أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - رياض الأسدي - لماذا ننشر كتبنا هنا؟















المزيد.....



لماذا ننشر كتبنا هنا؟


رياض الأسدي

الحوار المتمدن-العدد: 2207 - 2008 / 3 / 1 - 10:41
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


د. رياض الأسدي

أوراق غياب أمة

مقالات في السياسة الشرق أوسطية
مقدمة أولية:
هم ونحن: على أي الدروب نسير؟

قبل أشهر قام احد المراكز الأكاديمية العربية بترجمة ثماني أجزاء إلى اللغة العربية بعنوان " إسرائيل 2030" تعرض هذه الأجزاء التي عكف على دراساتها المستقبلية فريق كبير من المتخصصين في مختلف المجالات لوضع خطط لإسرائيل في مختلف النواحي الحياتية معززة بالأرقام والخرائط والجداول والمخططات البيانية. عمل الإسرائيليون بدأب على تعزيز جوانب البحث العلمي لديهم بمعدل 12% من دخلهم القومي سنويا. ولم استغرب الرقم مطلقا، لأن إسرائيل ككيان اغتصابي منذ البداية تمتلك خبرات تكنولوجية مختلفة، بدءا بتقنية تحلية مياه البحر، وانتهاء بتصنيع الطائرات الحربية المتقدمة والأسلحة النووية والعمران. لكن الباعث على الاستغراب حقيقة هو نسبة تخصيص إسرائيل مبالغ للبحوث الإنسانية تقرب من نصف تلك الأموال! ويبقى السؤال: لماذا تهتم إسرائيل بكل تلك البحوث حول العالم العربي، وخاصة أوضاع الإثنيات والثقافات واللغات والمذاهب فيه؟ ولم تؤسس منذ عام 1988 مركزا لجمع المخطوطات القديمة في القدس وهي تعمل ليل نهار على نشر ثقافات التشظي المصطنع؟ هل يحب المغتصبون تراثنا الثقافي إلى هذا الحدّ؟! الجواب طبعا معروف لكل ذي لب.
والمطلع على تقرير التنمية البشرية الصادر عن الأمم المتحدة الذي نشر قبل أكثر من عام يصاب بالصدمة، بسبب الأرقام الموجعة التي تظهر تخلف الأمة وانحطاطها وقربها من الانهيار الشامل في مجال التعليم والصحة والثقافة والحرية الاقتصادية فضلا عن غياب الحريات الأساسية للشعوب العربية. وعلى الرغم من إن حركة النهضة العربية قد تزامنت مع حركة اليقظة في الأمة الصينية عام 1850 في اقرب تحديد, إلا إن الصين هي الآن واحدة من الدول الكبرى في العالم، وأن اقتصادها هو من أقوى اقتصادات النمو والتوسع والإبداع أيضا، فضلا عن امتلاكها للقوة النووية والقوة البشرية في آن. ويبقى السؤال قائما وماثلا للعيان: أين يكمن السبب الرئيس في تخلفنا؟ ومن المسؤول عنه بعد حكامنا؟ وأين يكمن السبب الرئيس في تقدمهم المتواصل وتراجعنا المتواصل؟ ولماذا يستمر فينا قطار التراجع منذ أكثر من قرن ونصف في وقت بدأ العالم كله يتنبه إلى نفسه حتى تلك الدول الأفريقية السوداء التي كانت قبل نصف قرن بدائية؟ ولماذا تطورت ماليزيا واندونيسيا وهي من البلاد الإسلامية؟ لا جواب واضح حتى هذه الساعة.
كان القياس القديم للدول في التقدم والتخلف قد اوجد معيارا يتمثل في استهلاك الدولة للفحم الحجري، ولكن بعد نضوب هذه المادة وظهور البترول أصبحت الطاقة هي المعيار تقريبا. ورغم ذلك فثمّ جدل مستعر لما تزل أواره قائمة حول المعيار الصحيح لتقدم الأمة. وأرى إن تقدم أية أمة يكمن في احتفاظها بعقول أبنائها المفكرة والمبدعة والمنتجة؛ فاليابان لا طاقة لديها، لكنها تمتلك عقول أبنائها الذين حولوها إلى بلد منافس اقتصاديا للولايات المتحدة في بحر عقود قليلة، أليس كذلك؟ فأين نحن من هجرة العقول العربية والعراقية التي أجبرت عنوة وظلما على مغادرة بلادها.
وبما أن الأمر لما يزل متعلقا بالاستهلاك، لمختلف الأشياء الطبيعية أو استثمار الطاقات البشرية، فإن الأرقام تشير إلى أن استهلاكنا للماء والكهرباء لا يتوازى مع استهلاك العالم العربي للكتاب وعموم الثقافة المكتوبة وطرق المعرفة؟ تلك ظاهرة تبعث على سلسلة من التساؤلات الأخرى, فثمة (70) مليون أمي في العالم العربي. أما (الأمية) السياسية والاقتصادية والاجتماعية فحدث ولا حرج. فالعالم العربي يستهلك من الطاقة كثيرا جدا، خاصة في بلدان الخليج، لكنه في الوقت نفسه لا يستهلك ما يوازي ذلك في الثقافة والبحث العلمي والترجمة والمعرفة بشكل عام. الأرقام لا تعكس الحقيقة أحيانا، لكنها قد تكون مبعث تفكير أيضا حينما تشير التقارير الإحصائية إلى أن أسبانيا وهي بلد متواضع في تقدمه إذا ما قيس بدول أوربية أخر تطبع وتنشر من الكتب أكثر مما نشره أو طبعه العام الإسلامي برمتهّ! وكذلك فإن جميع ما يترجم أو يطبع أو ينشر من كتب في العالم العربي لا يساوي ما تطبعه تركيا؟ هل يعود السبب في تخلفنا العلمي والبحثي والثقافي إلى مستوى الذكاء للإنسان العربي فنعود القهقرى إلى إن العقل العربي تبسيطي وغير تركيبي، كما أشاع ذلك في النصف الأول من القرن العشرين ثلة من المستشرقين؟ أم تعود أسباب ذلك إلى طبيعة الأنظمة السياسية المتخلفة على اختلاف يافطاتها الفكرية؟
يستهلك العرب مئات الفضائيات المفعمة بالصراخ الدائم، والهازة للعجيزات والأرداف، أكثر من استهلاكه للفضائيات الثقافية والعلمية والمعرفية. أين تلك القنوات التي تحاول إشاعة الوعي والعلم والمعرفة بين الشباب خاصة؟ وأين القنوات التي تبقى "أمينة" محافظة على شرفها الصحافي حقيقة، وليس إدعاءً، بعيدا عن إستراتيجيات مموليها؟ أما تلك الفضائيات التي يظهر بها (شخص واحد) ك ( Big Brother ) على طريقة جورج اورويل في روايته الشهيرة 1984 فقد ازدادت على نحو مبالغ فيه. ناهيك عن استهلاكنا المعيب والدائم لتلك الفضائيات التي تشيع التعصب الديني أو (الدجلي الساذج) الذي انتشرت أخيرا – وتلك أرقام أخر- مع حملة من المتصلين والمتصلات المساكين، حيث يأتي من يأتي ليرسم أحرف ومربعات وأرقام ما أنزل الله بها من سلطان، وما وردت عن سلفنا الصالح، ولا حتى عن سلفنا الطالح أيضا، ليُعرف من خلالها مصير الأشخاص ومستقبلهم وما يتمنون. ويا للنساء ويا للرجال ويا للبنات اللواتي يسهرن لسماع أولئك الدجالين المنحرفين من خريجي كتاب( شمس المعارف الكبرى) الذي دأب (المحفل الماسوني) في الإسكندرية على نشره منذ بداية القرن الماضي.
ومن الملاحظ إن الإنسان العربي متهم غالبا بعدم القراءة، وعدم الصبر على تقبل المعلومات الجديدة، كما تشير إلى ذلك تقارير كثيرة، لكن العرب والمسلمين في الغرب أثبتوا عكس ذلك تماما، فأين يكمن السبب؟ هل في أرقامنا أم أرقامهم؟ في وقت إن القران الكريم يحث منذ البداية وقبل أكثر من ألف وأربعمائة عام على كلمة (اقرأ) فهل يصدق علينا المثل الجديد: امة اقرأ لا تقرأ! يبدو أن هذا الأمر صحيح. نعم نحن لا نقرأ كثيرا، ولا نعنى بالمعرفة، وقد قبلنا القليل مما تعلمناه أو عرفناه، أو تم تلقينه لنا عنوة في مدارسنا المتهالكة. على الضد مما كان عليه أسلافنا في العصور العربية الإسلامية الوسيطة، حيث كانت الكتابة والقراءة ميزتين اجتماعيتين لكل طالب علا. لكن يبدو إن المثل العربي المتداول في معظم البلدان العربية: من طلب العلا سهر الليلي لم يعد متداولا على نطاق واسع الآن، فيصبح المثل الجديد: من طلب العلا ليحمل سلاحا بوجه أخيه، أو كما في بلدان أخر: من طلب العلا ليذهب إلى الديسكو!
أما في العراق، فالمصبية أشد وأعظم وأكثر قسوة، ويبدو إن القضية أكثر توافقا واتساقا مع الأرقام، فلا استهلاك للماء والكهرباء بما يكفي، وهي أشد شراسة إذا ما تعلق الأمر بالوقود إذ لا استهلاك إلا بعد ان يستهلك الجسد العراقي تحت شمس الصيف الحارقة البغدادية، وما يتطلب من استهلاك آخر لقناني الماء. لذلك بات من البؤس الحديث عن ثقافة ومعرفة في عصر السادة المفخخين بالأحزمة الناسفة، والسيارات الملغمة، والميليشيات المطعمة بكره الآخر.. عن أية كتب وعن أية ثقافة يمكننا أن نتحدث بعد ذلك؟ كأن الحياة قد توقفت في العراق بسبب هذه الأوضاع المريضة والمزمنة. العراق خارج هذه التقارير منذ أكثر من ربع قرن من الزمن.
ومن المفارقات المؤلمة في حياة الأمة الآن، إن تلك التقارير العالمية التي تصدر من حين لآخر حول الوضع الثقافي العربي معززة بالأرقام الدامغة التي تكشف مدى الانهيار الذي تشهده الساحة الثقافية في العالم العربي. ولن يطال الأمر الساحة الثقافية العراقية بالطبع بسبب الأوضاع الشاذة والشائكة التي عملت على شل الحياة الثقافية في العراق تماما، وما يعانيه المثقف العراقي من ترهيب أو قتل أو تهميش، مما حدا بكثير منهم إلى مغادرة الوطن إلى المنافي أو الانزواء في خانة ضيقة بعيدا عن الأضواء. وتتناقل الفضائيات والصحف العربية باهتمام مفرط أحيانا تلك الأرقام المخيفة – تماما مثلما تتناقل أرقام القتلى والجثث المجهولة في العراق- لتوقيع مدى الفوضى والخلل الذين أصابا الحياة العربية المعاصرة. ومن المفيد أن تكون تلك التقارير معززة بالإحصائيات حول استهلاك الكتاب أو ترجمته أو توزيعه، بعد أن تطور علم الإحصاء ودخل في ميادين شتى من الحياة. ومن الغريب إن الكتاب العربي لا يمكن تداوله إلا من خلال المعارض الهزيلة غالبا التي تعقد هنا أو هناك قريبا من أعين الرقباء؛ وهم من الكثرة في العالم العربي حتى أصبحوا مؤسسات ومنظمات تتداول المنع للكتب ذات الرائحة المغايرة, أو تلك التي يشمّ منها روائح التغيير للأنظمة الراكدة.
تعالوا إلى الحقيقة في الغرب، تعالوا إلى طبيعة الحياة والقوانين والدساتير المكتوبة أو غير المكتوبة، وتعالوا على كلّ ما هم عليه وما نحن فيه بعيدا عن الأحكام الجاهزة المسبقة والرفض لهم؛ تعالوا لندرس لم هم تقدموا علينا في معظم مجالات الحياة, وبقينا نحن نراوح في مكاننا، في وقت أضحى العالم محض قرية كونية يصعب بعدها ضم البؤس والعنف والتخلف لأية امة أو شعب أو دولة؟ والرقم الصعب الآن المثير هو محاولة الأوربيين: تلك الدول والأمم والشعوب والأعراق واللغات والثقافات والأحزاب والجمعيات والمنظمات الإنسانية؛ في عملها الدؤوب على كتابة دستور موحّد لها، حيث وضعت اللبنة الأولى في وثيقة أولية متفق عليها قبل أيام بعد أن جرى الاعتراض على وثيقة الدستور السابقة من بريطانيا وهولندا، في حين يعمل البعض منا بدأب على لعبة تشظ للوطن والشعب والمستقبل.. هكذا هي حياتنا و هكذا هي حياتهم، أرقامنا وأرقامهم، البادية من شمس معارفهم الكبرى. فأين شمسنا؟
الشرق الأوسط:
حرب إقليمية غير تقليدية؟

كان مصطلح الحرب (غير التقليدية) إبان حقبة الحرب الباردة 1946- 1990 يعني بالدرجة الأساس القيام بأعمال عسكرية تستخدم فيها الأسلحة الإستراتيجية كالنووية أو الكيمياوية أو البيولوجية وغيرها من الأسلحة السرّية ذات طابع الإفناء الجماعي، تمييزا لها عن تلك الأسلحة التي استخدمت في الحروب التقليدية قبل ضرب هيروشيما في 8/8/ 1945. ولكن يبدو أن القرن الحادي والعشرين ونهاية الحرب الباردة له معان خاصة أخر في استخدام المصطلحات الجديدة القديمة بتغيير مدلولاتها ومنحها مفاهيم أوسع للخروج بها عن مفهوم الحرب في القرن العشرين.
وهكذا فإن اللحظة الوحيدة المسجلة تاريخيا بعد الحرب العالمية الثانية التي أشرت إمكانية دخول العالم بحرب غير تقليدية إبان حقبة الحرب الباردة كانت تتعلق بخليج الخنازير عام 1961، حينما اجبر الاتحاد السوفيتي على سحب الصواريخ الموجهة إلى الولايات المتحدة مقابل ترك الكيان السياسي لكوبا قائما. ولا شكّ بان الحكمة الواضحة التي تربع عليها الرئيس جون كندي 1961-1963وقتذاك من خلال عدم استخدام الطائرات لدعم المتمردين الكوبيين ضد نظام كاسترو والتي دفع ثمنها باغتياله – ربما كأحد الأسباب- تعدّ واحدة من أهم الحوادث التي حالت دون قيام حرب غير تقليدية في تلك المنطقة الساخنة من العالم.
وتعد الحرب الأميركية على العراق عام 2003 وحرب تموز 2006 على لبنان مثالا مناسبا يمكن أن يكشف – إلى حدّ ما- طبيعة الحرب الإقليمية غير التقليدية القادمة في الشرق الأوسط وملامحها المتعلقة بطرق إدارتها. كما إن إدارة الحرب من قبل قوى الإرهاب التي تصف نفسها بالعالمية أيضا؛ قد حوّل الكثير من مدلولات الحرب غير التقليدية وجعلها عرضة إلى مفهوم (حرب عالمية ثالثة غير معلنة) حيث يصعب التكهن بنهايتها على أية حال، كما يبدو في الوقت نفسه من العسير توقع انعطافاتها ونتائجها وحتى أسباب قيامها المباشرة بالحسابات التقليدية وحدها.
وإذا كان لا يُعرف - حتى الوقت الحاضر في الأقل- إن كان بالإمكان (تلافي) هذا النوع من الحروب، أم أنها ستفرض – كأقدار جديدة لا مفر منها على مساحة كبيرة من السكان وعلى منطقة واسعة بشكل مباشر- فإن الباحثين الإستراتيجيين عموما والمحللين السياسيين خاصة سوف يجدون صعوبات جمة ومختلفة في توصيفها الدقيق؛ بل وفي تعريف هذا النوع من الحروب التي تتداخل فيها التكنولوجيا المصغرة، بالمعلومات المخابراتية، والتخطيط المتقن للعمليات السرّية التي يتم من خلالها تصفية الحسابات السياسية بين الخصوم، فضلا عن سلسلة الاختراقات المتقابلة بين الأطراف والتي تحدث في المعسكرات المتصارعة، وحسابات النقاط الإستراتيجية؛ إنها حرب الكترونية بالدرجة الأولى، وتتطلب من اللاعبين الأساسيين فيها حيازة اكبر مقدار من المعلومات الجديدة المتعلقة بطرق إدارة هكذا نوع من الصراعات. كما أنها في الوقت نفسه لا متفرجين في هذه الحرب فقد تكون حالة (الحياد) غائبة إن لم تكن في أضيق هوامشها منذ تاريخ الحروب الحديثة.
وكانت ملامح هذه الحرب في منطقة الشرق الأوسط قد بدأت بوادرها الأولية في عملية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، فقد أظهرت عملية الاغتيال تطور التكنولوجيا والتكنولوجيا المضادة في حرب الاغتيالات السياسية، حيث تطلبت العملية جهود أكثر من دولة (2 طن من المتفجرات شديدة التأثير وعلى مساحة واسعة من منطقة سان جورج وسط بيروت) ومن جهة أخرى أوجبت تلك الحالة قيام محكمة دولية ( مليتس/ بريمرتس) للتحقق من عملية الاغتيال السياسي الكبرى واتهام دول بعينها وقادة سياسيين كبار من هذا الطرف أو ذاك بالتخطيط لها. فحرب الاغتيالات السياسية ما هي في مضمونها النهائي إلا البداية لنشوب الحرب غير التقليدية بحكم كونها تحقق اكبر مقدار من الصدمة والهلع الذين يعدان شرطين أساسيين لتوصيف حالة الحرب غير التقليدية.
وعلى الرغم من مرور ثلاث سنوات على الحادثة الكبيرة في اغتيال الحريري التي عصفت بلبنان سياسيا واقتصاديا وطورت حالة الانقسامية الشاملة فيه إلى معسكرين كبيرين( المولاة والمعارضة) إلا أنها على العموم تحمل بين طياتها طابع الحرب غير التقليدية دائما. لكن التطورات المتلاحقة لهذه الحوادث السياسية ستنتج حتما قيام حرب إقليمية لا يمكن تلافيها.. كما يعدّ في الوقت نفسه اغتيال القائد العسكري عماد مغنية في دمشق إحدى الأعمال التي تؤشر تطورا واستمرارا لهذا النوع من الحروب السرية باعتبارها المدخل الرئيس لشنّ حرب إقليمية كبرى قريبة، ما لم تستجد أوضاع سياسية مخففة هنا أو هناك، أو يتمّ تغيير مواقف جذرية لهذا الطرف أو ذاك؛ وهذا احتمال بعيد من وجهة نظرنا في الوقت الحاضر برغم أن الحروب غير التقليدية من هذا النوع تحمل بين طياتها ما يكفي من المفاجآت عموما.
وكانت إسرائيل التي تعد واحدة من أهم (صانعي ألعاب) هذه الحرب والممارس الأول لها في منطقة الشرق الأوسط قد صرحت علنا قبل مدة عن أطلاقها قمرا صناعيا للتجسس على إيران، مما حدا بالأخيرة إلى العمل على تدشين تجارب في الاتجاه نفسه من خلال إطلاق صواريخ إلى الفضاء؛ وهذا يعني بالتأكيد بدء إيران في السير بإمكانية إسقاط أقمار التجسس أيضا. فهل يمكن لهكذا تطور خلاق أن يحول دون ضرب القواعد المنتجة لهذه الحروب غير التقليدية إلى مدى بعيد تجد إيران نفسها قد حققت ما يكفي من التقدم في هذا المجال الحيوي الصعب؟ المسألة لا تتعلق بالمفاعلات النووية الإيرانية، وعما إذا كانت تتحول إلى إنتاج أسلحة نووية، بمقدار ما هو ضرب لقواعد إيران في شنّ حرب غير تقليدية في منطقة الشرق الأوسط أو مواجهة حرب غير تقليدية أيضا.
ترى هل أن المعنيين بذلك النمط من الحروب غير التقليدية العابرة للأوطان في البلدان العربية وصناع القرار خاصة مستعدين لخوض هذا الغمار الصعب؟ والسير فيه إلى شوطه الأخير للحفاظ على ما تبقى من النظام العربي المنهار؟؛ برغم أن مثل هذا (الشوط) الغامض والمضني لا يمكن أن يلوح بأية حال من الأحوال إلى أية مدلولات تشير إلى أهمية هكذا نوع من الحروب التقليدية اللهم إلا ذلك التصريح المقتضب للملك عبد الله بن عبد العزيز في إنشاء (مركز علمي) للعلوم والتكنولوجيا واستثمار الطاقات العربية المشتتة في هذا المجال. فأن أي مراقب مهما تربع على كمّ هائل من المعلومات إلى وجود نهاية لمثل هذه الصراعات المشحونة بالأيديولوجيا عادة: إنه عمل (الفريق) المتنوع والدول العربية هي الأفقر في تكوين هكذا مجموعات عادة.
وربما لا ينزع (فتيل) هذه الحرب المفترضة إلى الوقت الحاضر إلا ضرب الجسر الإيراني - السوري الإستراتيجي الذي أقيم بقوة منذ أيام الحرب العراقية الإيرانية 1980- 1988 وموقف سوريا المعادي لنظام صدام آنذاك. فهل يمكن أن يحدث ذلك من خلال سلسلة الضغوط الدبلوماسية والاقتصادية على سوريا وحدها؟ وهل ينفع الضغط العربي مما يعرف (بجبهة المعتدلين العرب) إلى ثني سوريا والإتيان بها إلى الخندق المقابل؟ لاشكّ بأن مثل هذا الأمر لا يتعلق بالدرجة الأساس في حسابات الربح والخسارة السورية في الأوضاع الإقليمية خاصة بعد سحب الجيش السوري من لبنان، ولا بالتنفيذ الفعلي ل(وديعة رابين)؛ لكنه يتعلق بمدى بقاء النظام السياسي السوري قائما بلا تغييرات جوهرية على بناءاته الداخلية وتوجهاته الإقليمية. وببساطة مكثفة هم يريدون للنظام السياسي السوري أن يكون بعيدا عن شعاراته القومية المتعلقة بالتحرير والمواجهة من اجل وضعه في القفص الإستراتيجي الشرق اوسطي نفسه الذي وضع فيه النظام السياسي المصري والسلطة الفلسطينية (جناح عباس) وعندئذ لن يكون هو النظام نفسه ولسوف يسقط تلقائيا بحركة مبسطة من الداخل.
وإذا كانت الحروب التقليدية العربية السابقة لحرب تموز 2006 السادسة على لبنان قد تفترض نوعا من (الهدنات) الملتقطة للأنفاس بالنسبة إلى الأنظمة العربية التقليدية أو غير التقليدية فإن الحرب غير التقليدية التي تشنها إسرائيل لا تفترض أي نوع من الاستراحة الممكنة بعد ذلك؛ لأن تطور علن الحرب غير التقليدية الذي تعلمته الأحزاب والحركات الراديكالية العربية على اختلاف مشاربها الإيديولوجية لن يترك مجالا مهما لفكرة الزمن بإعادة الحسابات كما أنه يعمل بالدرجة الأساس لصالحها مما يتوجب القيام بحرب غير تقليدية من إسرائيل للحفاظ على وجودها؛ فما الذي يعنيه وجود إسرائيل في ظل خسارات عسكرية متواصلة؟ لا شك بان مثل هذا الأمر سوف يقود إلى حالتين مهمتين على الصعيد الإستراتيجي:
- محو الكيان الإسرائيلي من الخارطة السياسية للعالم
- شنّ حرب غير تقليدية تستخدم فيها كل صنوف الأسلحة غير التقليدية

ومن غير شك فإن إسرائيل لن تدخر وسعا في الركون إلى الخيار الثاني بعد أن أثبتت جميع الأحداث منذ اتفاقيات مدريد وأوسلو وشرم الشيخ الأولى والثانية ومؤتمر أنابولس المنعقد في أواخر العام المنصرم عدم تبلور خيار السلام الإستراتيجي في إسرائيل. ومن هنا فإن الأنظمة السياسية العربية في ظل أوضاع الحرب غير التقليدية ستكون أمام خيارات قليلة جدا عن لم توضع أمام خيار واحد فقط: السير معنا أو تركك تغطس! من الصعب – حسب نظرية المفكر العربي محمد حسنين هيكل- تدبير وضع (تأجيل المواجهة) إلى موسم قادم لا تعرف ظروفه تماما، لأن الوضع الإقليمي الشرق أوسطي لا ينتظر مثل هذه الحلول الكسلى المترشحة عن عالم الحرب الباردة.
وهكذا فإن تغيير الخارطة الشرق أوسطية لم يعد يتطلب الاختباء وراء الجدران والبنايات المحصنة وبيوت المخابرات السرية، بعد أن عملت التكنولوجيا على كشف كلّ المستور تقريبا. كما لم يعد تنقل الأشخاص المهمين سرّيا، فهو الآن محفوفا بالمخاطر والتوقعات السيئة. ومن الواضح إن طبيعة الصراع السياسي والعسكري والمخابراتي العربي الإسرائيلي منذ عام 1948 وحتى طرد القوات الصهيونية من جنوب لبنان عام 2000م، كانت تتحكم فيه (قواعد) معروفة لم يخترقها – في الواقع- إلا الرئيس الراحل أنور السادات في زيارته الشهيرة للقدس عام 1977, وما تبعها من تطورات متلاحقة في منطقة الشرق الأوسط حيث لا تزال المنطقة تجترّ أثارها بغض النظر عن مدى صلاحية ما قام به الرئيس السادات من عدمه؟ وبقيت فكرة القواعد المتعلقة بالصراع قائمة طوال المدة تقريبا منذ مؤتمر الطائف عام 1989 الذي أوقف الحرب الأهلية في لبنان والذي يراد له أن يكون واحدا من (المؤودات) العربية على مذبح الحرب غير التقليدية الشرق أوسطية وحتى نشوب الحرب الأميركية على العراق عام 2003. عن قيام حرب غير تقليدية في منطقة الشرق الأوسط يحتاج بالدرجة الأساس إلى بذر كلّ الشكوك في صلاحية (المنجزات السياسية) للنظام العربي في النصف الثاني من القرن العشرين.
وإذا كان من الصعب معرفة واضعي تلك القواعد التي لم تعد قواعد بهذا المعنى بعد أن أفرغت من محتواها منذ غزو العراق للكويت عام 1990 على سبيل الافتراض فإن الصراعات على العموم تفترض قواعدها دائما. ولذلك فإن التلويح بخرق تلك القواعد هنا أو هناك مهما كان هذا الأمر مشحونا بالتهديد المباشر او غير المباشر، فهو يعد مدخلا لقيام حرب إقليمية غير تقليدية قد تستخدم فيها جميع أنواع الأسلحة غير التقليدية والمحرمة دوليا؛ فقد أفرزت حرب تموز 2006 في لبنان حالة صمود استثنائية أشرتها بلباقة (لجنة فينوغراد) المشكلة في أعقاب الحرب مما يستدعي إسرائيل إلى تغيير (قواعد الحرب) التي ستشنها على لبنان وهي حرب لا تحتاج إلى سبب لقيامها في أية لحظة قادمة.

















القمة 28 الخليجية في الدوحة:
مخاطر كبيرة ومهام صعبة

منذ أن عقد مؤتمر القمة الأول لدول مجلس التعاون الخليجي عام 1981 ودول الخليج العربية في حالة من البحث عن وسيلة ناجعة لمواجهة التحديات والمخاطر شبه الدائمة التي تفرضها هذه المنطقة الغنية بإنتاج واحتياطي النفط على حدّ سواء. فقد اعتادت هذه المنطقة القلقة على تضييف ثلاثة حروب مدمرة فقد كانت حرب الخليج الأولى والثانية قد اخترمت مايكفي من عائدات النفط ووظفتها في الحديد والدم البشري العراقي المسال؛ أما حرب الخليج الثالثة عام 2003 فلم تسهم بها دول الخليج بشكل مباشر، إلا أنها في الواقع وقعت تحت ثقل نتائجها الإستراتيجية الوخيمة أكثر من كلا الحربين السابقتين.
وقد أعتاد بعض المراقبين أن يطلق وصف( نادي الأغنياء) على عموم اللقاءات الخليجية حتى وإن كانت على هذا المستوى العالي من قادة الخليج السياسيين. لكن المخاطر التي تواجه دول المنطقة لا تجعل من أولئك الأغنياء ينامون ليلا هانئا على أية حال، بسبب الأطماع والمخاطر والتحديات المختلفة في كلّ مرحلة تاريخية من حياة هذه البقعة المشتعلة بالأطماع ودخان استخراج النفط. لذلك ومن اجل العمل على تهيئة مناخات أخر أكثر هدؤا، ولكي نحول دون نشوب حرب خليج رابعة أكثر ضراوة وأشد عنفا ضدّ إيران؛ وربما يصبح بعدها من المتعذر وجود آبار نفط غير ملوثة بالإشعاعات النووية، وثمة صعوبات جمة في تحلية مياه الخليج واستخداماتها، لا بدّ من التحذير الدائم إلى عدم الولوج في مغامرات عسكرية من أي نوع لجميع الأطراف بما في ذلك الولايات المتحدة الأميركية التي تحاول إدارتها الحالية وضع الإدارة القادمة – وهي من الديمقراطيين في أفضل تقدير- أمام تركات ثقال ويرجى أن لا تكون ثمة حماقة جديدة أخرى بشنّ حرب جوية خاطفة على إيران. وعلى القادة الخليجيين أن يغيروا من آليات عملهم ومن إستراتيجية مجالسهم أيضا لبشاعة السيناريو المطروح فقط.
وكان لمجلس التعاون الخليجي سلسلة من الانجازات التي أبعدته عن أن يكون مجرد " اتفاقية أمنية" حتمتها ظروف الحرب العراقية الإيرانية بالذات، فقد اشتركت دول الخليج العربية إلى جانب الولايات المتحدة وحلفائها على إخراج القوات العراقية من الكويت عام 1991 كما أنها عملت على تطوير العلاقات بين دول المجلس حيث يمكن لمواطني المجلس السفر إلى أي بلد في الخليج العربية بالهوية الشخصية. وبرغم هذا الانجاز المهم وهذه الظاهرة المتفردة التي لا تطال أيا من البلدان العربية الأخر إلا أنها قياسا إلى المدة التاريخية الطويلة بين انعقاد أول دورة للمجلس وهذه الدورة الثامنة والعشرين وبعد أكثر من ربع قرن من الزمن يمكننا أن نؤكد ضحالة المنجز على المستوى الخليجي عموما.
فدول الخليج العربية لم تقم بإنجاز السوق العربية المشتركة على الرغم من التماثلات والفوائد والنوايا التي صاحبت المشروعات الاقتصادية في بلدان الخليج العربي. ومازال عام 2008 بانتظار تلك السوق التي ربما تؤشر بجدارة أهمية مجلس التعاون الذي سادت في الآونة الأخيرة كتابات هنا وهناك من عدم جدواه في ظل تطورات سياسية عالمية متسارعة. فعوامل التكامل الاقتصادي لم تتبلور بين دول المجلس على نحو كبير وما زالت العملة الخليجية الموحدة تنتظر عام 2010 فضلا عن عدم وجود سياسات مالية واقتصادية موحدة في ظل تراجع سعر صرف الدولار، وما يترتب على ذلك من مشكلات مالية بين أسواق المجلس. كما ان الخلافات الخليجية بين دول المجلس بقيت هي المتحكمة بالعلاقات كالخلاف بين قطر والمملكة العربية السعودية حيث هجّر كثير من السكان الخليجيين عن موطنهم وسحبت الجنسية منهم.
كانت الكلمة الافتتاحية لأمير دول قطر حمد بن خليفة آل ثاني وهو رئيس هذه الدورة بعد الملك عبد الله بن عبد العزيز تعدّ بمثابة دليل عمل صريح على طبيعة المخاطر الجدية و المشكلات التي سوف تناقشها هذه القمة. فالضغوط الأساسية والهواجس التي ترسم طبيعة موضوعات التناول جلية ولا تحتاج إلى عناء كبير لمعرفة مدى التعاملات بإزائها؛ وهي على العموم تتمثل في القضية العراقية وما ستؤول إليه الأوضاع الأمنية الداخلية في العراق، وكذلك الملف النووي الإيراني، وما يمكن أن يتمخض عنه من توقعات بقيام حرب على إيران، حيث تتواجد على مياه الخليج حاملات الطائرات الأميركية وهي تشكل (بعبعا) دائما ليس لإيران فقط؛ بل لدول المجلس وما يمكن أن تكونه حرب أميركية على إيران من مخاطر بيئية حيث لا يبعد مفاعل بوشهر عن ساحل الإمارات إلا مسافة أقل من طهران نفسها.
من هنا فإن أمير دولة قطر بدأ كلمته على غير العادة المألوفة في المؤتمرات العربية والخليجية بالدعوة إلى أهمية البحث العلمي؟؟ فعلام تدلّ هذه الإشارة؟ ولمن توجه الرسالة على وجه التحديد؟ أهي للرئيس الإيراني الذي يحضر المؤتمر لأول مرة؟ ام تتضمن الإشارة نوعا من المجاملة المبطنة للسعودية التي لم تهدأ العلاقات معها إلا منذ مدة وجيزة؛ وخاصة بعد أن أعلن الملك عبد الله بن عبد العزيز عن نيته إنشاء مفاعل نووي في دول الخليج العربية يكون تخصيب اليورانيوم في بلد محايد!!
وكسابقة تاريخية في الدورة الثامنة والعشرين للمجلس تمثل تطورا كبيرا لم تشهده منطقة الخليج فقد حضر الرئيس الإيراني محمود احمدي نجاد إلى الدوحة بدعوة من دول المجلس، وقام بإلقاء كلمة مهمة أكد فيها على إستراتيجية إيران إزاء المنطقة ورغبتها في إشاعة الأمن والاستقرار بعيدا عن التدخلات الأجنبية. ودون أن يشير ولا مرة واحدة إلى الملف النووي الإيراني! لكن إيران التي تعدّ نفسها "الدولة السابعة" في مجلس التعاون الخليجي – كما أشار إلى ذلك الرئيس نجاد- إذ هي تشرف على طول الساحل الغربي له، وقد قدمت أحد عشر مقترحا هي بمثابة "تطمين" دائم إلى حسن نوايا إيران الإستراتيجية تجاه دول الخليج العربية.
ومن أهم المقترحات في هذا المجال هو تعزيز منظمة التعاون الاقتصادي وضرورة قيام منظمة للتعاون الأمني بين بلدان الخليج، وتسهيل تنقل المواطنين بينها. وكذلك تشجيع حركة الاستثمار وشراء العقارات في إيران ودول المجلس، وفكرة إنشاء مشروع للتجارة الحرة. ولا شكّ بان المقترح الإيراني بإلغاء التأشيرات للمواطنين بين دول المجلس وإيران يضفي مسحة إضافية على حالة التطمين الإيرانية، ويقدم إلى الزعماء الخليجيين سلة من النوايا السلمية على نحو ظاهر. في وقت يعمد الإعلام الأميركي بين حين وآخر على تصوير وجود ثمة (خلايا إيرانية نائمة) في منطقة الخليج يمكنها أن تعمل في حالة تعرض إيران إلى هجوم أميركي. فهل أفلح الرئيس محمود احمدي نجاد في إيصال رسالة مغايرة؟ لاشكّ بأنه أستطاع أن يقدم للخليجيين مشروعا متكاملا من العمل السلمي ليظهر من جديد عدم وجود أية نوايا إيرانية بشنّ حرب (ما) في هذه المنطقة التي لم عد تحتمل إي حرب جديدة.
بيد إن المشكلة التي لم يتطرق لها الرئيس نجاد حقيقة تتعلق بالمصير الدولي الذي سيؤول إليه الملف النووي الإيراني الذي ينتظر عقوبات مفروضة جديدة على إيران؟ ربما يعود تفسير ذلك إلى إعلان الرئيس نجاد غير مرة بان الملف النووي الإيراني قد حسم بالنسبة إلى الدبلوماسية الإيرانية، ولا تراجع عن المواقف الإيرانية المعلنة في الاستمرار بتخصيب اليورانيوم على أراضيها.
ولعل غياب العراق كمراقب آخر عن أعمال دول مجلس التعاون في الدوحة قد اوجد فراغا كبيرا لا يمكن تجاوزه بأية حال من الأحوال. فالعراق بحدّ ذاته وبرغم الظروف الاستثنائية التي يعيشها هو بمثابة (عامل توازن) مهم و دائم لدى دول المجلس. من هنا فإن تلك الرؤية القديمة المتعلقة بعدم ضم العراق أو إيران أو اليمن إلى مجلس التعاون الخليجي لعدم التماثل في الأنظمة السياسية، يجعل من هذا المجلس مصابا بالكساح الدائم في زمن تعد الكتل الاقتصادية في العالم والتوحدات هي لغة العصر.
والمهتمون بالتنمية السياسية في منطقة الخليج يواجهون صعوبات كثيرة في تفهم طبيعة الظروف المتحكمة بهذه البلدان التي تشهد نموا متواصلا وسريعا على مستوى الاقتصاد و(لا نمو) تقريبا على مستوى التطور السياسي في دول المجلس. أما تلك النشاطات الشكلية بإقامة (المجالس الشوروية) هنا أو هناك أو انتخابات التي لا تشارك فيها النساء أو تصوت ولا ترشح!؛ فهي ظاهرة على عمق الأزمة في تلك البلدان وليس تخفيفا لها وعلى القادة السياسيين في المجلس مناقشة القضايا الساخنة بدلا عن تعضيد اللجان الأمنية التي تتبادل المعلومات عن المعارضين لدول المجلس والذين يقبعون في الخارج طبعا.
ولا يبدو بعد مرحلة قادمة بأن العوامل الاقتصادية للدولة الريعية الخليجية كافية بحل مشكلات البطالة والتفاوت الطبقي الكبير وظروف العمالة الأجنبية التي قد تصل حدّ (الاستعباد) المؤقت أحيانا. فدول المنطقة المصنفة بحسب وصف المفكر العربي برهان غليون "حقل صيد" ليس للولايات المتحدة فحسب؛ بل إلى أولئك الحالمين من الهند أو دول جنوب شرق أسيا أو الفلبين.. ربما كانت هذه العبارة (حقل صيد) قاسية إلى حدّ بعيد وهي تعود بمضامينها إلى حقبة العبودية أو الاستعمار في العقود الأولى من القرن العشرين، إلا أنها في الوقت نفسه تحتمل الكثير من الجدية في النظرة أيضا.
كانت الولايات المتحدة في إستراتيجيتها المعلنة تلتزم إزاء دول الخليج العربي بموقف متشدد تجاه أي تحول ديمقراطي فيها على اعتبار سياسي غير محسوب جيدا: فالديمقراطية كما ترى قد تمهد الطريق في هذه المناطق كما في مناطق أخرى من العالم العربي والإسلامي، للتيارات الأصولية والمتطرفة وللانقضاض على السلطة التقليدية، والمجيء بسلطة أكثر عنتا وتشددا وميلا إلى محاربة الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية. وبما يمثل تهديداً خطيراًَ للمصالح القومية للولايات المتحدة وللغرب بصورة عامة. لكن الأحداث التي كونت الحادي عشر من سبتمبر وما أعقبها من احتلال لأفغانستان والعراق؛ قد أكدت على نحو لا يقبل الشك بان هذه البلدان قد تتحول على حواضن كبرى للإرهاب ما لم تتخذ الديمقراطية وحقوق الإنسان إليها طريقا سالكة. لذلك فإن القضايا المتعلقة بالديمقراطية وحقوق الإنسان في الخليج مازالت تقبع في الخانة المظلمة من خطابات القادة الخليجيين ومؤتمراتهم، مما يفقد الثقة بالنسبة للمراقب المحايد إلى حدّ ما بجدوى هذه المؤتمرات في رسم سياسات مستقبلية مقبولة.





تقرير CIA الأخير حول إيران: زوبعة دولية مدروسة أخرى؟

أشاع التقرير الأخير الصادر عن وكالة الاستخبارات الأميركية CIA حول إيران وإيقافها لبرنامجها النووي العسكري السرّي عام2003 لغطا شديدا على الساحة الدولية. ربما تريد CIA أن توضح للعالم متأخرا بأنها لا تخضع لمعايير السلطة السياسية, وهي على جانب كبير من المهنية أيضا: لعبة أخرى لا يصدقها إلا أولئك الذين لم يطلعوا عن كثب على التاريخ الإجرامي لهذه الوكالة في سلسلة حروبها القذرة وعمليات إتلافها للأشرطة المتعلقة بعمليات التعذيب ضد المتهمين لانتزاع اعترافات معينة تماما كما يحدث في دول العالم الثالث، ولكن بشكل أشد بشاعة بعد أن تدخل التكنولوجيا الحديثة بقوة في التعذيب.
وأعاد التقرير المفاجئ من جديد إلى الأذهان سلسلة الأخطاء المخابراتية المقصودة الكبيرة التي اقترفت ضد العراق إبان حرب الخليج الثالثة من خلال اتهامه هو الآخر بالتحضير لإنتاج أسلحة نووية بما عرف في عقد التسعينات من القرن الماضي (بصفقة النيجر) الكاذبة، حيث تم الاستيلاء على وثائق من سفارة النيجر ومن ثم تزويرها بشكل سيء، ثم عرضت كأدلة (شبه دامغة) على قيام العراق بإنتاج أسلحة نووية؟! وقد أظهرت الأحداث الأخيرة أنها كانت جزءا من حملة إعلامية شرسة لاحتلال العراق أسهم فيها ضباط مخابرات صدام بأنفسهم.. وهي عبارة عن خطة مدروسة ومرسومة من اجل التضليل الإعلامي الذي يسبق شنّ أي حرب.
كما تعيد الأحداث الحالية المتعلقة بالتقرير المعلن حول إيران في الوقت نفسه الأذهان إلى الموقف المخزي لكولن باول وزير الخارجية الأميركي – وباعترافه مؤخرا ومن خلال مذكراته- حينما حمل زجاجة صغيرة يوجد فيها سائل أبيض وأعلن امتلاك العراق لأسلحة بيولوجية؛ إذ أعلن باول أخيرا بأنها من أكثر اللحظات مأساوية في حياته، لأن ذلك المصل الموضوع في الزجاجة التي عرضها على الهيئة الدولية ما هو إلا كذبة أخرى طالما أعلن عنها هانز بليكس كبير المفتشين التابعين للأمم المتحدة ومن خلال تقاريره إلى خلو العراق من أسلحة الدمار الشامل.
وكما يعلن الآن الدكتور محمد ألبرادعي مدير الوكالة الدولية للطاقة الذريةIAEA التابعة للأمم المتحدة والحاصل على جائزة نوبل للسلام: إلى عدم توافر أدلة على وجود برنامج نووي لتطوير الأسلحة لدى إيران. مما أثار حفيظة الإسرائيليين خاصة ضده وكيلت له الاتهامات بانحيازه غير المباشر إلى إيران، متناسين المقدار الكبير الذي يتوفر عليه البرادعي من المهنية والمصداقية، فضلا عن السمعة الدولية الكبيرة. فإسرائيل والولايات المتحدة لا يهمهما المصداقية والموضوعية أو الالتزام بالقوانين الدولية بمقدار التزامهما بستراتيجة متطابقة ومتحالفة في العدوان على الشرق الأوسط وتامين الوجود الصهيوني في فلسطين بالدرجة الأساس.
فلماذا كانت تجري تلك الحملات الإعلامية الكاذبة على العراق ومن كان يقف وراءها؟ ولم تفضح دائما عقب نهاية الحرب وبعد أن تصبح الظروف غير مهيأة للتراجع؟ ومن المفارقات الكبيرة حقا عن النظام السابق في العراق، أنه كان طرفا من حيث يعلم أو (لا يعلم!) وراء تلك الحملات المغرضة بحجة الإيحاء للولايات المتحدة بامتلاك العراق لأسلحة دمار شامل – ومن خلال ضباط مخابرات عراقيين معروفين (جماعة عباس الجنابي) وغيره - من اجل الحيلولة دون إقدامها على اجتياحه؟؟ هكذا هو منتهى الغباء السياسي الذي كان يمارسه النظام على الساحة الدولية، والذي منح الاميركان فرصة كاملة لاجتياح العراق والقيام بأكبر حملة تضليل شهدها التاريخ السياسي والعسكري في العالم. وكذلك إشاعة معلومات كاذبة أخرى (داخلية) يمكن أن تتسرب بسهولة إلى الخارج؛ وهي سيل من المعلومات المستمرة الكاذبة الأخرى وعلى مدى أكثر من عشر سنوات بين صفوف الضباط العراقيين وقتذاك، والمتعلقة بامتلاك العراق لأسلحة رادعة كبرى إذا ما حدثت مواجهة بين العراق والولايات المتحدة الأميركية، ثم التنازل عن تلك المعلومات في الشهور الأخيرة التي سبقت إعلان حرب الخليج الثالثة مباشرة بعد إدراك النظام أخيرا بعدم جدوى هذه السياسات الرعناء وغير المدروسة والتي لم يحصد العراق من جرائها غير الاحتلال والدمار.
ويمكننا وقتذاك أن نلمس عمق الإحساس بالخطر المتأخر من خلال التصريحات الجوفاء التي كان يعلنها عدي نجل صدام حسين ومن تلفزيونه الخاص ومن ثمّ ترجمها علنا في جريدة بابل التي يمتلكها والناطقة باسمه في دعوة الشركات الأميركية إلى العمل في العراق في محاولة بائسة أخيرة للإبقاء على نظام الأسرة الفاسدة الحاكمة بأي ثمن. ودون أن يدرك الأخير: إن العلاقات الدولية لا يمكن أن تسوى بهذه الطرق والدعوات الساذجة.
ومرة أخرى تقدم الولايات المتحدة في إعلانها عن توقف إيران عن برنامجها العسكري السري دليلا أخر على (تخبطها) و(سؤ تقديراتها) المقصودة طبعا! بإعلانها إيقاف إيران لبرنامجها النووي العسكري عام 2003 دون أن تعزز ذلك بما يكفي من معلومات حول مكان وطبيعة ومستوى هذا البرنامج طبعا. وهكذا فإن إيران من خلال هذا العرض تكون من وجهة النظر الأميركية غير مبرئة بعدم وجود سلاح نووي لديها. وإن إيقافها لبرنامجها النووي السرّي جاء لأسباب إقليمية؟؟
ويرى كثير من المراقبين والمحللين السياسيين بأن هذا التقرير هو لصالح إيران، وهو ينقض المزاعم الأميركية بوجود أسلحة نووية لديها، لكن واقع الأمر من وجهة نظري هو بالضد من ذلك على الرغم من الإشارة الواضحة إلى توقف إيران عن تطوير الأسلحة النووية لديها عام 2003 قد منح إيران مقدارا من المصداقية في برنامجها السلمي لتطوير تخصيب اليورانيوم. والدليل على استثمار هذا التقرير من الرئيس بوش نفسه حينما أعلن في معرض الخطاب الأسبوعي له صراحة: إن التقرير المتعلق بإيران لا يعفيها ومن وجود برنامج نووي قابل للإعادة وهذا ما طبل له المسؤولون الإسرائيليون بقوة منذ البداية من إعلان التقرير.
في البداية ومن اجل محاكمة الإعلان الأميركي علميا وموضوعيا، يأتي السؤال الأول المهم الذي لم يتوقف عنده كثير من المراقبين أو المحللين السياسيين كثيرا، ألا وهو: لماذا اختارت الولايات المتحدة ووكالة استخباراتها عام 2003 عاما لإيقاف إيران برنامجها النووي؟ وهل كانت المعلومات دقيقة إلى هذه الدرجة من الصدقية؟! لا شكّ بان الولايات المتحدة اختارت هذا العام بالذات للإيحاء للعالم ومن خلال طرف خفي بأنها قد أسقطت ( الغول ألصدامي النووي الكاذب) مما استدعى دولا كإيران إلى إيقاف برنامجها النووي؛ وهذه كذبة أخرى غير محبكة على نحو كبير. كما أنها قد اختارت هذا العام بالذات لتحميل منطقة الشرق الأوسط فكرة قيام أوضاع إقليمية جديدة تشارك بها إيران أيضا. ومن هنا فهي تريد الإساءة إلى إيران التي تتهم من الإعلام الأميركي أو الإعلام الذي يسير في فلكه أيضا، بكونها ساعدت الولايات المتحدة بطريقة غير مباشرة في القضاء على أهم نظامين مناوئين لها: نظام صدام ونظام طالبان. وبمعنى إن إيران مشتركة في اللعبة الدولية الأميركية الشرق أوسطية الجديدة بهذا المقدار أو ذاك. وهو أسلوب يطعن بقوة في ما عرف عن إيران من مواقف معادية للولايات المتحدة منذ حوادث احتجاز الرهائن الاميركان والذي توسطت الجزائر والرئيس الراحل هواري بومدين بحله إبان الحرب العراقية الإيرانية.
إن إثارة هذا اللغط الكبير على الساحة الدولية يعد بمثابة استكمال للعبة الأميركية الشرق أوسطية المتعلقة بالفوضى البناءة Constructive Chaos ولا يمكن استبعاده عن عموم تلك الحركة الكبيرة للولايات المتحدة من اجل الظهور بمظهر الحريص على الموضوعية والمصداقية التي سلبت منها بجدارة إبان وبعد حرب الخليج الثالثة. وهاهي الولايات المتحدة من خلال اكبر أجهزتها المخابراتية CIA تحاول أن تعيد التوازن إلى قناعة العالم في أنها لا تزال تحمل من المصداقية ما يكفي من خلال تقريرها الأخير عن إيران. لكن تلك الأساليب لم تعد مفيدة بعد سلسلة الفضائح الكبيرة التي تمت في عهد مدير CIA السابق جورج تنت الذي تريد الإدارة الأميركية الحالية تحويله إلى (كبش فداء) لعموم الأكاذيب التي سوقتها إلى العالم لشن الحروب من الموتورين الصقور الجدد في البيت الأبيض والذين بدأوا بالتهاوي جماعات وفرادى مؤخرا بسبب سؤ تقديراتهم المقصودة وتخبطاتهم المدروسة جيدا!. لكن القوة الرئيسة لأولئك الصقور لما تزل قائمة ويرجى أن لا تعمل على إحداث كارثة أخرى في منطقة الشرق الأوسط لإيقاع الديمقراطيين في أوحالها، بعد أن أثبتت استطلاعات الرأي تقدم هيلاري كلنتون ورهط المرشحين الديمقراطيين الآخرين على الجمهوريين. وقد هدد جورج تنت صراحة بأنه سيقلب السحر على الساحر إذا ما وضع في هذا الموضع من اجل تحسين الصورة للجمهوريين، ولسوف يدلي بمعلومات جديدة ومهمة عن سؤ التقدير المقصود وعن التخبطات المتعمدة أثناء إدارته التي تعد أطول إدارة لCIA في تاريخها الشائن.
منح إعلان التقرير الصادر عن وكالة الاستخبارات الأميركية إيران فرصة دولية أخرى في اتهام الإدارة الأميركية الحالية بالتجسس على إيران وهذه التهمة بالطبع لا تنفيها الولايات المتحدة عن نفسها مطلقا؛ إذ هي قد أجازت لنفسها ما لم تجزه لغيرها من الدول.
ويعد هذا التقرير بمثابة إعلان آخر عن نيات الولايات المتحدة في التذكير بخياراتها العسكرية إزاء إيران حيث تقبع البوارج والسفن الحربية وحاملات الطائرات قبالة سواحلها. أما ما يتعلق بنية الولايات المتحدة في تغيير إستراتيجيتها من خلال مؤشرات ما يعرف ب Soft Power ولجؤ الولايات المتحدة إلى طرق أكثر عقلانية وأبعد قليلا عن استخدام القوة العسكرية مع الإبقاء الدائم على لغة التهديد في تحقيق أهدافها الشرق أوسطية فما هي إلا واحدة من الدعايات المتكررة التي تعتمدها الولايات المتحدة للتضليل الإعلامي.














عراق ما بعد نقطة الصفر

الجمهوريون يدفعون ثمن أخطائهم الإستراتيجية في العراق؟!

الانتخابات النصفية الأخيرة اظهرت على نحو لا يقبل الشك تراجعا كبيرا للجمهوريين وإدارة الرئيس بوش على وجه التحديد سواء في مجلس النواب الذي سيطر عليه الديمقراطيون ام مجلس الشيوخ ذي الأغلبية الديمقراطية ايضا. ومن المفيد ان نجد ان مجلس النواب ستترأسه السيدة نانسي بلوسي التي وصفت الرئيس بوش في آخر خطاب لها إبان الحملة الانتخابية الأخيرة: بانه " كاذب وخطير"، وهي من أشد الاوصاف التي قيلت في شخصه حتى الآن. هذه السيدة الديمقراطية الصلبة سوف يجد الرئيس بوش نفسه امام صعوبات جمّة في تمرير مشروعاته بشأن العراق.
ومن المثير حقا أن أحد الصحفيين قد سأل بوش مباشرة في المؤتمر الصحفي الذي عقده غداة الخسارة الكبيرة التي لحقت بالجمهوريين والإدارة الأميركية، عما إذا كان سيجد صعوبات قادمة في التعامل مع السيدة بلوسي، فاجاب بدبلوماسية تكساسية درج عليها السياسيون الاميركيون الخاسرون: بأنه سوف يتعاون مع السيدة بلوسي لمصلحة الشعب الأميركي!.
وإذا كانت تلك الانتخابات النصفية بمثابة التصويت على سياسة الإدارة الاميركية في العراق منذ 2003 وحتى يومنا هذا، فإنها تعكس بشكل واضح طبيعة التوجهات العامة للشعب الأميركي ورغبته في وضع حلّ واضح ونهائي للقضية العراقية بعيدا عن الارتجال وعدم التفهم لدى الإدارة الأميركية الحالية.
كان الرئيس بوش حازما في وجهة نظره بعد سيطرة الديمقراطيين على مجلسي النواب والشيوخ، وحدد بشكل جلي: أن الجيش الأميركي المحتل لن يغادر العراق إلا بعد إتمام المهمة؛ هذه العبارة التي كررها بوش ومساعدوه كثيرا حتى باتت مثل شطيرة هامبورغر ماكدونالد بائتة. ولا ندري حقيقة ما المهمة التي سيحققها الجيش الأميركي في العراق، والأرقام جميعا تشير على نحو لا لبس فيه إلى تصاعد أعمال العنف وازدياد أعداد القتلى من الجنود الأميركان خلال الشهرين الماضيين على نحو لم يسبق له مثيل حيث حصد الاميركان في الشهر الأخير أكثر من مائة قتيل، وهو - أي الجيش الأميركي- ما يزال يدفع فاتورة طويلة للأشهر القادمة بلا شك. وعلى الرغم من أن الاميركان يحاولون تغيير تكتيكاتهم العسكرية إلا أن الخسائر الفادحة ستحل بهم يوما بعد آخر, وربما هم بانتظار عمليات نوعية في هذا المجال، فما هم فاعلون؟ وهل يستطيع الديمقراطيون تغيير الأوضاع العامة للعراق على نحو سريع؟ لا أظن أن ثمة احد ينتظر تغييرات دراماتيكية كما هي التحولات في ولاية فرجينيا إبان الانتخابات.
ويكفي أن نشير إلى أن ولاية فرجينيا المعروفة بكثرة قواعدها العسكرية وولائها التقليدي للجمهوريين قد صوتت ضدهم هذه المرة، فهل ثمة ما هو أكثر هزيمة للسياسة الأميركية في العراق ومنطقة الشرق الأوسط من هذه النتيجة غير المتوقعة؟ لا يتعلق الأمر بأمهات الجنود ودورهن في ولاية فرجينيا، ولا بالدعوات الديمقراطية حول الزواج المثلي والإجهاض، القضية في الأساس تتعلق بمصير الجنود الاميركان في العراق، فالمهمة الأميركية بعيدة المنال وصعبة، وهي تتراجع يوميا بخطوط انكسارية حادة بسبب طبيعة الخطط الفاشلة وغير المدروسة بعناية للأميركان وسؤ إدارتهم (للأزمة) العراقية منذ تولي الجنرال (جي غارنر) ومدة حكم بول بريمر وحتى مجيء السفير (فوق العادة) خليلزاد: هذا الأخير ترد الأنباء هنا وهناك عن اعتزام تنحيته عن منصبه الآن، ستكون هذه نهاية المطاف لخطط شاملة في تحقيق (المهمة البوشية المزعومة) على أية حال.
وبعد إعلان نتائج الانتخابات كان أول من استقال عن منصبه هو وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد كما كان متوقعا. تأتي هذه الاستقالة ليس بسبب عدم قدرة رامسفيلد على تحمل قاس (لترهات) الديمقراطيين وبدائلهم العسكرية، وإعلاناتهم غير الواقعية عن مواعيد محددة لانسحاب الجيش الأميركي من العراق، بل للفشل الذريع الذي منيت به هذه القيادة الدوغمائية المتعصبة التي لم تنظر أبعد مما يجب ان يكون في ظروف قاسية كالظرف العراقي الحساس والمهلك. كانت جماعات الضغط الأميركية قد حاولت مرارا إزاحة رامسفيلد عن منصبه منذ اكثر من عام، لكن الرئيس الاميركي أصر بقوة على إبقائه فيه، بل عدّه بطلا قوميا!.. هذه الروحية الامبراطورية في التمسك بالقادة العسكريين الكبار هي التي اودت بروح التفهم لطبيعة الأحداث ومجرياتها. ولا ندري كيف يمكن لرامسفيلد ان يكون (بطلا) في ظلّ مجموعة من (الأكاذيب) التي كانت بمثابة العوامل المباشرة للقيام بإحتلال العراق من امثال وجود اسلحة دمار شامل، وعلاقة صدام بالقاعدة، وغيرها من الأدعاءات التي لم تثبت صحتها. وكيف يمكن لهذا الوصف البطولي ان يكون صحيحا في وقت لم تستطع أقوى دولة في العالم ان توقف عجلة العنف الرهيبة في العراق؟ هل كان العنف عراقيا برمته ام ان الأجندات الأميركية السرية هنا و هناك عملت على إذكائه؟ وهل أن عدم وجود إستراتيجية سياسية للإدارة الأميركية يعدّ كافيا إزاء هذا الكم الهائل من الإصابات التي تعرض لها الشعب العراقي؟ وكيف يمكن ان تمنح الألقاب جزافا لمن لم يطبقوا معاهدة جنيف والعهد الدولي في وضع الشعوب المحتلة من خلال الحث على عمليات النهب والسلب التي باركتها الإدارة المؤقتة الأميركية للعراق، فضلا عن استمرار (حالة العودة إلى نقطة الصفر) لدولة العراق وتاريخ العراق وجيش وشرطة العراق ومستقبل العراق..؟
إن الخاسر الوحيد في جميع الانتخابات الأميركية الحالية واللاحقة هو الشعب العراقي أولا وأخيرا قبل أن تكون الخسارة قد لحقت بالجمهوريين نفوسهم.. فالاخيرون يستطيعون ان يعوضوا خساراتهم السياسية وتراجعاتهم المحلية من خلال العمل على وضع ستراتيجيات اكثر اعتدالا، ويقدموا لمنتخبيهم ودافعي الضرائب ما يكفي من قناعات جديدة.. اما العراقيون فمن يعوض خساراتهم البشرية والمادية والحضارية والمستقبلية ؟؟ وهاهي الارقام الحقيقية تتحدث عن موت مليون عراقي جديد بعد عام 2003 . أليس من حق الشعب العراقي ان يقدم إلى المحاكمة افواجا جديدة من معذبيه ومنتهكي حقوقه الإنسانية من غير صدام وطغمته بعد عام 2003؟ وهل كان احتلال العراق خطئا ستراتيجيا اقترفته الإدارة المتشددة في البيت الابيض بعد احداث 11سبتمبر 2001 ؟ بالطبع بالنسبة للشعب العراقي المظلوم فإن احتلال العراق قد أنقذه من أعتى طاغية عرفه القرن العشرين، وهو عمل في صالحه بلا ادنى شك؛ بيد ان هذا الإحتلال قد اورث الشعب العراقي في الوقت نفسه عنفا مضاعفا وكارثيا، واوغل عميقا في تهتك النسيج الاجتماعي الذي كان عليه العراقيون منذ آلاف السنين.. فالعراق ليس دولة مصطنعة (بريطانية اللصق والتخطيط في الحرب العالمية الأولى) كما يحلوا بسذاجة لبول بريمر ان يشخص تاريخيا في مذكراته حول العام الذي قضاه في العراق كحاكم مدني، فالمتصفح البسيط لتلك المذكرات يصدمه منذ البداية الفقر المعلوماتي والتسطيح الفكري والوهن في تصور العوامل الأنثروبولوجية لتكوين العراقيين. بريمر الذي كان هو اول من دقّ اسفين اخطاء الجمهوريين عمليا في العراق الا يستحق من وجهة نظر بوش لقب بطل قومي أيضا؟
مما لا شكّ فيه - من وجهة نظري- ان مجلس الشيوخ سوف يستدعي بول بريمر قريبا مع رامسفيلد وبول وولفويتز لمساءلتهم من جديد عن حجم الأخطاء الكبرى التي اقترفوها في العراق. وهذا لا يعني حرصا ديمقراطيا على العراق، بل هم يجهزون نفوسهم منذ وقت مبكر لمعركة الرئاسة القادمة التي ستخوضها - كما هو متوقع- هيلاري كلنتون حاكم ولاية نيويورك وعضو الكونغرس العتيد والإسرائيلية أكثر من الإسرائيليين!.
وكلّ ما يرجوه العراقيون آنئذ ان تتم المساءلة اولا عن الاموال العراقية (المليارات الثمان) التي انفقها السيد بريمر الحاكم المدني إبان مدة حكمه بلا مستندات رسمية، والسرقات الكبرى التي قامت بها شركتا هالي برتن وبكتل اللتين يديرهما السادة العسكريون في البيت الأبيض. وكذلك طبيعة الأعمال المخترقة لحقوق الإنسان التي قام بها أفراد من الجيش الاميركي في عهد رامسفيلد دون ان يناله شرر من كلّ ذلك. أليس من حق العراقيين ان يعلموا كيف واين أنفقت هذه الأموال الطائلة التي تعد ميزانية لبعض الدول المجاورة لعدة سنوات؟ وكيف كان يعامل معتقلوهم في سجون أبي غريب وبوكا وغيرها من سجون الولايات المتحدة السرية والعلنية؟
لقد أصبح العراق ورقة الانتخابات الاميركية بلا منازع مما اوقعه في أشد المراحل التاريخية صعوبة وقسوة؟ لم يكن العراق قد أصبح حالة دولية بمثل هذا المستوى من قبل, ولذلك تجد ان بعض العراقيين - الآن- حين يقارن مرحلة صدام بهذه المرحلة التي تطلق فيها الهاونات على الاحياء السكنية يجد الاولى اقل عنفا.. ومن هنا فإن الاحتلال الأميركي للعراق لم يورث العراقيين إلا مزيدا من العنف ومزيدا من الموت المجاني اليومي، في وقت هم احوج فيه إلى السلام أكثر من أي وقت مضى بعد عهد فاشي أسود وعسكرة كاملة للمجتمع العراقي.
لقد فشلت الإدارة الأميركية في ان تجعل من العراق (بالون اختبار) لتصوراتها الناقصة والمخطؤة لمكافحة ما يعرف بالإرهاب بأية وسيلة ممكنة. ولذلك فإن قضايا الإرهاب قد أصبحت أشدّ خطورة من السابق وأكثر تنظيما مما جعلها تحصد مئات الآلاف من ارواح العراقيين. ولم ينل العراق من جراء هذه السياسة المسطحة للأحداث غير مزيد من الموت اليومي المنظم، ولم تجر على الشعب العراقي إلا مزيدا من الويلات والكوارث. فعن أية (مهمة) يتحدث السيد بوش ومعاونوه بعد ذلك؟ ولذلك يدفع الجمهوريون ثمن أخطائهم الآن ولسوف يدفعون المزيد في الانتخابات الرئاسية بعد عامين أيضا.
ومن المفيد أن نذكر القراء الكرام في هذه المناسبة وقبيل إجراء الانتخابات النصفية، ان الرئيس بوش قد تنبّه أخيرا إلى طبيعة (الأخطاء الإستراتيجية) للإدارة التي يجلس هو على هرمها، وخاصة ما يتعلق بطبيعة التعامل مع الملف العراقي سياسيا وامنيا، لكنه كالعادة كان الملف الاقتصادي غائبا في حين يشكل بحد ذاته عصب الحل الفوري للازمة العراقية المزمنة. بيد ان الصقور لا يريدون حلولا كما هي نظرية (الفوضى البناءة) التي بشرت بها كوندا ليزا رايس، وهي تجد في المشكلات والدوران فيها وسيلة لنضح اكبر مقدار ممكن من الإرهاب الذي يدفع به إلى العراق على حساب شعبه، في حين لا يخجل الرئيس بوش من الحديث عن ان الحرب على الإرهاب في العراق قد جنبت المواطن الأميركي ويلات وجودها بين ظهرانيه. فالشعب العراقي هو دروع بشرية للشعب الأميركي فما الذي أبقى بوش من سياسات صدام الهوجاء في جعل المدنيين العراقيين دروعا بشرية طوال ثلاثة عشر عاما من الحصار؟
وها هو بوش يحصد اخطاء بريمر الحاكم المدني الأسبق للعراق بقوة و بكل بساطة، لأن الأخير - وهو رجل امن ومكافحة ارهاب بالدرجة الأولى- جعل من العراق (اسفنجة) ماصة لقوى الارهاب العالمية, ولم يكن يمتلك ولا الفريق المكلف بإدارة العراق وقتئذ أي تصور واضح لأوضاع ما بعد الاحتلال اللهم إلا كيف يمكن إدارة المعركة في ظل الإرهاب ميدانيا.. اما مصير الشعب العراقي ودولته وحكومته فهو يأتي بالدرجة الثالثة أو الرابعة في اجندة الحفاظ على ارواح الجنود الاميركان الذين لن يستطيعوا الحفاظ عليها بسهولة بعد ذلك؛ وهذه من وجهة نظري هي الطامة الكبرى التي جرّت على الإدارة الأميركية جميع الاخطاء الستراتيجية المترتبة عليها.
فالمشكل الاساس للرئيس بوش يكمن في خضوعه شبه التام لمستشاريه وخاصة من المتطرفين في البيت الأبيض او ما يعرف بجماعة الصقور. وربما لم يكن يدرك تماما طبيعة التحديات وحجم كارثيتها على الإدارة الاميركية إلا بعد ان عين لجنة(محايدة) تدعى لجنة بيكر- هاملتون لوضع تقييم شامل للوجود الاميركي في العراق. فالسيد بيكر هو من أهم الشخصيات التي تكتسب أحترام الجمهوريين والديمقراطيين على حد سواء. بيد ان ذلك جاء متأخرا جدا بحيث لم يتمكن الرئيس بوش الذي تضعف لدية (روح المبادرة الشخصية) من تلافي الأوضاع الشائكة للعراق وتكاد المبادرة ان تكون ضعيفة جدا لو قورنت بروح المبادرة لدى رؤساء آخرين.
دفع الجمهوريون ثمن أخطائهم أيضا في سلسلة الفضائح التي لاحقت الجمهوريين من أمثال فضيحة فولي حيث كان السيد فولي يتحرش جنسيا بالشباب المتدربين في الكونغرس. هذه الفضائح وغيرها من الفضائح الأخرى المتعلقة باختفاء أموال للجيش الأميركي في العراق تقدر بملايين الدولارات فضلا عن سلسلة (العمى الإستراتيجي) الذي وصمت به الإدارة الاميركية من خلال اعتمادها على استشارات غير سليمة وتقديرات غير صحيحة للأوضاع الداخلية في العراق، كلّ تلك الأحوال المتقلبة والمتحولة على نحو مفاجئ لم تسنح للإدارة الاميركية بتقديم صورة واضحة ومحددة عن مستقبل العراق.
ويرى الرئيس بوش في تفسير هزيمة الجمهوريين في الانتخابات النصفية الأخيرة يعود بالدرجة الأساس إلى " عدم تحقيق تقدم في الحرب على العراق" فهل يحتمل رامسفيلد هذا العبء وحده؟ وهل يستطيع روبرت غيتس الوزير المسمى بعد رامسفيلد ان يصلح ما أفسد الدهر؟ وهل يمتلك الديمقراطيون مشروعا محددا وواضحا لإنقاذ الوضع في العراق؟ كان الرئيس بوش قد أكد في حملته الانتخابية النصفية على ان الديمقراطيين لا (خطة) لهم في العراق.. ولكن هل ان خطة بوش الناقصة العرجاء كبطة أميركية تصلح للعراقيين؟ لا شك بان الاحداث الحالية والقادمة لا تشير إلى ذلك.








تقرير بتريوس – كروكر: عصا موسى الأميركية

طالما ظنت الإدارات الأميركية المتعاقبة أنها قادرة على حرف المسارات الدولية لصالحها . الهوس بالقوة نفسه منذ أن خرجت الولايات المتحدة منتصرة بعد الحرب العالمية الثانية. ولم تتخذ الولايات المتحدة من فيتنام درسا بعد. كانت النقلة التكنولوجية في الصناعات العسكرية خاصة، قد ولدت تصورا خاطئا ومزمنا بإمكانية إبعاد" اللحم الحي" عن المعركة إلى أقصى ما يمكن، مما يقلل الخسائر البشرية التي طالما ولدت ضغوطا مباشرة لإيقاف الحروب العدوانية. الاستعاضة عن الجانب البشري بالآلات والنواظير الليلية والقنابل الطنية المدمرة للتحصينات، والبنادق العاملة بالأشعة فوق الحمراء، والرجال الآليين (الروبوتات) الذين يقومون بالاستطلاع أيضا؛ كلّ ذلك يبعث بمرض ذهان يصيب الدول أيضا: يملكون عصا موسى ويمكن من خلالها إحداث كل التغيرات المطلوبة.
لكن حالة الحرب في العراق أثبتت مرة أخرى ان ليس ثمة عصا موسى في السياسة أبدا. وإن الأوضاع تقتضي ضرورة إعادة النظر بذلك الهوس الكاذب؛ فإن "اللحم الحي" كان وما يزال هو المدفوع الثمن غالبا في جميع الصدامات، وأن نظريات القتال عن بعد ليست صالحة دائما؛ إذ لابد - في حالة الاحتلال- من الاشتباك القريب. لذلك هم يحاولون إيهام الرأي العام الأميركي بشتى الوسائل؛ في أنهم ما زالوا يسيطرون على الموقف المتدهور من خلال الإعلان عن خطط جديدة أو إجراء تقييمات لخطط سابقة.
وكثرت التقارير التقييمية للإستراتيجية الأميركية في العراق، أو تلك التقارير المستقبلية التي تحاول رسم "خارطة طريق" لحلحلة الأزمة العامة حول الوجود الأميركي فيه. وفي هذا العام خاصة بعد اشتداد الأزمات المختلفة التي تعصف بهذا البلد الغني ذي الموقع الإستراتيجي في الشرق الأوسط. وتمهد آلة الإعلام الضخمة والمتعددة الوسائل بقوة للترويج لتلك التقارير قبيل وبعد صدورها، وهي تنطلق من حين لآخر دون أن تحدث ما يكفي من تغييرات على أرض الواقع؛ حتى أن بعض المراقبين عدها مجرد فقاعات إعلامية، الهدف منها تخفيف وطأة الأوضاع الناتجة عن سلسلة الأخطاء الإستراتيجية التي تقترفها الإدارة الأميركية. فقبل بضعة أشهر رأينا تقريرا معدا من بيكر - هاملتون، حمل عددا من التوصيات والمعالجات الداخلية والإقليمية إزاء القضية العراقية. وعلى الرغم من الضجة الإعلامية التي رافقت إعداد ذلك التقرير، والتركيز الكبير الذي حظي به بعد صدوره، إلا أنه لم يحقق أي تقدم ملموس على طريق وضع حلول عملية ممكنة يمكن من خلالها إحداث خلخلة موضوعية لعموم التعقيدات المتواصلة التي تكتنف الوجود الأميركي في العراق.
وفي هذه الأيام تثار – على المسار نفسه أيضا - زوبعة جديدة حول تقرير جديد لديفيد بتريوس القائد الميداني للقوات الأميركية في العراق، وسفير الولايات المتحدة رايان كروكر. وكلما سئل الرئيس بوش عن مدى نجاح القوات الأميركية في العراق بعد إرسال تعزيزات عسكرية جدية لدعم خطة الأمن في بغداد، يقول: لننتظر تقرير بتريوس – كروكر؟ فهل يحمل هذا التقرير عصا موسى هذه المرة؟!
ويبدو أن الإدارة الأميركية بعد اشتداد المنافسة بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي تحاول أن تحمّل ما يعرف بمسؤولية الفشل في العراق إلى جهة ما بعينها، غير عابئة بالأخطاء الكبيرة التي تقترفها في معالجاتها للقضية العراقية التي هي بقضها وقضيضها صناعة أميركية هوليودية معبدة بالدم. وظهر ذلك جليا في تصريحات بعض المسؤولين العسكريين والسياسيين من أمثال السناتور هيلاري كلنتون المرشحة لرئاسة الإدارة الأميركية المقبلة وكارل ليفن اللذين طالبا مجلس النواب العراقي علنا بتغيير حكومة المالكي، وهو ما لم يحدث مطلقا بتاريخ العلاقات الدولية. لقد أظهرت تلك المناوشات الدبلوماسية مدى هشاشة الأوضاع في العراق وعدم بناء قاعدة لدولة محترمة طوال أعوام الاحتلال المنصرمة. مما أضطر رئيس الوزراء العراقي إلى توجيه كلمات حادة نسبيا لكلا المتحدثين المذكورين متهما إياهما بعدم معرفة تعقيدات الأوضاع الداخلية في العراق، وخاصة ما يتعلق بملف المصالحة الوطنية موضع الخلاف الدائم. وبدا ان العراق أصبح ساحة من جديد لتصفية حسابات الانتخابات الأميركية المقبلة.
كما طالت المطالبات بتغيير الحكومة – في أوقات متقاربة- جهات من خارج الإدارة الأميركية تمثلت في التصريحات التي أطلقها برنار كوشنير وزير خارجية فرنسا الذي زار العراق مؤخرا والتي أحدثت أزمة دبلوماسية بين بغداد وباريس. ولم ينس احمد بن حلي نائب عمرو موسى الأمين العام لجامعة الدول العربية من الدلو بدلوه في تحميل حكومة المالكي وزر الأخطاء التي تحدث في العراق؟ لقد حدثت جميع هذه الضجة الدبلوماسية قبيل صدور التقرير الذي لا احد يظن حتى الوقت الحاضر أنه يحمل مفآجات على المستوى الإستراتيجي المتعلق بوضع حلول عملية لدرء التدهور الشامل للأوضاع في العراق.
ومهد لصدور التقرير الجديد فقاعة جديدة من المعلومات التي تسربت إلى جريدة واشنطن بوست من (لجنة محاسبة) أوضاع الوجود الأميركي في العراق التابعة إلى الكونغرس. وقد أكد التقرير الممهد هذا، على أن الإدارة الأميركية لم تستطع أن تحقق إلا ثلاثة أهداف من بين ثمانية عشر هدفا فقط أثناء وجودها في العراق. في وقت تنشر أنباء عن أن الإدارة الأميركية قد حققت عشر أهداف من ثمانية عشر أيضا. هل نحن في مباريات بيسبول؟! ما هذه اللعبة الإعلامية المفضوحة؟! إن الإدارة الأميركية قد حققت جلّ أهدافها – من وجهة نظري- في العراق... فلماذا تعمد إلى تلك الأساليب لتوضيح سياساتها إلى الرأي العام الأميركي والرأي العام العالمي عموما من خلال تقاريرها الدورية هذه؟ وكيف يمكنها أن تحتل هذه المساحة الكبيرة من المناقشة العامة؟ لاشك أنها بمجملها وضعت من اجل التخفيف من وطأة المأساة التي يعاني منها الجيش الأميركي في العراق، وكذلك لتنامي معارضة كبيرة للوجود الأميركي وسياسة بوش تحديدا.
إن التقرير المزمع إصداره لن يأتي من وجهة نظري بجديد، ولسوف يلقي باللائمة على حكومة المالكي وحدها باعتبار إن التقدم النسبي الذي أحرز على المستوى الأمني لا يتناسب وجهود الحكومة العراقية في إجراء المصالحات الوطنية. وعلى الرغم من أن الحكومة قد حققت تقدما على الجانب السياسي بظهور (الاصطفاف الرباعي) الأخير، لكن التقرير بالطبع لن يثني على هذه الحال باعتبارها إستراتجية دائمة.
وإذا كان لابدّ من تحميل جهة ما المسؤولية في عدم تحقيق تقدم ملموس على مسارات العملية السياسية في العراق، فإنه يقع بالدرجة الأساس على الوجود الأميركي والأخطاء المتوالية التي اقترفت في هذا المجال. ويمكننا أن نراجع ملفات الحرب على العراق لنكتشف إن الإدارة الأميركية لم تكن تحمل تصورا واضحا عن مرحلة ما بعد الحرب وإسقاط النظام السابق. وهذه الإدارة على الرغم من مرور أكثر من أربع سنوات على احتلال العراق لما تزل لا تمتلك تصورات محددة لكيفية الخروج من المأزق العراقي. فما الذي يمكن أن يضيفه تقرير بتريوس – كروكر إلى عملية تكوين تصورات واقعية حول مستقبل الوجود الأميركي في العراق؟
ومن أهم النقاط التي ستثار في التقرير - كما نتوقع - هو مسألة المصالحة الوطنية البطيئة التي تكاد تكون متعثرة في مراحلها الأولى والتي ستكون عصب الخلاف الرئيس بين الإدارة الأميركية وحكومة المالكي. وإذا كان السيد نوري كامل المالكي رئيس الوزراء العراقي يرى بأن المصالحة تسير بخطى معقولة قياسا على الظروف والتعقيدات في العراق، وأن المصالحة ليست دعوة طعام على حدّ تعبيره؛ فإن التقرير سيجد في ذلك مبررا كافيا على فشل تلك الحكومة في هذا المجال. فهل يحمل التقرير عصا موسى ثانية لجعل الأفرقاء العراقيين من القوى المشاركة في العملية السياسية يجلسون على مدى أسبوعين لحلحلة مشكلاتهم العالقة والمزمنة؟ لقد أثبتت النتائج المترشحة عن مؤتمر شرم الشيخ الأخير أن مجمل الصعوبات في العملية السياسية العراقية تكمن في المصالحة الوطنية.
وعلى الرغم من إحراز بعض التقدم في الناحية الأمنية في الأشهر الأخيرة خاصة في العاصمة بغداد، وبعثرة المراكز الإرهابية فيها؛ فإن ذلك سيوعزه التقرير بشكل مباشر إلى قرار الرئيس بوش في إرسال (30) ألف جندي إضافي. ترى ما الذي كانت تفعله بقية القوات العاملة في العراق سابقا؟ وهل ثمة تفسير غير الفشل المروع لها في كبح جماح العنف والعنف المضاد الذي مهدت له بإهمالها المتعمد؟ وهل من الممكن سحب (60) ألف جندي فعلا في العام القادم بعد ازدياد أعمال العنف المفترضة في الجنوب؟! إن أمام تقرير بتريوس – كروكر من الأسئلة الصعبة ما يكفي للإجابة عنها، فهل سيفعل ذلك أم أنه سيعمد من جديد إلى خانة الحلول الإقليمية أو الدوليةّ؟
فبات من الواضح أيضا أن المسار الذي اقترحه تقرير بيكر هاملتون حول أهمية إحداث فعالية إقليمية ما للدول المحيطة بالعراق، كما حدث إبان التحاور الأميركي الإيراني حول العراق لتحسين الأوضاع فيه لم يعد مجديا. وان نتصور إن لاعبين رئيسين كسوريا وإيران يمكن جمعهما في ظلّ معارك دبلوماسية وتهديدات تشنها الإدارة الأميركية عليهما من حين لآخر؟ لذلك ومن اجل الخروج من المأزق الإقليمي جددت الولايات المتحدة ترحيبها بالحلول الدولية التي ترعاها الأمم المتحدة، في وقت كانت هي من أشد المناوئين وعلى مدى سنوات الاحتلال من أي وجود دولي في العراق. لكنها مازالت حتى هذه المرحلة الصعبة غير عازمة على (تدويل القضية العراقية) في الوقت الحاضر. فهل يحمل التقرير إجابات حول هذا المجال الشائك؟ وهل بإمكان الأمم المتحدة فعلا حلّ مشكلات العراق المزمنة والمستعصية, وهي التي فشلت في حل مشكلات أفريقية تحمل درجات أوطأ بكثير من المشكلات العراقية؟!
لا أحد يفترض مسبقا أن التقرير سيغير من الإستراتيجية الأميركية في العراق، ولن يأتي بجديد في ظل تدهور كامل وشامل في الأوضاع العامة. فلماذا يضع الرئيس بوش أمله فيه وهو يعلم تماما أنه ليس عصا موسى؟! كل ما في الأمر هو أن التقرير سيأتي باقتراحات غير محددة تماما، حول الخروج من المأزق الداخلي الذي أصبح يقترب حثيثا من التاريخية، مثلما هو عليه الحال في مقترحات بيكر – هاملتون التي أخذت طريقها إلى الرف المغبر من مكتبة البيت الأبيض.




العسكرتاريا العراقية
في مظاهر التكوين والتدهور

كانت اللبنة الأساسية في تكوين العراق المعاصر كدولة حديثة تكمن بدرجة كبيرة في إنشاء الجيش العراقي منذ عام 1921. فكان الجيش من أهم مظاهر الدولة في العراق التي تأسست على أنقاض ثورة 1920 ومن اجل الإيحاء بوجود سلطة ما للعراقيين على أرضهم في ظل احتلال بريطاني غاشم. ولم تكن بريطانيا بعد احتلالها للعراق ترغب في إقامة جيش وطني، إذ تشير الوثائق المتعلقة بتلك المدة إلى نيتها تشكيل نوع من (الشرطة العسكرية) إبان تأسيس فوج موسى الكاظم. لكن جهودا حثيثة من إداريين عراقيين كانوا في العهد العثماني، وعلى رأسهم جعفر العسكري عملت على إقامة جيش وطني عراقي باعتباره رمزا للوطنية العراقية وللدولة العراقية ومن اجل الحصول على مناصب فيه.
وكانت مفاهيم وقيم الجيش منذ البداية خليطا من العسكرية العثمانية والمثل العسكرية الواردة عن الاحتلال البريطاني الذي جاء إلى العراق منذ بداية الحرب العالمية الأولى وتتويج احتلاله لبغداد عام 1917 . لكن القيم والمفاهيم التي كونت ما عرف بالعقيدة العسكرية كانت بريطانية وهي السائدة على نطاق واسع بعد ذلك. ومن الطبيعي أن يكون الجيش مقتصرا على طائفة بعينها بحكم تركيبته العثمانية السابقة التي اعتمدت خصوصا على الطائفة السنية في إدارة الدولة. فلم يكن العراقيون منخرطين جميعا بكل طوائفهم وشرائحهم الاجتماعية في هذا الجيش الوطني الذي أريد له أن يكون نقطة توحيد دائمة للعراقيين حتى بعد فرض الخدمة الإلزامية فيه. فكان الضباط المؤسسين لهذا الجيش من أهل السنة تحديدا عربا وكردا وتركمانا ومن طائفة واحدة. أما الشيعة وهم الطائفة الأكبر فلم يكونوا منخرطين فيه إلا في وقت متأخر من تاريخه، وكذلك كان الحال بالنسبة للمسيحيين أيضا. هذه الحال الشاذة شملت في الوقت نفسه معظم إدارات الدولة المدنية مما اوجد نوعا ظاهرا من الشروخ الاجتماعية منذ مدة التأسيس الأولى للدولة العراقية. وبات من الطبيعي سيادة أوضاع عن مواطنين من الدرجة الثانية. كما أن بعض صنوف الجيش كالطيران الخفيف – على سبيل المثال- لم يدخلها المسيحيون ولا الشيعة ولا بقية الطوائف الأصغر حتى نهاية العهد الجمهوري الأول عام 2003. ولا يبرر استبعاد المسيحيين عن الطيران بعد ذلك في العهد الجمهوري خاصة بحادثة الطيار العراقي (منير روفا) الذي سرق طائرة (ميغ 17) وهرب بها إلى إسرائيل. فقد كان كثير من المسلمين الشيعة محرومين من دخول هذا الصنف أيضا، على الرغم من بعض (الانفتاح) في مدة حكم الزعيم عبد الكريم قاسم 1958 - .1963
أما حادثة التنصت الإسرائيلية التي كشفت عن طريق المصادفة بزرع جهاز تنصت على مخابرات الطيارين العراقيين في منطقة H3 فهي من أشد الأحداث خطورة وقتذاك حيث أظهرت مدى العجز في التحصن الأمني في العهد الصدامي 1979- 2003 وليس كما كان يشاع عن قوة الأجهزة الأمنية العراقية وقتذاك. فضلا عن الاتهام بالتجسس الذي طال فاضل البراك مدير الأمن والمخابرات – كما أشيع وقتذاك- بالتخابر مع دولة أجنبية؟؟!
ولعب الجيش أدوارا كبيرة في العهدين الملكي والجمهوري الأول وكون ملمحا واسعا للحراك السياسي في العراق من خلال سلسلة تدخلاته غير الشرعية في الشؤون الداخلية والعمل على فرض نفسه كحل سياسي لمجمل المشكلات التي عانت منها البلاد والمتعلقة بالدرجة الأساس في ارتباط النظام الملكي ببريطانيا. وهكذا لم يعد الجيش ممثلا للقيم التي أسس لأجلها وهي تتحدد: حماية الحدود وحماية دستور البلاد. وكما شكل الجيش في العقدين التاليين على تأسيسه قوة لإبقاء هيبة الدولة وحماية حدودها وانتزاع الاعتراف بها. وهكذا بدأ أوائل عمليات السحق للمعارضين بقوة العسكر في انتفاضة الآثوريين وما عرف بحركات العشائر في الفرات الأوسط حيث استخدمت القوة العسكرية بإفراط وكان بطلها الفريق بكر صدقي. ثن أعقب ذلك في اشتراك الجيش لقمع الحركة الكردية العراقية في شمال العراق 1946- 2003.
ويمكننا أن نرصد بعجالة خارطة تدخل العسكر في السياسة العامة للبلاد منذ تلك المدة التي جاءت بها جمعية الاتحاد والترقي في العهد العثماني إلى السلطة، حينما وثب العسكر السلطاني لفرض دستور عام 1876 (المشروطية) في أول انقلاب عسكري في الشرق الحديث عام 1908 على السلطان عبد الحميد الثاني قام به ضباط عسكريون(مربع ذهبي أول) حيث انصاع الأخير إلى الدستور بعد أن أوقف العمل به بعد مدة قصيرة من صدوره. كانت تلك الظاهرة لما تزل عالقة في أذهان الضباط العثمانيين من العراقيين الذين عملوا على تأسيس الجيش العراقي بعد ذلك. وكانت ثقافة التغيير من خلال القوة العسكرية حاضرة في أذهانهم دائما.
وكان العسكر العثماني قد تمادوا بعد انهيار السلطنة العثمانية وفقدان مستعمراتها في المشرق العربي وخسارتها للحرب العالمية الأولى1918-1914 ثم ليخلعوا أخر سلاطين آل عثمان محمد رشاد باعتباره آخر خليفة للمسلمين، وليعلنوا بعد ذلك جمهورية تركيا الحديثة العلمانية التي قادها بجدارة واحد من المع العسكريين في العالم الإسلامي مصطفى كمال أتاتورك الذي يعني أبو الأتراك. وكانت تظن ثلة من العسكريين العراقيين بأنهم يمكن أن يكونوا في الوقت نفسه آباء جددا أيضا. ونجد هذه الظاهرة حاضرة في الخطابات العسكرية التي قدمها معظم الضباط الانقلابيين في العراق وبدئت بعبارة يا أبناء الشعب العراقي. لكن هذه الثلة من الضباط المغامرين سواء في العهد الجمهوري أو الملكي لم تستطع أن ترقى إلى مستوى العمل والنظر الأتاتوركي.
ومن الصعب معرفة طبيعة الدوافع الحادة لمصطفى كمال دون التعمق في طبيعة تلك المرحلة التاريخية التي شهدت انهيار أثنين من أكثر الإمبراطوريات طرّا في التاريخ الحديث: إمبراطورية النمسا – المجر التي ضمت العديد من القوميات، والدولة العثمانية التي كان العرب يكونون غالبية قومياتها في وقت كانوا يعانون من (سياسية التتريك) التي تعدّ واحدة من أبشع مظاهر (السحق القومي للعرب) في ما عرف بسيادة العنصر الطوراني في الدولة العثمانية على بقية العناصر المكونة لها.
انتقلت مظاهر العسكرية التركية إلى العسكرية العراقية الناشئة إذ لم يكن لدى الضباط العراقيين عموما توجهات دينية على الرغم من ظهور حركة الاستيطان اليهودي في فلسطين والثورات التي حدثت فيها منذ عام 1936 كما أن مفاهيم المهنية العسكرية كانت هي الغالبة في بداية التكوين. ولذلك فقد أنشئ الجيش العراقي على قيم ضبطية عالية إذا ما قورن بجيوش إقليمية أخرى في المنطقة. وبقيت تلك القيم سائدة حتى بعد حلّ الجيش العراقي عام 2003 على الرغم مما حاق بها من أضرار بفعل السياسات الخاطئة للأنظمة السياسية طوال العهد الجمهوري الأول.
بيد أن الظاهرة الأساسية التي صاحبت هذا الجيش كمنت في محاولته تغيير الأوضاع السياسية من خلال استخدام القوة العسكرية التي تربع عليها بعد التطور الكبير الذي شمل وحداته وتجهيزه وتنظيمه. وكانت تلك الظاهرة انعكاسا للتطورات الكبيرة في تركيا الحديثة. فيعدّ الجيش العراقي وريثا طبيعيا للعسكرية العثمانية. ومن الصعب فصل التكوين الفكري لضباطه عن تلك المدة برغم حصول العراق على الاستقلال عن بريطانيا عام 1933 ودخوله إلى عصبة الأمم. كما أن الضباط العراقيين لم يستطيعوا على العموم فصل أنفسهم عن التطورات الحادثة في تركيا أو ما يحدث في الدول الإقليمية كمصر وخاصة بعد ثورة يوليو تموز عام 1952.
وكانت نزعة الاغتيال للتخلص من الخصوم قد انتقلت إلى الجيش العراقي أيضا، حيث شهد العراق الملكي سلسلة من الاغتيالات المختلفة كوسيلة للتغيير والانتقام في الوقت نفسه. ومن هنا فإن ظاهرة العنف المتأصلة في العسكرتاريا العراقية قد وجدت لها مكانا رحبا في ظلّ القيم التركية التي بقي الضباط العراقيون يمارسونها طوال مدة خدمتهم في الجيش. يمكننا أن نجد ذلك بوضوح في اغتيال جعفر العسكري وبكر صدقي والعقداء الأربعة وغيرهم من القادة العسكريين.
وهكذا كانت نزعة السحق القومي التركية، والتعنيف العسكري، قد انتقلتا بعدواها بمظهر أخر في العراق بما عرف (بالسحق الطائفي) حيث تمّ استبعاد الشيعة والمسيحيين وبقية الإثنيات الأصغر ليس عن المناصب في الجيش بل عن عموم إدارة الدولة، مما كون خللا كبيرا في التوازن الاجتماعي لما يزل يعاني منه المجتمع والدولة العراقيين إلى الوقت الحاضر. وكانت بريطانيا من المشجعين الأساسيين على انتهاج تلك السياسة التجزيئية حفظا لمصالحها الخاصة وسيرا على سياساتها في الهند التقليدية في كبح جماح الأكثرية وتسليط الأقليات في المجتمع، وكون الشيعة قد أسهموا بالمقدار الأعظم من ثورة عام 1920 الوطنية.
ويمكننا أن نعد أتاتورك مؤسسا أبويا للعسكرتاريا في الشرق الأوسط عموما. كما يمكننا في الوقت نفسه أن نعد بكر صدقي وجعفر العسكري أبوين للعسكرية العراقية وللمؤسسة العسكرية في العهد الملكي. وما الانقلاب العسكري الأول الذي قام به الضابط العراقي الكردي المرموق بكر صدقي عام1936 ضدّ حكومة مدنية كأول محاولة للعسكرتاريا للاستيلاء على السلطة في العراق إلا من وحي التجربة الاتاتوركية المجاورة للعراق التي سيطرت على ذهنية ذلك الضابط المغامر المتحالف مع سياسيين مدنيين إصلاحيين. فكانت نهاية بكر صدقي مؤسفة، إذ أطلق عليه الرصاص من الخلف في دار لاستراحة الضباط بالموصل من عريف مغامر أخر في الجيش العراقي أثناء اعتزامه السفر إلى تركيا لحضور مناورات عسكرية. وأتهم نوري السعيد رئيس الوزراء العراقي وهو ضابط شريفي(*) أخر بتدبير المحاولة؟!
ثم أعقبت تلك التجربة المريرة ما قام به العسكريون العراقيون (العقداء الأربعة أصحاب المربع الذهبي العراقي) مع قائد ميليشيات الفتوة العسكرية القومية في بغداد المغامر يونس السبعاوي في انقلاب ضدّ الحكومة والسدة الملكية في آن واحد عام 1941 حيث أزيح عن السلطة الوصي عبد الإله ونوري السعيد معا. لكن المحاولة فشلت بسبب تحرك القوات البريطانية وقطعات عراقية مناوئة للحركة الانقلابية، وإعادة احتلال بغداد من جديد ليسجل العسكريون العراقيون واحدة من أهم المآثر (التدخلية) في الحياة المدنية السياسية. ثم ألقي القبض على العقداء الأربعة وحوكموا محاكمة عسكرية مع الشاب يونس السبعاوي حيث شنقوا في ساحة التحرير كمتآمرين على الدولة؛ وهي أولى نتائج العنف العسكرتاري في العراق والتي بقيت أثارها ماثلة حتى ثورة عام 1958 الوطنية. وكان الضابط القدير الفريق وليد محمود سيرت(**) ممثلا للعسكرية العراقية في العهد البعثي الأول 1979-1968 باعتباره امتدادا لأولئك الضباط في التأسيس. رغم إن الأخير لم يحظ بفرصة اكبر في إظهار مواهب تدخله في الشؤون السياسية.
كانت الكارثة الكبرى التي حلت بالمؤسسة العسكرية العراقية الحديثة في العهد الجمهوري الأول تمثلت في استيلاء مدنيين على التقاليد العسكرية التي تربى عليها الجيش العراقي. فمنح ولأول مرة في تاريخ العراق الرائد عدنان خير الله طلفاح رتبة فريق بقفزة واحدة وبقرار سياسي لا تتناسب مع طبيعة القانون العسكري العراقي وفي سابقة لا مثيل لها لكي يصبح وزيرا للدفاع.وليفتح الطريق سالكا إلى منح مدنيين لم يخدموا في الجيش يوما واحدا رتبة فيلد مارشال (مهيب ركن) كصدام حسين. ثم أصبحت القيم والمثل العسكرية العراقية في الحضيض حينما منح عريف سيء السلوك كعلي حسن المجيد رتبة فريق أول وأصبح وزيرا للدفاع. ناهيك عن منح الرتبة والمنصب نفسه إلى المرافق الشخصي لصدام حسين أبن عمه حسين كامل الذي كان يعمل شرطيا في نجدة الرصافة في بداية السبعينات من القرن الماضي أيضا. والقائمة من الطول بمكان.
عن انهيار المؤسسة العسكرية العراقية وخاصة في المدة التي أعقبت الحرب العراقية الإيرانية 1988-1980 تعد مؤشرا على تدهور العسكرتاريا العراقية والمؤسسة العسكرية وتحولها إلى ذنب سياسي غير فاعل ومتلق للأوامر من مدنيين قليلي الخبرة حين قبلت التنازل عن قيمها العسكرية وعملت في ظل قادة مدنيين يعدون صبيانا كما عمل الفريق أول سلطان هاشم احمد وزير الدفاع السابق تحت إمرة قصي صدام حسين حيث كلف الأخير بأكبر مهمة في حرب الخليج الثالثة ألا وهي حماية بغداد.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) شخصية عراقية من أصل تركي من مؤسسي جمعية العهد المكونة من عدد من الضباط العسكريين. عمل على ترصين الجبهة العسكرية للشريف الحسين بن علي ( شريف مكة) الذي أعلن تمرده العسكري على الدولة العثمانية عام 1916 والتي عرفت بعد ذلك بالثورة العربية الكبرى.
(**) أعدمه صدام باتهامه الاشتراك في انقلاب عام 1973 الذي قاده مدير الأمن العام سيء الصيت ناظم كزار.











المحور الروسي
الدبّ الروسي ورقصة (العَرْضة)


في الحروب الدبلوماسية يتطلب الوضع الشائك بعد سلسلة من الهزائم على الصعيد الدولي أن تجري عملية التفاف مباغتة لتوكيد الفعالية الدبلوماسية هنا او هناك على خارطة السباق الدبلوماسي الزلقة دائما. وليس ثمة أفضل من "الخرق المباشر" في أقوى القلاع القديمة المناوئة لجعل الخصوم يتنبّهون - من جديد - إلى أهمية اللاعبين القدامى، وللتذكير بالدور الذي تضطلع به تلك القوة الآيلة للأفول عن مواقعها التقليدية.
هذا ما تحاوله الدبلوماسية الروسية هذه الأيام في الأقل لرسم دور (ما) لها في العالمين العربي والإسلامي بعد سلسلة التراجعات والانتكاسات والهزائم الإستراتيجية. وبعد أن بدأت الغريمة العنيدة الولايات المتحدة منذ الحرب الباردة تتزحزح عن مكانتها التي اكتسبتها بعد انهيار الاتحاد السوفيتي ومنذ غزو أفغانستان والعراق، والتشوه العارم الذي لحق بصورتها عالميا على حدّ سواء.
يحاول الدب الروسي ان يجد له مواطن عسل جديدة، فقد اهتمت روسيا بالشرق الإسلامي منذ عهد القياصرة الأوائل, حيث كانت الإستراتيجية الروسية القديمة تتمثل في الوصول إلى "المياه الدافئة" دائما في أدق صورها، كما هي مقولة بافل الأول الشهيرة. وبغض النظر عما تعنيه المنظومة الفكرية للمياه الدافئة في التوجهات الروسية القديمة والحديثة، سواء كانت مياه الخليج العربي او مضائق البوسفور والدردنيل التركية إلا أنها سجلت على العموم سلسلة من الصراعات الروسية الدموية ضدّ العالم الإسلامي سواء مع الدولة العثمانية أو الدولة الصفوية في إيران. وكادت روسيا أن تختفي من أي نفوذ في العالم الإسلامي لولا الرئيس الراحل جمال عبد الناصر هو فقد كان أول من ادخل الروس إلى حلبة الصراع الدولي والإقليمي إلى منطقة الشرق الأوسط في التاريخ المعاصر، بعد ما رفض الغرب والولايات المتحدة تزويد مصر بالأسلحة وبعد عامين من عمر ثورة يوليو- تموز عام1952 من اجل حماية إسرائيل وخشية استخدام تلك الأسلحة ضدها، حيث حلت تشيكوسلوفاكيا آنذاك كنائب عن الروس السوفييت في تلك الصفقات العسكرية الأولية وهي عضو في حلف وارشو الذي يتزعمه الاتحاد السوفيتي آنذاك. وكذلك بعدما توقف الاميركان عن تمويل (السد العالي) حيث دخل الروس بكلّ ثقلهم السياسي والتكنولوجي إلى مصر والعالم العربي بعد ذلك. ولم يكن عبد الناصر مختارا للروس على أية حال لكن الظروف الدولية القاهرة آنذاك فرضت عليه تلك الخيارات المرة والصعبة في آن.
وهكذا فقد أراد عبد الناصر من عملية تأميم قناة السويس أن يجد تمويلا للسد العالي الذي أوقفه الاميركان، وقد نجح في ذلك إلى حدّ بعيد، فاكتسبت مصر مكانة إقليمية مرموقة وخاصة بعد حرب (العدوان الثلاثي) عام 1956 حيث ساندها السوفييت والولايات المتحدة على حدّ سواء، وعملوا على إبعاد شبح التدمير عن مصر في واحدة من أكثر المراحل التاريخية تعقيدا في التاريخ العربي المعاصر.
وكان إعلان نكيتا خروتشوف بأنه سوف يضع عاصمتي لندن وباريس تحت مرمى الصواريخ الروسية تأكيدا على أهمية الشرق الأوسط لروسيا الشيوعية آنذاك. كما إن الموقف الأميركي أنصب بالدرجة الأساس على محاولة كبح جماح القوى الاستعمارية القديمة والبحث عن "موطئ قدم" لها في الشرق الأوسط وسط عاصفة عارمة من الصراع الأيديولوجي ضد الاتحاد السوفيتي.
كانت البداية الكبيرة للوجود الروسي السوفيتي في الشرق الأوسط بمثابة دق ناقوس الخطر في البيت الأبيض. أما في العراق فقد كان قيام ثورة 14 تموز واعتراف مصر والاتحاد السوفيتي عام 1958 بالجمهورية العراقية الفتية دورا كبيرا في تعزيز النفوذ السوفيتي آنذاك في العديد من بلدان الشرق الأوسط ، وخاصة بعد أن انسحبت سلطة الثورة آنذاك من حلف بغداد الذي تأسس عام 1955المعروف بوقوفه بوجه المد التحرري العربي وظهور كتلة الحياد الايجابي إذ تحول العراق ومصر من قواعد للدول الاستعمارية القديمة إلى قواعد للدول المناهضة لقوى الاستعمار في النصف الثاني من القرن العشرين. ثم أعقب ذلك مباشرة قيام صداقة سوفيتية عراقية لأول مرة في تاريخ العلاقات الروسية العراقية. لكن الصراعات السياسية الداخلية، وانحسار قوى اليسار من خلال توجيه الطعنات القوية والمتواصلة حال بلا شكّ دون تقدم تلك القوى الوطنية فتراجعت حثيثا عن تحقيق مهامها الأساسية المعلن عنها وخاصة المتعلقة منها بالاستقلال الوطني ورفع الاستغلال الاقتصادي عن الشعوب المستعمَرة.
كانت الثورة العراقية عام 1958 تأكيدا واضحا على إمكانية الشعوب المضطهدة والمغلوبة على أمرها في امتلاك زمام مصيرها، وأن التجربة المصدقية: نسبة إلى السيساسي الإيراني المعروف هدايت مصدق 1950-1953 الذي خذله الروس و"حزب توده" اليساري الموالي للسوفييت في إسناده بعد محاولته الجريئة الكبرى في تأميم النفط الإيراني الفاشلة مما أدى إلى عودة اليمين الملكي إلى إيران بعد ذلك على يد الجنرال "زاهدي" رجل الولايات المتحدة الناهض في إيران. لقد خسر الروس السوفييت مرة أخرى موقعا جديدا في الشرق الأوسط بسبب سؤ تقديراتهم السياسية ومحاولة البحث عن المصالح الآنية فقط. فكانت الثورة الوطنية العراقية عام بمثابة الرد الحاسم على تلك التجربة المريرة، ولذلك يعد صدور (قانون رقم 80) المتعلق بوضع اللبنة لتحرير النفط العراقي من هيمنة الاحتكارات الأجنبية.
ولذلك فإن المشهد السياسي قد يتكرر من جديد في ظل الصراع الإيراني الأميركي الغربي لامتلاك إيران قدرات نووية.. ومن هنا فإن الروس سوف يناورون بالورقة الأخيرة من أجل (حصد) أكبر مقدار من المصالح الحيوية مع الولايات المتحدة للحصول على مكاسب جديدة. ومن الممكن للروس في هذه المرحلة الشائكة واحتدام الصراع الدبلوماسي الدولي حول إيران والذي تخوضه الولايات المتحدة للحيلولة دون امتلاكها للطاقة النووية أن يلجأوا إلى "التفريط" بالتزاماتهم في اللحظة الحاسمة الأخيرة، ويدعوا الولايات المتحدة تفعل ماتشاء بإيران.. فالسياسة الروسية كانت وما تزال تنظر إلى مصالحها الدولية بالدرجة الأساس مذ كانت في العهد السوفيتي وحتى بعد سقوط الأخير أيضا.
وعلى الرغم من أن الروس قد وضعوا أنفسهم بصفة مراقب في المؤتمر الإسلامي وهم يتشدقون بقربهم من المسلمين عموما إلا إن تلك الحال لا تمنع بأي شكل من الأشكال العنت والقسوة الشوفينيتين اللتين يتعرض لها الشيشان المسلمين في روسيا وهي لم تمنحهم حقّ تقرير مصيرهم، فأغرقت البلاد بالدماء وقوى الإرهاب من جديد دون أن تحقق نصرا إستراتيجيا واضحا في هذا الميدان. وبقي الروس على الرغم من هزائمهم الدبلوماسية المتكررة في منطقة الشرق الأوسط يطمحون بهذا المقدار او ذاك إلى ممارسة دور (ما) في هذه المنطقة الساخنة من العالم وفي محاولة شبه دائمة لرسم نفوذ (ما) من خلال المناورة بالقوة المتبقية لها.
وتعد الهزيمة الروسية النكراء في أفغانستان في أواخر عقد السبعينات على يد الأصوليين السلفيين المدعمين من الولايات المتحدة والمخابرات الباكستانية، وسقوط حكومة (نجيب الله) الموالي للسوفييت، وشنقه وسط كابل، هو بمثابة بداية الانهيار في العد العكسي للاتحاد السوفيتي السابق، ثمّ توج ذلك بالسقوط المدوي لنظام الكتلة الشرقية برمتها، لتعود روسيا وحدها تقريبا كقوة صغرى وفي محاولة شبه يائسة على مواجهة التفرد الأميركي بالعالم.
وليس ثمة ما هو أقسى على الروس من انهيار نظام صدام الحليف العتيد للسوفيت والروس طوال حقبة طويلة من الزمن، حيث لم تستطع المحاولات الروسية في الحيلولة دون دخول القوات الأميركية إلى العراق بحجة البحث عن أسلحة الدمار الشامل. فكانت خسارة نظام صدام بالنسبة لروسيا يعدّ ضربة قاصمة لها على النطاق الإستراتيجي إذ بقيت تحاول دعم ذلك النظام بأي صورة كانت على الصعيد الدولي حيث يؤشر ذلك الصفقات الكبيرة التي عقدها نظام صدام مع روسيا في ما عرف بمذكرة التفاهم المعروفة - سيئة الصيت- النفط مقابل الغذاء التي فاحت وتفوح روائحها العفنة في الفساد المالي يوما بعد آخر. لكن الولايات لم تعبأ بالمحاولات الروسية في مجلس الأمن واتخذت قرار الحرب على نظام صدام عام 2003 دون أن تكتسب موافقة ذلك المجلس؟؟
وخسرت روسيا في الحرب على العراق واحدا من أهم مكامن ثروتها الدبلوماسية والاقتصادية في الشرق الأوسط ، ولا أدل على ذلك من قائمة الديون الثقيلة التي أعلنت على العراق في الحقبة الصدامية السابقة. لقد أنحسر النفوذ الروسي عن منطقة الشرق الأوسط بقوة بعد سقوط نظام صدام، ولا يذكرنا ذلك إلا بالحقبة التي عمل فيها الرئيس الراحل أنور السادات حيث شرع في طرد الآلاف من الخبراء السوفيت من مصر قبيل حرب تشرين عام 1973، ولا غرو بان تلك الخطوة الكبيرة هي واحدة من أسرار النصر المصري على الإسرائيليين وعبور قناة السويس من خلال تحطيم (خط بارليف) الشهير بخطط مصرية بحتة. ولا يذكر هذا الأمر إلا بإدوارد شيفرناتزة وزير خارجية الاتحاد السوفيتي السابق الذي باع للاميركان ( كودات) صواريخ سام السرية التي استعملها العراقيون في حرب الخليج الثانية مقابل بضع مئات من آلاف الدولارات فقط! فهل يتعظ الإيرانيون من التعامل مع الروس؟ وهل يتعلم السعوديون الدرس أيضا؟
وهاهي القصة يعاد نسخها تقريبا في ما يتعلق بإيران وملفها النووي، حيث عملت روسيا على تزويد إيران بإمكانات بناء مفاعلها النووي في بوشهر كما اقترحت عليها تخصيب اليورانيوم على أراضيها كحل للمشكلة الإيرانية مع وكالة الطاقة الذرية IAEA ودول الغرب التي وجدت في امتلاك إيران للطاقة النووية تهديدا مباشرا لها وخاصة بعد تجارب صاروخ (شهاب 3) الذي يمكن أن يصيب العمق الأوربي .
لكن روسيا التي ترغب دائما في وجود نوع من التوازن في علاقاتها مع أوربا أوقفت شحنات اليورانيوم المخصب إلى إيران أخيرا حيث أعلنت الولايات المتحدة عن بالغ ارتياحها للقرار الروسي الأخير بدعوى عدم إيفاء إيران بالتزاماتها المالية حيال الروس. ولكن،كلّ ذلك، جعل من روسيا مرة أخرى بلدا ضعيفا يصعب التكهن بمدى قدراته إلا من خلال ترسانته النووية التي ورثها عن العهد الخروتشوفي وما أعقبها من أوضاع دولية إبان الحرب الباردة.
هل خرق الرئيس بوتن أخيرا (حكمة دينايت المعروفة) والمتعلقة بالاسترخاء في العلاقات الدولية بعد تصريحاته النارية الأخيرة وغير المسبوقة والمضادة للولايات المتحدة؟ فقد كثر في الآونة الأخيرة اهتمام روسيا بمنطقة الشرق الأوسط بعد ضمور واضح منذ سقوط الاتحاد السوفيتي علم 1989 المدوي، وما لحقه من نهاية للحرب الباردة1945 - 1991 من تفرد الولايات المتحدة (بقيادة) العالم والهيمنة عليه( نظام القطبية الأحادية) حتى بات من الواضح ان وضع روسيا الإستراتيجي- من جديد - في موضع الدولة ذات النفوذ العالمي الجديد- يعد نكتة باردة وغير مستساغة. لكن الإعلام العربي المريض بخيلاء العظمة القديمة ومحاولة نسج القصص الطفولية عن عودة الروس إلى الساحة الدولية كقوة عظمى لما تزل تداعب المخيلات القديمة، لعلها تجد عزاء (ما) على مواجهة الفيل الأميركي الجامح في منطقة الشرق الأوسط والعالم الإسلامي خاصة.
فكيف يمكن لروسيا أن تستعيد (المجد السالف) للامبراطورية السوفيتية السابقة وهي لما تزل تستورد القمح من الولايات المتحدة؟ وهي ما تزال تساوم من اجل هذا الموقع او ذاك لأسباب اقتصادية بحتة؟ ولم هذه الضجة غير المبررة عن عودة الروس لإنقاذ ما تبقى من أنظمة (راديكالية) عربية؟ ألم يخسر الروس مواقعهم في عدن وأثيوبيا والصومال وظفار والكونغو.. والقائمة من الطول حيث لا يمكن إحصاء الخسارات في عهد الاتحاد السوفيتي؟ وهل ان صعود نجم اليسار اللاتيني الآن كان بدعم من الروس؟!
لاشكّ بأن الشعوب التي تحاول الفكاك من الهيمنة الأميركية والرأسمال المتعولم المتوحش تحتاج إلى من يعاونها دوليا لكن العبء الكبير والأساس تقع على عاتقها دائما، وهو طريق لما تزل تشتقه القوى التحررية الجديدة في العالم. وما تزال التجارب السياسية الجديدة تؤكد على نحو لا يقبل الشك بإمكانية التحرر من الوصاية الابوية الكرملنية إن لم تكن تلك الوصاية عائقا حقيقيا لضمور قوى التحرر في العالم طوال القرن العشرين.
ويبدو ان روسيا لم تستطع ان تقدم ما يكفي من قناعات عن أهمية دورها العالمي في الوقت الحاضر. ولا ادلّ على ذلك من تصريحات الرئيس فلاديمر بوتين الأخيرة إلى الصحافة العالمية في مؤتمر دافوس في ميونخ: من ان الولايات المتحدة الأميركية جعلت العالم في حروبها الاستباقية الأخيرة على العراق وأفغانستان أكثر قلقا وابتعادا عن الأمن والسلام العالميين: تلك كانت القمة في مواجهة التفوذ الأميركي المتعاظم على مستوى العالم.
وكثرت التحليلات الصحافية حول مدى الجدية التي كان عليها الرئيس بوتن حتى بلغ الشأو بآخرين ان عدوا ذلك نوعا (ما) من العودة إلى الحرب الباردة، او عودة روسيا إلى ممارسة دور الاتحاد السوفيتي السابق. وقد ردّ رئيس الدفاع الأميركي المعين الجديد روبرت كيتس على ذلك في الوقت المناسب وبلهجة تهكمية واضحة حينما ذكّر الحاضرين في دافوس: بانه هو الآخر كان يعمل في الجاسوسية الاميركية بحكم منصبه السابق في CIA حيث كان احد أفراد الطاقم العامل مع بوش الأب عام 1991 وهو قد خضع لأعادة "تأهيل" حينما بدأ العمل في إدارة بوش الابن كعسكري محترف هذه المرة.
لا شك بان تلك المواجهة الدبلوماسية العلنية قد اظهرت الرئيس بوتن من جديد بمظهر الرجل الضروري دائما لكي يستعيد رسم حساباته الدولية في ظل المتغيرات الدولية الجديدة المتمثلة بالقوة الاميركية الكبرى في العالم. وإذا كان وزير الدفاع الأميركي الجديد روبرت كيتس قد عرف عنه أنه من خريجي المدرسة الدبلوماسية بحكم تاريخه الاستخباري فإن الرئيس بوتن رجل ال(ك. ج. ب) السابق ولاعب الكراتية هو من المدرسة نفسها؛ لكنه يحتاج - كما أشار كيتس- من اجل تفهم طبيعة العلاقات الدولية إلى " التأهيل" وهي أقسى عبارة في المعايير الدبلوماسية تقريبا.
لكن الروس لم ييأسوا من محاولاتهم وهاهم يبدأون هذه المرة باقتحام القلعة السعودية التي ناصبت الاتحاد السوفيتي السابق العداء على مدى (80 عاما) خلت. فالرئيس بوتن الذي زار الرياض الآن تلك الانعطافة التاريخية التي تحاول روسيا ان تجد لها موطئ قدم جديد في العرين التقليدي للمسلمين. كان الاستقبال الذي حظي به الرئيس بوتن حافلا حتى انه ادى رقصة العرضة السعودية بالسيف إلى جانب الملك عبد الله بن سعود، فإلام يرمز ذلك؟ هل أن روسيا تريد من خلال العرضة والتلويح بالسيف توكيد او التذكير بقوتها السالفة؟ أن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد بروتوكول دبلوماسي؟
ولا شك بان الضغوط العربية والخليجية التي تنهمر على السعودية بعد غياب العراق كموازن عربي في الخليج العربي ومنطقة الشرق الأوسط قد وضعت السعودية أمام خيارات إستراتيجية جديدة، من أهمها محاولتها دخول النادي النووي للتوازن مع إيران، إذ ليس ثمة تأكيدات واضحة على ثني إيران عن توجهاتها بالقوة العسكرية وضمن البند السابع في الوقت الحاضر.. خاصة وان الحل للنموذج الكوري الشمالي لما يزل طريا وقابل للتكرار مع إيران أيضا. ومن هنا فقد يترتب على السعودية التزامات خليجية وعربية تتلاءم ودورها الدبلوماسي المتعاظم في العالم العربي بعد الخروج الاضطراري للعراق من الخارطة السياسية الإقليمية أخيرا. وبعد أن انتشر سعار التسلح النووي في الشرق الأوسط حيث سيضع السعودية في موضع عبد الناصر مرة أخرى..؟



























المعادلة البوتنية الجديدة

طالما أستمد السياسيون الاصلاحيون الروس القدماء والجدد روح الإصلاح من القيصر بافل الاول. وإذا استثنينا بعض القياصرة المعتوهين، من أمثال أيفان الرهيب، فإننا نجد نفوسنا أمام قياصرة يكنون لروسيا حبا جما لبلدهم، وإعزازا بالروسية على نحو فريد. لا يشبههم في هذا التوجه سوى الألمان قبل الحرب العالمية الثانية. فالولاء لروسيا متمكن من كثير من السياسيين حتى من أولئك السيئين منهم أيضا. وبغض النظر عن أولئك المعروفين (بحليقي الرؤوس) الذين هم مثال للفاشيين الجدد الروس الذين لا يعيرون الانتخابات الروسية أية أهمية، إلا أن عموم الحراك السياسي الروسي يعمل على رفعة روسيا دوليا. فالانتخابات في روسيا على حداثتها تعكس مدى اهتمام الشعب الروسي بمستقبله أيضا، وهي مؤشرا على بقاء القديم وحيويته وقوة الجديد وديمومته في هذا البلد ذي البرد القارص والحياة السياسية شبه الراكدة.
والانتخابات الروسية القادمة في آذار من العام القادم لن تكون حدا فاصلا بين مرحلتين كما هي معظم الانتخابات في العالم؟ ومن الصعب أن نجد أنها قد تأتي "بمستجدات" على مستوى السياسة الخارجية الروسية في الأقل. لكنها ربما تكون مؤشرا جديا على نجاح السياسة الداخلية للرئيس بوتن، وعلى مدى ولايتين مهمتين في تاريخ روسيا المعاصرة. فروح القيصرية التي كمنت في الاتحاد السوفيتي السابق وتمثلت في الزعامات العجوز، عادت لتظلل روسيا من جديد. ويمكننا أن نجد تلك الروح بقوة في تراجع مستوى القوى الليبرالية الروسية على نحو كبير خلال ولاية بوتن الأخيرة، وبقاء الشيوعيين الروس في خانتهم المعارضة غير المؤثرة غالبا. روسيا إذن في كنف قياصرة جدد.
فما الذي يمكن أن تحمله الانتخابات غير فوز السياسة البوتنية على الرغم من إن الدستور الروسي لا يسمح بولاية ثالثة للرئيس بوتن؟ وما الذي يمكن أن يحدث غير بقاء الروح القيصرية في كنف الإدارة القادمة في آذار المقبل؟ الرئيس بوتن سوف لن يكون في سدة الحكم؛ لكنه سيحظى بمقدار كاف لإدارة روسيا أيضا، دون أن يعرض نفسه إلى أية مخالفات دستورية تصبح كحصان طروادة لكبح غمار البوتنية الجديدة. وهكذا تبتعد فكرة قيام مفاجآت في ظل تخطيط قيصري ذكي و محكم؟
يحاول بوتن حتى بعد تواريه عن رئاسة روسيا كسر معادلة اندروبوف الرئيس السوفيتي الأسبق القائلة: بأن على الاتحاد السوفيتي العاجز عن المواجهة الاقتصادية ضد الولايات المتحدة التنازل عن الجيوبولتيك؟!؛ تلك الحال التي أودت بالاتحاد السوفيتي على المستوى الخارجي ودقت آخر مسمار في نعشه المهيب. هل يحاول بوتن الخروج من عنق الزجاجة الذي وضعته الولايات المتحدة أمام غورباتشوف فعلا؟ وهل يتمكن خليفة بوتن من استعادة بعض المغانم الجيوبولتيكية التي خسرها الاتحاد السوفيتي السابق؟ أم هو سيحاول هذا الأمر، لكي يكون أوفر حظا في التفاوض مع الولايات المتحدة فقط؟! هذا ما ستكشفه انتخابات آذار المقبل في نوع الرئيس القادم؛ يبدو أن بوتن في الحالتين يخدم بلاده سواء داخل السلطة ام خارجها.. فهل يتعلم الحكام العرب شيئا من الدروس البوتنية؟!
ويرى كثير من المراقبين والمهتمين بأوضاع روسيا أن ليس ثمة مفاجأة كبيرة أو مهمة على طريق عسكرة روسيا من جديد في الولاية القادمة مهما كان أسن الرئيس المقبل. هانحن أمام دولة مؤسسات لا تحفل كثيرا بالنهج الديمقراطي لكنها تحفل جدا بقيام دولة حديثة. وما محاولات روسيا في عودتها كقوة عظمى إلى الساحة الدولية إلا دليلا على عملية التواصل في السياسة الخارجية الروسية. وأنها سوف تواصل نهجها البوتني على الرغم من إن الأخير سيغادر الكرملين في آذار المقبل، وبعد ولايتين حافلتين بالأحداث الجسام والصعوبات الكبرى، استطاع خلالهما ذلك الشاب الحيوي نقل روسيا إلى دائرة الصراعات الدولية المؤثرة من جديد.
فالتأكيد على دور روسيا العالمي الذي كادت أن تفقده في ظل نظام القطبية الأحادية يبقى قائما بغض النظر عن طبيعة الحكومات القادمة . لكن السؤال الذي يبقى يؤرق معظم الباحثين في الشؤون الروسية: هل يمكن لروسيا أن تستعيد دورها الجيوستراتيجي السابق؟ وهي لما تزل تستورد القمح من الولايات المتحدة؟! وما الذي يمكن لروسيا أن تفعله إذا ما أحيطت تماما بقوى غربية بحتة تعمل (بالريموت كونترول) الأميركي!؟ لا تكمن الإجابات بطبيعة الحال في ظهور أيديولوجيا جديدة في روسيا أبدا من وجهة نظري.
ربما كانت المناورات التي أجرتها روسيا مع الصين والدعوة الدائمة إلى تطوير قدرات روسيا البحرية التقليدية، وموقفها من الدرع الصاروخي الأميركي في أوربا. وكذلك المناورات التي أجرتها روسيا مؤخرا في القطب الشمالي والمنطقة المحاذية للولايات المتحدة في الآسكا وخرق طائرتين للمجال الجوي الأميركي. فضلا عن حضور بحري روسي تقليدي (سوفيتي النزعة) في البحر المتوسط. كما عملت روسيا على عودة مينائي اللاذقية وطرطوس في سوريا للعمل الروسي فيهما كما كان سابقا إبان العهد السوفيتي. ولعل هذه المواقف هي التي دعت إسرائيل أخيرا على خرق المجال الجوي السوري، وظهور دعاوى حول امتلاك سوريا لقوة نووية من كوريا الشمالية؟ فالوسائل الإتهامية الأميركية لن تتوقف مادام (قانون محاسبة سوريا) قائما. وكلّ تلك الأعمال تؤكد على نحو لا يقبل الشك أن لروسيا موقفا آخر بعد البناء البوتني لها، وأنها تحاول أن تواصل خط العسكرة الروسية الذي اختطه بوتن لها. هذه العسكرة في العودة إلى احتواء الحلفاء القدماء وزراعة حلفاء جدد أيضا. لكن السؤال يطرح نفسه: هل تستطيع روسيا أن تحقق ما عجز الاتحاد السوفيتي عن تحقيقه على مدى 70 عاما من الثورة البلشفية؟
روسيا، من جديد، تحاول اكتشاف طريقها الذي ظلته بعد انهيار الاتحاد السوفيتي السابق من خلال (حزب روسيا الموحدة) الذي ينتمي إليه الرئيس بوتن، والذي ضرب مثلا أعلى على إمكانية قوى "الشباب السياسي المتجدد" أن يقدموا لبلدانهم الكثير من أولئك الذين خط الشيب مفارقهم وما زالوا يلوكون العبارات القديمة نفسها. هذا ما يحدث لكثيرين من أمثال سيرغي لافروف، أو يفجيني بريماكوف، او القومي المتطرف فلاديمير جيرونوفسكي الذي لم يحصل على مقعد واحد في الانتخابات السابقة!، وغيرهم من رواد القائمة القديمة.
لكن بوتن كعادته في كسر القواعد القديمة، ها هو يحاول أن يقدم شيخا هذه المرة! بعيدا عن الأنماط التي ألفتها روسيا في عهده؟ عاد بوتن كرة أخرى إلى طريقة اختيار قادة مجلس السوفيتيات الأعلى. ولا شك بأن قراره هذا نابع عن إدراك خطير لما يمكن أن تؤول إليه روسيا إذا لم تكن جميع الخيوط بيده من جديد. فهل ينجح بوتن مرة أخرى في رسم كلّ ما هو ممكن لعودة روسيا قوية؟ وكأنه لم يتعظ من تجارب شيوخ مجلس السوفييت، ولم يهتم لتاريخ كامل من كبار السن (الدوغمائيين الجامدين) الذين يؤثرون التقيد بالتعليمات والتقاليد الصارمة البالية؟ يالبوتن الذي يحمل المفاجآت وحده دائما!
لقد جاء بوتن بمرشحه من الجوف ألاستخباراتي الروسي – كما قدم هو أيضا- وقدّم له دعم (القيصر) الذي سيوصله حتما إلى الخط النهائي قصر الشتاء؛ ألا وهو فكتور زيفكوف – 66 عاما! - حيث جيء به وهو شخصية شبه مغمورة، كان يعمل في (كي جي بي) سيئة الصيت، ومن ما يعرف في الإدارة البوتنية بمكتب (محاربة تبييض الأموال) الذي عمل بوتن من خلاله على مطاردة كثير من رجال الأعمال الروس، وحتى أولئك الذين كانوا على علاقات طيبة به وساعدوه في الانتخابات..
ما سرّ نجاح بوتن السياسي الدائن غير محاربة الفساد في روسيا؟ لقد ورث الرجل ما يكفي من قوى كانت تعمل ليل نهار على تفكيك عرى الدولة الروسية كما عملت قوى سابقة على تفكيك الاتحاد السوفيتي ونجحت نجاحا باهرا. بوتن الذي جاء من رحم الاستخبارات الروسية حفظ الدرس جيدا. لذلك فإن حكمته الإستراتيجية في عدم ترك (الحقل الروسي) بلا راع هي من أهم مقولاته. لا يمكن ترك الحقل للصوص الجدد من حملة العناوين المختلفة على أية حال. ويرى الرئيس الروسي الشاب الحائز على حزام الكاراتيه الأسود، بوتن، أنه حقق هدفه بقوله: لم يعد الحقل فارغا ثمة أربعة أو خمسة من الحراس المرشحين للحكم بعده.
فالدب الروسي العنيد الذي يحاول في كلّ مرة أن يحتوي على اكبر مقدار من العسل. خسرت روسيا الكثير من اقتصادها لدعم حركات التحرر في العالم الثالث أكثر من أية دولة داعمة لمشروعات فاشلة، ولم تجن حقيقة من وراء ذلك شيئا مهما. هل كان الاتحاد السوفيتي دولة فاشلة في المفهوم العلمي الجديد؟ فلم تعد السياسة الأممية في محاربة الامبريالية العالمية إلا بالوبال على شعوب الاتحاد السوفيتي والشعب الروسي بالذات. خسر الروس مايكفي من اجل شعارات بلا طائل. ربما هذا هو الذي يجعل من الشيوعيين لا يحصلون إلا على 8% من أعضاء مجلس الدوما ( البرلمان الروسي) في وقت حصل حزب روسيا الموحدة على 43% من الأصوات. هذا كلّ ما يمكن أن تقوم به الإيديولوجيات الشمولية من نتائج كارثية. ولا يبدو أن الماركسي العتيد غينادي زيكانوف سيتمكن من تحقيق نتائج أفضل من التي هي عليه الآن، ما لم تتراجع قليلا كما هو متوقع. فالخط البوتني باق ولا مجال للتراجع عنه.
فهل تتمكن روسيا من استعادة دورها العالمي السابق من التحالف مع الصين وإجراء مناورات عسكرية أو الوقوف بوجه الدرع الصاروخي الأميركي الذي بدأ يطوق العنق الروسي بحجة الدفاع عن أوربا؛ أم بالدعم الروسي لمشروع تخصيب اليورانيوم الإيراني؟
لم يعد العالم مهما بالنسبة لروسيا إلا بمقدار المصالح القومية الروسية، التي تجد صعوبات جمة في ظل هيمنة أميركية شبه أحادية أيضا على مفاصل العالم الاقتصادية بعد أن أصبحت الهيمنة الأميركية الإستراتجية حقيقة واقعة على مدى النصف الأول من القرن الحادي والعشرين. فما الذي يمكن أن تقوم به روسيا لحفظ ماء الوجه الذي سال كثيرا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي السابق؟
إن الرؤساء الروس الذين يغادرون الكرملين سواء إبان حكم الاتحاد السوفيتي أن بعده غالبا ما يكونوا مودعين باللعنات الداخلية. ومن الصعب معرفة سرّ ذلك إلا بعد التعمق طويلا في المأساة التي حلت بنيقولا الثاني آخر قياصرة روسيا بعد ثورة أكتوبر عام 1917 ؟؟ لكن بوتن كما يبدو قلب المعادلة هذه المرة.













العلاقات الروسية الأميركية المتوترة:

زوبعة في فنجان أم حرب باردة جديدة؟


الاتفاقية التي عقدتها روسيا مع الولايات المتحدة قبل سنوات حول الحد من الصواريخ القصيرة والمتوسطة المدى والحاملة للرؤوس النووية، قامت روسيا بنقضها مؤخرا غير آسفة عليها. فأبلغ الدب الروسي ذلك صراحة إلى البيت الأبيض بعد سلسلة مفاوضات فاشلة قامت بها كوندوليزا رايس وروبرت غيتس مع الرئيس فلاديمير بوتن للحيلولة دون تفاقم الأوضاع بين روسيا والولايات المتحدة، حتى بات من الممكن بالنسبة للإعلام وجود مادة مثيرة تتعلق بعودة الحرب الباردة من جديد دون دراسة موضوعية لعموم الشروط التاريخية المتعلقة بهكذا توقّع خطير.
وعلى الرغم من إن تلك المحاولات الدبلوماسية لم تستطع الولايات المتحدة ثني روسيا عن قرارها بمعارضة نشر الدرع الصاروخي في أوربا الشرقية والذي يعدّ المجال الحيوي الدائم لروسيا في أوربا، فإن الجهود لما تزل تبذل لتخفيف وطأة القرار الأميركي بنشر صواريخ في شرق أوربا. فهل يعني ذلك قيام حرب باردة جديدة فعلا كما يروج لذلك الإعلام العربي المحموم بمرض العودة عالم العملاقين القطبين السابقين والحرب الباردة التي انهارت بانهيار جدار برلين؟ أم إن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد زوبعة في فنجان تريد روسيا من خلاله الحصول على مكاسب اقتصادية جديدة من الولايات المتحدة؛ وهو لا يكوّن برمته غير موقف تكتيكي محدود يشبه تلك المواقف المتعلقة برفض الحرب على العراق أو الوقوف إلى جانب إيران في قضية الملف النووي الساخنة.
ولا تعود هذه الحالة من العودة إلى التوترات الدولية شبه المفتعلة للموقف من الدرع الصاروخي لحماية أوربا من الصواريخ الإيرانية من طراز شهاب والقدر3000 كم، والمزمع نشره في جيكيا وبولندة فحسب؛ بل إلى حسابات إستراتيجية وجدت روسيا نفسها محاطة بالعدو الغربي والأميركي من جديد مما يهدد الأمن القومي الروسي، وعلى الأبواب الداخلية هذه المرة منذ سقوط الاتحاد السوفيتي السابق عام 1990.
ويرى بعض المعلقين على الشؤون الدولية ممن يرومون العمل على ازدياد حالة التوتر: ربما تكون هذه الخطوة بمثابة البداية للعودة إلى خيار الصفر الأميركي السابق، الذي وضع الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي أمام مهام جديدة من العلاقات الإستراتيجية، حيث تحاول كل دولة عظمى super power العمل على التصعيد الإستراتيجي نحو دائرة جديدة من الصراع في حرب سباق التسلح للتقدم خطوة جديدة من اجل كسب مواقع إستراتيجية على حساب الخصم، أو تحقيق انتصارات تكتيكية محدودة تفضي إلى فتح مغاليق تفصيلية في العلاقات المتوترة أيضا.
رفضت روسيا نشر الدرع الصاروخي ولو كان من على سطح القمر! على لسان الرئيس بوتن نفسه، في تذكير مبطن لحرب النجوم التي أشعلها الرئيس رونالد ريغان في بداية عقد الثمانينات من القرن الماضي، والتي كانت واحدة من الأسباب التي أودت بالإستراتيجية السوفيتية السابقة ونظرية التعايش السلمي الخروتشوفية، حيث بدأ دق المسامير في نعش الدولة السوفيتية.
روسيا بعد زيارة كوندوليزا رايس وروبرت غيتس الآن تحاول شقّ طريق لها في اتجاه التذكير بالمواقع الجيوستراتيجية السابقة للاتحاد السوفيتي، ولاستعادة مكانتها التقليدية المتآكلة كثيرا على الخارطة الدولية. هل تريد روسيا ذلك فعلا؟ وهل تتمكن من ذلك بعد خسارة أوربا الشرقية التي أنظمت معظم بلدانها إلى حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوربي؟
تؤكد ذلك بوضوح الطريقة التي تعامل بها الرئيس بوتن مع الأحداث الدولية الأخيرة وخاصة الملف النووي الإيراني والموقف الحازم المضاد لنشر الدرع الصاروخي الأوربي الذي تضطلع به الولايات المتحدة وحدها من اجل الحيلولة دون تطويق روسيا. وما شبه التحالف العسكري الروسي الصيني الجديد، وقيام مناورات عسكرية في هذا الاتجاه مؤخرا، والتوقيع على(اتفاقية شنغهاي) - على تواضعها - إلا محاولة تأتي في سياق كسر الطوق الأميركي عن روسيا والعودة الروسية إلى الموقع الدولي من جديد. لكن هيهات أن يحدث ذلك الأمر بهذه السهولة؛ بل إن روسيا تعرف جيدا بأنه أصبح من باب المستحيلات في العلاقات الدولية؛ لكنها رغم ذلك تحاول الاعتراض ؟!
وتحاول إيران من جهة أخرى، الدخول على الخط الساخن من أجل التخفيف من الضغوط الأميركية والدولية عليها من خلال التلويح بهذا الشكل أو ذاك إلى الرغبة في الإنظمام إلى معاهدة شنغهاي، أو التقرب من روسيا التي تعمل على بناء مفاعلها النووي في بوشهر. و كذلك تطوير العمل مع الصين في مجال تنسيق المواقف الدبلوماسية بإزاء الملف النووي الإيراني. لذلك نجد إن اللهجة الدبلوماسية الأميركية غالبا ما تتخذ طابعا أكثر هدوءا في الميل نحو الحل السلمي لقضية الملف النووي الإيراني، كلما شعرت بنوع من التقارب الدولي الجاد لرفض سياسية القطبية الأحادية التي تحاول الإبقاء عليها بأي ثمن في الوقت الحاضر، وإلى أقصى زمن ممكن.
وإذا كان من الصعب – كما يلوح في الأفق- قيام قطب واحد مواز للولايات المتحدة لانتفاء العوامل الأيديولوجية المقابلة وتغيّر الشروط التاريخية كالاتحاد الأوربي أو التحالف الصيني الروسي؛ فإن تدحرج الولايات المتحدة من مكانتها هو المعول عليه على أية حال. فما النتائج التي تترتب على ذلك؟
لا شكّ بان العامل الأساسي الذي سوف يودي بالعنجهية الأميركية وانتفاخ الذات الكبيرين يتعلق بالدرجة الأساس في نتائج الحرب على العراق، وما يمكن أن يحدث في حالة خروج القوات الأميركية على نحو غير منظّم كما حدث في فيتنام عام 1975 . وتحاول الولايات المتحدة كلّ جهدها لأبعاد هذا السيناريو عن الوقوع فعلا. لكن الأحداث تظهر يوميا ثمة هزيمة أميركية تاريخية تلوح في الأفق، وسيحصد نتائجها الديمقراطيون الذين يعدون نفوسهم للفوز بالبيت الأبيض بعد نهاية ولاية الرئيس بوش.
ويحاول كلا الطرفين المتنازعين على زعامة البيت الأبيض القادمة من الديمقراطيين والجمهوريين تلافي هذه الحال بأي ثمن من اجل الإبقاء على هيبة الولايات المتحدة قائمة دوليا كدولة أحادية قطبية. قد تختلف الوسائل في النظر إلى قضية الحرب على العراق او الملف النووي الإيراني باعتبارهما مركزا التدحرج للولايات المتحدة. لكن الهدف – كما يلوح في الأفق - يكمن في الإبقاء على الإستراتيجية الدولية لها قائمة لأطول مدة ممكنة. ومن هنا يفترض كثير من المحللين الإستراتيجيين لاحتمال قيام الولايات المتحدة وإسرائيل بتوجيه ضربة جوية وقائية إلى المواقع النووية الإيرانية وإلى مراكز الحرس الثوري الذي أصدرت قبل مدة قرارا باعتباره منظمة إرهابية. لكن هذه الضربة الافتراضية الصعبة إذا ما حدثت، والإدارة الأميركية الحالية مفعمة بروح المغامرات غير المحسوبة، سوف تشعل حريقا هائلا في منطقة الشرق الأوسط ولن تستطيع الولايات المتحدة القيام بها ما لم تضع حلفاءها من الخليجيين وشمال إيران في حالة حرب جديدة.
تجد روسيا الفرصة سانحة في الوقت الحاضر لإظهار مزيد من الدعم إلى إيران بعد أن كادت أن تثير أزمة دبلوماسية مع إيران قبل مدة وجيزة بسبب عدم سداد ديون إيران المتعلقة ببناء المفاعل النووي في بوشهر. لاشك بان الزيارة تتعلق بذلك الأمر كثيرا. فقد وجدت روسيا نفسها الخاسر الوحيد في الحروب التي تشنها الولايات المتحدة، وما أنموذج العراق ببعيد عن ذلك. ومن اجل إضفاء نوع من (الدراما) على الزيارة التي سيقوم بها الرئيس بوتن إلى إيران، فقد تناقلت وكالات الأنباء عملية الكشف عن مؤامرة لاغتيال الرئيس بوتن في طهران!! ويبقى السؤال: لصالح من إثارة هذه الفقاعات الإعلامية؟ أليست روسيا هي المستفيد الوحيد منها لإضفاء مزيد من الهالة (الكاريزما) على رئيسها ودوره المرتقب في الجانب الدولي؟
اما في الداخل الأميركي وفي دهاليز البنتاغون فإن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد محاولات روسية للتلويح بدور وهمي. وما الخلافات بين الديمقراطيين والرئيس بوش حول الطريقة في التعامل مع إيران أو إدارة الحرب في العراق إلا تكتيكات انتخابية بالدرجة الأساس، يراد منها إظهار الجمهوريين عاجزين عن تقديم حلول ناجعة لقضية الحرب في العراق خاصة. وهي على العموم في مجملها تدور حول طريقة إدارة الحرب والدبلوماسية في العراق، وليس على أسباب قيامها كما كان يطرح سابقا الديمقراطيون وخاصة زعيمتهم نانسي بيلوسي رئيس مجلس النواب والخصم العنيد للرئيس بوش شخصيا.
ويبدو أن قضية أسباب الحرب قد أصبحت بحكم الوضع التاريخي بالنسبة للساسة والمخططين الأميركيين عموما. وحان الوقت للخروج من هذا المأزق بأقل الخسائر الممكنة. يفسر هذا الأمر حض الرئيس بوش شخصيا على زيادة عديد القوات الأميركية في العراق لتحقيق نتائج أمنية على الأرض، وتحميل حكومة المالكي مجمل الإخفاقات في العملية السياسية كما ورد في تقرير بتريوس – كروكر الأخير المقدم إلى الكونغرس الأميركي.
وربما أحدثت التصريحات الأخيرة للجنرال ريكاردو شانسيز قائد القوات الأميركية في العراق للمدة يونيو 2003- يوليو 2004 ما يستوجب التوقف عندها؛ حينما عدّ الحرب على العراق خطأ إستراتيجيا بسبب غياب التصور الكامل عما يليها من صفحة، وأنها تسير بطريق مسدود وليس أمام الأميركان إلا تحمل مزيد من الخسائر إذا ما بقيت الأمور على حالها حتى نهاية ولاية الرئيس بوش عام 2008. إذ ليس ثمة إستراتيجية واضحة لهذه الحرب كما يصف شانسيز؛ وهي من أهم النقود التي قدمت لإدارة الحرب في العراق إلى الوقت الحاضر. وفي الوقت نفسه نصح شانسيز الذي أحيل إلى التقاعد من منصبه في الجيش الأميركي عام 2006 بإنقاص عديد القوات الأميركية في العراق حتى تتحول إلى قواتها للتدريب والدعم اللوجستي في محاولة أخيرة للتقليل من الخسائر الجسيمة التي تحل بهذه القوات والتهيؤ للقيام بضربة إلى إيران. كلّ تلك الأوضاع الساخنة وروسيا لا تحرّك ساكنا إزاءها على نحو يليق بها كدولة عملاقة وريثة للاتحاد السوفيتي. فعلام كلّ هذا الضجيج إذا؟
هكذا بدأت الرؤى إلى قضية تدحرج الولايات المتحدة من عليائها القطبي الأحادي من صناع الحرب الميدانيين الأميركيين أنفسهم وليس من المحللين والإستراتيجيين الروس. فهل يمكننا أن نكتشف ثمة كتابات قادمة في هذا المجال أكير من كتابات نعوم تشومسكي حول نهاية الإمبراطورية الأميركية؟ وما البديل عن نظام القطبية الأحادية غير العودة إلى عالم ما قبل الحرب العالمية الثانية في العلاقات الدولية المبنية على الأحلاف الثنائية والثلاثية والرباعية؟ يفسر هذه الظاهرة المستقبلية الركض المحموم لفرنسا نحو عقد حلف ثنائي مع روسيا يكون محاولة بداية لترويكا أوربية على النطاق العسكري أيضا. كما أن الحلف الروسي الصيني هو محاولة جديدة على الطريق نفسه، إذا ما دخلته الهند وباكستان كطرفين مناوئين وفي خطين متوازيين. بيدأن هذه الأحلاف لا ينقصها إلا العامل الأيديولوجي المستحيل لكي تظهر إلى العلن..

البحث عن قبعة نابليون

مدخل غير مهم للبعض

عندما انعطفت السيارة السوداء الرئاسية, باتجاه قصر الاليزيه البراق، لم يكن رئيس الدولة العربي الجالس فيها ليفكر بأنه سيزور البلد الأوربي الغربي الوحيد في حياته, وهو يضع على رأسه قبعة سوداء ليذكّر مستقبليه برغبته في التفرنج. كانت باريس حلما طفوليا بالنسبة له. وكيف لا تكون كذلك وهو الذي جاء إلى السلطة بلا أية خبرة أو مؤهلات معقولة غير الدسائس والمسدسات والمؤامرات؟
وبدت على محيا الزائر الرسمي الكبير دهشة عميقة وهو الذي لم يدهش إلا قليلا في حياته، ثمّ طغت على قسمات وجهه القاسية علائم سعادة مفاجئة، وهو الذي لم يجرب إلا قليلا من الفرح، لما سيكون بعد هذا اللقاء التاريخي المرتقب. لقد حظي سيادته أخيرا بصداقة الفرنسيين الكبار من أحفاد بونابرت الذي عشقه بقوة، دون أن يقرأ كتابا واحدا عنه! سوى تلك الوقفة الشامخة واليد المضمومة إلى البطن.
ومادام هو الآن أمام الاليزيه، ويقدم له الحرس النابليوني الخامس الاحترام الواجب، فإن كلّ شيء يهون بنظره: هاأنذا في عقر دارك يا بونابرت! وقد أصبحنا أندادا. أخيرا. أولئك الرؤساء من ذوي القفازات الحرير السود، كانوا يظنون أن العلاقات الدولية كالعلاقات العشائرية، تماما، يمكن كسبها من خلال كسب الأشخاص المتشيخين في الحمائل والأفخاذ والبيوت، وبواسطة ذوي النفوذ، والتجار، والسماسرة، والوسطاء السريعين. ولا مكان للثقافة ولا للتاريخ ولا للإستراتيجية، فهذه الأخيرة بنظرهم هي من صنيعة الأشخاص. لأنّ كلّ شيء يؤول إلى الفرد أولا وأخيرا.
وبلع السادة الزائرون للاليزيه الطعم الواحد تلو الآخر. فرنسا إلى جانب القضايا العربية، أخيرا، يالها من غنيمة، وهي مع حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره. جيد. فرنسا الديغولية وفرنسا الميترانية الاشتراكية وفرنسا اليمينية الشيراكية وحتى فرنسا الساركوزية. حسنا. ميرسي! للفرنسيين الذين صحت ضمائرهم بعد حرب 1976 وحتى يومنا هذا، وها هو (السيد الرئيس) يعقد حلفا عشائريا شفويا مع عمدة باريس شخصيا- يا له من نصر دبلوماسي!- سيدعمه حتى يكون رئيس جمهورية قادم! وبأموال النفط طبعا.
أخيرا وليس آخرا، ليعلم بونابرت، هذا المتعجرف الذي يفكر بفتح أبواب السماء بعد أن فتّحت له أبواب الأرض: إننا نحن العرب، أشباه البدو المستقرين، غير المهذبين، ممن يأكلون الجرابيع ولا يعرفون قواعد اللغة الأم، والذين لم نتلق ما يكفي من تعليم، ولم نسمع أبدا بعصر النور الفرنسي؛ هانحن أخيرا نسهم في صنع سياسة فرنسا الخارجية! ومن خلال سائلنا السيميائي هذا، المدفون تحت الأرض، الذي لم يتوقعه بونابرت.
ماذا نفعل بسحر هذا السائل الأسود إن لم نرضي به " الحلفاء" الأباعد من الفرنجة، ونعقد الأحلاف القبلية لمحاربة الصهاينة مغتصبي القدس؟! اجل حدث كلّ ما يمكن أن يحدث؛ لكن جاك شيراك على أية حال لم يقدم ما يكفي من دعم طلب منه. فليس ثمة معاهدة مكتوبة؛ بل كان اتفاقا عشائريا شرقيا. ولم يكن ثمة احد من أولئك الذين زاروا الاليزيه قد كلف نفسه، ولو مرة بزيارة السيد التاريخ القريب، ليعرف سرّ السادة الفرنسيين الفرنجة. أفي كلّ مرة تدعوننا لزيارة التاريخ تحدث هذه الضجة!؟ ألا لعنة الله على الورق المكتوب وغير المكتوب أيضا. لولا هذه العنعنات الباهضة الثمن التي تجول برؤوسكم ليل نهار لأصبحنا جميعا بخير.. تعالوا إلى التاريخ, تعالوا إلى المصائب! في كلّ خطوة درس من التاريخ - طظ! في التاريخ القديم والحديث والمعاصر، والدروس المستقاة منه، وعاشت الصداقة العربية الفرنسية!

اقرأوا التاريخ قبل أن يبتلعكم!

عندما نفي بونابرت عن فرنسا عاد إليها سرّا بعد أن ذاقت أوربا منه الأمرين فجاءت جيوش فرنسا الملكية لإلقاء القبض عليه. لكن الجيش الفرنسي الذي قاتل معه في أوسترليتيز حينما شاهد قبعته الخاصة مال إلى جانبه! وعاد نابليون إلى الساحة من جديد مما حدا بأوربا أن تعد له معركة فاصلة في واترلو. يبدو إن الساسة الفرنسيون الجدد ما زالوا يرون قبعة نابليون في كلّ محفل، وفي الشرق الأوسط بتلك الرياش الصفر الخاصة.
مرة أخرى التاريخ! لكم أنتم ولوعون بما كان.. دعوا التاريخ لأهل التاريخ، يقرأونه في كلياتهم، ولا تعلنوا منه شيئا للناس، لأنكم بذلك تخربون علاقاتنا وصداقاتنا الدولية. ولكن.. من يمكنه أن ينسى تلك الحادثة التاريخية الغريبة، المفعمة بالتحدي، والثأر القديمين؛ حينما وضع الجنرال الفرنسي غورو- بعد احتلال بلاد الشام – قدمه على قبر صلاح الدين الأيوبي صائحا: ها قد عدنا يا صلاح الدين! هاهم يعودون إلى التاريخ أما نحن فمحرم علينا ذلك؟ على أية حال لم تكن تلك الواقعة مجرد حادثة فردية عابرة سجلها التاريخ المعاصر في غفلة من الزمن حتى أصبحت مضرب مثل لجيل كامل؛ بل هي تمثل، إلى حدّ ما، ذلك الولع الفرنسي بالتاريخ والثقافة المسيحية الوسيطة، والعقد الشخصية الإفرنجية من كلّ ما هو عربي ومسلم منذ أن وصل العرب إلى حواف جبال البيرينيه. فلم يكن الفرنسيون كالأمريكان، ولا كالبريطانيين، ولا كالطليان؛ إنهم امة معرفة وتنوير بالدرجة الأساس، وليسوا أصحاب دكاكين، أو بارونات ضائعين، يمكنهم نسيان حساباتهم بسهولة بعد مرور عقود من الزمن.
السياسة الفرنسية في الشرق الأوسط تضرب جذورها عميقة في الحياة والثقافة العربية، مئوية النزعة، تستلهم الحوادث المنسية. غالبا. منذ الحملة النابليونية على مصر1798 -1801 كانت فرنسا تحلم بالمجد في دحر الشرق المارق الآتي من شمال أفريقيا البربر، أو من أسوار القسطنطينية. من الصعب فصل الروح المتحدية الفرنسية عن التطلعات الاستعمارية القديمة والجديدة، والصراعات بين الغرماء التقليديين.
كانت فرنسا غريمة دائمة لبريطانيا طوال حقب الصراع الاستعماري في القرنين الثامن والتاسع عشر. وهكذا جاء المثل التاريخي : إذا عطست بريطانيا أصيبت فرنسا بالزكام!، مصداقا حيا، لما كان يدور بين الدولتين الاستعماريتين من صراع دائم. وكان الصراع دكويا وساخنا في البحث الدؤوب عن موطئ قدم هنا أو هناك في تلك الأرجاء الرخوة من الشرق والشرق الإسلامي خاصة.
خسرت فرنسا العالم العربي والإسلامي في غفلة من الزمن التحرري العارم بسبب تلك الطريقة الفجة في معاملة الآخرين، حتى نالت الجزائر استقلالها عام 1961,بعد أن دفعت أكثر من مليون ونصف شهيد على مذبح الاستقلال الوطني. وعلى مدى قرن ونصف من الكفاح خرجت فرنسا الديغولية تلعق جراح هزيمة تاريخية العن من ديان بيان فو في فيتنام، وهي لا تلوي على شيء. لكنها في الوقت نفسه أضمرت للعرب والمسلمين ما يكفي من خطط تسنح بها الأيام القادمات. والأيام بيننا كما يقول العرب.
ومن اجل تنفيذ ذلك الثأر التاريخي لم تدخر فرنسا جهدا في دعم إسرائيل، فقد كانت الدولة الوحيدة تقريبا التي أسهمت في بناء مفاعل ديمونه النووي، على الرغم من أنها كانت تعلم جيدا أنه سوف يستخدم للأغراض العسكرية. إذ إن إسرائيل قد امتلكت القنبلة النووية منذ عام 1961 في أكثر تقدير؛ هذا يعني أنها لو خسرت حرب عام 1967 على سبيل المثال! لما توانت عن استعمال السلاح النووي ضد المدن العربية، ولأقدمت على محو ست عواصم عربية كما يتشدق قادتها أحيانا. كما أن طائرات الميراج الفرنسية كان لها قصب السبق في ضرب المطارات الحربية في القاهرة ومدارج الطائرات المصرية الجاثمة لينل العرب أكبر هزيمة عسكرية في تاريخهم المعاصر لا تضاهيها إلا هزيمة سقوط بغداد عام 2003.
لماذا انتم مفعمين بالمصائب؟ هل تحبون الرقص على مآسيكم في كل محفل؟

التحول 180 درجة

فرنسا الديغولية، المستقلة عن الغرب، الصاخبة والرافضة لحلف شمالي الأطلسي (الناتو) تقترب حثيثا من العرب، بسرعة خارقة، ومن قضاياهم المصيرية العادلة- يا للكلمات الستينية الرنانة! وهي تحمل إسرائيل المسؤولية كاملة، عما حدث لأولئك البدو الرحل المساكين الذين اغتصبت أراضيهم ببضعة أيام سود. وأية أرض لبدوي متنقل؟! لكن فرنسا ترى لعطف على تلك الشعوب التي لا تقلّ أهمية عن الغجر! هل هي صحوة ضمير فرنسية؟!
الدول بالطبع ليست كالأشخاص، ولا يمكن قياس ذلك بتلك الطريقة الفجة في المقارنة التي لا يحسنها إلا زائرو الإليزيه من حكام البدو؛ بل توضع غالبا في حساب المصالح الحيوية لفرنسا التي تحولت 180 درجة تماما بين ليلة وضحاها. ولم يسأل زائرو الاليزيه: لم؟؟ ثم صاحوا بنا من جديد: ماذا تريدون منا؟! حتى أصدقاء العرب المخلصين نطردهم؟ يا لكم من جحودين! أنتم تجار دفاتر عتيقة: عرب وين وغورو وين؟! قبعة نابليون في الشرق الأوسط! هل عدتم إلى هذه العنعنات؟! نحن في عاصمة النور والتنوير وأنتم تتحدثون عن غورو وماسونية بونابرت والبحث عن قبعته اللاصفة، والحملة الصليبية التاسعة على أسيوط؟!
ولماذا تريدون لفرنسا أن تعتذر عن جرائمها في الجزائر؟ ألا يكفيكم أنها بنت أول مفاعل نووي ( تموز/ أوزيراك) في العراق؟ ما ذنب فرنسا إذا كانت حكومة العراق لم تغطس عميقا باوزيراك مما جعله طعما سهلا للطائرات الإسرائيلية عام 1981 والتي تم أرضاعها في سماء بلد شقيق؟ ها هي قد عارضت احتلال العراق؟! أما ترون مواقفها البناءة لصالحكم؟ ماذا تريدون من فرنسا؟! انظروا إلى غريمتها القديمة بريطانيا التي أصبحت ذيلا للولايات المتحدة وقارنوا بين الموقفين في الأقل.

سأستاف هؤلاء الحثالة بخرطومي!

نيكولا ساكوزي البلغاري الأصل حينما كان وزيرا للداخلية إبان حوادث العنف التي مارسها شباب ضواحي باريس من الأفارقة، وجلهم من المهاجرين من شمال أفريقيا أعلن صراحة انه سيعمل من اجل قوانين جديدة للهجرة بدت ملامحها العنصرية في فحوصات الحمض النووي لمن يريد الالتحاق بأهله. ولم يجد ساركوزي ثمة حرج إنساني في ذلك من اجل فرنسا. وهاهو ينظر إلى المهاجرين نظرة دونية من جديد. ويريد أن يستافهم بخرطومه التنويري.
وتتخذ صريحات برنار كوشنير وزير الخارجية الفرنسي خطا متشددا أكثر من رئيسه. فطالب علنا بتغيير حكومة المالكي. ولم يهتم إلى حدوث أية أزمة دبلوماسية. ومازال يصرح بقوة أكثر من البريطانيين حول عدم السماح لإيران في أن تكون دولة نووية، ولو حدث ذلك فسيتم على أنقاض حرب إقليمية؟ ما الأفضل حرب ضد إيران أم تعرّض العالم إلى خطر نووي؟! هكذا تتساءل الدبلوماسية الفرنسية التي تحاول أن تظهر هذه الأيام Gun Boat Diplomacy أي دبلوماسية القوة العابرة للحدود القديمة وليدة العصر الاستعماري.
فالفرنسيون أكثر تشددا من البريطانيين هذه الأيام, وخراطيمهم ممدودة للحاق بعملية الشفط الدولي في العراق أو البلدان المرشحة للعرقنة او الأفغنة. هل يبحثون لهم عن موطئ قدم في حرب قادمة؟ ربما. وهل سيحلون محل البريطانيين في عمليات الاستيلاء على نفط جنوب إيران القادمة؟ وهل أن زيارات كوشنير الشرق أوسطية من أجل بناء ذلك (السد العربي الجديد) أو ( البوابة الشرقية الثانية!) الذي اقترحه الجنرال فالون قائد الجيش الأميركي للمنطقة الوسطى؟ربما يظن الفرنسيون مازال ثمة متسع من الوقت لهضم شيء ما في الشرق الأوسط. وما زالت قبعة نابليون مدفونة في مكان ما.















المحور التركي
القلق التركي بين الغرب والشرق


تاريخ أوْرَبة تركيا الحديثة
بعد سقوط الدولة العثمانية (الرجل المريض المنتظر توزيع تركته على أعدائه) تحولت (ممتلكاتها) الشرقية إلى سوق للبيع والمساومة بين الدول الاوربية الغازية. كانت تلك هي النهاية الطبيعية لدولة طالما عرفت بالضعف والخور في قرونها الأخيرة. ثم وصلت اليونان إبان الحرب العالمية الاولى إلى عمق الاراضي التركية, فظهرت شخصية مصطفى كمال كقائد عسكري محرر للأتراك وطارد لليونانيين من اراضي تركيا. وبعد تحرير قسم كبير من الأراضي التركية صعد النجم السياسي والعسكري لذلك الضابط الذي كان منفيا على نحو كبير في عهد الدولة العثمانية. وبدأ الترك بنسج (كاريزما) حول شخصيته لما تزل قائمة إلى الوقت الحاضر باعتباره منقذ وباني تركيا الحديثة . وكانت الروح السائدة في تركيا بعد الغاء ما يعرف بالخلافة الإسلامية وطرد آخر السلاطين الاتراك محمد رشاد من سدة الحكم عام 1925وإعلان الجمهورية قد وضعت تركيا الحديثة امام مهام جسام وطرق مختلفة، أهمها طبيعة النظام التركي الجديد واوربته وضرورة التخلي عن (القدامة) فيه.
بدأ بزوغ تركيا الحديثة بظهور الضابط مصطفى كمال الذي لقب بأتاتورك ، اي ابو الاتراك، لبسالته في الدفاع عن الأراضي التركية وقيامه باعباء الدولة كأول دكتاتور من نوعه في الشرق الإسلامي حيث انشأ دولة تسلطية Authoritarianism تعد إنموذجا لعموم الدول العسكرية بعد ذلك. كانت شخصية اتاتورك وسياساته محطّ اعجاب لدى كثير من العسكرتاريا العربية آنذاك، وربما هي التي مهدت لهم الطريق لتولي السلطة بعد ذلك في مرحلة تاريخية لما تزل آثارها قائمة إلى الوقت الحاضر.
وبدأت في الوقت نفسه في تركيا إثارة سلسلة من التساؤلات المريرة في تفسير هزيمة الدولة العثمانية امام الزحف البريطاني والفرنسي وسقوط المشرق والمغرب العربيين بين هاتين الدولتين الإستعماريتين. فأوعز الترك سبب هزائمهم إلى خيانة (العرب) اولا باعتبارهم من اكبر القوميات المؤلفة للدولة العثمانية، وتحالفهم مع الإنكليز وثورة الحسين بن علي في الحجاز خاصة، وكبر حجم المؤامرة الأوربية ضدّ الترك، فصدقوا سراعا هذه التفسيرات كثيرا؛ في وقت هم لم يحملوا اخطاء الحرب إلى سؤ الإدارة العثمانية التي كانت عليها الدولة الهرمة المهلهلة، ومستوى الفساد المالي والإداري الذي عانت منه قرونا عدة، وبلادة التعامل مع القوميات غير التركية وما عرف بالنزعة الطورانية: أي علو الترك على بقية الشعوب الإسلامية. وربما تكون هذه النزعة في الإستعلاء القومي المقيت هي التي قادت الترك إلى معظم هزائمهم التاريخية المعروفة.
ثم ظهرت نتيجة لهذه الاوضاع والافكار الجديدة في تركيا الحديثة نزعة تغرب westernization كاسحة غذتها اوربا اولا ثمّ الدولة التركية الاتاتوركية حيث عزي عموم التخلف لدى الاتراك إلى (الإسلام) العثماني، فأعطيت صفة (العلمانية) إلى الدولة والمجتمع التركيين الجديدين، وبدأت سلسلة من الأعمال الموجهة اساسا ضدّ الثقافة الإسلامية القدامية العثمانية باعتبارها رمزا للتخلف الشامل في الحياة لتنتهي بتغيير الحروف العربية واستعمال الحروف اللاتينية بدلا عنها. كانت تلك واحدة من المحاولات المحمومة لمحو الذاكرة الإسلامية من اذهان الاجيال التركية القادمة. لكن هذه الآمال ذهبت ادراج الرياح ولم تستطع الاتاتوركية بكل ما اوتيت من إمكانات فصل الاتراك عن ماضيهم الإسلامي.
هل نجحت تركيا في اوربتها إذا؟ وهل أستطاعت الوصول إلى تحقيق ستراتيجيتها الكبرى سواء في ظل الحكومات العلمانية أم في ظل الحكومة الإسلامية الحالية في كسب رضى الدول الاوربية الأعداء التاريخيين والتقليديين لها؟ ثم تأكيد اوربة تركيا من خلال الانظمام إلى الأتحاد الاوربي؟هذا القلق الستراتيجي المحموم الناتج عن الشعور بالنكوص والخور الحضاريين لتركيا منذ هزيمة الدولة العثمانية بعد الحرب العالمية الاولى 1914- 1918 وما نتج عنها من محاولات دحر الأتراك نهائيا وإبعادهم عن الخارطة السياسية للعالم قد وضع تركيا في موضع يمتاز بالقلق الدائم حيال الهوية التركية المتأرجحة بين الشرق والغرب، وما محاولاتهم في الاوربة والتغرّب إلا شكلا دخيلا على النظرة إلى الحياة والتراث والشرق عموما.

محاولات شبه يائسة لكنها محمومة
تمتلك تركيا 10% فقط من أراضيها في اوربا، هذه الحقيقة الجغرافية لا تمنحها أوربة بأي حال من الاحوال، ورغم ذلك فهي تصر على انها بلد أوربي و لما تزل تكافح يوميا للإنظمام إلى الإتحاد الاوربي الذي بلغت دوله (25) عضوا من ضمنهم رومانيا الفقيرة والمتخلفة وبلغاريا ذات الاقتصاد المتدهور وجزيرة مالطا الصغيرة المغمورة وسط مياه المتوسط. وإذا كانت مثل هذه الدول قد أنضمّت إلى الاتحاد الأوربي فلم المعارضة والممانعة من انضمام تركيا إليه؟ لكي تسجل تركيا كدولة علمانية وإسلامية تاريخيا نفسها في سجل اوربا العجوز وصولا إلى وضع حدّ للقلق التاريخي التركي بين الشرق والغرب.
لا شكّ بأن هذا الأمر لا يعود إلى موقف أوربا من شرقية تركيا وجذورها الإسلامية فحسب، ولا إلى عوامل أقتصادية من وجود عمالة تركية كبيرة في اوربا وخاصة في المانيا، فأوربا تبقى بحاجة إلى العمالة التركية والأجنبية حيث تشير الإحصاءات الاقتصادية المستقبلية إلى حاجتها إلى مئات الآلاف من العمالة الأجنبية بحلول عام 2020 وما يترتب على استمرار عزوف الأوربيين عن مهن وضيعة بعينها، وكذلك إلى عوامل الهرم السكاني الأوربي ووجود الكثرة الكاثرة من الكهولة فيه وطول عمر المسنين والعناية بهم فضلا عن سنّ التقاعد المبكر الذي تقره العديد من الدول الأوربية. فلم الوقوف بوجه العمالة التركية الرخيصة والجاهزة نسبيا؟ وهل يمكن الاستعاضة عنها بعمالة من جنوب شرق آسيا مثلا في حالة الحاجة الملحة لهم؟
كلّ تلك الحلول تطرح أمام العقل الأوربي الهرم الذي بدأ يتوجس ما يعرف ب (الخطر الإسلامي) بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 وكذلك إلى إحداث التفجيرات في مترو لندن ومحطة القطارات في مدريد والتهديدات التي تواجه فرنسا والدول الأسكندنافية بعد ذلك. فمن البؤس حقا أن تتعرض حياة المسلمين الأوربيين إلى مثل هذه التهديدات بفعل أعمال مشينة تقوم بها " ثلة مهووسة بالعنف " لا تمتلك من روح التسامح الإسلامي شيئا، وهي تنعكس سلبا على حياة الجاليات الإسلامية في أوربا يوميا.
لقد أصبح الترك وهم من اكبر الجاليات في اوربا محطّ تساؤل وخاصة بعد العملية المشينة التي حاول المواطن التركي محمد علي آقجا اغتيال البابا السابق يوحنا بولص الثاني وما خلفته من غصة في صدور الأوربيين عموما، كما شجعت اليمين الأوربي على التمادي في غلوه ضد الجاليات الإسلامية في أوربا وخاصة في فرنسا التي تعد واحدة من اهم معاقل الحرية وحقوق الإنسان في العالم. فلم تقود فرنسا المعارضة لأنظمام تركيا إلى الاتحاد الأوربي؟ وكيف يمكن لدولة تعد نفسها من أهم معاقل الحرية في أوربا ان يتصاعد فيها هذا المد العنصري الكبير كما أثبتت أحداث الشغب الكبيرة في باريس وبعض المدن الفرنسية الأخرى؟ ولم تعمل فرنسا على إثارة المشكلات للمسلمين من حين لأخر؟
تعود هذه الحال بالدرجة الأساس إلى عدم رغبة اوربا - بقيادة فرنسا - في ازدياد عدد الجاليات الإسلامية فيها. فتشير احدث الأرقام إلى ان عدد المسلمين في اوربا قد يبلغ 10% من سكانها بحلول عام 2015م بعد ان يصل المسلمون إلى (20) مليونا مما يشكل خطورة بالغة في دمج المسلمين في الحياة والتقاليد الاوربية. واحتمال ان يشكل المسلمون نسبة 30% من سكان المانيا عام 2030 وحوالي 50% من سكان فرنسا عام 2050 هذه الأرقام المخيفة للأوربيين هي ما يعرف بالثورة الديموغرافية الإسلامية في اوربا. كما ان بعض الدول الاوربية كبريطانيا وفرنسا قد منحت المسلمين حق إنشاء جوامعهم وممارسة طقوسهم الدينية والاعتراف بالإسلام كدين مكون للشعب الفرنسي بحكم وجود جالية شمال أفريقية مسلمة كبيرة فيها. فضلا عن انتشار آلاف الجوامع والمساجد والجمعيات الخيرية الإسلامية في اوربا مستفيدة من نمط الحياة الاوربية الحرة. لكننا في الوقت نفسه نجد ان بلادا كاليونان لم تسمح حتى الآن ببناء جامع واحد للمسلمين أيضا؟ ولا شكّ بأن اوربا تقف هذا الموقف من تركيا رغبة من عدم ازدياد (النفوذ) الاجتماعي الإسلامي فيها الذي سيصل حتما إلى نفوذ سياسي يتحكم بمسارات الانتخابات الديمقراطية الاوربية.
وقعت تركيا في مساعيها للدخول إلى الأتحاد الاوربي في معضلات كثيرة داخلية تارة وخارجية أخرى. ولم يعد الدعم الاميركي في ضرورة وجود تركيا في الاتحاد الأوربي مجديا وخاصة في ظل ازدياد نفوذ اليمين واليمين المتطرف في القارة الهرمة. ففرض على تركيا سواء حكوماتها العلمانية ام الإسلامية الحالية ما يكفي من الشروط المتعلقة بأوضاع الكرد الذين يكونون حوالي40% من سكانها، حيث سمح لهم باستعمال لغتهم وكذلك بإنشاء إذاعات خاصة بهم ومن ثم اعتراف تركيا بهم كقومية مكونة ثانية في تركيا الحديثة، فلم يعد الكرد مجرد (أتراك الجبل) في ظل مطالبات أوربية مستمرة. لكن هذه الظروف المحسّنة للكرد لم تدع الأوربيين يقبلون بتركيا دولة بينهم، ومنهم من أشار إلى ضرورة ان تؤجل الموافقة على أنظمام تركيا إلى الاتحاد الأوربي حتى عام 2020 حيث يمكن لحقوق الإنسان أن ترتقي فيها إلى مصاف الدول الاوربية.

تركيا وإثارة القضية الأرمنية
كانت القضية الارمنية (نائمة) عن التداول الدولي منذ عام 1915 حينما بدأت إبادة الأرمن وإخراجهم من الدولة العثمانية بحجة خيانتهم لها إبان الحرب العالمية الأولى. ولا توجد ثمة أدلة مباشرة على تلك الخيانة المزعومة غير نزعة الاستعلاء الطورانية التي مورست ضدّ الأرمن الذين سجل لهم التاريخ انجازات كبيرة في دعم الجيش العثماني أثناء حروبه ضدّ أوربا وحتى حصار فينا الشهير حيث عمل الأرمن في مهن مختلفة قس هذا الجيش كرعايا عثمانيين على الرغم من انتمائهم المسيحي الشرقي. ووجد ما تبقى من الارمن ملاذا لهم في البلاد العربية وأوروبا والولايات المتحدة الأميركية.
ومن الغريب ان يصدر في تركيا قانون (يحرم) التعرض إلى قضية الارمن او إلى التذكير بالمآسي التي لحقت بهم إبان الحرب العالمية الاولى؟ وطال هذا التحريم الحكومي المفتعل كتابا وصحفيين ومثقفين ترك وخاصة الكاتب التركي الكبير (أورهان باموك) الحائز على جائزة نوبل للآداب عام 2006 الذي يعدّ واحدا من أهم ادباء تركيا المعاصرة لمواقفه المناصرة للأرمن والتي عرضته لمحاكمة علنية. ومن الأغرب في الوقت نفسه أيضا ان يعزى منحه الجائزة إلى مواقفه المتعلقة بحقوق الإنسان وتعاطفه مع الارمن الذين أبيدوا إبان الحكم العثماني وشتتوا في أصقاع الأرض. في وقت تشير ضوابط الجائزة إلى المواقف الإنسانية للكاتب إلى جانب إبداعه الفكري مما لا يدع للإعلام العربي المريض مجالا للتشكيك بكل مبدع من العالم العربي أو الإسلامي . فتشير التقارير الارمنية إلى ان ما يقرب من (800 ) ألف ارمني قد أبيد وقتذاك، في حين تشير التقارير المناوئة الاخرى على أنهم لا يتعدون بضعة آلاف؟! وفي الواقع ان تهجير شعب كامل من أرضه لا يتطلب إبادة بضعة آلاف بل مئات الآلاف كما تخبرنا التجارب الإنسانية في هذا المجال.
وعلى الرغم من ان هذه القضية الإنسانية قد أصبحت في رحم التاريخ الدموي للبشرية إلا ان تركيا ترفض الأعتذار للأرمن؟! في وقت اعتذرت اليابان للصين عن أحتلالها لمنشوريا والقيام بأعمال إبادة وسخرة ضدّ الشعب الصيني هناك. فلم نجد الاعتذار التركي عسيرا؟ ولماذا لا تعتذر فرنسا الداعية الكبيرة لاعتذار الترك إلى الجزائريين بفعل احتلالهم واستعمارهم لها حقبة طويلة (130) عاما تكبد خلالها الجزائريون أكثر من مليون ونصف شهيد، ويكفي ان نذكر بان عملية الإبادة الفرنسية للجزائريين في منطقة (سطيف) وحدها عام 1945 قد كلفتهم (45) ألف قتيل . ولا يمكن ان ينسى العالم بسهولة مذابح الفرنسيين في كارما وخراطة ومدن أخر جزائرية منكوبة. أليس حريا بفرنسا ان تعتذر للجزائر عن أعمالها البربرية قبل مطالبة تركيا بالاعتذار للأرمن؟ كما ان البوسنيين قد تكبدوا أكثر من (250) ألف شهيد مسلم على يد الصرب العنصريين الذين ما يزال قسم من زعمائهم من أمثال ميلوديتش وكراديتش هاربين.. ولم لا تعتذر الولايات المتحدة للعراقيين بعد ان كلفهم احتلاله المقيت منذ عام 2003 أكثر من (655) ألف شهيد؟ ولم لا تعتذر الأمم المتحدة والولايات المتحدة وبريطانيا عن إبادة (مليون) طفل عراقي شهيد في مدة الحصار الظالم 1991-2003 ؟؟؟ أم ان الإبادات الجماعية للعراقيين السابقة واللاحقة لا يتحملها احد سوى رموز النظام السابق وحده؟!
إن اوربا لن توقف مطالبها لتركيا الواحدة تلو الاخرى من اجل عرقلة انظمامها للعالم الأوربي لأنها لا ترغب بوجود كتلة إسلامية كبيرة فيها تعمل على تغيير التوازن الديموغرافي مستقبلا. هذه الحقيقة والاحداث المرافقة لها سوف تكشف من جديد ان الإستراتيجية التركية في هذا المجال خاطئة وغير مجدية، وربما آن الأوان لكي تدير تركيا ظهرها للغرب بعد جميع الخدمات الكبرى التي قدمتها لهم وإلى حلف الناتو في الحرب الباردة 1946-1990









جبل قنديل: تأخير فتيل الأزمة؟


هل جرت عملية (تهدئة) بما يكفي على الحدود العراقية التركية للحيلولة دون نشوب حرب في شمال العراق؟ وهل حسب الساسة عموما النتائج الخطيرة المترتبة على نشوب حرب جديدة في منطقة هي عبارة عن برميل بارود معبأ بما يكفي من متفجرات مختلفة؟ يرى بعض المراقبين بان المسألة (جمدت) إلى حين بعد الزيارة التي قام بها رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان إلى الولايات المتحدة الأميركية مؤخرا، حيث جرى اتفاق على تبادل المعلومات الاستخبارية والعمل ضد الإرهاب في المنطقة. كما شنّ الرئيس الأميركي هجوما عنيفا ومباشرا على حزب العمال الكردستان pkk) ) واصفا إياه بشكل صريح بالعدو للولايات المتحدة.. ويعدّ هذا التصريح من أقوى ما مارسته الولايات المتحدة دبلوماسيا حتى الوقت الحاضر.
ثم جرى بعد ذلك ومن خلال ضغوطات مستمرة على حكومة إقليم كردستان العراق العمل على إطلاق عدد من الجنود الأسرى الترك الذين كانوا بحوزة حزب العمال الكردستاني والذين استطاعت قوات بي بي كي أسرهم في العمليات العسكرية الأخيرة ضدهم. كما أطلق سراح جندي إيراني في الوقت نفسه ولأسباب إنسانية. هذه الأوضاع (الإنفراجية) الجديدة كانت بجهود مباشرة من كلا الحزبين الكرديين الحاكمين في شمال العراق: (اليكتي) الإتحاد الكردستاني، والديمقراطي الكردستاني على حدّ سواء. وهكذا استطاعت الدبلوماسية التركية مع تحريك عجلات الحرب سحب الولايات المتحدة لممارسة دورها كبلد محتل ومسؤول وضاغط في العراق للعمل إلى صالحها من اجل تلافي اكبر مقدار ممكن من الخسائر الناجمة عن اشتعال حرب جديدة في منطقة الشرق الأوسط.
فمن كان اللاعب الرئيس في عملية التهدئة المؤقتة؟ وكيف يمكن للقوى الإقليمية والدولية( الولايات المتحدة تحديدا) أن تقوم باقتلاع حزب العمال الكردستاني التركي من جذوره الضاربة إلى مدى ربع قرن من الزمن تقريبا في تلك المنطقة الوعرة (جبل قنديل)؟ كان التصريح الأخير للرئيس بوش واضحا في اعتبار البي بي كي حركة معادية للعراق والولايات المتحدة وتركيا على حدّ سواء؛ مما منح ضؤا أخضر للحكومة التركية كي تباشر العمل ضدّ الحزب المذكور.. وهي تعدّ بمثابة نصر مزدوج للدبلوماسية التركية إلى جانب التهديد باستعمال القوة العسكرية أيضا ضد البي بي كي إذا استدعت الظروف والمستجدات الدولية ذلك. فالأزمة لم تنته بعد وحصان طروادة البي بي كي جاهز للعمل في أية مرحلة قادمة.
وكانت الولايات المتحدة قد عملت على وضع برنامج لتبادل المعلومات الاستخبارية مع الحكومة التركية من اجل وضع تصورات مشتركة لأفضل الطرق لشل تحركات المجموعات العسكرية لبي بي كي، ومن اجل ضمان عدم تكرار ضربها للجيش التركي من الأراضي العراقية. بيد إن مجموعات البي بي كي التي تتراوح في أقل تقدير بين 3000-2500 عنصرا مسلحا ومدربا تدريبا جيدا وتشكل النساء 40% من هيكلهم التنظيمي على وفق احدث التقارير الاستخبارية لا تتواجد على الأرض العراقية وحدها، وثمة مناطق وعرة أخرى داخل تركيا نفسها ينتشرون فيها بالطريقة نفسها، فلم كلّ هذه الإثارة الإقليمية على وجودهم داخل العراق في هذه المرحلة الشائكة التي تمرّ بها المنطقة عموما؟! وما تفسير التوقيت الحرج والمقلق وغير المضمون في هذا الوقت بالذات لشن هذه الحرب الإعلامية المصحوبة بتحركات عسكرية ضدّ البي بي كي؟!
إن مجيء حكومة إسلامية تركية قوية، كحكومة أردوغان، وانتخاب عبد الله غول الإسلامي المعتدل رئيسا للجمهورية التركية مؤخرا، وبنسبة مريحة قلما شهدها تاريخ تركيا السياسي المعاصر، وضع تركيا والحركة الإسلامية الحديثة والمعتدلة فيها على مسار جديد يمكن أن يكون مثالا حيا وأنموذجا واضحا للعديد من الحركات الإسلامية الأخرى التي تنهج نهجا سلميا في تحقيق أهدافها السياسية. لذلك من اجل وضع عدد من الصعوبات المصطنعة أمام هذه التجربة الإسلامية المغايرة كثيرا؛ كان لابدّ من إثارة المشكلات الخارجية لها بعد سلسلة النجاحات الداخلية.
ومن أهم الوسائل التي رافقت عملية إثارة البي بي كي ضد تركيا في الوقت الحاضر هي شنّ حرب إعلامية ضدها حول ما يعرف بإبادة الأرمن إبان الحرب العالمية الأولى أيضا في صورة جديدة من اجل الهدف نفسه وكمحاولة جديدة لتشويه تطلعات تركيا الخارجية ذات الطابع الإسلامي المعتدل. فأين كانت الدول الأوربية والولايات المتحدة من إبادة الأرمن في أوقات هيمنة المؤسسة العسكرية على الحياة في تركيا، ولم تثار هذه القضية في هذا الوقت بالذات أيضا؟؟
ولعل من أبرز المظاهر التي رافقت أزمة جبل قنديل الأخيرة هي وجود أسلحة أميركية متطورة لدى البي بي كي تتناسب وطبيعة الدعم الدولي الذي يلقاه هذا الحزب. وبعيدا عن نظرية المؤامرة المزمنة التي تسود منطقة الشرق الأوسط غالبا فإن جهات كثيرة إضافة إلى الاتهام الدائم لحكومة إقليم كردستان العراق تقوم بإسناد هذا الحزب وهي تقف وراء الدعم اللوجستي لبي بي كي. ومن الغريب عن هذا الحزب اليساري الذي لقي تدريبا في سوريا سابقا عن طريق الجبهة الشعبية الفلسطينية التي تحتضنها سوريا خاصة تقف سوريا نفسها ضده الآن؟! فلماذا كلّ هذه التحولات في المواقف المعلنة السابقة وهل أصبح البي بي كي (جرثومة) يتوجب استئصالها في هذا الوقت بالذات؟
كما طال في الوقت نفسه الهجوم على البي بي كي حكومة الإقليم نفسها حيث صرح السيد مسعود البرزاني بأن الأساليب القديمة في حمل السلاح والكفاح المسلح قد عفا عليها الزمن وعلى البي بي كي أن ينهج أسلوبا سياسيا سلميا لتحقيق أهدافه. بيد أن الأحداث تشير إلى أن هذا الحزب الذي سبق له أن دخل في صراعات مسلحة مع كلا الحزبين الحاكمين الكرديين كان قد توقف ومنذ خمس سنوات تقريبا عن ممارسة النشاط العسكري المسلح ضد تركيا فلم أصبح مسلحا وشرسا فيء هذا الوقت بالذات أيضا وما السرّ في هذه الجمة الإقليمية والدولية المنظمة ضده؟!
كان العمل من اجل نزع (فتيل الأزمة) يكمن بالدرجة الأساس في سلسلة من الضغوط السياسية والاقتصادية على حكومة إقليم كردستان في العراق من اجل الحد من نفوذ البي بي كي فيها. ويكفي أن نذكر حوالي ألف شركة تركية تعمل في هذا الإقليم. وإن الأضرار الاقتصادية التي ستلحق بتركيا هي أضعاف ما يلحق بالإقليم إذا ما فكرت تركيا فعلا في مواصلة حصارها له. ومن هنا كان لا بدّ من تهدئة الوضع من جميع الجهات. ولذلك جاء التصريح من الحكومة المركزية في بغداد بغلق مكاتب البي بي كي في العراق؟! وفي الواقع ليس ثمة مكاتب (رسمية) لهذا التنظيم في العراق، وإنما توجد حركات سياسية عراقية مثل حزب (الحل الكردستاني) العراقي تعمل مع البي بي كي أو تتعاطف معه. وهكذا عملت (حكومة الإقليم) على غلق مكاتب ذلك الحزب تلافيا لتطور الأزمة، ونزولا عند رغبة الولايات المتحدة طبعا.
وفي الوقت نفسه فإن تسريبات صحافية حول وجود شخصيات كردية داعمة لهذا التنظيم الذي يوصف بالإرهابي عادة، وخاصة كشخصية برلمانية معروفة السيد محمود عثمان واحد أقارب السيد مسعود البرزاني زعيم الإقليم أيضا لم يكشف النقاب عن اسمه؛ حيث يتوجب تسليمهم أيضا إلى الحكومة التركية! فهذه ظاهرة أشد وطأة وتنم عن استهتار واضح بالحكومة العراقية الحالية التي لم تألوا جهدا في (حلحلة) تداخلات تلك الأزمة الصعبة من خلال زيارة أعداد من الوفود العراقية على رأسهم رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي نفسه. فعلام تدلّ تلك المواقف المتشنجة وغير المعقولة من الجانب التركي؟ ألا تدلّ بوضوح على ضعف الحكومة العراقية حاليا وعدم تمكنها من المناورة بسبب وجود قوات الاحتلال فيها؟ لا شك بان أية حكومة مهما وصفت بالوطنية أو النزاهة أو غير ذلك لا يمكنها بأية حال أن تقوم بواجباتها الطبيعية إزاء أي وضع داخلي أو إقليمي أو دولي مادامت تقع تحت الاحتلال. من هنا فإن احترام العراق لن يكون حقيقة ماثلة إلا بخروج المحتل حيث يمكن للعراق التعامل مع جميع الأحداث بروح عالية تتناسب وحجمه الإقليمي المعروف. لكن العراق في هذه المرحلة الشائكة لما بعد الاحتلال بلغ الدرك الأسفل في وضعه الإقليمي إن لم يكن قد فقد وزنه تماما في هذا المجال الحيوي.
ومن الجدير بالذكر في السياق نفسه: إن الحكومة التركية تطالب بتسليم عراقيين إليها إلى جانب شخصيات قيادية في البي بي كي في آن واحد؛ وهذه ظاهرة تنم عن عدم احترام الحكومة العراقية الحالية، وخرق لعموم المعايير الدولية في التعامل الطبيعي. فضلا عن تلك التجاوزات غير الرشيدة التي لقيها الوفد العراقي رفيع المستوى برئاسة السيد محمد جاسم العبيدي وزير الدفاع العراقي والتي فشلت فشلا ذريعا في محاولة نزع فتيل الأزمة على الحدود العراقية التركية. فإذا كان التعامل مع العراق بهذه الطريقة في حلّ أزمة حدودية فكيف بكون التعامل معه في مسائل اكبر كبناء السدود على منابع الرافدين وقضايا تقسيم المياه؟!! وما الذي يمنع تركيا بعد ذلك من المطالبة بالتدخل ل(حماية) التركمان في العراق خاصة بعد الإعلان الخجول عن نيتهم إقامة إقليم خاص بهم (توركمان إيلي) الممتد من تلعفر إلى زرباطية ومندلي. هكذا تجابه الحكومات المشكلة في ظل الاحتلالات الأجنبية عموما صعوبات إثر صعوبات في نزع فتيل الأزمات الداخلية والخارجية على حدّ سواء.









لعبة جديدة في شمال العراق:
من الخاسر في النهاية؟

بعد الزيارة الأخيرة التي قام بها السيد نوري المالكي رئيس الوزراء العراقي لتركيا ووزير الداخلية السيد شيروان الوائلي، وكذلك الزيارة التي أعقبها نائب رئيس الجمهورية الدكتور طارق الهاشمي؛ كان قد تمّ الاتفاق على تصنيف حزب العمال الكردي التركي (البككه pkk ) على أنه من الأحزاب الإرهابية، مثلما تصنفه الولايات المتحدة على قائمتها العالمية في ما يعرف بالحرب على الإرهاب. لكن الاختلاف فقط ؛ هو في طريقة التعامل مع هذا الحزب الذي بقي ربع قرن في شمال العراق دون أن تستطيع الحكومات التركية المتعاقبة القضاء عليه.
وكان النظام السياسي العراقي السابق قد أبرم مع الحكومات التركية، وخاصة بعد انفصال إقليم كردستان العراق عام 1991 عن الحكومة المركزية في بغداد، وفي إثر حرب الخليج الثانية، اتفاقية السماح بتوغل القوات التركية في الأراضي العراقية لمسافة محدودة ( 20-30) كم بغية ضرب حزب البككه. لكن الواقع أن تركيا كانت تقوم بأعمال حربية واسعة أكثر من الاتفاق المبرم سريا والذي أصبح علنيا وشبه تقليدي. وتعد هذه الحالة واحدة من مظاهر التفريط بالسيادة الوطنية التي دأب النظام السابق على انتهاجها منذ عام 1975 حينما وقع صدام حسين اتفاقية الجزائر المشبوهة مع الشاه محمد رضا بهلوي.
ومن الصعب كما تتناهى الأنباء التأكد عن إن اتفاقا سريا (ما) لضرب حزب البككه قد أبرم مع الحكومة التركية. فالإعلام الحكومي العراقي ما يزال ينفي هذا الأمر جملة وتفصيلا. بيد أن الأحداث على الأرض تنبئ بغير ذلك. وبرغم ما أثير من اعتراضات كردية عراقية على تلك الزيارة والنتائج المتمخضة عنها بسبب عدم وجود ممثل للعراقيين الكرد فيها، إلا إن الأحداث تظهر مدى التأزم المتصاعد في المنطقة، وان ما يبدو للناظر هو عشر جبل الجليد فقط.
كما أن الزيارة الأخيرة التي قام بها الرئيس بشار الأسد إلى تركيا قد أكد فيها على حق تركيا " في الدفاع عن نفسها "!! من هجمات البككه. وليست تلك العبارة (زلة لسان) من الرئيس الأسد في هذه الأزمة الشائكة بل أنها توحي بشكل مباشر على إعطاء تركيات (الحق) في التوغل في الأراضي العراقية وهذا مالم تجزه الأعراف الدبلوماسية جميعها لأن الأسد ليس رئيسا للعراق. ولكن الضعف الشامل للحكومة العراقية وكون العراق واقعا تحت الاحتلال يجوز للآخرين ما لا يجوز. وتعد تلك التصريحات غير المسؤولة وغيرها هي واحدة من أجندة كبيرة تعمل في المنطقة من وراء الكواليس. وما الأنباء غير المؤكدة عن وجود دعم (ما) للبككه من المخابرات الأميركية، وانتفاء ذلك عن (أنصار الإسلام) تحديدا والذين أغلقت إيران مكاتبهم في طهران أخيرا إلا مؤشر غامض عن وجود (طبخة ولعبة ما) لإثارة مشكلة جديدة في الشرق الأوسط يكون العراق المركز والطرف غير الفاعل والخاسر فيها في آن واحد.
ويعزو عديد من المراقبين إلى أن تلك التصريحات أو الاتفاقات السرية التي أبرمتها الدولتان العربيتان العراق وسوريا مع تركيا هي فيزا دائمة للقيام بأعمال عسكرية ضد البككه في هذا الوقت بالذات. وإذا كانت سوريا لديها من الأسباب ما يكفي للوقوف ضد البككه، بعد أحداث القامشلي القريبة، وما نتج عنها من وجود أصابع للبككه فيها، فإن من الصعب وجود تفسير للموقف العراقي الحكومي؟ لذلك ليس غريبا أن يصرح زعماء البككه عن أنهم لن يتوانوا عن ضرب أنابيب النفط العراقي البعيدة عن مناطق تواجدهم والمارة إلى تركيا.
ولماذا أثيرت هذه الأزمة ضدّ تركيا متزامنة بما يعرف بأزمة مذابح الأرمن الإعلامية إبان الحرب العالمية الأولى!؟ وكيف يمكن تفسير الهجمة على الحكومة الإسلامية التركية من جوانب كثيرة؟ هل هي الرغبة في إفشال المشروع الإسلامي الحضاري في تركيا من خلال زجّ حكومتها في مشكلات خارجية آخرها ضرب الطائرات الإسرائيلية لموقع سوري يفترض أن يكون (موقعا نوويا) وتقديم إسرائيل اعتذارا رسميا إلى تركيا؟ ولو أن إحصاء نجريه للأحداث المتسارعة التي تكتنف المشهد التركي والشرق أوسطي عموما نجد إن العراق هو المستهدف الرئيسة من تلك العمليات المتلاحقة. وما الأزمة المثارة مع تركيا والمتعلقة بحزب البككه إلا ورقة واحدة من سلسلة أعمال متواصلة للحدّ من عملية محاولة العراق لاستعادة سيادته على البلاد التي فقدها منذ حرب الخليج الثانية وقرار الأمم المتحدة 661.
فليس ثمة منطقة جبلية وعرة كجبل قنديل، مركز وجود البككه الرئيس، الذي يقف شامخا وبارتفاع عل عن مستوى سطح البحر عن بعد، وأنت تتطلع إليه عبر بحيرة سد دوكان أو من أي مكان آخر من الحدود العراقية التركية. فالجبل منطقة واسعة وهو مكسو بالثلوج طوال الشتاء ولا تذوب قمته البيضاء غالبا – اللهم إلا في السنوات الأخيرة بسبب التغييرات المناخية - وربما هذا هو السبب في إطلاق أسم قنديل عليه. ولا يوازي تلك المنطقة وعورة إلا مرتفعات (كلاله) حيث يوجد مقر الملا مصطفى البرزاني رحمه الله. وعلى العموم إن هذه المنطقة تبعد ما يقرب من 300 كم عن دهوك، وهي المقر الرئيس لوجود قوات (البككه).
ويقدر المراقبون السياسيون عدد أفراد البككه ب (2000-3000 ) شخصا بينهم عدد كبير من النساء. وهم محصنون في منطقة جبلية معقدة لا يمكن الحركة فيها للسيارات إذ ليس ثمة غير الطرق النيسمية الضيقة التي تستخدمها البغال خاصة. ويصعب على الجيش التركي نفسه القضاء على البككه حيث يشنون عمليات عصابات (حرب أنصار) منظمة. وقد عمل البرلمان التركي على إعطاء الضؤ الأخضر وبنسبة كاسحة لاستخدام القوة العسكرية ضدّ البككه الذين ينطلقون من الأراضي العراقية للقيام بأعمال عسكرية في المنطقة الشرقية من تركيا.
ومنطقة جبل قنديل مأوى طبيعيا لحزب العمال الكردستاني التركي منذ ربع قرن من الزمن تقريبا. وهي منطقة حدودية تفضي إلى تركيا وإلى إقليم سرناك، حيث توجد جماعات عسكرية دائمة للقيام بأعمال ضدّ الحكومة التركية. ويعد البككه من الأحزاب اليسارية التي تؤمن بالعنف المسلح لتحقيق أماني الكرد في إقامة دولتهم حيث يكون الأكراد الترك النسبة الكبيرة فيها. لكن تصريحات عبد الله أوجلان الزعيم التاريخي للحزب في سجنه، وبعد الحكم عليه بالإعدام مع وقف التنفيذ بسبب رغبة تركيا التحلي بمواكبة الاتحاد الأوربي، قد جعلته يقدم وجهة نظر (مغايرة) في ضرورة القيام بعمل سلمي والتخلي عن حمل السلاح لتحقيق الأهداف السياسية. بيد إن الكرد على العموم مازالوا ينظرون إلى أوجلان كمناضل شرس من اجل قضاياهم القومية، تماما مثلما يكنون الاحترام إلى ليلى زانا المناضلة الكردية التركية التي ضربت المثل الآخر في الشجاعة والدفاع عن الحرية القومية.
ومهما قيل عن الظروف التي حدت بعبد الله أوجلان على تغيير موقفه في سجنه، إلا أنها تعكس طبيعة الأزمة التي تعاني منها الأحزاب اليسارية الثورية في عصر ما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. وكان البككه قد تعرضوا إلى هزة عنيفة إبان اعتقال زعيمه الكبير عبد الله اوجلان وتولي شقيقه القيادة عنه في عملية مخابراتية محكمة في إحدى الدول الأفريقية وحينما كان عبد الله أوجلان في ضيافة السفارة اليونانية. وعلى الرغم من تعرض الحزب إلى انشقاقات بعد اعتقال أوجلان وخاصة بعد خروج العناصر العلوية المعارضة منه والتحاقهم بالبرنامج السياسي لحزب العدالة والتنمية التركي ومشروع أردوغان- اوغلو لحل المشكلات السياسية الداخلية لتركيا.
لكن أنصار أوجلان من الكرد الترك لا يفوتون فرصة إلا وتظاهروا أمام السفارات الأوربية لإطلاق سراحه في وقت إن قائده الحالي (مراد قره يلان) يؤكد على الالتزام بالخط الاوجلاني المسلح. ولا تخلو عملية اعتقال أوجلان من أصابع السي آي أي والموساد الإسرائيلي؛ تلك العملية التي عدت في وقتها واحدة من الانتصارات المخابراتية لتركيا، حيث اقتيد عبد الله اوجلان إلى اسطنبول، وإلى محاكمها ليحكم بالإعدام في واحدة من أكثر المشاهد السياسية إثارة.
وتجد تركيا دائما في إقليم كردستان خطرا إستراتيجيا عليها. ولذلك فقد عملت بالتوافق مع النظام العراقي السابق إلى التوغل في الأراضي العراقية عامي 1995و 1997 بحجة مطاردة حزب العمال الكردستاني. أما الآن فإن تركيا تحاول إجهاض التجربة الفدرالية في كردستان من اجل وجود تركي دائم في شمال العراق لتضاف إلى مشكلات العراق الداخلية مشكلة جديدة تعمل على تمزيق وحدته. فمن يضمن إذا ما اجتاح الجيش التركي شمال العراق أنه سينسحب منه في بحر عام واحد كما هو مصرح به من البرلمان التركي؟ ومن يضمن أن الجيش التركي لن يتحرك لحماية أقليم ( توركمان إيلي) الممتد من تلعفر في الموصل وينتهي في زرباطية ومندلي مرورا بكركوك حيث منابع النفط الغنية؟ لاشكّ بأن المسألة تتعدى في نتائجها القريبة في الأقل محاربة البككه وحدهم.
أليست الحكومات الضعيفة تؤدي إلى تمزق البلدان دائما كما يعلمنا التاريخ ذلك؟









مستقبل العراق السياسي بين المعاهدات الأميركية المقترحة و القيود الدولية الراهنة

كيف يمكن للعراق الخروج من هذا الخانق الدولي الطويل الذي ترتب على حرب الخليج الثانية؟ وما الوسائل الناجعة لإعادة العراق إلى حالته الطبيعية كعضو مؤسس ومستقل للأمم المتحدة؟ في يوم 25 تشرين الثاني الماضي وقع الرئيس بوش ورئيس الوزراء نوري المالكي ما يعرف بإعلان المبادئ حول تنظيم العلاقات المستقبلية بين الولايات المتحدة والعراق على المدى الطويل، وفي محاولة للخروج من الخانق الدبلوماسي الطويل على المستوى الدولي الذي ورثه العراق بفعل الحماقات المتكررة للنظام السياسي السابق. وسيكون عام 2008 على أكثر تقدير حاسما في هذا المجال بما يحمله من تطورات نوعية جديدة على مسار القضية العراقية الثقيلة دبلوماسيا وإنسانيا في الوقت نفسه.
ويعد هذا الإعلان على أية حال بمثابة إطار عام يمهد لعقد معاهدة أو اتفاقية أمنية بين العراق والولايات المتحدة يتم بموجبها تنظيم العلاقات بين الطرفين بما يخدم مصالح الولايات المتحدة بالدرجة الأولى وإستراتيجيتها الشرق أوسطية. وربما تقود هذه التوقيعات والاتفاقات المقبلة إلى التحضير لعقد معاهدة طويلة الأمد مع الولايات المتحدة تضمن بقاء أميركيا في العراق دون أن تضمن بقاء وحدته الوطنية أيضا!. إذ تشير المشروعات المقدمة مؤخرا في الكونغرس الأميركي من السناتور جوزيف بايدن إلى احتمال تقسيم العراق تقسيما "ناعما" من اجل ضمان ما يعرف بالأمن الأميركي فيه.
وبرغم إن هذا المشروع الأسود غير ملزم، وجوبه بمعارضة شعبية واسعة النطاق في العراق إلا أنه يعكس بهذا المقدار أو ذاك التخبط والفوضى التي تنتاب العقل السياسي الأميركي في رسم خطط ما بعد الحرب على العراق. فالوجود الأميركي منتشر في 130 دولة في العالم، كما يوجد في الوقت نفسه العشرات من الاتفاقيات الأمنية مع مختلف دول العالم شرقا وغربا. فهل يمكن استثناء العراق من هذه المعادلة الدولية الواسعة والقوات الأميركية المحتلة تقبع في أراضيه منذ قرابة الأعوام الخمس؟
وعلى الرغم من إن إعلان المبادئ قد تطرق إلى سلسلة من العلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية إلا إن الجانب الأمني - كما نرى- هو الذي سيبقى مسيطرا بسبب طبيعة المرحلة الشائكة لما يعرف بالحرب على الإرهاب التي تتولاها الولايات المتحدة على نطاق عالمي باعتبارها حربا عالمية ثالثة! كما إن الجانب الأمني يحفظ دائما- كما هو معروف- المصالح الأميركية ويقدم ما يكفي من الضمانات لاستمرار الهيمنة.
وتسهم العلاقات مع الولايات المتحدة عموما في محاولة خروج العراق من طائلة الفصل السابع بعد زوال مبرراته بسقوط النظام السابق عشية التاسع من نيسان عام 2003. وإذا كان لابد من خروج العراق من الفصل السابع في وقت مبكر كما هو المنطق الطبيعي وخاصة بعد وجود حكومة منتخبة، فعلام كلّ هذا التأخير وربط ذلك باتفاقية أو معاهدة مع الولايات المتحدة؟ ألا يظهر هذا الوضع هيمنة الولايات المتحدة من جديد على المنظمة الدولية بشكل لا يقبل الشك؟
وبعد سقوط النظام ألصدامي صدر القرار 1483 في أيار عام 2003 حيث عدّ العراق واقعا تحت سلطة الاحتلال وشرعيته الدولية. كما نصّ قرار لاحق للأمم المتحدة في تشرين الأول من العام نفسه برقم 1511 على وضع العراق تحت تشكيل القوة متعددة الجنسيات وتحت قيادة موحدة تهيمن فيها الولايات المتحدة بطبيعة الحال. وتم تجديد ولاية البقاء لهذه القوات لاحقا في القرارات 1637 عام 2005 و1723 عام 2006 ومن الملاحظ إن جميع هذه القرارات قد صدرت ضمن (الفصل السابع) على اعتبار العراق يكون تهديدا للسلم والأمن الدوليين. في وقت إن العراق لم يعد يمتلك جيشا عرمرما يهدد به جيرانه بعد حله من سلطة الحاكم المدني بول بريمر، ولا توجد لديه- كما ثبت أخيرا – أية أسلحة دمار شامل؟ فلماذا عومل العراق كدولة (مارقة) وهو بلا دولة أساسا وواقع تحت احتلال دولة عظمى؟ ربما نجد تفسير ذلك في الرغبة الأميركية بإبقاء خيوط المسألة العراقية دوليا بيدها وهي لا تريد إفلاتها دبلوماسيا إلا بعد ان تربط العراق بمعاهدة او اتفاقية أمنية وفي أدق التفاصيل المخطط لها سلفا.
وعلى الرغم من ان القرار1546 في 8 حزيران عام 2004 قد نص صراحة على انتهاء حالة الاحتلال وسلطته رسميا، والاستعاضة عنه بالقوات المتعددة الجنسيات إلا إن العراق لما يزل واقعا ضمن الفصل السابع أيضا؟! ولم تجر أية محاولات أميركية أو دولية وحتى إقليمية للمطالبة بإخراج العراق من الفصل السابع. ونرى إن هذه المهمة منوط بجامعة الدول العربية التي تعدّ العراق واحدا من مؤسسيها الفاعلين، وكذلك بالدول العربية التي تعد نفسها شقيقة للعراق. وأن ما قدمه العراق للدول العربية في حروبها ضد إسرائيل والمساعدات لمنظمة التحرير الفلسطينية وغيرها من حركات التحرر العربية قمين بان تكون ثمة مبادرة عربية لإخراج العراق من وضعه الدولي المزري وخاصة بعد سقوط النظام وزوال جميع المبررات السابقة.
لكن الدول العربية – كما هي عاداتها المتوارثة - لم تبذل جهدا واضحا في هذا المجال بل هي بدأت عملية مراوغة واضحة في إرسال سفارات لها في بغداد، وشنت حربا إعلامية على شرعية الحكومة العراقية أيضا، مما خلق نوعا من التوتر الدائم بين الحكومة العراقية والدول العربية ولم تسهم معظم المحاولات والزيارات والمؤتمرات على رأب الصدع بيم العراق والدول العربية عموما. فالمشكلة الأساسية كانت وما تزال ترك العراق يقع فريسة إلى الدول الأجنبية ولا تتخذ أية إجراءات مناسبة في هذا المجال بأعذار واهية. ولو كان الإنسان من أنصار كواليس ( نظرية المؤامرة) لعدّ الدول العربية على اتفاق ضمني مع الولايات المتحدة للاستفراد بالعراق وفرض هيمنتها وشروطها عليه.
والنتيجة: إن الدول العربية حاكمت الحكومة العراقية ولم تنظر إلى العراق الذي يحاول كسر قيد الفصل السابع. وربما ستبقى على هذا المنوال حتى يصبح العراق مستعمرة دائمة للأجانب. وهكذا جاءت الولايات المتحدة بالطبع لتضع شروطها وخدماتها الدولية على الطاولة العراقية الضعيفة. لذلك حينما يقوم العراق بتوقيع معاهدة أو اتفاقية مع الولايات المتحدة سوف يشن الإعلام العربي الحكومي هجوما كاسحا على ذلك وسوف يعدّ هذا الأمر ( خيانة) أخرى في وقت تترك الحكومة العراقية والعراق وحدهما في حلبة الصراع. فلماذا ينظر العرب كأنظمة سياسية إلى الأحداث والمستجدات بعين عوراء غالبا؟ ولم يصرخ الإعلام العربي كواجهة للعديد من هذه الأنظمة بأعلى صوته بعد وقوع الكوارث في الحياة العربية وما فائدة العويل بعد الموت؟!
لعلّ من أكثر التركات الثقيلة للنظام السياسي السابق هي تلك القيود الدولية التي كبل العراق بها. فأصبحت واحدة من المعوقات الدائمة لنهضته وتطوره وخلاصه من ربقة القرارات الدولية المجحفة. كان القرار661 في آب عام 1990 من القرارات الخطيرة التي كبلت الشعب العراقي ووضعته تحت الوصاية الدولية. فوضع العراق ضمن (الفصل السابع) من ميثاق الأمم المتحدة وهي سابقة دولية خطيرة لم تحدث منذ الحرب العالمية الثانية إلى بلد عضو ومؤسس لهيئة الأمم المتحدة؟ ومن الغريب أن قيادة النظام السابق المهووسة بالحروب القائمة على الخلافات الشخصية والمولعة بالدمار من كلّ نوع لم تكن تتحسب جيدا إلى عمق الكارثة التي حلت بالعراق من جراء تصرفاتها الرعناء وحمقها الذي لم يحصد نتائجه الوخيمة إلا أبناء الشعب العراقي على المدى الطويل.
فإلام يعود الجهل بالقوانين الدولية ونتائجها؟ أإلى الاستخفاف بها؟ أم إلى سؤ تقدير المستشارين للقيادة السياسية آنذاك؟ لاشكّ بان العامل الثاني هو المرجّح بطبيعة الحال ما لم يكن ثمة مستشارين سياسيين بالمرة. فلو القينا نظرة خاطفة إلى طبيعة المستشارين للقيادة السياسية السابقة آنذاك فإننا نجد مجموعة من (الجهلة) وأشباه الأميين من أمثال علي حسن المجيد وحسين كامل وغيرهم من الرهط (من نوع المرحوم الدكتور سعدون حمادي وطارق عزيز) الذين اعتادا تلقي الأوامر وليس تقديم استشارات أمينة ورصينة. فكانت كلّ حسنة الأخير – على سبيل المثال- أنه كان يجيد التحدث بالإنكليزية باعتباره مدرسا ثانويا سابقا لهذه المادة ومراسلا صحفيا لمجلة مصرية؟ أما دوره في تقديم صورة واضحة عما كان يجري وما سيترتب على تلك القرارات فقد كان تابعا دائما، ومنفذا للأوامر الصادرة وليس أكثر من ذلك.
وفي الواقع لم يكن ثمة مستشارين- بهذا المعنى الدقيق- للقيادة السياسية السابقة على الإطلاق. وبما إن القيادة السياسية قد حصرت في شخص واحد فقط فمن الطبيعي أن نكتشف مدى الخلل الذي أصاب العراق على النطاق الدولي وتكبيله بفرض الوصاية عليه في القرار661 الذي لما يزل العراق ينؤ بأثقاله ودون أن يكون للشعب العراقي أي ذنب في ذلك.
ربما سيجد المؤرخون السياسيون العراقيون وغير العراقيين على حدّ سواء لهذه المرحلة صعوبات جمة في تقدير وتقييم طريقة تفكير القيادة السياسية للنظام السابق، وبالوسائل المتاحة التي اعتمدتها لمواجهة المشكلات المختلفة على المستوى الدولي والداخلي، ومدى استيعابها للنتائج المترتبة على قراراتها السياسية الارتجالية غالبا؛ وخاصة تلك القرارات الصعبة المتعلقة بشنّ الحرب والتي تعدّ آخر ما يقوم به السياسي.
بيد أن الملاحظة الدائمة لسلوك تلك (القيادة) تقودنا إلى نتيجة مهمة: وهو أن القرار بشن الحرب هو المبيت دائما؛ إن لم يكن القرار الأول طبعا! وهذه واحدة من أبسط المفاهيم التي يدركها أي إنسان عاقل في ضرورة أن يكون قرار الحرب هو آخر ورقة بيد السياسي ولا يستعملها إلا عند الحاجة القصوى. فكيف يكون قرار الحرب هو الأول وهو المبيت عند من يتولى منصبا رفيعا في الدولة؟! كما سيجد المؤرخون القادمون في الوقت نفسه الصعوبات نفسها في تقييم أداء الحكومات العراقية التي أعقبت الاحتلال وعما إذا كانت تتخذ القرارات المناسبة لحلّ مشكلات الشعب العراقي المستعصية، وصوابية قراراتها المتعلقة بالعلاقات الخارجية وخاصة مع الولايات المتحدة.
إن العراق الذي يكافح يوميا للخروج من أزماته لا يحتاج إلى المواقف العربية المتشنجة ولا إلى الأحكام المسبقة بل إلى العمل الجاد من اجل أوضاع أفضل لبلد لم يستثمر إلا في جلب الكوارث على شعبه.







العلاقات الروسية الأميركية المتوترة:

زوبعة في فنجان أم حرب باردة جديدة؟


الاتفاقية التي عقدتها روسيا مع الولايات المتحدة قبل سنوات حول الحد من الصواريخ القصيرة والمتوسطة المدى والحاملة للرؤوس النووية، قامت روسيا بنقضها مؤخرا غير آسفة عليها. فأبلغ الدب الروسي ذلك صراحة إلى البيت الأبيض بعد سلسلة مفاوضات فاشلة قامت بها كوندوليزا رايس وروبرت غيتس مع الرئيس فلاديمير بوتن للحيلولة دون تفاقم الأوضاع بين روسيا والولايات المتحدة، حتى بات من الممكن بالنسبة للإعلام وجود مادة مثيرة تتعلق بعودة الحرب الباردة من جديد دون دراسة موضوعية لعموم الشروط التاريخية المتعلقة بهكذا توقّع خطير.
وعلى الرغم من إن تلك المحاولات الدبلوماسية لم تستطع الولايات المتحدة ثني روسيا عن قرارها بمعارضة نشر الدرع الصاروخي في أوربا الشرقية والذي يعدّ المجال الحيوي الدائم لروسيا في أوربا، فإن الجهود لما تزل تبذل لتخفيف وطأة القرار الأميركي بنشر صواريخ في شرق أوربا. فهل يعني ذلك قيام حرب باردة جديدة فعلا كما يروج لذلك الإعلام العربي المحموم بمرض العودة عالم العملاقين القطبين السابقين والحرب الباردة التي انهارت بانهيار جدار برلين؟ أم إن الأمر لايعدو أن يكون مجرد زوبعة في فنجان تريد روسيا من خلاله الحصول على مكاسب اقتصادية جديدة من الولايات المتحدة؛ وهو لا يكوّن برمته غير موقف تكتيكي محدود يشبه تلك المواقف المتعلقة برفض الحرب على العراق أو الوقوف إلى جانب إيران في قضية الملف النووي الساخنة.
ولا تعود هذه الحالة من العودة إلى التوترات الدولية شبه المفتعلة للموقف من الدرع الصاروخي لحماية أوربا من الصواريخ الإيرانية من طراز شهاب والقدر3000 كم، والمزمع نشره في جيكيا وبولندة فحسب؛ بل إلى حسابات إستراتيجية وجدت روسيا نفسها محاطة بالعدو الغربي والأميركي من جديد مما يهدد الأمن القومي الروسي، وعلى الأبواب الداخلية هذه المرة منذ سقوط الاتحاد السوفيتي السابق عام 1990.
ويرى بعض المعلقين على الشؤون الدولية ممن يرومون العمل على ازدياد حالة التوتر: ربما تكون هذه الخطوة بمثابة البداية للعودة إلى خيار الصفر الأميركي السابق، الذي وضع الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي أمام مهام جديدة من العلاقات الإستراتيجية، حيث تحاول كل دولة عظمى super power العمل على التصعيد الإستراتيجي نحو دائرة جديدة من الصراع في حرب سباق التسلح للتقدم خطوة جديدة من اجل كسب مواقع إستراتيجية على حساب الخصم، أو تحقيق انتصارات تكتيكية محدودة تفضي إلى فتح مغاليق تفصيلية في العلاقات المتوترة أيضا.
رفضت روسيا نشر الدرع الصاروخي ولو كان من على سطح القمر! على لسان الرئيس بوتن نفسه، في تذكير مبطن لحرب النجوم التي أشعلها الرئيس رونالد ريغان في بداية عقد الثمانينات من القرن الماضي، والتي كانت واحدة من الأسباب التي أودت بالإستراتيجية السوفيتية السابقة ونظرية التعايش السلمي الخروتشوفية، حيث بدأ دق المسامير في نعش الدولة السوفيتية.
روسيا بعد زيارة كوندوليزا رايس وروبرت غيتس الآن تحاول شقّ طريق لها في اتجاه التذكير بالمواقع الجيوستراتيجية السابقة للاتحاد السوفيتي، ولاستعادة مكانتها التقليدية المتآكلة كثيرا على الخارطة الدولية. هل تريد روسيا ذلك فعلا؟ وهل تتمكن من ذلك بعد خسارة أوربا الشرقية التي أنظمت معظم بلدانها إلى حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوربي؟
تؤكد ذلك بوضوح الطريقة التي تعامل بها الرئيس بوتن مع الأحداث الدولية الأخيرة وخاصة الملف النووي الإيراني والموقف الحازم المضاد لنشر الدرع الصاروخي الأوربي الذي تضطلع به الولايات المتحدة وحدها من اجل الحيلولة دون تطويق روسيا. وما شبه التحالف العسكري الروسي الصيني الجديد، وقيام مناورات عسكرية في هذا الاتجاه مؤخرا، والتوقيع على(اتفاقية شنغهاي) - على تواضعها - إلا محاولة تأتي في سياق كسر الطوق الأميركي عن روسيا والعودة الروسية إلى الموقع الدولي من جديد. لكن هيهات أن يحدث ذلك الأمر بهذه السهولة؛ بل إن روسيا تعرف جيدا بأنه أصبح من باب المستحيلات في العلاقات الدولية؛ لكنها رغم ذلك تحاول الاعتراض ؟!
وتحاول إيران من جهة أخرى، الدخول على الخط الساخن من أجل التخفيف من الضغوط الأميركية والدولية عليها من خلال التلويح بهذا الشكل أو ذاك إلى الرغبة في الإنظمام إلى معاهدة شنغهاي، أو التقرب من روسيا التي تعمل على بناء مفاعلها النووي في بوشهر. و كذلك تطوير العمل مع الصين في مجال تنسيق المواقف الدبلوماسية بإزاء الملف النووي الإيراني. لذلك نجد إن اللهجة الدبلوماسية الأميركية غالبا ما تتخذ طابعا أكثر هدوءا في الميل نحو الحل السلمي لقضية الملف النووي الإيراني، كلما شعرت بنوع من التقارب الدولي الجاد لرفض سياسية القطبية الأحادية التي تحاول الإبقاء عليها بأي ثمن في الوقت الحاضر، وإلى أقصى زمن ممكن.
وإذا كان من الصعب – كما يلوح في الأفق- قيام قطب واحد مواز للولايات المتحدة لانتفاء العوامل الأيديولوجية المقابلة وتغيّر الشروط التاريخية كالاتحاد الأوربي أو التحالف الصيني الروسي؛ فإن تدحرج الولايات المتحدة من مكانتها هو المعول عليه على أية حال. فما النتائج التي تترتب على ذلك؟
لا شكّ بان العامل الأساسي الذي سوف يودي بالعنجهية الأميركية وانتفاخ الذات الكبيرين يتعلق بالدرجة الأساس في نتائج الحرب على العراق، وما يمكن أن يحدث في حالة خروج القوات الأميركية على نحو غير منظّم كما حدث في فيتنام عام 1975 . وتحاول الولايات المتحدة كلّ جهدها لأبعاد هذا السيناريو عن الوقوع فعلا. لكن الأحداث تظهر يوميا ثمة هزيمة أميركية تاريخية تلوح في الأفق، وسيحصد نتائجها الديمقراطيون الذين يعدون نفوسهم للفوز بالبيت الأبيض بعد نهاية ولاية الرئيس بوش.
ويحاول كلا الطرفين المتنازعين على زعامة البيت الأبيض القادمة من الديمقراطيين والجمهوريين تلافي هذه الحال بأي ثمن من اجل الإبقاء على هيبة الولايات المتحدة قائمة دوليا كدولة أحادية قطبية. قد تختلف الوسائل في النظر إلى قضية الحرب على العراق او الملف النووي الإيراني باعتبارهما مركزا التدحرج للولايات المتحدة. لكن الهدف – كما يلوح في الأفق - يكمن في الإبقاء على الإستراتيجية الدولية لها قائمة لأطول مدة ممكنة. ومن هنا يفترض كثير من المحللين الإستراتيجيين لاحتمال قيام الولايات المتحدة وإسرائيل بتوجيه ضربة جوية وقائية إلى المواقع النووية الإيرانية وإلى مراكز الحرس الثوري الذي أصدرت قبل مدة قرارا باعتباره منظمة إرهابية. لكن هذه الضربة الافتراضية الصعبة إذا ما حدثت، والإدارة الأميركية الحالية مفعمة بروح المغامرات غير المحسوبة، سوف تشعل حريقا هائلا في منطقة الشرق الأوسط ولن تستطيع الولايات المتحدة القيام بها ما لم تضع حلفاءها من الخليجيين وشمال إيران في حالة حرب جديدة.
تجد روسيا الفرصة سانحة في الوقت الحاضر لإظهار مزيد من الدعم إلى إيران بعد أن كادت أن تثير أزمة دبلوماسية مع إيران قبل مدة وجيزة بسبب عدم سداد ديون إيران المتعلقة ببناء المفاعل النووي في بوشهر. لاشك بان الزيارة تتعلق بذلك الأمر كثيرا. فقد وجدت روسيا نفسها الخاسر الوحيد في الحروب التي تشنها الولايات المتحدة، وما أنموذج العراق ببعيد عن ذلك. ومن اجل إضفاء نوع من (الدراما) على الزيارة التي سيقوم بها الرئيس بوتن إلى إيران، فقد تناقلت وكالات الأنباء عملية الكشف عن مؤامرة لاغتيال الرئيس بوتن في طهران!! ويبقى السؤال: لصالح من إثارة هذه الفقاعات الإعلامية؟ أليست روسيا هي المستفيد الوحيد منها لإضفاء مزيد من الهالة (الكاريزما) على رئيسها ودوره المرتقب في الجانب الدولي؟
اما في الداخل الأميركي وفي دهاليز البنتاغون فإن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد محاولات روسية للتلويح بدور وهمي. وما الخلافات بين الديمقراطيين والرئيس بوش حول الطريقة في التعامل مع إيران أو إدارة الحرب في العراق إلا تكتيكات انتخابية بالدرجة الأساس، يراد منها إظهار الجمهوريين عاجزين عن تقديم حلول ناجعة لقضية الحرب في العراق خاصة. وهي على العموم في مجملها تدور حول طريقة إدارة الحرب والدبلوماسية في العراق، وليس على أسباب قيامها كما كان يطرح سابقا الديمقراطيون وخاصة زعيمتهم نانسي بيلوسي رئيس مجلس النواب والخصم العنيد للرئيس بوش شخصيا.
ويبدو أن قضية أسباب الحرب قد أصبحت بحكم الوضع التاريخي بالنسبة للساسة والمخططين الأميركيين عموما. وحان الوقت للخروج من هذا المأزق بأقل الخسائر الممكنة. يفسر هذا الأمر حض الرئيس بوش شخصيا على زيادة عديد القوات الأميركية في العراق لتحقيق نتائج أمنية على الأرض، وتحميل حكومة المالكي مجمل الإخفاقات في العملية السياسية كما ورد في تقرير بتريوس – كروكر الأخير المقدم إلى الكونغرس الأميركي.
وربما أحدثت التصريحات الأخيرة للجنرال ريكاردو شانسيز قائد القوات الأميركية في العراق للمدة يونيو 2003- يوليو 2004 ما يستوجب التوقف عندها؛ حينما عدّ الحرب على العراق خطأ إستراتيجيا بسبب غياب التصور الكامل عما يليها من صفحة، وأنها تسير بطريق مسدود وليس أمام الأميركان إلا تحمل مزيد من الخسائر إذا ما بقيت الأمور على حالها حتى نهاية ولاية الرئيس بوش عام 2008. إذ ليس ثمة إستراتيجية واضحة لهذه الحرب كما يصف شانسيز؛ وهي من أهم النقود التي قدمت لإدارة الحرب في العراق إلى الوقت الحاضر. وفي الوقت نفسه نصح شانسيز الذي أحيل إلى التقاعد من منصبه في الجيش الأميركي عام 2006 بإنقاص عديد القوات الأميركية في العراق حتى تتحول إلى قواتها للتدريب والدعم اللوجستي في محاولة أخيرة للتقليل من الخسائر الجسيمة التي تحل بهذه القوات والتهيؤ للقيام بضربة إلى إيران. كلّ تلك الأوضاع الساخنة وروسيا لا تحرّك ساكنا إزاءها على نحو يليق بها كدولة عملاقة وريثة للاتحاد السوفيتي. فعلام كلّ هذا الضجيج إذا؟
هكذا بدأت الرؤى إلى قضية تدحرج الولايات المتحدة من عليائها القطبي الأحادي من صناع الحرب الميدانيين الأميركيين أنفسهم وليس من المحللين والإستراتيجيين الروس. فهل يمكننا أن نكتشف ثمة كتابات قادمة في هذا المجال أكير من كتابات نعوم تشومسكي حول نهاية الإمبراطورية الأميركية؟ وما البديل عن نظام القطبية الأحادية غير العودة إلى عالم ما قبل الحرب العالمية الثانية في العلاقات الدولية المبنية على الأحلاف الثنائية والثلاثية والرباعية؟ يفسر هذه الظاهرة المستقبلية الركض المحموم لفرنسا نحو عقد حلف ثنائي مع روسيا يكون محاولة بداية لترويكا أوربية على النطاق العسكري أيضا. كما أن الحلف الروسي الصيني هو محاولة جديدة على الطريق نفسه، إذا ما دخلته الهند وباكستان كطرفين مناوئين وفي خطين متوازيين. بيد أن هذه الأحلاف لا ينقصها إلا العامل الأيديولوجي المستحيل لكي تظهر إلى العلن..
لا يحتمل عالم القرن الحادي والعشرين تلك الروح التي سادت العلاقات الدولية في القرن التاسع عشر مرة أخرى، وفي عصر تفجّر المعلوماتية المستمر، مثلما هو لا يحتمل دخوله في صراع إيديولوجي جديد أيضا. فهل سيلج العالم مرحلة الفوضى في العلاقات الدولية كما توقع ذلك المفكر البريطاني ارنولد توينبي؟ لاشكّ بأن تدحرج الولايات المتحدة من موقع القطبية الأحادية سيدخل العالم في مرحلة من الفوضى غير البناءة طبعا. وعندئذ لن تجد المحاولات الروسية الحالية غير زوبعة في فنجان مكسور.
تمثل عالم القرن الحادي والعشرين تلك الروح التي سادت العلاقات الدولية في القرن التاسع عشر مرة أخرى، وفي عصر تفجّر المعلوماتية المستمر، مثلما هو لا يحتمل دخوله في صراع إيديولوجي جديد أيضا. فهل سيلج العالم مرحلة الفوضى في العلاقات الدولية كما توقع ذلك المفكر البريطاني ارنولد توينبي؟ لاشكّ بأن تدحرج الولايات المتحدة من موقع القطبية الأحادية سيدخل العالم في مرحلة من الفوضى غير البناءة طبعا. وعندئذ لن تجد المحاولات الروسية الحالية غير زوبعة في فنجان مكسور.























محاولات عسكرة الاقتصاد العالمي

حرب اقتصادية عالمية على الأبواب؟
بعد تجاوز سعر برميل النفط (خام برنت) حاجز المائة دولار، يبدو العالم الاقتصادي على حافة حرب جديدة تكون ضحيتها بالدرجة الأساس الشعوب والدول غير المنتجة للنفط ، وكذلك غير المنتجة للسلع أيضا. لأن ارتفاع أسعار النفط يعود بالفائدة على الدول المنتجة له حيث تزداد مدخولاتها على نحو متسارع، مما يكسب اقتصادها نوعا من الحراك الداخلي الاقتصادي لحل العديد من المشكلات التي تواجهها ويزيد من نسبة التضخم لديها أيضا، ثم ينعش الفوائض المالية لديها. أما الدول المنتجة للنفط والتي تعاني من مشكلات أمنية وصراعات سياسية كالعراق مثلا، فإن ارتفاع أسعار النفط سوف يزيد من حدة الصراعات على السلطة فيها، وربما التقاتل على تقاسم الثروات في وقت قريب أيضا.
أما على المستوى الإقليمي فإن صراعات كثيرة حول مصادر المياه سوف تنشب هنا وهناك وخاصة في بلدان الشرق الأوسط وبين الدول التي تشكل حوضي دجلة والفرات كمنطقة ساخنة وجاهزة للانفجار. فحروب هذا القرن ذات طابع مواردي بالدرجة الأساس كما اعبر عن ذلك العديد من المهتمين بمستقبل العالم الاقتصادي. وتحاول الدول الصناعية السبع أو ألثمان بعد دخول روسيا رسم خارطة اقتصادية جديدة على الرغم من القشرة الخارجية للعديد من الخلافات الدبلوماسية أو السياسية بينها حول هذه القضية أو تلك في العالم. ويشمل في الواقع سلسلة من الاتفاقات الدولية التي تعلن قيام كتل اقتصادية كبرى في وقت يتم تجزئة المصالح لدى الدول غير الخاضعة لتلك التكتلات على نحو متسارع وبما يعرف بالتقسيم ألمصلحي الناعم .
فالولايات المتحدة على سبيل المثال تعمل ومن خلال وجودها العسكري على جعل منطقة الشرق الأوسط منطقة نفوذ اقتصادي كبرى لها. كما إن الصين تحاول في الوقت نفسه توسيع نفوذها في وسط وجنوب أفريقيا. وهاهي فرنسا تجهد نفسها في انتزاع حيز دولي لها وفي محاولة استعادة نفوذها القديم في شمال أفريقيا. ولعل الزيارات المتواصلة للرئيس اليميني نيكولا ساركوزي إلى هذه المنطقة وتوطيد العلاقات الأميركية الفرنسية دليلا على جدوى هذه التحركات على المستوى الدولي. كما إن روسيا التي تحاول استعادة مجدها السوفيتي السابق من خلال العمل على وضع اليد من جديد على جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابقة. ولعل الاتهام الأخير لها من قبل الرئيس الجورجي ميخائيل سكاشفيلي بالتدخل في شؤونها الداخلية وإعلان حالة الطوارئ في جورجيا خير دليل على ذلك. أما بريطانيا العجوز فلا يبدو ثمة مكان لها في خضم هذا النزاع الدولي المتواصل ولذلك فقد ارتضت لنفسها أن تعيش على الفتات الأميركي.
وكانت قمة أيبك المنعقدة في النصف الأول من عام 2007 قد أظهرت أكبر تجمع اقتصادي مكون من (21 ( دولة صناعية كبيرة وتشكيل قوة اقتصادية كبرى على هيئة تكتل واسع يمتدّ من سواحل الصين واليابان إلى تشيلي مرورا بالولايات المتحدة الأميركية،. فأين هو العالم العربي والإسلامي من هكذا تكتلات؟ وما الذي يمكن ان يفعله في ظل حركة متسارعة للدول الكبرى لمدّ نفوذها؟ وهكذا فإن هذا العالم المجزأ والحافل بمشكلات إرهابية مستشرية لا يعدو أن يكون مجرد ممر أو جسر تجاري لصناعات هذه الدول، وهو في أفضل حدوده عبارة عن مخزن للطاقة.
ومن هنا فإن الولايات المتحدة تحاول فرض أنموذجها العولمي على العالم . على الرغم من ان ظاهرة العولمة عموما هي حالة عالمية طبيعية ناتجة عن عصر الاتصالات وانتشار تداول المعلومات وحرية انتقال رأس المال في العالم. لكن الولايات المتحدة وللحفاظ على نفوذها ومصالحها تحاول فرض هيمنتها هنا وهناك في العالم، وقد تجازف في الوقت نفسه إلى شنّ حروب ساخنة من اجل الحفاظ على مصالحها ونفوذها في العالم وخاصة منطقة الشرق الأوسط التي تعدها مجالا حيويا لها.
فأنفقت الولايات المتحدة المليارات من الدولارات على عسكرتها العولمية بعد نهاية الحرب الباردة، فكلفة الوجود الأميركي في الخليج العربي – على سبيل المثال – على وفق إحصائيات مركز المعلومات الإستراتيجية العالمية Center for strategic إن الولايات المتحدة أنفقت عام 1991 وهو عام حرب الخليج الثانية أكثر من 346 مليون دولار على قواتها العاملة في تلك المنطقة الساخنة في العالم, ثم وصلت إلى(2) بليون دولار في عام1998, وكانت نسبة صيانة الأسلحة والمعدات فيه تبلغ 60% أي بمعدل يفوق كلفة إنتاجها.
وعملت السعودية والكويت ودول خليجية أخر على سدّ النفقات الأميركية من خزينة الدولة ومن ما يعرف بصناديق الأجيال. كما إن التقديرات الأولية تشير إلى إن الولايات المتحدة قد يصل مقدار ما أنفقته على الحرب في العراق وأفغانستان من -300 400 مليار دولار: هذه الأرقام الفلكية لم يشهد لها التاريخ مثيلا، وهي تتناسب وطبيعة عولمة المستقبل.
من هنا فان العولمة الاقتصادية تستخدم جميع الوسائل في فرض هيمنتها على المناطق التي تشهد قلقا عسكريا دائما من خلال عسكرة العولمة نفسها، فان التلاحم بين العسكر و رأس المال ليس ظاهرة جديدة, فالعولمة بدأت بالتداخل مع العديد من ميادين الحياة وشؤونها, فبدأت بالإعلام ثم الاقتصاد ثم محاولة وضع برامج (اجتماعية عولمية) في طور التكوين تخدم مصالح الاقتصاد المتعولم، وانتهت بالعسكرة مؤخراً إذ تستند عسكرة العولمة على قواعد ثلاث على وفق رؤية شريحة كبيرة من الباحثين:

1- استخدام الجيوش العائدة لمختلف الدول لتطبيق عقيدة عسكرية واحدة تعتمد الولاء للمركز الرأسمالي والشركات الصناعية الحربية الكبرى المتحكمة فيه والانضواء تحت قيادة مركزية موحدة تكون الولايات المتحدة الأميركية غالباً عصبها الوحيد.
2- قيام استعدادات قتالية وتجهيزات لتنفيذ سياسات قسرية وصولا إلى فرض ما يعرف بدبلوماسية استعمال القوة أو التهديد بها كالنموذج الليبي الذي تخلى طوعا عن أسلحة الدمار الشامل لديه، أو حالة إيران حيث تقبع البوارج الحربية وحاملات الطائرات أمام سواحلها من اجل ردعها أو استخدام القوة فعليا ضدها إذا لزم الأمر. وعرف المبدأ ب Reaching Globally Reaching power fully " أي الوصول إلى أنحاء العالم بقوات متفوقة.
3- يلاحظ من خلال النظر في قواعد العقيدة الأميركية الجديدة ضرورة التركيز على المركزية, وأهمية سرعة الانتقال إلى الأهداف خارج الولايات المتحدة الأميركية, مما يؤكد استمرار إستراتيجية الولايات المتحدة الأميركية في الهيمنة على العالم, وهي لا تكف عن إقامة نوع من الاصطفاف الدولي معها

ومن المناسب أن نذكر إن الهيمنة الأميركية تطال الدول المتحالفة معها عسكريا, لأنها تفرض عليها عقيدة عسكرية واحدة بدلا عن عقائدها العسكرية المحلية "القديمة" وهي تعتمد مبدأ استثمار التكنولوجيا العسكرية كقوة ساحقة, ومحاولة تدمير "العدو" دون التماس به, أو قبل حدوث أي تماس مباشر معه أولا. وهذا ما أفصحت عنه عمليات احتلال العراق. وكان التطبيق العملي للعقيدة العسكرية الأمريكية قد تفعل على نحو واضح بعد عودة الجمهوريين إلى البيت الأبيض بوقت قصير’, تحقيقاً للهدف الأميركية النهائي في وضع العالم تحت سيطرته الشاملة والتحكم في مفاصله الاقتصادية الأساسية
وبعد وقت قصير من انتخاب الرئيس جورج دبليو بوش عام 2000 طلب من وزير دفاعه السابق دونالد رامسفيلد أن "يتحدى" الوضع القائم في البنتاغون، وان يعمل على تفعيل ستراتيجية حربية للقرن الحادي والعشرين الذي افترض مفكرو الولايات المتحدة الرسميون بان يكون قرناً أميركيا بحتا. هكذا سوف تكون العقيدة العسكرية الأميركية عملياً على ركائز ثلاث- كما وضعها- رامسفيلد أيضا وهي : المركزية, السيطرة على العالم, التفوق الدائم.
لابد للتفوق أن يكون مزيجاً من العلم والتكنولوجيا والموارد الاقتصادية لتامين حاجة القوات المسلحة الأميركية. وكانت خطة الرئيس بوش تقتضي على العموم جعل سيطرة الولايات المتحدة على العالم لأجل غير مسمى بقوله عام1999: " إن احد أهدافنا الرئيسة هي نقل النفوذ السلمي الأميركي عبر العالم وعبر الزمن " ولا يمكن تحقيق ما يعرف " بالنفوذ السلمي " ما لم يكن معززاً بقوة عسكرية هائلة. هذه النظرة هي وليدة التفكير النازي في وجه كم وجوهها وهي نتاج الشتراوسية الجديدة.
وأثبتت أحداث احتلال أفغانستان والعراق ذلك على نحو لا يقبل الشك؛ إذ لم تحدد الولايات المتحدة سقفاً زمنياً لانسحابها من العراق أو انسحاب دول التحالف من أفغانستان. إن تلك النظرة الجديدة في الهيمنة على العالم لم تكن وليدة وصول الرئيس جورج بوش إلى الحكم في ذيل القرن العشرين, بل في بداية العقد الأخير منه، وقبيل نشوب حرب الخليج الثانية أيضا، حينما تفردت الولايات المتحدة بالعالم بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.
لم يكن ارتباط العسكر بالشركات الاقتصادية الكبرى جديداً, لكن, الملاحظ في العقد الأخير من القرن العشرين بالذات ازدياد الارتباط على نحو وصل إلى التنسيق العام, فدك تشيني نائب الرئيس بوش و كوندليزا رايس مستشارة الأمن القومي الأميركي سابقا ووزيرة الخارجية وأعضاء آخرون في إدارته هم مستشارون أو أعضاء في شركات عسكرية ومدنية. وقد أظهرت أحدى المجلات المعنية بأغنى رجال العالم بأن (بيل غيتس) الأميركي زعيم (إمبراطورية مايكروسفت) هو أغنى رجل في العالم. هذه التوليفة الفوضوية في الاتجاهات تحتاج إلى نوع من التنسيق بينها يحافظ على اندفاعاتها وروح التنافس بينها أيضا. ويخشى على العموم في أن يتحول النظام الديمقراطي في الولايات المتحدة إلى تهديد منطلقاته الأساسية ووجوده في حالة تعمق العلاقات المصلحية والتخطيطية بين إدارات الشركات الكبرى والهيئات العسكرية. كما يخشى في الوقت نفسه على النخب السياسية صانعة القرار من ان تتحول عن السياسة العامة إلى السياسات الخاصة ذات النزعات الضيقة كلما توغلنا عميقا وبشكل متسارع في اتجاهات التوليف بين النخب السياسية والصناعية والمالية المختلفة. ومن ثم انعكاس تلك المخاوف على التقسيمات الإقليمية في العالم، وبخاصة تلك النخب السياسية الموالية تقليدياً إلى الغرب والولايات المتحدة باعتبارها دون التحديات القائمة حتى الوقت الحاضر، وما يمكن أن يطرأ على وجودها السياسي من تغييرات في حالة استمرار عمليات "التعولم" الاضطرارية.
ان النخب السياسية الأميركية هم من الأغنياء دائماً, ففي عام 1964 اظهر إحصاء السكان في الولايات المتحدة بان 29% فقط يديرون البلاد لصالحهم وهم من الأغنياء. ولكن بحلول عام 1992 كان 80% يرون بان البلاد تدار من قبل الأغنياء. وتتفق النخب الإدارية الغنية مع الطبقة العسكرية الأميركية في الولايات المتحدة والبلدان الرأسمالية الأخرى بنسب متفاوتة, إلا إنها تتداخل على نحو كبير في الولايات المتحدة بالذات.
وللنظر في تركيبة حكومة الرئيس بوش الحالية, فان كبار المسؤولين من أمثال كولن باول ودك تشيني وهم من العسكريين. كانت الحكمة الأساسية للأميركيين : " إن الولايات المتحدة لن تحميك عسكرياً مالم تسايرها اقتصادياً " ويبدو إن هذه القاعدة ستكون حاضرة في القرن الحادي والعشرين بعد محاولة الولايات المتحدة أن تكون "شرطي العالم " لكن إفلاس الشركات الأمريكية المتوالي وضع الإدارة الأمريكية والعسكر في قفص الاتهام أيضا.
فشركة الطاقة الأمريكية انرون Enron تساهم بنسبة 20% من الغاز والكهرباء والبنى التحتية في الولايات المتحدة وهي التي أدخلت الجمهور الأمريكي في جو عاصف من التساؤلات حول علاقة رجال السياسة بالشركات وعلاقة أولئك بصناعة التكنولوجيا العسكرية المتقدمة. والاتهام الرئيس الموجه في الفضيحة الكبرى هو للرئيس جورج دبليو بوش شخصياً الذي تربطه علاقة شخصية برئيس شركة انرون "كينت لي" حيث تبرع الأخير بمبلغ 50 مليون دولار إلى حملة الرئيس بوش الانتخابية, في حين بلغت خسائر انهيار الشركة حوالي 31 مليار دولار, وسببت بذلك خسائر فادحة للمستثمرين لعشرات الالآف من المواطنين الأمريكيين بعد تضليلهم في عملية طويلة الأمد وخداعهم بأرباح الشركة الآيلة للإفلاس. ومن المفيد في هذا المجال أيضا التذكير بالفضيحة المالية التي طالت واحدا من أهم رموز الصقور في الولايات المتحدة بول وولفويتز الذي ترك العسكر ليلتحق مديرا للبنك الدولي باعتباره من أهم مراكز القرار الاقتصادي في الولايات المتحدة والعالم حيث لم يتوان الأخير في خرق قواعد البنك من خلال منح صديقته رواتب لا تستحقها مما اضطره إلى الاستقالة.
إن إفلاس شركة انرون لا يعد حدثاً عابراً في سجل الولايات المتحدة الاقتصادي, بل هو يكشف عن الوجه الآخر لآليات النظام الأمريكي القائم على قوة الرأسمال وفوضى تحالفاته, ويوضح هشاشة ذلك النظام أكثر من أي وقت مضى. فدرس انرون يظهر مدى التداخل بين التكنولوجيا المتطورة باعتبارها من مرتكزات العقيدة العسكرية الأمريكية وقوة الاقتصاد
ولم تكن شركة انرون على اتصال بالرئيس بوش وحده, بل قامت بالاتصال بدك تشيني نائب الرئيس ووزيري المالية أونيل والتجارة إيفانس وكان سعر السهم في انرون قبل الإفلاس يتراوح 86-31 دولار في حين يصل سعر السهم بعد الإفلاس إلى "70 سنتاً" فقط. إن انهيار انرون لا يعكس طبيعة الفوضى الاقتصادية التي تنتاب الاقتصاد الأمريكي فحسب, بل تؤكد أيضاً عمق الفساد الإداري الناتج عن هذا النظام.
ولذلك فان ما عرف بالحرب على الإرهاب التي أعلنتها الإدارة الأمريكية على المنضمات الإرهابية كالقاعدة – التي تعد من صنيعتها إبان الحرب ضد السوفيت- هي في مضمونها محاولة لوضع حول خارجية لمواجهة فساد سياسي داخلي ومرض اقتصادي مزمن, عبد ان أستنفد النظام معظم خياراته الداخلية.
وطال إفلاس انرون شركات أخرى كشركة "ارثراندرسون " للخدمات المحاسبية لاتهامها بالتواطؤ مع انرون والتلاعب في البيانات وإتلاف عدد كبير من المستندات والوثائق الخاصة بالشركتين. كما اعنت مؤسسة " وورلد كومWorld Com وهي ثاني شركة اتصالات في العالم عن إفلاسها تحت وطأة فضيحة مالية تقدر ب 7,8 مليار دولار وجبل من الديون بلغ 41` مليار دولار. وطال مسلسل الفضائح شركة (زيروكس) العالمية باعتبارها اكبر منتج لتقنيات التصوير في العالم, والتي يعتمد عليها الجيش الأميركي في تصنيعه العسكري. وبلغ الاتهام أيضاً شركات أخرى مثل ميريل لينش المالية ومؤسسة (كلوبال كروسينج) وشركة (اديلفيا) للاتصالات (وكويست وكمونيكا شنز) وهي تعد ثاني اكبر شركة كابل في الولايات المتحدة.
وفي سؤال للمفكر الاقتصادي الدكتور سمير أمين حول علاقة عسكرة العولمة والمشكلات الكبرى التي يعاني منها الاقتصاد الأمريكي, أجاب: بان الولايات المتحدة تحاول فرض مشروع الشرق أوسطي, وهو مشروع أمريكي_ إسرائيلي مضمونه فرض الليبرالية بالمعنى الأمريكي على حكومات الشرق الأوسط, والعربية خاصة, ويرى سمير أمين : إن عسكرة العولمة تأتي بالقوة العسكرية والاحتلال مع طرح المشروع الشرق أوسطي الذي تحول في الإعلان الأمريكي الأخير إلى (مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي يمثل ستراتيجية جديدة للولايات المتحدة من حافات المحيط الأطلسي إلى بنغلاديش) ثم تم التراجع التكتيكي عنه إلى الشرق الأوسط الجديد. ولإسرائيل دور أساسي في عملية السلام Peace process في الشرق الأوسط وكذلك في أنابيب السلام Peace Pipe التي اشمل تبادل غاز ونفط الخليج العربي مع المياه التركية _ الإسرائيلية. كل تلك الخطط لا يمكن تنفيذها إلا من خلال تفكيك الوحدات السياسية في الشرق الأوسط" عمليات الفوضى البناءة". فهل تريد الولايات المتحدة التعويض عن الخسائر الاقتصادية والفضائح المالية بالتغطية على كلّ ذلك من خلال الحروب التي تشنها بين الفينة والأخرى؟
وبناءاً على تلك الأفكار التي تقودها الولايات المتحدة فان عسكرة العولمة في الشرق الأوسط هي محاولة لإدماج إسرائيل في المنطقة ومنحها وزناً إقليميا كبيرا. ومن الخطأ التفكير المسبق - كما حدد العالم الاقتصادي سمير أمين - بأن 95% من الشعب العراقي وشعوب الشرق الأوسط هي رافضة للنموذج الأمريكي, بل إن الأوضاع السياسية والاقتصادية الناتجة عن عمليات الحرب على الإرهاب هي التي ستحدد مواقف تلك الشعوب والحكومات, ومن الخطأ استباق الأحداث.



#رياض_الأسدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- انهض أيها القرمطي
- فتاح باشا
- حرب عالمية أقتصادية على الأبواب؟؟
- تعالوا إلى الطفولة العراقية في غينس
- العراق وتركيا : من الخاسر في النهاية؟
- الستراتيجية الاميركية بعد سبتمبر 2007
- بكالوريا
- بندورا بغداد
- جَردة الموت (آمرلية ) هذه المرة
- نظرية الفوضى البناءة
- اليانكي
- الدب الروسي ورقصة العرضه
- تبغدد.. إلى هيلاري: متى تحكمنا نساؤنا؟
- الغاء الآخر.. نظرة في التاريخ القديم
- تقريربيكر هاملتون:محاولة نظر ناقصة
- الحرب على العراق مقدمة لحرب عالمية ثالثة؟
- القدامة العربية بين الديمومة وظاهرة التقليعة الفكرية
- حديث إلى كريم مروة والظاهرة العراقية
- الحروب ككولاج غير قابل للصق
- روزا باركس.. لا مكان لها في حدوس نوستر أداموس


المزيد.....




- قائد الجيش الأمريكي في أوروبا: مناورات -الناتو- موجهة عمليا ...
- أوكرانيا منطقة منزوعة السلاح.. مستشار سابق في البنتاغون يتوق ...
- الولايات المتحدة تنفي إصابة أي سفن جراء هجوم الحوثيين في خلي ...
- موقع عبري: سجن عسكري إسرائيلي أرسل صورا للقبة الحديدية ومواق ...
- الرئاسة الفلسطينية تحمل الإدارة الأمريكية مسؤولية أي اقتحام ...
- السفير الروسي لدى واشنطن: وعود كييف بعدم استخدام صواريخ ATAC ...
- بعد جولة على الكورنيش.. ملك مصر السابق فؤاد الثاني يزور مقهى ...
- كوريا الشمالية: العقوبات الأمريكية تحولت إلى حبل المشنقة حول ...
- واشنطن تطالب إسرائيل بـ-إجابات- بشأن -المقابر الجماعية- في غ ...
- البيت الأبيض: يجب على الصين السماح ببيع تطبيق تيك توك


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - رياض الأسدي - لماذا ننشر كتبنا هنا؟