قد ترك على أ ي حالٍ دراسات ٍ في الفن التشكيلي طبعت ضمن كتابه النقدي الهام " زمن لكل الأزمنة " بيروت 1979 ، بالاضافة الى ان كتابه " نقاط ضوء " بيروت 1979 أيضاً ,والذي هو خواطر في الادب والفن ويحتوي على دراسات من هذا النوع .

وقد يكون لعمته – ناهدة- دورٌ كبير في ولادة هذا الميل في نفس بلند ، وتنميته ، خصوصاً, وانها عرفت بادارتها منذ الاربعينات لجمعية أصدقاء الفن في بغداد . وهذا مايؤكد على صعيدٍ اخر الدور الحضاري, والوطني, والانساني لهذه الأسرة الكردية العراقية برمتها .

لقد كانت – فنون عربية – التي ترأس تحريرها – وعمل معه فيها جبرا وضياء العزاوي حدثاً فريداً على صعيد دراسة وتوثيق الفن الشرقي ، والعناية به ، كونه تراثاً مهماً لم يتم تناوله كما ينبغي .

وقد لا يكون اعتباطاً أبداً ان شريكة حياته – دلال المفتي – أم عمر – هي بدورها فنانة تشكيلية مرموقة ، وهذا ربما لا يعرفه كثيرون ...!

بلند الصحافي :

نشر بلند قصائده الأولى منذ بداية تجربته الابداعية ، إذ بدأ اسمه يترسخ كشاعرٍ لمع نجمه أولاً في العراق ، وفي لبنان ، وعلى صعيد العالم العربي برمته ثانياً .

كان طه حسين قد نشر له قصائده في " الكاتب المصري" منذ تلك المرحلة المبكرة ،بعد أن وجد فيه صاحب موهبةٍ يثير الاهتمام بابداعه ، يقول أحمد عباس صالح عن ذلك :" لقد أشارت المجلة الى بلند باعتباره شاعراً ثورياً ، وانه ينظم شعراً حديثاً يعبر عن تيار جديد بالغ الاهمية ، بل وان قصيدته مختلفةٌ تماماً عن الشعر المتداول . ولقد ترأس مجلة ((العلوم)) و(( آفاق عربية)).

و أنه بعد أن حط به المطاف في لندن أصدر هناك مجلة "فنون عربية" كما أشرت ، و لقد كانت متخصصة بالفن كما يوضح ذلك، وأنه ظل يحرر صفحته في مجلة "المجلة" اللندنية إلى تلك اللحظة التي ضاق فيها قلبه ذرعاً بالمتاعب التي تحاصره من حدب و صوب .

ناهيك عن أنه استمر في مكاتبة كبريات المجلات العربية حتى وقت قصير ، و منها : المدى – الناقد- العربي – و قد نشر في هذه الأخيرة دراسة عن الفن الإسلامي تميزت بسعة ثقافته ، و شموليتها ، وقدرته على التقاط  التفاصيل و الدقائق بأحاسيس جد مرهفة...

بلند الماركسي و الوجودي و السياسي ...!!:

مؤكد أن انسلاخه عن أسرته الأرستقراطية في وقت مبكر ،  بل و إنضمامه منذ الرابعة عشر من عمره إلى صفوف الحزب الشيوعي . في أواخر الثلاثينات تحديداً ، إضافةً إلى القول ببعض تأثيرات الوجودية عليه ، كنتيجة حتمية للمرحة اللاحقة بعيد الحرب العالمية الثانية ، ومعاناة المشرق من وطأة الغرب ، دليل على إن الرجل كان رجل موقف و فكر ، و لم يرض قط أن يكون هامشياً، أما عن كونه ماركسياً ووجودياً في آن واحد ، فإنه يقول عن هذه الثنائية التي لا يرى فيها حرجاً البتة و بشئ من التفصيل : ثمة نزعتان فكريتان غزتا سني شبابنا ، شأننا في ذلك شأن غيرنا من شباب العالم هما : الوجودية و الماركسية . قد اجتمعتا الي في ظروفي ، و ظروف مجتمعي آنذاك, مما أتاح لي الفلسفة الوجودية, فغرقت في القراءة عنها و تبني أفكارها (...) و إذا كانت مداخل الوجودية هي القلق، و الإحساس بالغربة و الإنتماء  للواقع ، و اليأس أحياناً ، فإن مثل تلك المشاعر كانت تتصارع في أعماقنا بكثير من العنف ، و لكننا في ذات الوقت نلتمس مخرجاً لنا في الماركسية . و كنت أعيش الى حد ما في معادلة خاصة توصل بين وجوديتي و ماركسيتي .

لقد قال مكسيم غوركي مرةً بأنه لا يعرف كيف يوفق بين نيتشه و كارل ماركس و قد كان الإثنان متعانقين في أعماقنا بشكل لا ينفصل . و يمكن الإشارة الى أن بلند قد أدخل السجن منذ العام 1963 بسبب موقفه من الإنقلابيين ، الذين استشهد على أيديهم جمال الحيدري آنذاك . بل و إنه ممن أسهموا في تأسيس إتحاد الديمقراطيين العراقيين في المنفى ، و أصبح نائب رئيسه .

الحرية لم تكن كذبة كبيرة ...!!

تحت هذا العنوان ، يرد بلند في احدى زواياه على سيدة عراقية, استشهد زوجها و دخلت السجن بنفسها ، بل و بترت ساق ابنها نتيجة صدمة الحرية ، وابنها الآن طريح الفراش ، و إن كل ذلك – برأيها – بسبب هؤلاء الكذابين ، و أصحاب الشعر الذين خدعونا بأن (الحرية ) واجب وطني ...!! يقول: إذا كان ثمة رهط من الناس في التاريخ القديم ، وما استمر له من أولاد و أحفاد ، و مريدين الى يومنا هذا، استطاعوا أن يعطلوا مسيرة الحرية، لفترة من الزمن كما عطلها "نيرون "و كسرى و جنكيزخان و حفيده هولاكو.. و هتلر ...، أقول : إذا كان التاريخ قد عرف مثل هؤلاء المتجبرين على شعوبهم فقد عرفت تلك الشعوب في الكثيرين (...) من المفكرين و الشعراء و الأبطال ما يشحذ همتنا للتصدي لجبروتهم ، و تعميق إحساسنا بضرورة التضحية ثم يستشهد بقول المتنبي :

و إذا لم يكن من الموت بد                   فمن العجز أن تكون جبانا

نجد هنا ، إنه على الرغم من كل ما قيل و ما وجه من الإتهامات بحق بلند ، كونه متشائماً على حد زعم بعضهم ، إلا أنه – و الحق يقال أيضاً – متفائل من طراز رفيع و عال ، إذ أن هذا الواقع المستنقعي الذي تفوح منه رائحة نتنة و تتعالى فيه صرخات المشردين و الجياع لم يمنع بلنداً من الاستمرار في حلمه و نشد انه الأمل على طريقته ...

رواد الفجيعة :

إذا كان الجواهري – آخر الشعراء العرب التقليديين – قد عانى بشكل لا تتقبله الأعراف و النواميس و القوانين ، من ثقل وطء آلة طاغية – بغداد – التكريتي الذي عاداه بشكل سافر ، و حرمه جنسيته العراقية ، و هو ابن العراق البار و أكثر جدارةً بتراب وطنه لأنه أكثر من غناه, و رواه من موق ناظره ,و نبض خافقه ,فإن جيل الرواد قد جرعتهم تلك الآلة البربرية المرارات و صادرت آراءهم,اذ حاولت كم أفواههم  ,بل  طاردتهم و استكثرت عليهم هواء الوطن !، ساعية لتصفيتهم الجسدية ,و المعنوية شأن الآلاف من مبدعي هذا البلد الذين أذيبوا في غرف الأسيد, و ألقيت عظامهم في حاويات "قصر النهاية" ومن هنا فاننا نجد النهايات المأساوية, لكل هؤلاء فالسياب مات في احدى مصحات الكويت ,و هذا مايتكرر الآن تماماً مع نازك الملائكة- أحداثاً و مسرحاً و دراما ...! بل أن مصير هما لم يختلف من مصير بلند الحيدري ,و عن مصير البياتي, والذي تفرد بعد رحيل أترابه بحمل راية الألم و الشعر... معا. الى ان وافته المنية- هوالاخر-في دمشق,بعيداً عن

مسقط رأسه

وقد يكون ضرباً من المفارقة الكاريكاتيرية ، أن يكون هؤلاء الفنارات الاعلام قد دخلوا بابداعاتهم صفحات التاريخ.., الا ان جغرافيا وطنهم قد ضاقت بهم ... !فخرجوا منها, مكرهين, وهم يفرون بجلودهم, وأرواحهم‍‍‍‍‍‍م!!

 

 

جائزة بلند الحيدري :

سرعان ما انتشر خبر رحيل الحيدري كما البرق في كل مكان, وسرى الألم في نفوس قرّائه ومحبيه, أينما كانوا, إذ أُ قيمت أماسٌ أدبية وفعاليات ونشاطات مختلفة بمناسبة تأبينه ، منها تلك الأمسية التأبينية التي أقامها اتحاد الكتاب العرب في الامارات العربية ،وشارك فها عدد كبير المبدعين العرب كجمعة اللامي وفضل النقيب ومحمود مرزوق ....وغيرهم ..كما ان السيد محمد بن عيسى رئيس جمعية المحيط الثقافية لموسم " اصيلة " أعلن عن تخصيص جائزة سنوية تحمل اسم بلند الحيدري تخليدااً لذكراه ودوره الريادي الكبير في مجال حركة الحداثةالشعرية.

بلند : عائدٌ إلى كرديتي !!..:

لا يمكن للشاعر الرهيف والكوني في رؤاه مهما كان منتمياً إلى الدائرة الأوسع أن يتناسى انسانه ,  وألا يبكي أوجاعه ،وألا يفرح في كرنفالات أفراحه, وعلى الرغم من ان قصائد بلند ذات هوية شمولية ,الا انه كان وطنياً ,وانسانياً. في آنٍ واحد, عبر معادلة يجيد هو موازنتها على طريقته ، وهناك نقطة مهمة جداً سيلاحظها دارس نصوص بلند وهي محاولته كما يقول سعدي يوسف   تقديم الشعر الصافي .

بل ان أحدهم وهوعباس بيضون بيّن ان النبرة العراقية بشكل ٍ عام في قصيدة بلند أخفض منها في نصوص غيره من العراقيين الشعراء ...

عموماً, ان بلند كان يدفع ضريبته كأي كردي مرتين – وهذا معروفٌ بل ان كرديته كانت سبباً في تجاهل النقاد العرب – له وعدم الاشارة اليه كرائدٍ للحداثة ,بل وكأول ضلعٍ في رباعي الحداثة الشعرية ,عموما,ً يقول عوني بشير بان بلند بعد ان تجرع مرارات الانكسارات , شهد خذلان كثيرين من حوله -رغم انه -كرّس حياته من أجل أصدقائه الذين اثرهم حتى على أسرته إذ قال له بلند :

ألا ترى انني بسبب ذلك رجعت إلى كرديتي وابتعدت عنكم ياعرب ..!؟

يقول بلند أيضأ في قصيدة كتبها 1990 في مجزرة حلبجة تحت عنوان               " لكي لاننسى ":

 يا بلدي

تسبح في ألق الشمس

وتطل ندى من كل زهيرات النرجس

والورد

هبت ريح مسمومة

نفثتها عينا بومة

لتسمم كل صغارك يا بيتي .. يا بلدي

 قتلت فيمن قتلت ولدي

 سرقت فيما سرقت ظلي

الدرب لبيتي امسى مقبرة في كردستان   

ماذا قالوا بعد رحيله

لقد اهتمت وسائل الاعلام على نحو غريب بنبأ رحيل هذا العملاق المهم في دنيا الحداثه الشعرية , والحركة الثقافية عموماً , ويبدو ان رحيله قد اسهم هذه المرة في قرع الاجراس بأكثر , للانتباه الى واقع المثقفين المؤلم ممن تعرضوا للقهر ,والتعسف ,والنفي .

شهادات:
يقول سعد البزاز: سيجد النحاة والبناة والرواة في بلند شاعراً عظيماً من أولئك الرواد الذين شقوا نهر الشعر العربي الحديث وسيفتقد القراء ناشراً عذباً كان يطل عليهم بأحاديثه الممتعة في الثقافة والفلسفة والتاريخ والسياسة وسيرتاح المخبرون بغلق ملف مشاكس راحل اخر .

يقول أدونيس : بدءاً من هذه اللحظة سأحاول ان انثر كل يوم في اثير قبره وردتين :وردة  باسم الشعر ووردة باسم الصداقة .

يقول البياتي : رائد أصيل ومهم في بداية الثورة الشعرية في العراق .

شوقي ابو شقرا : كان اسماً بارزاً في الوسط الشعري ولايذكر الشعراء الا ويعد بلند الحيدري بينهم (...) وانه شاعر ارتوى من الينابيع .

سعدي يوسف : ازعم ان بلند الحيدري كان الشاعر الأكثر اهتماماً بين مجايليه بمحاولة الشعر الصافي – واوضح في مجلة " الوسط " التي استفتت عدداً من الكتاب والشعراء للادلاء بشهاداتهم في قيمة ابداع بلند ودوره مضيفاً الى ما سبق وفي معرض القاهرة للكتاب التقيت بلند في فندق بير اميزا في الجيزة ، كنت أحمل حقيبة أنيقة سوداء ذا خطين عريضين من الفضة, لقد كانت حقيبته هو اهدانيها في لقاء سابق بعد ان راى حقيبتي المهترئة ,وها انا احمل حقيبة بلند .

يقول فيصل دراج :اذا كان الحيدري يقدم في قصيدته اقتراحاً شعرياً جديداً فانه كان وفي الوقت نفسه يقدم منظوراً للعالم كله يعبر عن الانسان القلق المتوتر بل عن ذاك المتمرد الذي كلما التقى بحقيقة أضاعها .

عباس بيضون : بلند الحيدري من رواد القصيدة الحديثة, والى الآن لا يزال حساب الرواد مطوياً ...!.

محي الدين اللاذقاني : يعتبر الحيدري العراقي مثل حنا مينة السوري نموذجين للمثقف الذاتي فبلند لم يكمل دراسته الثانوية واعتمد على القراءة المكثفة في تثقيف ذاته وكان يمارس الرسم الى جانب الشعر وقد كان يصنف في قائمة كباراالنقاد التشكيليين ويقرن مع جبرا ابراهيم جبرا على هذا الصعيد .

نزار قباني : ان بلند الحيدري لن يتكرر لأن الملائكة لا يتكررون

محمد علي فرحات : ويا بلند ... سألتني عن أصيلة أجبتك سأسافر متأخراً لأحضر النصف الثاني من فعالياتها, فرغبت ان نسافر معاً لأن حال قلبك تستدعي رفقة صديق, فذهبت وحدك الى مكتب الطيران المغربي في قلب لندن الملتهب, تستحضر بطاقتين للسفر محجوزتين لموعد اقلاع واحد .. وسافرنا يا بلند سافرت أنا في المكان وسافرت أنت في الضمير .

توقف قلب بلند الحيدري أول رواد الحداثة الشعرية في العالم العربي عن الخفقان بعد ان تعرض لأزمة شديدة ادخل الشاعر اثرها غرفة العناية المشددة في مشفى برومتون البريطاني وذلك في السادس من اب 1996 اثر عملية جراحية اجريت دون جدوى لقلبه بغرض ادخال الة لتنظيم الدم في هذا القلب الذي تجلد طويلاً قبل ان يضيق ذرعاً بمرارة اوراق التقويم المدونة بحبر الوحشة والغربة والأسى دون ان يكون قربه وهو يلفظ أنفاسه الاخيرة ذووه البعيدون وندماؤه وأصدقاؤه الاثيرون بعد أن اضطر للهجرة بدوره نتيجة للمكائد التي تدبرها باستمرار آلة الطغاة في بلده بحق كل الشرفاء الذين يتوقون الى عراق حر..، وشعب سعيد .



#إبراهيم_اليوسف (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- في ذكرى رحيله : بلند الحيدري رائد الحداثة الشعرية المنسى 12
- لصوص قانونيون في دوائرنا ومؤسساتنا باسم : لجان المشتريات! نه ...
- هيمنة الانترنت تطفئ جذوة الايحاء ومنظمة اليونسكو تقرع الأجرا ...
- استنطاق الحيوان كشكل للدلالة علي تازم العلاقة بين المثقف وال ...
- الحوار المتمدن دعوة جادة إلى حوار جاد
- المواطن السوري: معط أو مستعط...!ووظيفة الدولة والشركات الخاص ...
- الإعلام الضال ظاهرة مسيلمة الصحاف أنموذجا
- الحكمة الكردية في الزمان الصعب !!
- ما بعد الانترنيت
- التلفزيون السوري والبرامج الرمضانية
- على هامش ندوة:مهامنا السياسية
- حوا ر مع الشاعر العراقي اسعد الجبوري
- طيـب تيزيـنـي فـي مقالـه; مثقفون لا رعايا
- حامد بدرخان الراحل وحيداً
- احوار مع البروفيسور والناقد الكردي عزالدين مصطفى رسول
- حوار مع الباحث الماركسي السوري عطية مسوح - اليسار العربي تجا ...
- صناعة ا لموظف الحكومي
- لنفكر معا.. مقترحات اولى من اجل اجراء مسابقات عمل ناجحة وعاد ...
- مداخلة إبراهيم اليوسف في الندوة التي أقامها الحزب الديمقراطي ...
- جامعة بلا طلاب


المزيد.....




- بدور القاسمي توقع اتفاقية لدعم المرأة في قطاع النشر وريادة ا ...
- الممثل الفرنسي دوبارديو رهن التحقيق في مقر الشرطة القضائية ب ...
- تابع مسلسل صلاح الدين الايوبي الحلقة 22 .. الحلقة الثانية وا ...
- بمشاركة 515 دار نشر.. انطلاق معرض الدوحة الدولي للكتاب في 9 ...
- دموع -بقيع مصر- ومدينة الموتى التاريخية.. ماذا بقى من قرافة ...
- اختيار اللبنانية نادين لبكي ضمن لجنة تحكيم مهرجان كان السينم ...
- -المتحدون- لزندايا يحقق 15 مليون دولار في الأيام الأولى لعرض ...
- الآن.. رفع جدول امتحانات الثانوية الأزهرية 2024 الشعبتين الأ ...
- الإعلان الثاني.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 158 على قناة الفجر ...
- التضييق على الفنانين والمثقفين الفلسطينيين.. تفاصيل زيادة قم ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - إبراهيم اليوسف - بلند الحيدري رائد الحداثة الشعرية المنسي- 2/2