أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رياض الأسدي - بندورا بغداد















المزيد.....

بندورا بغداد


رياض الأسدي

الحوار المتمدن-العدد: 2016 - 2007 / 8 / 23 - 05:32
المحور: الادب والفن
    


صندوق (بندورا) أسطورة يونانية قديمة قلما يتداولها الناس الآن؛ تظهر بندورا صندوقا مليئا بالهدايا الجميلة للأطفال، كما يفعل بابا نويل في الميلاد من كل عام، كصندوق عجائب غربي؛ لكنها ما أن تفتحه حتى تنطلق منه جميع أنواع الشرور على الأرض، مما يوقع الأطفال برعب مفاجئ، فيتراكضون على غير هدى حيث تلحق بهم بندورا نافثة شرورها خلفهم وفي محاولة لئيمة لأصديادهم ومن ثمّ تحويلهم إلى لعب شريرة. هكذا تتحدث الحكاية، ولكل شعب صندوق عجائبه، ولكلّ أمة طرقها قي التعبير عن الشر والأشرار. أما نحن فإن في صندوق عجائبنا العراقي كل ما هو مختلف، ويمكن لنا أن نفتح الآن صندوق عجائب بغداد للجيل الجديد الذي يولد من رحم الخراب يوميا، كي يعرف ماذا فعل العراقيون الحداثيون الأول، وكيف كانوا يتعاملون مع الأشياء الجديدة التي تحدتهم بعد عصور من النوم العميق (التنابلي) امتدت أكثر من ثمانمائة عام. كانت بندورا موجودة آنذاك، ولكن بلباس مختلف.
من أعلى الصندوق: هنا إذاعة بغداد!
من يمكنه أن ينسى ذلك الصوت الفائق المعنى، الأليف والمتواصل لبلبل إذاعة بغداد، يغرد فجرا قبيل افتتاح محطة الإذاعة، بلبل افتتاح المحطة. الصوت المفعم بالجدة وظهور يوم مشرق. كان البغداديون يعرفون ذلك الصوت أكثر من غيرهم. الإذاعة الفائقة الحداثة، تلك المؤسسة الرائدة التي بدأت (بكبنك) صغير من غرفتين، وببث مباشر صعب، وبجهود عراقية بحتة، ثم انتهت واحدة من أفضل معالم الحداثة العراقية في وقت مبكر من الربع الأول من القرن العشرين. وشهدت وشاهدت أكبر الأحداث الكبرى في العراق حيث كانت المنطلق لها.
إذاعة بغداد من أقدم الإذاعات العربية في نشأتها، ورفدت الإنسان العراقي بأخبار الدنيا وأغاني حضيري، وسليمة مراد، وصديقة الملاية، ورشيد القندرجي، والقبانجي، وزكية جورج وغيرهم من رواد الغناء العراقي الأصيل. كان البغداديون يجتمعون حول (الراديونات) القديمة الكبيرة الحجم مثل صناديق عجائب تعزف بها شياطين لسماع أخبار العالم وما يدور فيه من مآسٍ وحروب، في وقت بقي آخرون من بلدان المنطقة غارقين في وحل التخلف والعمى والنوم التنابلي الطويل. ولم يعلن ذلك الراديو: استيقظوا أيها العراقيون ها قد جاءتكم بندورا الغربية بصندوق عجائبها، لماذا أنتم نائمون؟ تعالوا تعالوا أيها الصغار.. لكن العراقيين لم يألفوا إلا صندوق بغداد ليفتحوه.
هنا تلفزيون بغداد، يحييكم ويقدم لكم
صندوق عجائب آخر. لا احد يمكنه أن يتجاهل تلفزيون بغداد الذي اظهر الشياطين بصورهم هذه المرة، في تلك الحقبة الرائعة من حياة العراق وهو يحبو نحو عالم أكثر استيقاظا ومعرفة. تلفزيون بغداد من أقدم التلفزيونات في منطقة الشرق الأوسط ، كانت مشاهدته للعراقيين تعني واحدة من (المغانم العظيمة) لأهل الشمال والجنوب والوسط والغرب ممن يزورون العاصمة البادية الحسن المنعمة بالأمن والوادعة. كان الزائر لبغداد أول ما يتحدث عنه لأهله من مظاهر الحداثة العراقية فيها هو السيد التلفزيون، وما رآه ولمسه لمس اليد: ذلك الجهاز العجيب الذي يظهر الصور للناس والأشياء كأنك بالقرب منهم . سبحان الله. ماذا حدث للعالم حتى أصبح بهذه الغرابة؟ عمي شفت المغنين وأهل الجالغي، دم لحم، عبالك بالتياترو: أما هذا الأخير فقد كان أعجوبة أخرى يصعب الحديث عنها لكل شخص.
سيارة بطابقين عجيبين، كشيطانة بلون الطماطم
أما الحافلة الحمراء (أم قاطين) التي بقيت تعمل حتى وقت متأخر من عقد السبعينات، فقد كانت واحدة من معالم المدينة التي فقدتها رغم أنفها. كانت وحدها صندوق عجائب للزائر. ولا يحلو لزائري بغداد الجدد في الركوب إلا في الطابق الثاني من الحافلة الحمراء التي تجوب بك معظم معالم المدينة بعشرة فلوس. سياحة مجانية لمشاهدة معالم المدينة الخلابة إذ لا حواجز كونكريتية ولا أسوار حول المدن، ولا نقاط سيطرة، وليس ثمة من يتربص بك ليختطفك من هذا العالم قط. أما الكهرباء والماء فقد كانا أعجوبتين بغداديتين حقيقيتين؛ حتى ساد المثل البغدادي حول نعمة الحداثة : " ماؤك بالبوري، وشايك بالقوري، وخلّي عباءتك على رأسك ودوري! " وهو مثل قول تداولنه البغداديات كمعلم عن "الرفاهية" التي بلغتها المرأة البغدادية بعد وصول الماء إلى البيوت بدلا عن " السقة " القديم، وكذلك الوقوف يوميا أمام السيدة ( اللولة) وهي حنفية الماء الصافي القريبة من الحي. فأين البغداديات هذا اليوم من جداتهن حيث يشحّ الماء ولا كهرباء ولا راحة.
ومن يستطع ان ينسى شارع أبو نؤاس، ومحطة القطار العالمية وسينمات شارع الرشيد، وملاهي السنك، وشربت الحاج زبالة، وكعك السيد، ومقهى الزهاوي ومقهى الشابندر ومقهى البرازيلية ومقهى عرب، حيث كانت تقدم الثقافة والمعلومات والحكايات عن أحوال العالم والعراق والشاي السنكين أي الثقيل في طعمه. وأول ما يسأل الجالس الجديد في المقهى: تريد شايك سنكين لو خفيف؟
كم هي صافية الروح!
كأنما تلك المدينة العريضة تسحب الإنسان من روحه سحبا. تجد بغداد في كلّ ركن جديدة، هادئة، تنتظر القادم. لكنها لم تكن تتوقع ان يكون القادم بكل هذه الوحشية وبكل هذا الصلف. كان المتحف العراقي شاخصا على رؤى خاصة محببة وهو يعكس حضارات العراق جميعا. وهو القادم من الماضي. ولا غرو أنه الآن من أبرز مظاهر الخراب الروحي والثقافي للعراق. لذلك من اجل أن يدموا عين بغداد سرقوا متحفها، ودمروا المتحف البغدادي في ساحة الرصافي. وبقي الرصافي ينظر بعينين دامعتين لكل ما يجري دون أن يخرج يده من جيبه. وكانت بغداد ترى في زوارها رؤية الأم لأبنائها وتريد لهم أن يبقوا معها إلى الأبد. وحينما تودعهم وهم يذهبون على مدنهم تبكي، لذلك ليس غريبا أن تكون بغداد أماً لكل العراقيين مهما تلونت انتماءاتهم؛ احتضنتهم واعتنت بهم، وربما آن الأوان لرد الجميل إليها.
ومن مظاهر اعتناء بغداد بروادها وزائريها ومحبيها، أنها كانت مدينة يصعب نسيانها، حتى إن أم كلثوم التي زارت بغداد في منتصف الثلاثينات، وهي في ريعان شبابها من القرن الماضي، غنت في إحدى ملاهيها بقيت تذكرها بكل خير وبقيت بغداد تذكرها بحب وتتباهى بها. يصعب على من يزور بغداد أن ينساها ينسى لياليها الصيفية الرائقة والنوم على السطح المرشوش بماء العصر وهواؤها العليل الذي يمنح الروح دفقة حب. يمكن لأي زائر لبغداد أن يعرفها من مصور تاريخها في شارع الرشيد، فما الذي يمكن أن يصور الآن المصورون الجدد عن بغداد غير مظاهر الموت والتدمير فيها؟
كم كانت بغداد وادعة وأمينة وجميلة، ومفلولة الجدائل السود على الضفتين
كم الزمان قاس على المدن العريقة يحولها من حال إلى حال في لمح البصر أحيانا. يذكر التاريخ المعاصر ما حدث لدرسدن الألمانية تلك المدينة التراثية التي لم تكن تشكل أي خطر على الحلفاء وكيف دمرت بقسوة ورعونة غير مبررة..؟ وسيذكر التاريخ بغداد تلك المدينة الرائعة كيف استطاعت قوى الشر أن تحول قسما كبيرا منها إلى خرائب حقيقية. كم الأحداث قاسية ومريرة. أنتَ تعيش في بغداد كأنك تعيش العراق كله، والعمر كلّه. وإذا ما تاقت روحك للأحبة فالمرء يذهب لزيارة الكاظم أو الكيلاني مدججا بالحب، والرغبة في تناول كباب الكاظم الذي يضرب المثل في جودته، وكذلك لشراء قطعة ذهب من هناك هدية للبنت أو الزوجة أو الحبيبة، فليس ثمّ أنقى وقتذاك من ذهب الكاظم.
أما الجسر الحديد الذي ذبحوه أخيرا، جسر الصرافية العتيد، هو من أجمل معالم بغداد القديمة، وأكثر عجائبها طولا وعرضا، خاصة حينما أصبح (قطار الثورة) يسير عليه، فقد كان بمثابة تحفة فنية منذ أربعينات القرن الماضي. دعوني لحظة أقبّل الأيادي التي أعادت وتعيد الحياة إلى جسور بغداد. بغداد الجديدة بكل عنفوانها؛ لكن يبدو بعد ذلك أنْ ليس ثمة بغداد جديدة حتى الوقت الحاضر، وما منطقة بغداد الجديدة إلا مزحة ثقيلة في هذه الظروف الباهظة الغرابة، لأن بغداد القديمة والجديدة دمرتا معا، وتحولتا بكف بندورا إلى أكوام خربة يسكنها الأشباح والقتلة والسيارات الملغمة والحزم الناسفة. ترى أي روائي عراقي يمكنه أن يكتب عن بغداد الجديدة كما فعل نجيب محفوظ مع مدينته المحببة القاهرة؟ وأي روائي يمكنه أن يكتب عن بغداد بلا صندوق بندورا بعد الآن؟



#رياض_الأسدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- جَردة الموت (آمرلية ) هذه المرة
- نظرية الفوضى البناءة
- اليانكي
- الدب الروسي ورقصة العرضه
- تبغدد.. إلى هيلاري: متى تحكمنا نساؤنا؟
- الغاء الآخر.. نظرة في التاريخ القديم
- تقريربيكر هاملتون:محاولة نظر ناقصة
- الحرب على العراق مقدمة لحرب عالمية ثالثة؟
- القدامة العربية بين الديمومة وظاهرة التقليعة الفكرية
- حديث إلى كريم مروة والظاهرة العراقية
- الحروب ككولاج غير قابل للصق
- روزا باركس.. لا مكان لها في حدوس نوستر أداموس
- ماذا وراء إحياء اللغة اللاتينيةعالميا؟
- عمى أيديولوجي جديد
- علمني كيف اخدم بلادي..في السيرة العلمية والوطنية للعالم العر ...
- مهنة يصعب التقاعد عنها
- القوي والجبار.. كتاب مادلين اولبرايت الجديد
- قراءة في البيان الأول لثورة 14 تموز 1958 العراقية
- تحت خوذة منخوبة
- يوسف الصائغ من الشيوعية إلى الفاشية ..لماذا غير خطّ سيره؟


المزيد.....




- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- مصر.. الفنان بيومي فؤاد يدخل في نوبة بكاء ويوجه رسالة للفنان ...
- الذكاء الاصطناعي يعيد إحياء صورة فنان راحل شهير في أحد الأفل ...
- فعالية بمشاركة أوباما وكلينتون تجمع 25 مليون دولار لصالح حمل ...
- -سينما من أجل غزة- تنظم مزادا لجمع المساعدات الطبية للشعب ال ...
- مشهور سعودي يوضح سبب رفضه التصوير مع الفنانة ياسمين صبري.. م ...
- NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
- لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟
- فنان سعودي شهير يعلق على مشهد قديم له في مسلسل باللهجة المصر ...
- هاجس البقاء.. المؤسسة العلمية الإسرائيلية تئن من المقاطعة وا ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رياض الأسدي - بندورا بغداد