أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - رياض الأسدي - نظرية الفوضى البناءة















المزيد.....



نظرية الفوضى البناءة


رياض الأسدي

الحوار المتمدن-العدد: 1981 - 2007 / 7 / 19 - 08:10
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


مقدمة

بعد تعرض الولايات المتحدة إلى أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام2001 بدا أن العالم قد دخل في طور جديد من العلاقات الدولية العنيفة لم يشهد لها مثيلا منذ مؤتمر ويستفاليا الذي نظم العلاقات الدولية الأوربية الحديثة. فظهرت سلسلة من الطروحات "النظرية" التبسيطية لرسم سياسات معينة في العالم و منطقة الشرق الأوسط باعتبارها مصدر الإرهاب العالمي في بداية القرن الحادي والعشرين. ثم وجدت تلك الطروحات الأولية صدى إعلاميا واسعا حيث روج لها بشدة. وبغض النظر عن مدى جدية تلك الطروحات أو امتلاكها مقدارا من الصدقية العلمية والعملية على الساحة الدولية، إلا أنها تعكس بلا شك طريقة التفكير الأميركية في هذه المدة إزاء الأزمات الحادة التي تواجه الإدارة في عهد الرئيس جورج دبليو بوش. ومع هذه الصورة الشائكة، وكي لا تداهمنا المصطلحات الخاص بالسياسة الدولية على نحو مباغت، فربما علينا الاستعداد لمواجهة سلسلة من الطروحات لاستقبال، مفهوم الفوضى chaos كعامل بناء .. أو الدخول في دوائر الفوضى الجديدة داخل الإستراتيجية الأمريكية نفسها.
تستهلك الطبقة الوسطى في العالم الرأسمالي مقدارا كبيرا من الإعلام من اجل التضليل الدائم للشعوب، في عصر انتشار الاتصالات على نطاق واسع. ويظهر ذلك واضحا في تغيير سلوكها الاستهلاكي بعد كلّ مرحلة، حيث تحصد مئات الآلاف من الأرواح كما يحدث في العراق وأفغانستان. فالحديث في هذه المدة الصعبة عن "الفوضى البناءة" تسنده الولايات المتحدة إلى تجارب حديثة جدا في جورجيا وأوكرانيا والعراق، وربما لبنان على جانب اقرب إلى العمل الفوضوي القادم أكثر من أي مكان آخر بعد حرب تموز التدميرية الفوضوية عام 2006.
لكن هذا المفهوم ليس سياسيا بالمعنى الكامل، بل يستند إلى نظرية الفوضى العامة، أو ما يعرف علميا بنظرية الفوضى البناءة التي تم "بناء" العالم ومستقبله عليها من وجهة نظر رأسمالية. هذه النظرية التي اجتاحت العالم "إعلاميا" ليست محطّ نقاش وبحث بعيدين عن التخمين والنظر إلى المستقبل؛ لأن مسألة حدودها "العلمية" لما تزل مثار حوارات لكل من تبنى نظريات ما بعد الحداثة خاصة؛ لكن في الجانب الفلسفي والعملي أيضا، تضعنا الفوضى البناءة أمام قفزة مفاجئة فكرية على المجتمع المعاصر؛ بان نتتبع مساراتها التي تشبه إلى حد بعيد "صدمة الحضارة" في بدايات القرن العشرين.
في هذا الكتاب، سنحاول تتبع المسارات الرئيسة في صلب الأفكار الأميركية المعاصرة في ما يعرف ب "الفوضى البناءة" باعتبارها الملمح الرئيس للسياسة الأميركية الراهنة في الشرق الأوسط والعالم. فبرغم إن النظام الرأسمالي طوال حياته منذ عصر النهضة والثورة الصناعية في أواسط القرن الثامن عشر لم يفكر بجدية في إنتاج سلسلة من الأفكار النظرية تجاه العالم وتغييره وعلى مدى عدة قرون بعيدا عن الصناعة والإنتاج والتوسع في المستعمرات، فإنه لم يحاول – كما يدعي الآن - أن تكون له رسالة (ما) تجاه الايدولوجيا؛ إنها المرة الأولى "الجادة" التي يحاول فيها هذا النظام سلوك طريق الفكر والرسالة الإنسانيين من خلال طروحات الفوضى البناءة وعلى نحو هو أقرب إلى "العملية المصطنعة" في معالجة القضايا الإنسانية عموما.
عمدت الولايات المتحدة بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وانهياره كأعظم قوة نووية وأيدلوجية مناوئة للرأسمالية عرفها التاريخ الحديث إلى تكوين فريق عمل فكري وإعلامي يتكون من صامويل هنتنغتون وفرانسيس فوكوياما Francis Fukuyama وبرنارد لويس وتوماس فريدمان وبوب وودورد وروبرت فيسك وغيرهم، وقد اشترك بعضهم على نحو "رسمي" مباشر لدراسة طبيعة التفكير الرأسمالي نحو العالم ومشكلاته ومستجداته؛ فهل هذه الطروحات ترقى إلى مستوى النظرية الشاملة التي تعتمد تفسير التاريخ والطبيعة والمصير الإنساني، كما هو عليه الحال في الماركسية والأيديولوجيات الدينية والقومية الشمولية؟ أم أنها مجرد طروحات مؤقتة تعمل في إطار النظام الرأسمالي فحسب لتعبئة آلته الإعلامية الجبارة؟
نحاول الإجابة عن هذه التساؤلات من خلال رصد البنى الفكرية لنظرية الفوضى البناءة، وربط ذلك بالأحداث السياسية اليومية التي بدأت تشغل العالم على نطاق واسع، فضلا عن إشغال الإنسان الأميركي والغربي أيضا. فالغرب في هذا المجال يحاول أن يسدّ (الفراغ الإيديولوجي) الذي تركه انهيار الاتحاد السوفيتي كقوة فكرية عالمية حملت أيديولوجيا ذات رسالة أممية واضحة. ولذلك عمد المفكرون الغربيون خاصة - وبدعم حكومي خاص- على ترسّم خطى المستقبل الذي حاولت الماركسية قبل مائة عام الإجابة عنه من خلال وضع إطار نظري لمصير العالم والإنسانية ومحاولة غير مستعدة تماما لحل التناقضات فيهما.
وكان للدراسات المستقبلية حضورا كبيرا في العقد الأخير من القرن العشرين فقد درج بعض الكتاب - بعجالة - على استعمال مصطلح futurology كرديف لمفهوم الفوضى الآنية واتجاهاتها، فمنهم من استخدم تعبير (علم المستقبليات) في محاولة متسرعة لحصر طبيعة الفوضى التي نجتاح العالم الحالي. ولذلك فإن هذه الدراسة تندرج تحت هذا المفهوم لاستشراف أوضاع العالم العربي والشرق الأوسط مستقبلا إلى حدّ ما. فالفوضى البناءة - على ما يبدو في هذه المدة – هي فكرة مستقبلية بالدرجة الأساس قد حصرت ميدان عملها في منطقة الشرق الأوسط حيث بدأت طروحات الشرق الأوسط الكبير والشرق الأوسط الجديد. وهذه الأطر النظرية ما هي في مضمونها النهائي إلا محاولات لترسم خطى مستقبل المنطقة. فيعرف معجم "ميريام ويبستر" مصطلح المستقبليات على أنها: "دراسة تبحث في الاحتمالات المستقبلية بالدرجة الأولى على أساس الاتجاهات trends الجارية" بيد أن من الصعب تقدير طبيعة الاتجاهات في منطقة الشرق الأوسط في ظل سلسلة من المفاجآت الدائمة.
من هنا فإن هذه الدراسة تقع في هذا الإطار كمحاولة أخرى للنظر إلى المستقبل العربي خاصة من زاوية مختلفة من اجل التوصل إلى حقائق جديدة. أما معجم أكسفورد الموجز فيعرف المصطلح على أنه "التكهن الممنهج للمستقبل وخاصة من منطلق الاتجاهات الحالية في المجتمع" وتعود هذه الدراسة إلى واحدة من أكثر الصعوبات تعقيدا حينما تصبح المنهجية مبنية على معلومات أولية غير دقيقة. وقد حاولنا على العموم أن نحدد طبيعة تلك التوجهات مستقبلا في العالم العربي حيث تقع الطروحات الخاصة بالفوضى البناءة كطريقة لمنهجة الفكر المستقبلي وفي محاولات اجتهادية بحتة.
ومع التطور المتسارع للعلوم والتكنولوجيا والمتغيرات المتلاحقة في المجتمعات الأكثر تطورا, وتضارب النظريات الاجتماعية والاقتصادية المختلفة، باتت الحاجة لمحاولة التكهن بمستقبل النمو تزداد على نحو متسارع في ظل عصر من الاتصالات المتسارعة، وبمحاولة توقع تلك التطورات مستقبلا على أساس دراسة اتجاهات النمو الجارية. وهكذا فإن حشدا كبيرا من المعلومات الجارية يمكن أن تساعدنا على تفهم طبيعة نظرية الفوضى البناءة وتوجهاتها المستقبلية.
أعتمد الكاتب إلى جانب البحوث الأكاديمية الصرفة على معلومات إخبارية وصحفية يومية وسمعبصرية من اجل محاولة متواضعة وضع إطار مستقبلي كما هو عليه الدراسات الحديثة في الغرب, وبما توافر له من إمكانات، في ظل أوضاع غير طبيعية يعيشها العراق ومنطقة الشرق الأوسط حاليا.















جوانب من الخلفية الفكرية للفوضى























تذكرنا دراسة المؤرخ غوبونGibbon حول سقوط الإمبراطورية الرومانية، وسقوط الإمبراطورية الرومانية المقدسة, بالفوضى التي تعقب انهيار الكيانات الكبرى، وما رافق ذلك من بحث في الأسباب والنتائج المحيرة في النطاق الأوربي خاصة، لمعرفة أهم عوامل الانهيارات الشاملة ودورها في تطور الفكر الإنساني. كما ينبّهنا "المشروع الفكري" الذي قدمه المفكر الألماني أزولد شبنغلر حول "سقوط الحضارة الغربية" بفكرة الانهيار من وجهة نظر مغايرة تحتاج إلى مراجعة دائمة للوقوف على طبيعة التفكير الغربي تجاه الفوضى عموما؛ وبتلك الأعمال المهمة التي ناقشت جدياً طبيعة الفوضى الموضوعية للدول وأنظمة الحكم، وأثرها على الفوضى الفكرية والروحية للإنسان. كانت معظم الدراسات الأوربية المهمة تبحث في التغييرات المفاجئة للأفراد والجماعات في مراحل مختلفة وفي خضم تلك التغييرات العاصفة على حدّ سواء، ثم تحولت لتشمل عموم البشرية على الأرض في وقت لاحق، أيضا، مما اكسبها صفة الشمولية الشرقية في الوقت نفسه، ومحاولة البحث عن الخلاص الإنساني دون أن تقدم بديلا معقولا لعموم تلك الطروحات الجادة.
وكان الفيلسوف الألماني هيغل Friedrich Hegel قد أشار غير مرة إلى طبيعة الفوضى التي تضرب العالم من خلال حركة الديالكتيك اللولبية والانكسارية التي دأب من خلالها على تفسير طبيعة الحركة للعالم والأشياء، مما احدث هزّة عنيفة لما تنطقيء أوارها بعد؛ لكن تلامذته ممن عرف بالهيغليين اليساريين هم الذين طوروا فكرة الفوضى إلى بناءة أو خلاقة بعد ذلك. كانت أفكار الفوضى قد استمرأت العقل الأوربي طويلا على نحو ملفت للنظر. ففضلا عن كتابات المستشرق أرنولد توينبي، وهو المطلع الكبير على أعظم وثائق العالم في مكتبة المتحف البريطاني، فإن عددا لا يستهان به من المفكرين المحدثين قد ساروا على المنهج نفسه تقريبا في البحث عن ظواهر الفوضى وبطرق مختلفة. لكن توينبي الذي بدأ عمله في البحث عن الحضارات القديمة، وُفر له مناخ مناسب لوضع الحضارة العربية في موضعها الذي صدم الفكر الإنساني. وكذلك وقوف توينبي المستمر إلى جانب القضايا العربية وما يتعلق بالقضية الفلسطينية، حيث أثارت مواقفه أنفة الذكر سجالا غربيا طويلا لما تزل أواره قائمة إلى الوقت الحاضر في الفكر والثقافة. وكذلك الحال في "نبؤته" المهمة في سيادة الفوضى في العالم مستقبلا التي أتت أكلها في الوقت الحاضر. لكنّ الفكر الغربي بقي يصدر التساؤلات تلو الأخرى في موجات تصدم الفكر الإنساني على نحو دائم، ويبدو أنه لن يكف عن ذلك منذ حقبة طويلة بسبب تكون العقل الغربي الحديث التواق في البحث عن العلل الأساسية للظواهر وهو يضرب صفحا غالبا عن العلة الأولى للأشياء.
تبع هذا الرهط المحموم بمصير الحضارات والفوضى التي تجتاحها، والتهديد بالسقوط المدوي للإنسان بعد كلّ مرحلة تاريخية حافلة، المفكر والأديب البريطاني كولن ولسون في كتابه المهم (سقوط الحضارة) حيث كانت له زاوية أخرى جديدة في دراسات مختلفة عن الإنسان ومصيره الكوني والسقوط الحضاري في تتبع مثمر للأدب الغربي وبحث دؤوب في قوى الإنسان الروحية والفوضى العارمة التي تكتنفه؛ إذ ليس هناك ما هو أكثر غموضا وعدم دقّة من مفهوم (الفوضى) في التاريخ الإنساني وتقصي وظاهرها الفكرية والموضوعية. ومن هنا فإننا سنبقى كشرقيين – كما يبدو- متلقين للعديد من الرؤى إزاءها بعد كلّ مرحلة تاريخية كاملة. وعلى الرغم من أن تلك النظريات قد وضعت الإنسان عموما أمام سلسلة من التساؤلات الجديدة حول وجوده و مصيره في ظل عالم مليء بالفوضى والعنف والتوحش إلا أنها استطاعت أن تجد لها صدى في عموم أنحاء العالم على مستوى الفكر لأنها تجاوزت الإجابات الجاهزة التي دأب عليها الفكر الشرقي قديما وحديثا، وما ترتب على ذلك من الوقوع في أسر التحنيط في المقولات المعلبة عن مختلف الميادين التي أعتاد الشرق ارتيادها والتعويل عليها كثيرا في منظوماته الفكرية المختلفة.
كانت معظم الثورات الكبرى – كحالات فوضوية متقدمة - توصف غالبا من أعدائها بالفوضى أو الخروج على القوانين والشرائع، ولذلك فقد ألصق الحكام المنتصرون والمهزومون على حدّ سواء أشنع الصفات بالثورات التي وصفت بالفوضوية غالبا. ثمّ ارتبط أسم الثورة بالفوضى على نحو متلازم يصعب الفكاك عنه، حتى بات من الصعب الفصل بينهما طوال حقب كثيرة من التاريخ الإنساني؛ ويعود سبب ذلك إلى أن مؤرخي الدول والملوك كانوا يعكسون دائما وجهة نظر الحكومات، وأن من يكتب التاريخ هم موظفو البلاطات المرتبطين بعجلة الدولة؛ أما التاريخ السري للشعوب والثورات المستعرة فيه التي تطالب بالحرية فلما يكتب بعد – من وجهة نظرنا على الأقل - وخاصة في الشرق والشرق الإسلامي. وما يزال أمام الفكر الإنساني حقبة طويلة من البحث في عصر انفجار المعلومات المذهل.
إن الحكام على اختلاف أماكنهم الجغرافية ومشاربهم الحكمية وطرق توليهم للسلطات, كانوا يصفون كلّ من يخرج على أنظمتهم بالفوضوي، وقاطع الطريق، والخارج عن القانون، والشرير المتنطّع، والمطلوب حيا أو ميتا. ثمّ انسحبت تلك التهمة الفوضوية على الأنظمة الجمهورية الحديثة أيضا، حيث بدأوا يسوقون الثوار والمفكرين إلى المقاصل والسجون والمنافي. وشمل الداء الأنظمة الملكية الدستورية فأصبح كلّ من يخرج على الملك الدستوري أو الرئيس الحاكم الدستوري أو الحزب الحاكم، فوضويا، يحكم في محاكم خاصة فتنصب له المشانق أو فرق الإعدام بلا محاكمات. وكذلك كلّ من يخرج مطالبا بحقوقه الفردية أو العامة يعد فوضويا متمردا بنظرهم يستحق المحاكمة ونيل الجزاء وفقا للدستور النافذ الذي صيغ بطريقة تمنع التفكير بالتغيير إلا عن طريق الحاكمين أنفسهم.
هكذا، أصبح كلّ مخالف بالرأي فوضويا وان لم يقصد ذلك، وكلّ ذي وجهة نظر مغايرة يستحقّ السجن في الصحراء أو يوضع في سجون حجرية شديدة التحصين. ورغم ذلك فإن الفكر الغربي، والفكر السياسي بالذات، قد أستطاع أن يحل كثيرا من الإشكالات الإنسانية المتعلقة بتحديد رؤية الإنسان لحياته ومصيره عن طريق اختراع الأنظمة الديمقراطية وآلياتها. وما انتشار الأنظمة الديمقراطية في العالم بعد الحرب العالمية الثانية إلا دليلا واضحا على ذلك. لكن المشكلات المتعلقة بالفوضى الاجتماعية والاقتصادية وسؤ البيئة وانتشار العنف والتهديد بالحرب لما يزل قائما. بيد أننا في الوقت نفسه نشهد في بداية القرن الحادي والعشرين تراجعات خطيرة على مستوى الفكر الأميركي والأوربي تجاه رؤية الإنسان الأوربي والأميركي لطريقة العيش والتأمل، خصوصا بعد اندحار الاتحاد السوفيتي وتدهور الفكر الماركسي اللينيني على مستوى العالم باعتباره البديل الحي والممكن للفكر الرأسمالي وطريقة الحياة في ظل الاقتصاد الحرّ.
وما الفوضى البناءة في ظل هذا السياق إلا نظرية تقع في دائرة من "التسطيح" الفكري للتناقضات المركزية الكبرى التي تعتري الحياة الإنسانية و هي لا تتوافق وطريقة التفكير العميقة بالإنسان في الغرب إبان القرنين التاسع عشر والعشرين فكيف بتوغلها في مشكلات العالمين العربي والإسلامي. فهل أن هذه الظاهرة عابرة "تقليعية" وستندثر كما هي نزعة "الروك اند رول" و "الشوبيز" و"البوب" فالأفكار تقترب في العالم الرأسمالي بهذا المقدار او ذاك من (التقليعات الفنية) التي تصدرها شركات الاسطوانات. وهل سيعود الفكر الغربي إلى طرح رؤى جديدة أكثر اتزانا، أم أنها بداية الخواء الفكري في عصر الاتصالات الكبرى الذي يتطلب إعادة النظر في رؤى الإنسان للعالم ومشكلاته على نطاق أوسع؟
وللإجابة على تلك التساؤلات لا بد من الغوص عميقا من جديد في فكرة الفوضى الغربية على نحو دائم، لأنها تتخذ أشكالا مختلفة من الفكر بين حين وآخر. فالفكر السياسي لم يسمع بالفوضى البناءة - كمصطلح قابل للتداول - إلى وقت قريب. وكان علماء الفكر السياسي المعاصر قد حسبوا أن هذا المصطلح الفريد في صفته، والغريب في نحته، لن يعود إلى السطح السياسي للتداول المعرفي بعد موت "الفوضوية" الشائعة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر؛ كمذهب سياسي ظهر في حمى الحركات المتطرفة التي وجدت بان تغيير العالم يمكن من فوهة بندقية مثلما هو من مداد أقلام مستمرة أيضا. وللمذهب الفوضوي رواده وأتباعه ومعجبوه؛ فمن ذا الذي أيقظ تلك الأفكار الفوضوية القديمة من سباتها التاريخي؟ ومن بعث فيها الحياة ثانية لتتبوأ مكانا مهما في عالمي السياسة والفكر على أعتاب القرن الحادي والعشرين؟
قدم بومارشيه نصيحة ثمينة على لسان بطله فيغارو في رائعة شكسبير "حلاق أشبيلية" تتعلق بكيفية التخلص من "الآخرين" المناوئين بقوله: " إذا أردت ردع الآخرين عن التدخل في شؤونك، فما عليك إلا أن تجعلهم ينشغلون في شؤونهم الخاصة " لا شكّ بأن تلك النصيحة البسيطة والصعبة في آن، قد قدّمت على طاولة الآداب الأخلاقية أولا، لكنها كما يبدو وجدت منذئذ - من حيث لم يقصد الساسة الكوسموبوليتيون الجدد - طريقها بسهولة إلى ساحات العمل السياسي في العلاقات الدولية. فالانشغال بالشؤون الخاصة هي الستراتيجية الرئيسة للفوضى البناءة في هذه المرحلة من حياة العالم.
وكأن علم السياسة الرأسمالي في عالم ما بعد الحرب الباردة 1945-1991 قد نضبت جعبته، وخلت أدواته، فطفق يستعير من الأدب وسائل معينة لتسيير آلته الضخمة, وما يقوّي العمل في أزمته الحالية، ويعضّد من فراغاته الفكرية الكبيرة التي أصبحت مثل هوات واسعة يصعب ردمها في عصر متسارع نهم في التهام المعلومات. فيسهم الأدب من جديد في حمل عالم ما بعد الحرب الباردة على التفكير بحلول بعض المعضلات الدولية دون أن يكون لـه ثمة مخططات معينة مسبقة. ولكن يبقى السؤال قائما أيضا: كيف يمكن جعل (الآخرين) يدورون في حلقات مفرغة من المشكلات والأعباء والكوارث الدائمة حتى يمكن نسيان أعدائهم الحقيقيين، وهم يرونهم على شاشات التلفاز كلّ صباح عندما يفتحون نوافذ منازلهم شبه المحطمة حيث يجدون عجلاتهم ودباباتهم وهي تكسّر ما تبقى من أرصفة الشوارع المحطمة سلفا.
إن تلك هي مهمة المتذاكين الحسّابين والمناورين الباحثين عن كلّ مؤشر مفيد يمكن من خلاله إبقاء "الآخر" منشغلا عما يجري من حوله؛ وحدهم أولئك ممن يجلسون ليل نهار - الآن وفي أي وقت قادم تقريبا - وراء كومبيوتراتهم الخاصة لتحليل وجمع وتخزين وتبويب وترتيب أكبر ما يمكن من المعلومات الشعيرية الدقيقة عن أولئك "الآخرين" المزعجين لهم في العالم الذين لا يستحقون من الساسة الجدد غير تصميمات مسبقة ومحسوبة بعناية من أجل وضعهم في فوضى مبرمجة؛ لكنها فوضى بناءة من وجهة نظرهم يمكن من خلالها - فقط - الخروج من قمقم 11 سبتمبر المزعج الذي لم يحسب له حسابا دقيقا!
من الصعب أن نجد - في هذه المدّة بالذات - ثمة رؤية أميركية واضحة إزاء قضايا عالمية مهمة وساخنة تتحول إلى "بعبع" دائم على مستوى الإعلام العالمي. ولا تعدو تلك الأفكار الفوضوية السريعة والمعلّبة ـ غالبا ـ عن أن تكون مجرد (آراء) لأشخاص من تيار المحافظين الجدد(IASPS) الذين يعملون في الإدارة الأميركية حاليا, أو من أكاديميين مولعين بوضع نماذج مبسّطة تقترب من التسطيح الفكري غالبا لتفسير حركة العالم الرأسمالي الجديد ما بعد الحرب الباردة، وهم دأبون على الترويج لمنطلقات فكرية تتناسب وتوجّهات الساسة المحاربين في البيت الأبيض، وكبار أصحاب الشركات المهتمة بالتصنيع العسكري. ثم يتحول كلّ ما هو كائن إلى محض خطط على "دسكات سرّية" إلى أرض الواقع حيث تقوم الكارثة بعيدا عن دوائر المخططين لها غالبا.
يحاول الساسة المحافظون الجدد من صقور البيت الأبيض حاليا أن يستعيروا - على الأقل - بعض تراث الراديكاليين الميتين في أواخر القرن التاسع عشر، من أجل تغيير العالم من وجهة نظرهم وعلى طريقتهم وليس بفعل العوامل المصطرعة في داخله. لكن تغيير العالم أصعب بكثير من تهديمه كما هو معروف. ومن المفيد النظر إلى طبيعة التغييرات بعيدا عن محاولة صناعتها أو افتعالها بما يخدم أفكارا وأهدافا مسبقة.
إنه المأزق الفكري نفسه الذي أحاط النظام الرأسمالي منذ ظهوره في أعقاب الانقلاب الصناعي في أواسط القرن الثامن عشر. كما إنها المعضلة نفسها تقريبا في عصر التوجّه العولمي الذي ينتاب العالم المعاصر. وإذا كان الفوضويون من فلاسفة القرن التاسع عشر الراديكاليين الحالمين بالثورة الكبرى المفاجئة والدائمة حتى انهيار آخر معقل للرأسمالية في العالم؛ قد رأوا إن من الممكن أن يتحول العالم في ليلة واحدة شعواء من إضرابات العمال الكبرى من الرأسمالية إلى الاشتراكية، فإن مخططي السياسة الأميركية يأملون تحول العالم إلى صالحهم في مدة تاريخية وجيزة وقد يمكن تسريعها من خلال الأعمال العسكرية الاستباقية وغير المحسوبة جيدا وحدها أيضا.
كان الراديكاليون القدماء المتحمسون والعاملون على مستوى الاغتيالات الفردية يحلمون بتغيير العالم في هبّة واحدة صاخبة من الإضرابات العامة والتمردات الكبرى على مستوى العالم كلّه، وفي هيئة اعتصامات فوضوية عارمة وغير منظمة غالبا تجتاح أوربا الرأسمالية من أولها إلى آخرها – الأوْرَبة التي تحمل كلّ ما هو جديد منذ عصر النهضة وحتى يومنا هذا – فهل استعار الرأسماليون العسكر هذه الرؤية من خلال توقعهم التغيير السريع للعالم في مدة واحدة أيضا؟ إنهم الفوضويون المتقدمون بقوة هذه الأيام لكنهم يرتدون زيّ اليمين هذه المرة. ومن اجل الوضعية الطبقية العالمية وحدها هم يرون أن العالم محض أوربا ومحض الوليدة العاقة لها الولايات المتحدة: ومن اجل النظرة العولمية هو ما يزال كذلك (أوربة) المشكلات العالمية، وما زال المحافظون الجدد الأميركيين وبعض الغربيين يرون الرؤية نفسها على الرغم من تبادل المواقع بين اليمين واليسار.
كلّ ما حدث مجرد تحول في المواقع الجغرافية، وهو انتقال القطب المركزي من أوربا العجوز إلى الولايات المتحدة. لذلك فإن المحاولات الأوربية في استعادة الموقع القديم لن تهدأ، بدءا بالاتحاد الأوربي وانتهاء بدستوره الذي لم يتفق عليه ومرورا بالمعارضات الخجلة للسياسة الأميركية في الشرق الأوسط ميدان الفوضى البناءة. وربما هذا المرض "الأورَبَي" الأصل هو الذي حدا بكارل ماركس أن يقدم في أواخر عمره مبحثا مقتضبا عن طريقة الإنتاج الآسيوي في محاولة للخروج أخيرة من أسر الأوربة.
يرى عدد مهم من المفكرين اليساريين واليمينين على حدّ سواء: إن الانتقال من اقتصاد متخلف إلى اقتصاد متقدم يحتاج إلى "فوضى بناءة" تدمر المؤسسات والتقاليد البالية وتمهّد لقيام اقتصاد جديد مبني على أسس متقدمة في علاقات الإنتاج ووسائل الإنتاج معا. فقد جاء وقت اقتبست فيه تيارات وعقائد يسارية هذه "النصيحة" وآمنت بأن المجتمعات المتخلفة لن تنتقل إلى حال أفضل أكثر تقدماً اجتماعياً وسياسياً ما لم تنشب فيها فوضى عارمة تأتي على كل ما هو قديم وفاسد ومتعفن، ثم تفسح المجال لإقامة علاقات اجتماعية وسياسية متقدمة.
لم تكن "التجربة الماوية" في مضمونها تختلف كثيرا عن تلك المفاهيم الفوضوية التي تترسم الجدية الظاهرة، وإن اعتمدت على فلسفة جمعت بين الخصوصية الصينية القومية - حدّ الرجوع إلى الكونفوشيوسية - ومبادئ اليسار الأوروبي. كان ماو كفوضوي عتيد يعتقد – وكذلك لينين إلى حدّ ما - أن الاستقرار العام لمدة طويلة يجعل المجتمعات أكثر قابلية للتعفن؛ فالفساد والإهمال واللامبالاة والكسل والأوبئة وانحسار العلم وانهيار التعليم وانتشار التعصب الديني والطائفي والعرقي وعدد آخر لا يحصى من أمراض التخلف تنتعش وتتفاقم في عصور ركود المجتمعات واستسلام النخب فيها للأمر الواقع المستقر لأمد طويل. لذلك لا بدّ من إحداث خلخلة (ما) في تلك المجتمعات الساكنة من اجل تغيير العلاقات التقليدية السائدة فيها. ففكر الفوضى البناءة يتجاوز في مضمونه اليمين واليسار مادام الوضع يخدم القائمين بالعمل على إحداث عملية الفوضى، وما دامت الرغبة بالتغيير قائمة؛ ربما يكون شعار الجميع: تحرّك، ثم لنفكر بعد ذلك في ما يمكن عمله. ففي سنوات الاستقرار الراكد تطمئن النخب الحاكمة إلى هيمنتها وبقائها وتصفي خصومها وتتجمد فلا تتجدد وهي تقاوم كل تجديد. فتفسد ثم تتوسع في الإفساد حتى تنهار القيم وتضعف العزائم ويسود بين الناس اليأس والتشاؤم. ولذلك سمح ماو للحزب بأن يقود عملية "تثوير" المجتمع الصيني على طريقته، ثم لتستقر السلطة في أيدي الحزب الواحد أخيرا، فقاد واحدة من أكثر عمليات الفوضى في تاريخ الصين الشيوعية تمثلت في الثورة الثقافية عام 1966. وعندما هدأت ثورة الحزب المصطنعة، حيث تمكن منه النفعيون، وترهلت أطرافه في الريف الصيني الذي كان الحاضنة الرئيسة له، أشعل ماو الثورة ضد الحزب نفسه – هذه المرة- ومن خلال فوضاه الخاصة التي أريد لها أن تكون بناءة أيضا على الطراز الصيني سلسلة من الأعمال السريعة والمحمومة ذات الشعارات العنيفة على نطاق الدولة والمجتمع في محاولة لكسر اطر البيروقراطية الحكومية التي ضربت أطنابها بعد الثورة الماوية، فقد تولت البيروقراطية الصينية مسؤولية إدارة المجتمع بعد سنوات قليلة من قيام حرب التحرير، لكن الزعيم ماو لم يكن مرتاحا لذلك النصر الذي بات ساكنا من وجهة نظره؛ فاشتعلت "الثورة الثقافية" لتقضي على امتيازات طبقة جديدة من البيروقراطيين الجدد التي استبدت وطغت كما كان يفعل رجال الإدارة عبر مختلف عصور الإمبراطوريات الصينية. ثم ترك ماو الثورة الثقافية كحالة فوضوية متقدمة تأخذ مداها قبل أن يسلم السلطة في النهاية إلى العسكر، ومنهم مرة أخرى إلى الحزب الذي استمر يحكم ويهيمن على مفاصل الدولة والمجتمع.
لم تستطع الفوضى البناءة الصينية على أية حال أن تحقق أهدافها إذ لم تلبث أن سقطت الصين في براثن الاقتصاد الرأسمالي، وبما يعرف باشتراكية السوق التي ظهرت بأبهى صورها في إعلانات الرفاهية المطلقة في بكين وازدياد أعداد المليارديرات الصفر. وتعد الثورة الثقافية واحدة من أبرز مظاهر الفوضى التي أريد لها أن تكون بناءة للحزب والمجتمع والدولة على حدّ سواء. وربما جاءت من عصارة فكر رجل واحد في الصين – ماو- التي كان تعداد نفوسها آنذاك أكثر من ثلاثة أرباع المليار من البشر.
وهاهي الولايات المتحدة الأميركية تكاد أن تطرق باب المنهج نفسه من خلال مرحلة تاريخية جديدة دون أن تعتبر من الدروس السابقة. كانت الغاية التي تحتل المرتبة الأولى في الأهداف الإستراتيجية الأميركية الحالية هي الحفاظ على التفوق الأميركي والبقاء في سدة القطبية الأحادية لأطول مدة ممكنة تاريخيا من خلال إشاعة الفوضى في العالم ربما مثلما أراد الرئيس ماو لشيوعيته أن تتجدد من خلال فوضى الثورة الثقافية مع فارق المساحة والمكان ووحدة الهدف. ومن الصعب التكهن بموعد للنزول أو التدحرج السريعين من على سدة القطبية الأحادية؛ ولذلك تسعى الولايات المتحدة بأي ثمن، وبأية وسيلة إلى توفير الاستقرار والازدهار والأمن للمجتمع الأميركي أولاً ومن ثم للحلفاء من جهة أخرى، ثم إغراق الآخرين بالفوضى والتخلف والحروب الأهلية. فجاءت فكرة الفوضى البناءة هذه المرة من القطب الآخر عبر الأطلسي؛ أو ليس للولايات المتحدة قصب السبق في كلّ شيء منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية إلى يومنا هذا؟ إذن فإن مركزة الفكر تتبع القوى العسكرية، ولا حاجة بنا إلى التدقيق مليا في هذا الفرض ألقسري مادام الفكر قوة في ذاته فمن المنطقي أن يلحق بمصدر القوة الوحيد في العالم - الولايات المتحدة - وأي محاولة أخرى للحيلولة دون بقاء هذا القطب وحيدا هي طعن في ظهر الإمبراطورية.
تسعى الولايات المتحدة إلى تصدير الفوضى إلى البلدان في البداية ومن ثم تأتي بعد ذلك لتعمل على عملية بناء تصب دائما في مصالحها الستراتيجية. ليس ثمة بناء على أية حال يعقب ذلك. فالفوضى لا يمكنها أن تأتي بأية بناءات مفيدة. وما تفعل بعدها هي قوى أخرى بلا شك. لن أناقش هنا دور "المؤامرة" في تنفيذ الفوضى البناءة، ولا أقول بالثورة الدائمة، لأن الثورة قد تعزز ما لا يحب اليمين المحافظ الأمريكي أن يراه قائماً أو مستمراً في الشرق الأوسط. ونعرف أن ما حدث في المجر ورومانيا وجورجيا وأوكرانيا، وكاد يحدث في روسيا حين خرج عشرات أو مئات الألوف في مظاهرات ملونة كان بتخطيط وتمويل أمريكيين. وكان الهدف منه ليس إسقاط حكومات بعينها أو أنظمة حكم شيوعية، ولكن أيضاً تدمير مؤسسات وأفكار وقيادات استقرت طويلاً، ولن تكون ذات فائدة لأغراض الغرب، وبخاصة الولايات المتحدة. يمكننا أن نجد ذلك بوضوح تام بعد احتلال العراق أيضا حيث تمّ القضاء على جميع مظاهر الدولة ومؤسساتها والتراث الحي للشعب العراقي، وتسير الخطى حثيثا للقضاء على النسيج الاجتماعي في ظل فوضى عارمة.
هذه المعادلة دعت الولايات المتحدة إلى عدم التقيّد بآليات الأمم المتحدة حتى يكون تدخلها ألاستباقي مباحاً وأكثر ردعاً وسرعة وتطابقاً مع مصالحها القومية.
يقول الفيلسوف الروسي الكسندر ربانارين في مؤلفه " الإغواء بالعولمة " : أنه من المقرر استخدام توصيات "الدارونية" الاجتماعية الاقتصادية على النطاق العالمي. وهكذا عند العولمة المتوحشة التي تقودها قوى الرأسمال المالي الضارية لابد لها من سحق معظم القوى التي تقف أمامها وبلا هوادة من اجل وضع خارطة جديدة للمصالح الرأسمالية على مستوى العالم. هذا هو ما نتج عن الفراغ الستراتيجي اقتصاديا عن غياب الاتحاد السوفيتي كمعادل قطبي.
وعند الاستخدام الموسع لـ " صيغة مدرسة شيكاغو " المعنية بالتطورات الفكرية الرأسمالية خاصة، تظهر العالم مكانا للمؤسسات أو الفئات الاجتماعية المنفصلة غير القادرة على الاستمرار: شعوب غير قادرة على التكيف لا ينبغي منحها " قروض التنمية " كي لا تغرق كوكبنا الضيق بمادة بشرية سيئة النوعية. وشعوب شمالية قادرة على التكيف والاستمرار مع مستجدات العلم وهجمات الرأسمال المتوحش. وبذلك تغدو الدارونية الاجتماعية الاقتصادية " عنصرية عادية " ويمكن من خلالها ظهور نمط عنصري مقبول عالميا يذكرنا بالطروحات الميتة والهزيلة للنازية.
وإذا كان العالم بناءً على هذه النظرية مقسماً إلى أقلية قادرة على التكيف وأخرى لا تتمكن من ذلك، فإن الفئة الأولى هي التي تصبح مالكة لموارد الكوكب من غير منازع، إلى جانب أغلبية منبوذة غير قادرة على التكيف أقصيت عن عملية الخصخصة - بهدف التنمية والتطور – أفلا ينتظرنا بالتالي خيار عنف جديد قائم على الرؤى الطبقية؟ بعد أن اجتاح العالم خيار عنف ديني متطرف؟ لا شكّ بان خيار العنف الطبقي سوف يظهر قريبا على مستوى العالم ليفرز لنا ظاهرة أخرى ربما تكون أشد فتكا من التطرف الديني.
أما عصيان الأغلبية المنبوذة على نطاق كبير كما هي الأوضاع التي تنبئ عنها شعوب أميركا اللاتينية؛ وإما ديكتاتورية " القطب الواحد " العالمية التي تستعد لقمع هذا العصيان الكامن وتكون النتيجة التي نراها اليوم على أرض الواقع؛ القبول بنتائج الخصخصة والليبرالية الجديدة أو تحمل ديكتاتورية أميركا السياسية العالمية، وكلاهما النتيجة نفسها: الانهيار على مستوى العالم هذه المرة من اجل إحداث اكبر مقدار ممكن من الفوضى الشاملة فيه.
واصل الغرب الرأسمالي في بداية القرن الحادي العشرين سيره الحثيث متوحدا نحو المجهول في بحثه عن الفوضى الناضحة للمكاسب المادية، على الرغم من معدلات المعلومات المتعالية التي تجتاح العلم والفكر الإنسانيين يوميا. ولم يعد الغرب - كما يبدو- مهتما كثيرا بتلك العبارة الشهيرة المكتوبة على معبد دلفي في أثينا (أعرف نفسك) التي بقيت ماثلة عدة قرون قبل ميلاد المسيح. وهاهو يحصد بقوة تراجع النظرية الماركسية اللينينية التي زرعت في الاتحاد السوفيتي وروج لها من خلاله كخلاص نهائي للبشرية.
كان النزوع القديم في الغرب نحو تفسير انهيار الإمبراطوريات العظمى التي شغلت اكبر مساحة من الجغرافيا والتاريخ والسكان لما يزل قائما في العقل الغربي طوال القرن المنصرم. وقد شهد القرن العشرين في الفلسفة الوجودية التي أطلقها جان بول سارتر والرهط الذي سار خلفه سلسلة من التساؤلات المرة حول الانهيار الروحي ومصير الإنسان الفرد لتكتمل صورة الانهيار. بيد أن ثورة المعلومات في الربع الأخير من القرن العشرين حالت دون استمرار تلك الظاهرة بسبب هول المعلومات المتدفقة عن الإنسان من مختلف أنحاء العالم. لكنها وقفة تأملية وحسب ولسوف يعود الفكر الغربي إلى صلب أزمته بعد انجلاء عاصفة الثورة المعلوماتية العارمة التي أحدثت ما يكفي من الفوضى الفكرية.
من الصعب في عصر ثورة المعلومات التقدم ثانية بهذه النصيحة لمعرفة الذات والتأمل على أية حال في ظل هيجان كبير من الاتصالات الإنسانية العارمة. لكن على الرغم من ذلك الهوس المتواصل بما جنته البشرية من معلومات ثرة وعميقة في الربع الأخير من القرن العشرين إلا أنها مازالت تحتاج - وخاصة في الغرب - إلى مراجعة حثيثة للذات على نطاق واسع.
ينظر الإنسان الغربي إلى الأحداث الماضية بعين مختلفة وهو لا يحاول أن يلجأ إلى التفسيرات الماورائية عموما، كما هو عليه الحال في الفكر القدري للإنسان الشرقي الذي دأب على تفسير الأحداث من خلال قوى تحركها من خارج الطبيعة. لذلك فإن ظاهرة "الفوضى الاجتماعية" حيث الثورات والحروب والصدامات الكبرى المختلفة وضعت الإنسان الغربي على المحك الوجودي من جديد. كما أن فوضى الطبيعة حيث الزلازل والفيضانات والعواصف والحرائق الكبرى هي مصدر بحث لمعرفة الأسباب الكامنة وراءها، مثلما هي الفوضى الصناعية الناتجة عن اتساع دائرة الأوزون والاحتباس الحراري وانهيار الكتل الجليدية الكبرى.
وعلى الرغم من أن البشرية في الغرب الصناعي لما تزل عاجزة عن المواجهة فإن قوى جديدة من اليسار الجديد ومعارضي التلوث وقوى السلام الإنساني يمكن أن يتسع نطاقها أكثر من تلك المعارضات الدائمة للعولمة الرأسمالية. بيد أن الشرق مازال بعيدا عن المعركة التي يمكن أن تشتعل في أية لحظة لاتينيا بعد أية حرب نووية محدودة النطاق أو خطأ تشيرنوبلي أوسع نطاقا أيضا.
تلك المفارقة الرؤية التي توجس الخطر القادم جعلت من الشرق متلقيا دائما في حقب ما بعد النهضة الأوربية، وحتى إلى ما بعد الإعلان الأميركي العالمي عن عمليات الحرب على الإرهاب بعد أحداث 11 سبتمبر عام في أفغانستان عام 2001. يبدو أن الفكر الغربي قد تمكن من صرع الفكر الشرقي هذه المرة أيضا، في نزال مفتوح أكثر من أي وقت مضى. فالإنسان الغربي يعد مفكرا بالحياة والتاريخ في أسبابه ومسبباته أكثر من انشغالاته بعالم ما بعد الموت، وما سيؤول إليه من عقاب وثواب أخرويين. ولذلك فإن فكرة الفوضى كمرجعية فلسفية هي من أهم انشغالات الغرب في هذه المرحلة الشائكة، في وقت بقي الإنسان الشرقي يحيل التطورات الكبرى إلى مرجعيات ما ورائية غالبا وهو يحصد التلقي الدائم.
درج الفكر الغربي منذ عصر النهضة الأوربية على تلك الرؤية التشكيكية مما اكسبه قدرات مهمة على التفسير وإمكانات قلما نجدها لدى الشرق الذي أصبح بمرور الزمن شبه تابع له. وما المحاولات التي يبذلها الإسلاميون كمفكرين في النصف الثاني من القرن العشرين، إلا الجولة الأخيرة لعملية صراع كبير امتد قرونا منذ الحملة الصليبية التاسعة على العالم العربي في فلسطين عام 1095م وظهور القوى الاستعمارية الأوربية في القرنين الثامن عشر و التاسع عشر. وليتطور الغرب إلى قوة أعظم في القرن العشرين تحملت منه وحده وزر ثلاثة حروب عالمية أولاهما ساخنتين.
يمكننا أن نكتشف التطور الاقتصادي الذي لا يتوازى والتطور الفكري والمنعطف الأساسي في سلسلة المفكرين الكبار الذين شغلوا العالم المعاصر من الغربيين: كلّ تلك القائمة الطويلة من العلماء والفلاسفة والمفكرين والاقتصاديين وعلماء الاجتماع والأدب الحديث الذين كانوا يبحثون أساسا في معنى الحياة ومحاولة تفسيرها عبر الفوضى التي تجتاحها من حين لآخر على أسس من العقلانية البحتة، لم يستطيعوا كبح جماح الموت الواسع الذي اجتاح القارة الأوربية في النصف الأول من القرن العشرين ثمّ انتقلت العدوى على نطاق بؤر ساخنة هنا وهناك إبان الحرب الباردة حتى بلغت 81 حربا حتى عام 2000.
نتج عن قوة دوي الانهيار قي الربع الأخير من القرن المنصرم عددا من النظريات المهمة حول الحضارة الغربية القديمة والحديثة، وبدأت سلسلة من التفسيرات لوضعية الفكر الشرقي في عيون غربية استشراقية أو غير استشراقية أحدثت تأثيرا كبيرا على طريقة التفكير الشرقية بالعالم. ولكن ما يزال الإنسان الغربي ينظر إلى تلك الانهيارات الكبرى بدهشة كاملة منذ أن تمكنت الكتابة المخترعة في العراق في حدود 2500 قبل الميلاد لتضع الفكر والعقل الغربيين أمام سلسلة من التساؤلات البعيدة عن الإجابات الجاهزة الماورائية.


















الحروب الإستباقية ميدان الفوضى البناءة


















خلال عامين فقط، بلغت ضحايا الاحتلال الأميركي للعراق أكثر بقليل من ضحايا الحرب الأهلية في لبنان 1975- 1989حيث استطاعت السعودية عقد اتفاق الطائف. وكانت كونداليزا رايس قد أطلقت تصريحا: أن العمليات العسكرية الجارية في الشرق الأوسط خاصة هي المقدمة، وأن آلام لبنان ستؤدي إلى "الميلاد العسير لشرق أوسط جديد" دون أن تحدد العراق على وجه الخصوص، برغم إن الجيش الأميركي يحتله كاملا مع حلفائه؟ لماذا لبنان بالذات؟ أما بالنسبة لمنظِّري الفوضى البنّاءة فيجب سفك الدماء من أجل الوصول إلى نظام جديد في هذه المنطقة الغنية بالنفط والإثنيات على حدّ سواء.
وجاء هجوم قوات (تساهال :جيش الدفاع الإسرائيلي) ضد لبنان جوابا على التساؤل لماذا لبنان والذي تم التخطيط له منذ زمن غير قصير. تم الإشراف عليه من البنتاغون في حرب تموز 2006؛ إذ كانت حربا فوضوية من طراز خاص، وليس ثمة غاية أساسية لها غير التدمير للبنى التحتية للشعب اللبناني. لكن تلك المحاولة الفوضوية لم تؤت أكلها على أية حال، بعد أن فشلت في القضاء على القوة العسكرية لحزب الله: الهدف الستراتيجي المعلن، كما أشارت لجنة التحقيق الإسرائيلية "فينوغراد" في تقريريها المعلن والسري والتي حملت الإدارة الإسرائيلية " إيهود اولمرت – عامير بيريس" نتائج الإخفاقات العسكرية المبنية على رؤية الفوضى، في وقت تم تدمير لبنان وأعادته عقودا إلى الوراء دون تحقيق الهدف الرئيس من الحرب إلا وهو القضاء على القوة العسكرية لحزب الله أو تحويله إلى منظمة سياسية. كان الميدان على العموم يخضع للتجريب أكثر من التخطيط بعيد المدى؛ فالفوضى هي المتحكمة – كما يبدو- في قرارات الحرب والسياسة إلى حدّ بعيد في عالم ما بعد الحرب الباردة تحت شعار: تحرك ثم فكر بعد ذلك.
ويمكننا أن نلحظ ذلك في الوقت نفسه ما يجري في العراق من تنفيذ سياسات فوضوية حيث بلغت أعداد القتلى فيه ما يقرب من المليون في نهاية عام 2006 كما تشير إلى ذلك تقارير صحية مستقلة. بات من شبه المؤكد إن حرب إبادة للشعب العراقي هي حالة Genocide يومية من طراز خاص يصعب الإعلان عنها. تحاول الحكومة العراقية على أية حال "التهوين" من تلك الأرقام المخيفة التي جمعتها منظمات دولية وهي تذكر بالهولوكست النازية محرقة اليهود في الحرب العالمية الثانية. هل يراد من هذه الفوضى العارمة إبادة الشعب العراقي على هذا النحو اليومي قيام كيانات غير وطنية وموحدة في العراق؟ هذا ما ستسفر عنه السنوات القليلة القادمة من سياسات الفوضى التي نشيعها الولايات المتحدة في العراق والشرق الأوسط عموما من خلال استمرار قوى الاحتلال. لكن حقيقة الاحتلال تبقى بشعة، وغير معقولة، وفوضوية في مضامينها النهائية، وما الخلاف على الأرقام "الإبادية" بين المنظمات المستقلة والجهات الرسمية إلا قضية فنية لا تلغي عمليات الإبادة شبه المنظمة التي يتعرض لها الشعب العراقي.
وإذا كان ثمة مفهوم سابق حول لبننة العراق أو نقل التجربة البوسنية إليه، فإن مفهوم عرقنة القضية اللبنانية هو السائد في الوقت الحاضر حيث أصبحت الفوضى العراقية وميدانها بعبعا حقيقيا. وتعدّ منطقة الشرق الأوسط والعراق على وجه الخصوص هي المحور الأساس والعملي لتجهيز وتعبئة ما يعرف بالفوضى البناءة شرق أوسطيا في طروحاتها الخاصة، حيث كانت هذه المنطقة مصدر قلق محوري للولايات المتحدة ولعموم ستراتيجيتها منذ النصف الثاني من القرن المنصرم. وليس اعتباطا أن حدد الرئيس الأميركي جورج بوش في خطابه إبان زيارة رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي في يونيو / حزيران 2005: إن العراق هو الجبهة المحورية لمواجهة الإرهاب العالمي وكجبهة عالمية. كما جاء في التقرير الأميركي National Strategy for Victory in Iraq الرؤية نفسها.
وبعيدا عن الشعارات الجاهزة التي تختزل السياسة بين صداقات وعداوات وانكسارات ومصالح ونفوذ علينا تلمّس العناصر الجديدة التي حملتها هذه السياسة بوعي أو بلا وعي أحيانا من خلال سياقاتها العامة، وهي تتلخص في ميدان الفوضى البناءة بما يأتي:
1- ضرب المعايير التقليدية للوصول إلى السلطة من خلال إدخال "العنصر الخارجي" باعتباره طرفا أساسيا في صناعة الأوضاع الداخلية للدول المستهدفة في عملية التغيير المزمعة على الطريقة الأميركية American Way والمتعلقة بوضع سياسات وخطط وبرامج وتكتيكات معينة قد تدرس بلا عناية كبيرة لاعتمادها على المستجدات الحادثة على الأرض بالدرجة الأساس، كما هو في حالة العراق حيث تتلاءم وطبيعة التوجهات الخاصة بها.
2- نقل أنموذج أميركا اللاتينية في القرن العشرين إلى العالم العربي والإسلامي في القرن الحادي والعشرين: أي تحول الحديقة الخلفية للولايات المتحدة إلى البطن العربي الرخو لتتمكن قوة الولايات المتحدة من التوغل عميقا في الكيانات الهشة والمبعثرة التي تتحكم في منطقة الشرق الأوسط خاصة، إذ يتم من خلالها العمل على وضع سياسات "ترويضية" أو "تخويفية" للأنظمة القائمة فيه، والمجيء بحكام على غرار مدرسة التدريب الأميركية اللاتينية التي دربت الجنرال " مانويل نورييغا Noriega" حاكم بنما السابق والعديد من قادة أميركا اللاتينية للحصول على اكبر عدد من الموالين ومن اجل خلق طبقة حاكمة عسكرية.
3- ضرب المنظومة الأممية لحقوق الإنسان والقانون الدولي، وبناء نظام مواز لها – شبيه بها شكلا- ينطلق من المصلحة الأميركية بالدرجة الأساس ويظهر الولايات المتحدة بمظهر المدافع القوي عن تلك القيم الإنسانية، ولا ينظر بعين الاعتبار إلى المصالح الوطنية المتعلقة بوضع الحريات في البلدان المستهدفة مما يوجد حالة من الوهم والفوضى.
4- ابتكار مفهوم (الاحتلال الإيجابي) أو الحامل للتحول transformative كما في الأدبيات الأميركية الجديدة؛ في عودة سطحية إلى فكرة الوجود العسكري المباشر للاستعمار الحديث كمحرر من قوى دكتاتورية او متشددة، وهو الأفضل من الاستبداد عموما، من خلال نشر مفاهيم خاطئة حول قضايا التحرر والديمقراطية وحقوق الإنسان كايدولوجيا خارجية يمكن تحقيقها من خلال التدخل العسكري المباشر في شؤون الشعوب والأمم.
5- وبتأثير واضح من وولفوويتز واللوبي الموالي لإسرائيل في الإدارة الأميركية تمّ التخلي عن فكرة "الاحترام الضروري" للحدود المرسّمة دوليا التي أورثها الاستعمار الحديث، حيث يتم التعرّف بقوة في هذا المجال على التجربة الإسرائيلية تحديدا في كيفية التعامل مع المستجدات المحتملة. فإسرائيل كانت وما تزال كيانا غير معروف الحدود، وبلا دستور مكتوب وهو رهين فكرة الحرب التي هي المضمون الرئيس للفوضى البناءة. كما يمكن التأكد من ذلك في العودة إلى للنخب السياسية الحاكمة او المعارضة داخل إسرائيل ووحدة مواقفها يمينا ويسارا تجاه قضايا الفلسطينيين.
مازالت إسرائيل كما تشير إحصاءات أخيرة بان 60% من خليطها السكاني غير المتجانس يرغب في طرد العرب من أراضي 1948 والأراضي المحتلة ما بعد عام 1967 . وإسرائيل تعتمد فكرة لجم غير اليهود (الجوييم / الأغيار) من خلال الحرب والتغيير الديموغرافي. فضلا عن فتح الاحتمالات لأية تكوينات جديدة موالية فسيفسائية تتوافق والستراتيجية الإسرائيلية المعلنة المتعلقة بتفتيت الوحدات السياسية الكبرى المحيطة بدول الطوق العربي، بما في ذلك حدود دول معروفة بعلاقة متميزة مع الولايات المتحدة.
كان هدف إسرائيل منذ تأسيسها عام 1948 تقسيم دول ما بعد الطوق وخاصة العراق إلى (كانتونات) حسب وثيقة (كيفونيم)(*). ومن قبلها أيضا تلك الوثيقة التي وردت في كتاب "خنجر إسرائيل" للكاتب الهندي كارانجيا التي يتم بموجبها العمل على تنفيذها – سياسة الفسيفساء الطائفية والعرقية- في هذه المدة من العقد الأول من القرن الحادي والعشرين بصورة أوضح وأسرع وأعنف وأكثر علانية مما حدث في أية مرحلة سابقة. لكن هل كان للسايكسبيكيين الجدد أن يقدموا على مشروعهم الطائفي الجديد لولا الأنظمة العربية التي مهدت لهم الأرض كي يعيثوا تخريباً وتقسيماً؟ وماذا فعلنا "للسايكسبيكيين" القدماء حتى يمكننا أن نفعل شيئا للجدد؟ ويعود العداء الإسرائيلي المستحكم ميدانيا ضد العراق إلى الموقف المشرف للجيش العراقي من حربي 1948 و1973 وكذلك الدعم المفتوح للمقاومة الفلسطينية المسلحة الذي أعقب الحربين، حيث أظهر العراق قدرات على وضع برامج لتحرير الجولان والتزم بتحرير عموم الأراضي العربية المحتلة, وما ترتب على ذلك من مواقف سياسية متتابعة تمثلت في دعم القضية الفلسطينية على نحو واضح. فإسرائيل تحقق ما خططت له قبل عشرات السنين، كما تشير إلى ذلك خططهم العشرية التي انطلقت منذ عام 1948 وكذلك الستراتيجية العامة للكيان المبني على التهجير والاغتصاب المنظم وغير المنظم للأرض في فلسطين. يمكن للفوضى البناءة أن تعيد التجربة الإسرائيلية في فلسطين لتكون منهجا لها في عموم العالم العربي. ولعل ما يحدث في العراق مصداقا حاضرا ومستقبليا يؤكد هذه النظرة المبنية على حذف وإلغاء (الآخر) الشرعي من الخارطة السياسية والجغرافية أو تحويله إلى شكل آخر على وفق العمل الفوضوي البناء وبما يخدم الستراتيجية الأميركية خاصة. ومن هنا يمكننا تفسير قوة التلازم بين الستراتيجيتين الأميركية والإسرائيلية.
هذه الحال الفوضوية لن تصمد أمام متغيرات الواقع العربي والمفاجآت التي يحتملها في العقدين القادمين من القرن الحادي والعشرين – كما في ميدان العراق - بعد اشتداد الهجمة على الأمة. لكنها في الوقت نفسه تركت آثارا تدميرية كبيرة على المجتمعات المستهدفة لعمل الفوضى البناءة؛ حيث عملت على اجتثاث البنى الفوقية، فضلا عن تدمير البنى التحتية التي يمكن للشعب المستهدف البقاء على قيد الحياة الأدنى دون الإنساني بدرجات عدة من خلالها.
فتعززت بهذا النهج ألتفكيكي المبرم ترسانة القوانين الاستثنائية باسم "قوانين مناهضة الإرهاب" بتحول المطلب الديمقراطي للشعوب الخاضعة تحت سيطرة أنظمة دكتاتورية برفع حالة الطوارئ في ثماني بلدان عربية إلى قضية نسبية قابلة للتأجيل حيث تقوم هذه القوانين المحمية أميركيا بالدور نفسه في تدمير الوعي العربي.
إن تغيير منطقة الشرق الأوسط - على وفق النموذج العراقي - هي مسألة في غاية الأهمية تتمحور في الفكر ألعملياتي للفوضى البناءة، فضلا عن أن فشل السياسة الأميركية في إنتاج هذا النموذج الذي يصلح أن يكون مثالا يحتذى سوف لا يعرض وجودها العالمي إلى الخطر؛ بل ربما يقود العالم - من وجهة نظرهم أيضا - إلى الدخول في برزخ مظلم من الفوضى المصنعة أو المنفلتة عن خططهم الرجراجة المسبقة، والتي يصعب السيطرة عليها بالوسائل المتاحة، مما يهدد الاقتصاد العالمي الرأسمالي جديا ويمكن أن يعرض العالم بأسره إلى كوارث عامة. ولا تقل أهمية تلك الحالة العارمة المفترضة عن ضرب هيروشيما وناغازاكي إبان الحرب العامية الثانية أو خانق خليج الخنازير عام 1961؛ إن لم تكن أشدّ خطورة منها في حال التجريب على سيناريوهات الفوضى البناءة التي لا تتطلب في منظوماتها دراسة ما يكفي من الاحتمالات بمقدار ما يظهر من تحديات أثناء العمل. ولعل هذه الطريقة هي التي تكشف لنا سبل تفكير الحاكم المدني للعراق بول بريمر وما كتبه عن تجربته في مذكراته المعروفةMy year in Iraq حيث اظهر عدم اكتراثه بالجماعات السياسية المنصّبة من قبله وازدرائه المبطن لها.
من هنا فإن الإدارة الأميركية تصرّ إصرارا دائما على أن انسحابها من العراق مرهون باكتمال "المهمة" التي طالما حرص الرئيس بوش في خطابه السياسي على تكرارها. ولو نظرنا إلى الإعلانات الرئيسة للإدارة الأميركية قبيل إعلان الحرب على العراق عام 2003 فإنها تشكل مصداقا لتوجهات الفوضى البناءة حيث كانت محصورة في اتجاهين أساسيين قبل إعلان الحرب على العراق:
1ـ القضاء على ما عرف بأسلحة الدمار الشامل العراقية.
2ـ الحيلولة دون اعتداء العراق على جيرانه.
ولو نظرنا ببساطة إلى كلا الهدفين فإننا نجد فوضاهما السياسية والفكرية والإعلامية المبطنة على أشدها في عدم توفر ما يكفي من الدلائل عليهما. ثمّ إنهما قد تحققا تماما لأول وهلة من سقوط النظام السياسي السابق إذ أثبتت التحقيقات الدولية والأميركية خلوّ العراق من أسلحة الدمار الشامل، وان ما أعلن من شن الحرب على العراق لهذا السبب هو "خطأ مقصود" دفعت ثمنه الإدارة الأميركية للرئيس بوش أمام صعود الديمقراطيين في مجلسي الشيوخ والنواب في انتخابات عام 2006. ويظهر الميدان في الوقت نفسه مدى توغل الفوضى في المسرح ألعملياتي، فقد تمّ حل الجيش العراقي (الحرس الجمهوري، والجيش التقليدي، وحرس الحدود، والشرطة المحلية وشرطة المرور) باعتبارهم نقطة الانطلاق في العدوان على الجيران؛ في وقت كانت الولايات المتحدة من البلدان الداعمة لهذا الجيش منذ عام 1986 لاستمرار حرب فوضوية أخرى طويلة الأمد ومدمرة. وفي إثر فضيحة (أسلحة الكونترا) التي أظهرت جانبا مهما جديدا من فوضى الخيارات على النطاق الدولي، وما رافقها من صراع - في العلن - بين مجلس الأمن القومي ووزارة الخارجية لمساعدة إيران عسكريا وبطريقة غير مباشرة في الوقت نفسه. بيد أن الولايات المتحدة وضعت أهدافا جديدة أكثر فوضوية من سابقتها وهي تهتم بالجانب العملي الذي ينسجم مع التوجهات الستراتيجية المتعلقة بسيطرة الولايات المتحدة وحليفاتها على العالم اقتصاديا وسياسيا وعسكريا. ثم دأبت على وضع خطة تكزن فيها إسرائيل في موضع مركزي وهي أكبر وزنا وأبعد ستراتيجية من المفاهيم التي انطلقت منها بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، ولم يسبق لها أن أعلنتها من قبل على نطاق رسمي, وقد تلخصت في المحاور الآتية:
1- وضع خطة كبرى لما يعرف بالشرق الأوسط الكبير، أو الشرق الأوسط الجديد كصفحة أولية متقدمة، وما رافق ذلك من الدعوة إلى إصلاح الأنظمة السياسية في منطقة الشرق الأوسط خاصة، وضرورة الالتزام بحقوق الإنسان: دمقرطة الشرق الإسلامي على الطريقة الأميركية. ولا يعرف مدى تخلي الولايات المتحدة عن الشرق الأوسط الكبير؟ ولماذا عادت إلى الستراتيجية الإسرائيلية المعلنة في الشرق الأوسط الجديد؟ ومن الصعب أن نرى أن الشرق الأوسط الجديد هو صفحة متقدمة للشرق الأوسط الكبير الذي تمتد حوافه من المغرب العربي حيث شواطئ الأطلسي إلى كراجي ليحتوي العالم الإسلامي كله.
2- انتهاج مفهوم (الحرب الاستباقية) من اجل وضع الأهداف الكبرى موضع التنفيذ؛ وهي عبارة عن فكرة تكتنفها عوامل الفوضى منذ البداية إذ من الصعب تحديد معرفة ما الذي يمكن أن يقوم به المخططون الستراتيجيون في حالة الاستباق لعدم توفر ما يكفي من معلومات وكثرة المفاجآت على الأرض مما يستدعي مزيدا من الخسائر أيضا. وما يمكن أن تورثه الحروب الاستباقية من كوارث للشعوب التي تكون هدفا لها.
ولو أنعمنا النظر في طريقة التفكير الأميركية لدراسة الأيام السبتمبرية، وما تبعها من شنّ حروب استباقية من خلال فكر الكاتب بوب وُدوورد باعتباره واحدا من أبرز المحللين الستراتيجيين للسياسة الأميركية على مستوى العالم، لوجدنا أن العوامل الاقتصادية هي المتحكمة في بناءاتها الداخلية. فالحسابات الاقتصادية هي التي تتقدم على الأعمال العسكرية دائما؛ ولنتأمل الفوضى في تمويل الحرب والمعارك الدائرة بين البيت الأبيض ومجلسي الكونغرس والنواب، وما تشنه السيدة نانسي بيلوسي رئيسة مجلس النواب من هجوم على الرئيس بوش نفسه من أجل معرفة مدى النجاحات التي تحققها الخطط العسكرية بسبب استعمال مفهوم الحرب الاستباقية من المحافظين الجدد. فلكل عمل عسكري ثمنه ونضحه على المستوى الستراتيجي؛ يصرح بذلك الرئيس بوش بوضوح تام إبان أزمة أفغانستان: " لا أريد لصاروخ قيمته مليون دولار أن يقذف على خيمة قيمتها خمسة دولارات" وهو يعد القيام بمثل هذا الأمر نكتة سمجة يصعب تحملها. يكشف وُدوورد عن الوجوه الحقيقية للحروب الحديثة من خلال طبيعة الفوضى التي اجتاحت البيت الأبيض بعد هجمات 11 سبتمبر. فالحرب بالنسبة لبوش أولا هي حسابات اقتصادية منذ البداية ولا يمكن النظر إلى أية عملية سياسية تسبقها أو تتبعها إلا من جانب عاملي الربح أو الخسارة. فلنقرأ بين السطور الحرب على العراق وقانون النفط والغاز المطروح حاليا على البرلمان العراقي. لذلك يكثر الرئيس بوش في خطاباته الرسمية الأسبوعية و الشهرية من عبارة ربح المعركة win of war لكن الربح في السياسة غير الربح في المعركة حيث يتطلب الأخير كمية كبيرة من الدماء لا تثقل الضمائر المصابة بالجلد النفسي من أمثال صانعي القرار في الإدارة الأميركية التي يرأسها جورج دبليو بوش. وكيف لا يكون ذلك والمسؤولون الاميركان يأتون دائما من وسط شركات صناعية كبرى، أو هم كانوا على رأس إداراتها، وهم يرشحون لها بعد تسنمهم المناصب الحكومية العامة كما حدث لبول وولفويتز الآن فقد كان المخطط الرئيس للحرب على العراق وهو مدير بنك النقد الدولي حاليا. ولو أردنا أن نضع قائمة بتلك الظاهرة لاستغرقنا الوقت كثيرا، مما يظهر إلى حدّ بعيد غياب أفكار "المبادئ" أو "الثوابت" أو "القيم العليا" في عموم طريقة التفكير الأميركية التي تحاول أن تجد لها موطئ قدم في الأيديولوجيات مؤخرا.
من الصعب خلق أيديولوجيا للرأسمالية على الرغم من كل المظاهر التي تحتويها العولمة الآن. وهو عصر البرغماتية الأميركية المتعولمة التي لا تفتأ تحدث نفسها بالمثل التي تسحقها بيسر قوى الرأسمال عابر القارات ومتعدد الجنسيات. يمكننا أن نكتشف ذلك في الدقائق الصعبة التي مرّت على الرئيس بوش وإدارته منذ عام 2001 حيث أظهرها لنا وُدورد بقوة في التلاعب الكبير بمشاعر المواطنين الأميركيان العاديين من دافعي الضرائب. ومن هنا فإن دعوات الولايات المتحدة للديمقراطية و حقوق الإنسان في مضمونها النهائي تتعرض إلى المساءلة والصدقية إلى حدّ بعيد، ما دامت خاضعة لمعدلات الربح و الخسارة في عموم العمليات السياسية الدولية. ففكرة (المعركة) المبنية على روحية التعامل الاقتصادي والحسابات المصرفية تتخذ شكل الحسابات السياسية ظاهرا وتشكل هاجسا دائما لصانعي القرار في البيت الأبيض؛ لأن الفكر السياسي الأميركي عموما مبني على مواجهة الأزمات منذ مدة الدورة الاقتصادية عام 1929، وما بعدها إذ كان مفهوم الأزمة يستشري مذ بدأت الولايات المتحدة نزع ذلك الجلد الواهن الانعزالي لمبدأ الرئيس مونرو في القرن التاسع عشر والذي كان يصرّ على عزلة الولايات المتحدة عن الخوض في وحل أوربا أو العالم. بيد أن أحداث الحربين العالميتين الأولى والثانية في القرن الماضي ونمو الرأسمال الأميركي بقوة منذ بداية القرن، وحمى البحث عن أسواق خارجية أستدعى الولايات المتحدة إلى الخوض في الصراعات الاستعمارية التقليدية، والبحث عن مصادر الطاقة النامية ومناطق النفوذ في القرن العشرين.
لم يكن لدى الرئيس بوش فكرة محددة لمواجهة الأزمة ستراتيجيا على نحو كاف- هو يعترف بذلك شخصيا- لذلك أعتمد على دك تشيني البالغ من العمر61عاما آنذاك، وهو الرجل الذي عمل مع والده في الإدارة الأسبق أيضا. كان تشيتي يتمرن طوال حياته على مثل هذا اليوم الحافل بالاحداث الجسام. فالتأكيد على هواجس الشخصيات وتصرفاتهم إبان الأزمات هي من أهم معالم نظر بوب وُدورد حيث كان الرئيس بوش محور تلك الأحداث الجسام غالبا. فبوب ودوورد أعاد كتابة الأحداث بما يتناسب والرغبة البشرية في البحث عن التفاصيل دون أن يخشى إغواء الشيطان في ذلك على أية حال. فالتفاصيل الصغيرة والحالات الفريدة والتوترات الشخصية وقت الأزمات، هي التي تصنع الأحداث أو تكوّن ردود أفعال مناسبة إزائها. وبوب يحاول أن يكتب تاريخ بلاده في ظرف حالك وصعب وقابل للتكرار في الوقت نفسه كما أوحى بذلك الرئيس بوش نفسه: وضع الناس في حال الخطر دائما من عدو غير معروف المعالم والخطط ويقترب حثيثا من الشبحية. وبوب واقع تحت هذا الهاجس في جميع كتبه تقريبا من اجل إحداث أكبر مقدار من الإثارة أيضا. للسينما تأثير كبير على كتابها في الولايات المتحدة. من هنا تتأتى أهمية كتاباته لمعرفة طريقة التفكير الأميركية بالأزمات. يمكن لبوب أن يكسب قراء من طبقات فكرية مختلفة من خلال سحبهم غلى زاوية نظره؛ وهذا هو سرّ النجاح بالنسبة إلى أي كاتب سياسي محترف. ولو نظرنا إلى طبيعة كتابنا السياسيين في العالم العربي، فسنجد الصورة مختلفة، حيث يقضي كتابنا حياتهم في المنافي أو سجون السلطات الدكتاتورية أو التهميش والجوع في بلدانهم مالم يلتحقوا بركب الحكام. فشتان ما بين الكاتب السياسي الغربي والكاتب السياسي في الشرق، ولا مجال للمقارنة بينهما. فالكتاب في الشرق يتعرضون إلى السجن و التشريد و النفي وحتى الإعدام بسبب مواقفهم الفكرية غالبا.
فكر وُدوورد إزاء تصرف الإدارة الأميركية وقت الأزمات مهم إلى حدّ بعيد في معرفة طريقة التفكير الفوضوية المصاحبة. ومن النوع الملفت للنظر قد عُدّ الرئيس بوش محاربا Bush at war حينما استعمل بوب وُدوورد في تشخيصه للرئيس بوش بطريقة تحليلية نفسية بالدرجة الأساس، تعتمد التوثيق إلى حدّ بعيد من اجل سبر أغوار فكره عن العالم وطريقة التفكير فيه، وكذلك في عرضه للأحداث التي واجهته بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر. بوب يلاحق شخصية الرئيس بوش الفوضوية – بمعنى الصفة الفكرية وليس الفوضى العادية - وطريقة تصرفاته أثناء أحداث الحادي عشر من سبتمبر ليمنح القارئ صورة هي الأقرب لما جرى فعلا في تلك الأسابيع الأولى من اتخاذ قرار شن الحرب على أفغانستان. ومن هنا فإن بوب وُدورد يستنهض روح المؤرخ من اجل منح الناس اكبر مقدار ممكن من الحقائق النسبية الموثقة المتأتية من المقابلات الشخصية المتعددة، حيث بلغت (181) مقابلة في كتابه الشهير بوش محاربا، لمختلف الشخصيات الأميركية أجراها الكاتب مع صناع القرار في الولايات المتحدة، فضلا عن كمّ هائل من وثائق السجلات الحكومية. وكانت الفكرة الأساسية لدى الإدارة الأميركية والرئيس بوش منذ البداية هي كيفية مهاجمة العدو والاقتصاص منه بأسرع وقت ممكن – وهي لبّ العمل الفوضوي- إذ لا مجال للتخطيط الطويل بهذا المجال. و لذلك فقد حدد بوب وُدوورد طريقة إدارة الحرب على حكومة طالبان والقاعدة ومدى إمكانية قيام حشد دولي سريع في ذلك. وقد نجحت الولايات المتحدة في وضع العالم أمام ستراتيجيتها السريعة في وقت أنها لم تفلح في ترتيب هذا الحشد في الحرب على العراق. وليس من الغريب أن نسمع بوش بعد ذلك يعلن صراحة: أنه عازم في الحرب على العراق ولو كان ذلك يحدث بالولايات المتحدة وحدها. ها هي نظرية الحرب الأستباقية الأميركية تطلّ علينا بأبشع رؤوسها من جديد من خلال القيام بالعمل الفوضوي وحدهم فالفوضى لا تحتاج إلى كثير ممن يفكر فيها غالبا.
وتعدّ مسألة نقص المعلومات من المؤشرات الخطيرة التي اجتاحت الإدارة الأميركية في حربها على أفغانستان، فقد نوقشت غير مرة قضية امتلاك القاعدة لقنبلة قذرة من نوع أسلحة الدمار الشامل. وكان رامسفيلد وزير الدفاع السابق قد سماها ب "المعلوم المجهول" ويقصد بذلك شيئا لا يعرفونه لكنه محتمل وهام معا وليس لديهم أية معلومات نهائية عنه. فليست المشكلة لدى الإدارة الأميركية في نقص المعلومات كمل يترآى لقارئ الكتاب, بل في تغييب المعلومات نفسها أو تزييفها لصالح شن الحرب. تظهر تلك المناقشات مدى تخبّط الإدارة الأميركية في معالجة الأزمات وأن أقطابها لم تكن مستعدة بما يكفي للمواجهة على نحو تتطلبه المستجدات.
إن إيواء "العدو" كانت هي الفكرة المسيطرة على الجميع آنذاك، ولذلك كان لا بد من أن تكون الدول في العالم بعد الحادي عشر من سبتمبر في نظر الإدارة الأميركية: إما مع الولايات المتحدة في محنتها أو ضدها. ومن الغريب أن يقحم العراق في تلك العمليات بعد أن ثبت عدم وجود أية رابطة توثيقية مباشرة بين النظام السابق ومنظمة القاعدة، وبطلان تلك القصة الواهنة التي روج لها إعلام ما قبل الحرب وهي تتحدث عن اتصال بين القاعدة وشخصية عراقية يدعى "رمزي يوسف" كواحد من ضباط المخابرات العراقية السابقة: تلك الدعاية التي أستغرقها الإعلام الأميركي والعربي بما يكفي عن قصد أو غير قصد للتحرك لضرب العراق بعد ذلك.
وقال دونالد رامسفيلد: لماذا لا نهاجم العراق وليس القاعدة في أفغانستان؟؛ لم يكن هذا الرأي يحمله وحده في بداية الأمر في محاولة البحث عن "عدو" بل عدد من مساعديه أيضا؛ فتشير هذه الوثيقة بوضوح إلى إن قضية ضرب العراق كانت واحدة من أجندات الإدارة الأميركية حتى قبيل أحداث الحادي عشر من سبتمبر. وما أحداث ضرب البرجين لمركزي التجارة العالمي إلا عملية تسريع لضرب العراق. فمن الذي وضع العراق في هذا الخانق الأميركي الضيق؟ لاشكّ بأنها سياسات النظام السابق وتهوره غير المحسوب وإعلامه غير المدروس، والمسؤولين في تل أبيب الذين اعتادوا استثمار جميع الأحداث لصالحهم تقريبا.
كانت فكرة الضربة الأستباقية - وهي طريقة إسرائيلية في جذورها الستراتيجية أتبعت في حرب عام 1967 - قد سيطرت على التفكير الستراتيجي الأميركي لما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر على نحو كبير، وهي لما تزل قائمة وتؤتي أكلها السلبية في كلّ مكان من العالم. على الرغم من إن الديمقراطيين هم الذين يسيطرون على مجلسي الكونغرس والنواب في الوقت الحاضر إلا أن الإدارة الأميركية لما تزل تعيش أوهام وهواجس تتعلق بالضربة الأستباقية المحفوفة بالمخاطر والخسائر غالبا، والتي يدفع فاتورتها الطويلة الشعوب التي تتعرض لها كالعراق وأفغانستان وبعض الدول المرشحة لذلك قريبا كسوريا أو إيران التي تحيط بها الأساطيل البحرية وحاملات الطائرات.
أما دافعو الضرائب من الشعب الأميركي فهم الذين يتحملون القسط الأعظم منها؛ لكن الفارق بين كلا الطرفين المذكورين: أن الشعوب تدفع دما وخرابا في البنى الاقتصادية ومستقبلها ولن يخسر الاميركان إلا بضعة آلاف من جنودهم مع مئات المليارات التي تصب في جيوب شركات صناعة الأسلحة: إنها عملية نهب منظم للمواطن الأميركي البسيط والشعوب المحتلة، مثلما هي عملية إبادة لها أيضا.
وعلى الرغم من أن بعض الديمقراطيين والجمهوريين كانوا يريدون نقاشا علنيا حول ما يتوجب القيام به ضد نظام الرئيس السابق صدام حسين والعراق في تلك المدة الشائكة، إلا أنهم لم يظهروا وقوفا واضحا إلى جانب الضربة الإستباقية، وقالوا: " أن ضربة عسكرية عبر السياسة الجديدة غير المختبرة للهجوم المسبق قد يخل باستقرار دول أخرى في الشرق الأوسط، وقد يطلق العنان لمزيد من الإرهاب" كما صرح الرئيس بوش. وقد جاءت النتائج مطابقة لما قيل وقتذاك. لكن الإدارة الأميركية الحالية لم تعر لذلك أذنا صاغية - سابقا وحاليا - وسدرت في توجيه عصاها الغليظة إلى ما يعرف بالحكومات المارقة أو مثلث الشر، وهي ما تزال في ذلك النهج من الحروب الإستباقية التي لن تورث المنطقة إلا مزيدا من الكوارث الإنسانية ومزيدا من المال المدموغ بالدم لدى شركات صناعات الحرب، ودون أن تتحقق على الأرض أهداف واضحة، في وقت يشتد عضد الإرهاب على نطاق واسع في العالم.
وتحويل تلك الستراتيجية إلى ميدان السياسة الخارجية على وفق رؤية كوندا ليزا رايس وزيرة الخارجية الأميركية، حيث تكون ثمة (تطابقية) غير معلنة بين العسكر والسياسيين وصناع الأسلحة في آن؛ ولتذهب تلك المصادمات التقليدية الريغانية 1981- 1988 في أفضل صورها بين مجلس الأمن القومي ووزارة الخارجية إلى "سلّة مهملات" طويلة الأمد نسبيا. فهي لم تعد تتناسب والتحديات في عصر الحرب العالمية الثالثة: الحرب على الإرهاب العالمي، مادامت تلك الحرب شبه الدائمة وغير التقليدية يمكن أن تستمر أكثر من عقد من الزمن في اقل تقدير لخبراء البنتاغون الجدد، حيث لا يمكن رؤية العدو على شاشات طائرات U2)) فائقة التخفي، ويصعب التكهن بتحركاته كما هو الحال في الحروب التقليدية النظامية. فإن على مسؤولي البيت الأبيض أن يعدوا العدة المناسبة في هكذا حرب مفترضة وغير واضحة المعالم وليست لها جغرافية ثابتة، ومن أطراف قليلة العدد وعالية التدريب، ثمّ أنها مفعمة بالكراهية الدينية.
هذه الحرب هي الأطول في زمنها من كلا الحربين العالميتين السابقتين حيث لم تكن التكنولوجيا عاملا حاسما في تقصير أمدها كما حدث في عمليتي هيروشيما وناغازاكي. فالإرهاب يكون حربا عالمية ثالثة في مفهوم صقور البيت الأبيض بلا شك, هو يسعى في المدّة القادمة إلى امتلاك أسلحة دمار شامل ، تماما ، كما هو سعي الإعلان عن سعي النظام العراقي السابق إلى امتلاك تلك الأسلحة المزعومة؛ أولم يهدد النظام بتلك الحرب قبل سقوطه محذرا إسرائيل والولايات المتحدة منها بما عرف بالكيمياوي المزدوج؟!
هذه الحرب - من وجهة نظر المحللين الأميركيان- تحتاج إلى عدة عقود ولا بدّ للولايات المتحدة من أن تنتصر فيها وليس أمامها إلا النصر وحده؛ لأن الرئيس بوش أعتبرها حربا على الحضارة الغربية بالدرجة الأساس وأن القوى الإرهابية جاءت لتغيير مسار الحياة الأميركية وطرق العيش فيها. ومن هنا فإن العوامل الفكرية هي التي تتحكم - من وجهة نظره بالمسارات التي تتخذها الحرب، وأن هزيمتها سوف تكون هزيمة لأوربا أولا وللعالم المتحضر على حدّ سواء. لذلك فإن الخطاب السياسي الأميركي يستنهض العالم المتحضر عموما للوقوف إلى جانب الولايات المتحدة باعتبارها حربا عالمية ثالثة قائمة على مدى طويل قد يستمر عقودا.
كما أنها في الوقت نفسه سوف تضع العالم الغربي على شفير هاوية من الفوضى الدائمة؛ ربما تشبه الهاوية الغريبة التي وضعها لـه الفيلسوف الألماني شبنغلر. ومن هنا فإن الرئيس بوش يؤكد في خطاباته إلى الأمة الأميركية: بان الإرهاب العالمي يرغب في خططه إلى تغيير المثل والقيم الأميركية والغربية بالدرجة الأساس قبل أن يعمل على تغيير السياسات الخارجية، لكي يجمع اكبر مقدار ممكن من الحشد الجماهيري والإعلامي ضدّ الإرهاب. ويظهر ذلك على نحو واضح في طريقة التفكير الأولى للرئيس بوش في مواجهة الحرب على البرجين، فقد استعمل بوش مصطلح الحرب الصليبية" crusade في خطابه الأول إلى الأمة الأميركية لإثارة النعرات الدينية. وعلى الرغم من اعتذار الرئيس بعد ذلك عن ذلك التعبير لما خلفه من نتائج سلبية على العالم الإسلامي، إلا أن الروح التي كتب بها الخطاب يأتي متناسبا مع استعمال الرئيس بوش له؛ وهو المدقق في عموم خطاباته وقت الأزمة في ساعاتها الأولى: ألم يمنع كاتب خطاباته "كارين هيوز" من تغيير كلمات معينة في تصريحه الأول للأمة الأميركية بعد الأحداث؟
وهكذا فإن هجمة شرسة على المسلمين في أوربا والولايات المتحدة لن تتوقف منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر وسوف تتصاعد كلما أشتدّ أوار الحرب الجديدة وكثرت العمليات في عقر دار الأمريكان والغربيين وخاصة بعد أحداث مدريد ولندن حيث تتخذ الفوضى منحى آخر من الكراهية والنبذ للمسلمين.
لم تستطع أفكار وفلسفة الفوضى البناءة أن تقدّم حلولا مقنعة وعملية للعالم على الرغم من جميع وسائل الإعلام المكرسة لها والتي أصبحت بعد عصر الاتصالات تتوازى وتسيير الجيوش إلى ساحة المعركة. ويبدو أنها ستبقى مجرد "طروحات" للإعلام العالمي ولتسيير ماكينة الفضائيات التي درج على الظهور فيها الساسة المتشددون في البيت الأبيض في إدارته الحالية من حين لآخر دون أن تضيف شيئا جديدا عما درجت عليها خطابات الرئيس بوش الأسبوعية أو تلك الخطابات الفصلية الموجّهة إلى الأمة الأميركية في ظل أزمات عالمية متتالية قد تؤدي بالعالم إلى الانهيار. ففكرة الانهيار للعالم تلاحق جماعة الصقور في البيت الأبيض مما يجعل من الصعب تكوين ملامح فكرية محددة عنهم في الوقت الحاضر على الأقل.
وحتى لا تتحقق أهداف الفوضى البناءة، ولكي يتحرك ركودها الفكري، لا بد من إحداث شيء من الفوضى والخلخلة حتى يحصل التغيير. ففي ظن الصقور في البيت الأبيض: أنه تغيير نحو الأفضل، أو ربما كان تغييراً من أجل التغيير فحسب، لكنه يصب في النهاية في الإنتاج الحربي الأميركي ومخططات أصحاب الشركات الحربية الكبرى التي ما فتئت تدعم مرشحي الجمهوريين غالبا.
إن الفوضى البناءة مصطلح أدرجته الإدارة الأمريكية مؤخرا وردّده كبار مسؤوليها؛ كانت كوندوليزا رايس في حديث لها أدلت به إلى صحيفة " واشنطن بوست " الأمريكية في شهر نيسان في عام 2006عندما قيل لها ما مصير ومستقبل منطقة الشرق الأوسط؟ اجابت: إن التفاعلات التي تموج بها منطقة الشرق الأوسط لا تترك مجالا آخر سوى للاختيار بين الفوضى أو سيطرة الجماعات الإسلامية على السلطة، وسوف لن تؤدي بالضرورة إلى انتصار الديمقراطية في المنطقة. ولم تتردد وزيرة الخارجية الأميركية في أن تضيف: إن الوضع الحالي "ليس مستقرا"، هذا صحيح، وإن الفوضى التي تفرزها عملية التحول الديمقراطي في البداية هي من نوع "الفوضى الخلاّقة" التي ربما تنتج في النهاية وضعا أفضل مما تعيشه المنطقة حاليا.
من الصعب التأكد من قدرة الوزيرة رايس في "التعويل" على عملية الفوضى التي اجتاحت العراق على نطاق واسع. وإذا ما أخذنا بنظر الاعتبار الهجوم الحاد الذي شنهُ مؤخرا ً على السياسة الأمريكية في العراق المفكر الأمريكي فرانسيس فوكوياما نفسه والذي يُعد أحد أبرز المفكرين المحافظين الجدد في كتابه الموسوم بـ "أمريكا على مفترق الطرق" وأخذنا في الاعتبار التخوفات التي تنتاب معظم مؤيدي مفهوم التوسع الكوني الأمريكي من جراء الفشل الذي مُنيت به سياسة بوش في العراق، وما تظهره النتائج المتلاحقة من خسائر كثيرة وتخبطات شديدة، سنكتشف مدى الانهيار الذي صاحب الولايات المتحدة على مستوى الواقع العملي في تنفيذ ما يعرف بالفوضى البناءة. وإن العراق سوف يظهر مدى جدية النظريات الأميركية التي أطلقها المحافظون الجدد لمعالجة مجمل المشكلات التي تواجههم في سياساتهم الخارجية، ولذلك فإن الرئيس بوش لن يتوانى عن ربط النجاح الذي تحرزه الولايات المتحدة في العراق – بغض النظر عن مدى الخسائر البشرية العراقية بنسبة جندي أميركي واحد مقابل (300) ضحية عراقية- بقضية إتمام المهمة والانتصار في الحرب: هاتان الكلمتان اللتان لن تفارقا خطابه السياسي.

























الحروب كمنهجية دائمة:
فوضى العسكر





















حينما قاد هانيبال القرطاجني جيشا من المرتزقة معززاً بالأفيال من تونس/ قرطاجنة عبر جبال الألب وصولا إلى روما عن طريق البر في رحلة تعدّ الأغرب في التاريخ القديم, وبعد أن أعجزه الأسطول الروماني القوي بحرا عن الوصول إلى روما، بدأت أولى المحاولات القديمة للفوضى العسكرية المغامرة التي تعتمد الخيال العسكري أكثر من ممكنات الواقع. وبرغم من أن هانيبال كاد أن يقترب من هدفه إلا انه لم يحصد في النهاية غير هزيمة كبيرة. كان جيش هانيبال يتكون من أولئك الباحثين عن المجد المادي الصعب في العالم القديم، المصابون بهوس الثروة الناتجة عن حدّ السيف، مثلما هي تركيبة هانيبال الشخصية الباحثة عن المجد والثأر. يحدو كل ذلك العناد التاريخي غاية لا معنى واضحا لها غير الخوض في المعركة مهما كان ثمن ذلك. كاد جيش هانيبال أن يباد بفعل البرد والعواصف الثلجية وهجمات قبائل الغاليين حتى بلغ النصف من تعداده، تتقدمه بعض ما تبقى من الأفيال في مشهد لم تره روما قلب أوربا القديمة. لكنه واصل القتال رغم جميع الصعوبات حتى كانت الضربة القاصمة له في معركة (زاما) الشهيرة، لتنتهي جميع خيالات الفوضى العسكرية المبنية على البطولات الفردية العنيدة.
وما أن خرج الفرسان القروسطيون من قلاعهم المحصنة العالية، بحثا عن مغانم أبعد وراء الأسوار والأبراج في مناطق أوسع، حتى جرت أقبح أنواع الحروب الإقطاعية غير المنظمة في العصور الوسطى في أوربا والعالم. كان الفرسان هم الذين يقرّرون ما يمكن أن يكون على الأرض و ما يحتكم إليه أمراؤهم المتنفذون. وأوضح أمثلة على منهجية الفوضى ووحشية عالم الفرسان في تلك الحروب: دخول الحرب الدينية كشعارات مباشرة حيث كانت الأيديولوجيا الدينية تمتلك سحر الاندفاع والموت والتضحية إلى جانب المغنم المادي المزدوج في الدنيا والعالم الآخر.
ثمّ ما لبثت الفوضى الفرسانية أن اتخذت الطابع الديني بقوة أعمق وأوسع من أي وقت فلم تعد روحية البطولة الفردية دافعا ممكنا حيث سطّرت المفاهيم عن الرهبان والفرسان المضحين الذاهبين إلى الخلاص من خلال السيف كما هو عليه الحال في حملات الحروب الصليبية، ومن ثم الصراعات العنيفة والدموية بين المسيحيين الشرقيين والغربيين و الكاثوليك والبروتستانت التي بقيت تطبع التاريخ الأوربي بطابعها حتى وقت قريب في ايرلندا. حسنا أن فعلت الكنيسة بالاعتذار عن تلك الشناعات الإنسانية، فمتى يعتذر الشرق عن فظائعه الحربية هو الآخر أيضا؟
وبعد أن بنيت السفن الكبيرة المعدة للاستكشافات الجغرافية في شبه جزيرة أيبيريا (أسبانيا والبرتغال) كما تشير الوثائق الأوربية، محملة بالمدافع التي أصبحت تقاس بها، باتت البشرية على حافات جديدة من الحروب الكبيرة طويلة الأمد. كانت السفن الشراعية الكبيرة هي التي جلبت معها روائح الشرق وأطايبه ومغانمه من جديد للأوربيين، وهي في الوقت نفسه من حملتهم إلى غياهب العالم الجديد عام 1492. فتم الأستيعاض عن الحملات الصليبية البرية تجاه فلسطين والعالم الإسلامي بحملات بحرية وبمباركة بابوية أيضا. فليس ثمة تغيير سوى في الستراتيجية للوصول إلى الشرق أو العوالم المستكشفة والبحث عن بلدان السمن والعسل في أماكن أخر. هاهي حمى البحث المادي المدمر تطل برأسها كأبشع منهجية للفوضى على مدى قرون عديدة.
عندما تصنف تلك الحروب القرصنية العارمة بالرغبات الدفينة للاستحواذ تجد أقدر الصور على ذلك في تلك الحروب التي شنت على الهنود الحمر في أميركا الشمالية، والحروب التي شنت بقسوة متناهية تنحو منحى توراتيا تطهيريا في أميركا الجنوبية؛ إذ دمرت حضارات الأزتك والإنكا والمايا التي اتخذت طوابع التأمل والمسالمة. كانت حروبا دينية من طراز آخر سمحت بها التعاليم المسيحية زورا ضدّ حضارات تأملية شبه ساكنة من اجل الاستحواذ على ثروات الأرض.
انتقلت الروح الأوربية العارمة المليئة بالرغبة بالفوضى من اجل البحث عن المغانم المادية في الاستحواذ الشره ضمن إطار ديني في الحركة الصهيونية ومؤسسيها في أواخر القرن التاسع عشر. الم يعلن ثيودور هرتزل مؤسس الحركة الصهيونية في مشروعه الاستيطاني منذ البداية: أن الروح الغربية المدمرة مزروعة في مشروعه، وهم أي اليهود الصهاينة "الهاكسلاه: المتنورون" يعدون أنفسهم امتدادا لفلسفة الغرب الاستعمارية؟ لذلك ليس ثمة وزارة دفاع في إسرائيل "تساهال: جيش الدفاع الإسرائيلي" فقط بل "وزارة حرب" دائما. فالحرب الدائمة هي المنهجية التي جلبت الخراب والفوضى الكاملين إلى المنطقة العربية على مدى أكثر من تصف قرن.
وحينما هاجم كارل ماركس مشروع هرتزل منذ انطلاقته في نهاية القرن التاسع عشر كان يرى فيه قدرة (ما) بذكائه التاريخي المعهود في تحوله إلى قوة كبيرة مستقبلا. لم تكن معارضة ماركس لمشروع "الدولة اليهودية" في عصره محض مصادفة؛ فقد كان يرى بذهنه الوقاد مخاطر تلك الدعوات على البشرية ومستقبلها. من الضروري أن يقع هجوم ماركس على مشروع الدولة اليهودية ضمن رؤية مستقبلية أكثر من كونه مجرد سياق عام في البحث الطبقي، إذ لم يكن عبارة عن هجوم منمق بمواجهة فوضى طبقة يهودية مالية صاعدة.
لكن تلك الحروب مهما بدت للبعض كفعل إنساني "ذكي" لما يرافقها من خطط و دهاء ومكر وقبح، ووعي إنساني، ونشوات نصر وهمية لصناعها؛ فهي تبقى على المدى البعيد أفعالا فوضوية جُبلت البشرية على أدائها. أليس تاريخ العالم في ذاكرتنا هو تاريخ حروب ودول وإمبراطوريات أكثر من أي شيء آخر حتى نهاية القرن العشرين؟ فلننظر إلى تقييم الحروب البونية وحروب الإمبراطورية الرومانية الكبرى – مرة أخرى- من اجل مجد القيصرية، وحروب هولاكو وجنكيزخان ضد المشرق الإسلامي، وحروب الجرمان على أطراف الإمبراطورية الرومانية... ألا نجد أنها غير مبررة على مدى كبير اللهم سوى الرغبات الفردية للقادة الأقوياء، والأطماع ببناء الأمجاد الشخصية لأفراد قلائل من البشر تعتورهم فوضى المجد الشخصي والدخول إلى ذاكرة الماضي مسربلين بالدماء؟ تخبرنا بعض المواريث الشرقية أنها قد حرمت الكذب في كلّ شيء ما خلا الحرب.. إلا إنها تبقى حروبا فوضوية لم ينتج عنها غير الدمار الإنساني. فليس ثمة ما يوجب شنّ رياح الموت لأسباب تغدو - بعد حين - لا معنى لها كلما توغلنا في عمق التاريخ الدموي للحروب وتمعنا في فظائعه حيث تنتابنا هواجس "اللامعنى" العميقة: وهو عمق مضمون فكرة الفوضى التي يمارسها المتحاربون عادة.
أما لعبة الحرب الستراتيجية الأميركية المغامرة فقد كانت هي المسيطرة على منهجية التفكير على نحو مفزع، والتي لم تحسب النتائج بدقة. فمنذ هانيبال إلى بول وولفويتز مهندس دخول القوات الأميركية إلى العراق وفكرة الفوضى المشبعة (بالرعب والصدمة) هي الغالبة على الفكر المستعد لحرب استباقية تتخذ من الوسائل غير المعروفة طريقا لتحقيق أهدافها, وهي تعدّ من المغامرات العسكرية النادرة (هانيبال- وولفويتز) ككولاج غير قابل للصق في تاريخ العالم العسكري.
كان هانيبال الذي فشل في غزو روما برّاً عبر الألب قد تركه القرطاجيون الذين دمرت مدينتهم وأحرقت وأزيلت من خارطة العالم القديم، هائما متخفيا بين البلدان عارضا خدماته العسكرية على أعداء روما، وقد قال قولته الشهيرة بعد سلسلة الحروب التي شنها على روما: "من الأسوأ القرطاجيون أم الرومان؟" وللجواب عن ذلك التساؤل، لابد لنا من النظر إلى طبيعة الفوضى التي شملت كلا الطرفين ومن الأسوأ في التدمير أيضا؟ كانت تلك التساؤلات خلاصة المنهجية الكامنة وراء فوضى العمل العسكري وهي من أقدم القلاع التي انهارت أمام لغة الحرب القاسية. لقد وضع هانيبال الهائم على وجهه يده على جذر الفوضى في الحرب أخيرا دون أن يعرف ذلك حقيقة حتى استطاع قتلته من الوصول اليه.
ومن اجل الخروج من جلد الحرب العفن القديم والجديد والقادم الذي لما يزل يجهز على الإنسانية هنا و هناك من المعمورة على نحو يثير الدهشة لا بدّ من السلام؛ هذه الفكرة المثالية لا تصلح للتبشير فحسب، بل لا بدّ من وضع آليات أكثر رسوخا لتعميمها على البشرية القادمة، وزلا بدّ من الدفاع عنها في كلّ عصر لمواجهة حمى الفوضى الحربية؛ حيث إن فظاعات حروب قادمة سوف تكون أكثر وحشية وإفناء ورهبة من سابقاتها جميعا. ولذلك فإن دفع ثمنها - كما تنبئ معظم المؤشرات الحالية- ستكون في منطقة الشرق الأوسط، مما سيضع شعوب هذه المنطقة أمام ضرورة الوعي الإستيقاضي الاستثنائي من اجل تلافي حمى الكوارث فيها. فهل تتمكن من ذلك؟ وهل يكفي وعي الشعوب لتلافي الحروب؟ أم أن حالة اليقظات القومية قد تكون عاملا جديدا على ظهور شبح الحرب؟ وعندما نصف الحروب بالفوضوية فهذا لا يعني أن ثمة حروبا أخرى ذكية ومنظمة ومسؤولة؛ فكل الحروب منذ بدء التاريخ ومهما كانت مبرراتها تقع في دائرة الفوضى البشرية، وما تزال حتى هذه الساعة يرى البعض من صناع القرارات السياسية والعسكرية، إن الحرب يمكن أن تكون حلا دائما لجميع المشكلات التي يعاني منها الحكام بالدرجة الأساس وليس الشعوب بالضرورة. لذلك يشنون الحروب من حين لآخر في عصرنا للتعويض والتمويه عن صراعات داخلية متوقعة والأمثلة أكثر من أن تحصى.
ليس ثمة حروبا بين الشعوب والأمم الديمقراطية منذ الحرب العالمية الثانية وإلى يومنا هذا، كما يورد ذلك مفكري الغرب السياسيين؛ فقد نقل الميدان إلى خارج "اللعبة" على الأرض الخطرة إلى الشرق أو الجنوب من الكرة الأرضية؛ هذا ما يفسر لنا الرغبة العارمة في تلافي حرب البوسنة ومأساة كوسوفو ومعاقبة مرتكبيها في العقد الأخير من القرن العشرين لأنها جرت على حافات أوربا. لم يعد بإمكان الإنسان في أوربا احتمال فكرة القتال من اجل معظم الأسباب القديمة المكرورة. وما اشتراك بعض الدول الأوربية في الحرب الأميركية على العراق إلا حالة خارج السياق حيث لحق حلفاء الولايات المتحدة الواحد تلو الآخر بقائمة المتنحين عن السلطة: أزنار الأسباني وبرلسكوني الإيطالي وأخيرا توني بلير الانكليزي وفي وقت قياسي.
في القرون الوسطى كانت الحروب تشنّ لأتفه الأسباب بين الأمم والشعوب والجماعات الدينية والعرقية والإمبراطوريات الكبرى والدول الصغيرة سواء بسواء. أما الآن فإن الحروب تشن من الإمبراطوريات الكبرى الجديدة من وراء البحار حيث تسيّر الأساطيل، وحاملات الطائرات، وتبعث الجيوش، وتنزل الدبابات، وتطير المقاتلات، ليظهر كلّ شيء من خلال شاشات التلفاز وكأنه حالة من الرسم الإلكتروني والألوان من تضعيف واحد؛ ثمة خطوط شمالية وشرقية ولا شيء غير الانفجارات التي تشبه الألعاب الطفولية لجهاز play station بالنيابة عن الإمبراطورية العظيمة، ولأسباب اقتصادية بالدرجة الأساس. هل ثمة فرق كبير بينها وبين شعار الحروب الاستعمارية الأولى: جئنا محررين لا فاتحين؟
ومن الأسباب تلك التي كمنت وراء الحروب المدمرة الهمجية التي بقيت حبيسة البحث العلمي البحت ولم يقدم عنها إلا تقارير سرية تحجب عن العالم عادة؛ كما هو عليه الحال في "التقرير السري" المقدم من وكالة الاستخبارات الأميركية الذي لم ينشر منه إلا بضع صفحات - بأمر من الرئيس بوش نفسه- عن حرب الولايات المتحدة على العراق. وكذلك التقرير المهم الذي أعده جيمس بيكر عن حالة الحرب في العراق.
لم يحاول عموم الناس منذ فجر الوعي الإنساني معرفة و قراءة الأسباب الحقيقية الدافعة لشن الحروب؛ تلك الفواجع والكوارث الإنسانية، وخاصة في الحروب الطويلة الأمد كحرب داحس والغبراء العربية في عصر ما قبل الإسلام، وحرب الوردتين، وحرب السنوات ألثمان الأوربية، وحرب العراق وإيران، وحرب العراق والكويت، والحروب البونية، والحروب الصليبية، والحروب العربية الإسرائيلية الست، والحرب العالمية الثالثة على الإرهاب التي يتوقع لها أن تستمر عقودا قادمة وسط سيول من الدماء الحارة من مختلف الأمكنة من العالم. وثمة محاولة لنخب مفكرة لإنعاش الذاكرة الإنسانية دائما لكن قضية فوضى الحرب لما تستغرق الفكر الإنساني عميقا بعد. هل هي محاولات منظمة من شانّي الحروب أم إن طبيعة البشرية التي لا ترغب في تذكّر مآسيها؟ لننظر جيدا إلى أبناء الجيل الحالي في إعراضهم عن الأفلام الوثائقية حول حروب العالم وقبولهم برامج التسلية؟
وكانت تلك "الرحلة الفوضوية" الطموح تعني: ارتباط الحرب بالقوة الفردية، والقدرات الشخصانية، والآمال البعيدة أيضا؛ وهي أول محاولة بقيت عالقة في ذاكرة أوربا الغازية القابلة للتكرار بفعل الفكر الفوضوي العسكري الذي يقودها منذ أمد بعيد. ومن المهم ذكر أن نورمان شوارتسكوف قائد الحلفاء في حرب الخليج الثانية الملقب بنورمان العاصف stormy Norman قد أعلن أنه تأثر "بخطة هانيبال" بهذا المقدار أو ذاك، وأفاد من دروسها في حرب الخليج الثانية على نحو خاص. كما إن الفكرة تكررت في لعبة الأفعوان الأميركي الذي اجتاح العراق في مدة الأسابيع الثلاث. فمن يؤرخ لواقع الحروب كما تقع حقيقة في القرون القادمة؟ ومن يدل البشرية على فظاعتها وتناقضاتها؟ يمكننا أن نكتشف ذلك بيسر في تلك الملايين الهاتفة بحناجر قوية لشاني الحروب في كلّ العصور امام المشاعل حيث تستعرض مئات الآلاف أمام منصة التحية الهتلرية. وكما تقع فعلا حيث تحترق الجثث ولا يعرف الأشخاص إلا من خلال معالم بسيطة أو من وضع الأسنان بالنسبة لبشرية العالم الأول، ولولا الاكتشاف الخطير للحمض النووي DNA لما تمكنوا قد من تمييز الجثث. فهل يكفي إقامة رموز المجد من التماثيل والمشاهد الكبيرة للجنود الذين قضوا في الحروب ليمنح القتلة ما يكفي من راحة لنفوسهم المريضة؟ ليس ثمة قيمة كبيرة للقتلى وهم يظهرون على العنوانات الرئيسة للفضائيات العالمية أو المواقع الإلكترونية وخاصة بعد مرور أيام على الحدث، لأن ثمة ما هو أبشع وما هو أشنع في الطريق. لذلك تستهوي الغربيين خاصة أخبار الجرائم الشخصية أكثر من حالات الحروب بين الدول وما ينتج عنها من مآس إنسانية. إنها حالة قصف دائم للوعي.
تمّ شن أكثر من ثمانين حربا أهلية ودولية في العالم بعد الحرب العالمية الثانية وخلال النصف الثاني من القرن العشرين المنصرم. ولم تجر حتى الوقت الحاضر مراجعات جدية وإحصاءات أممية لمعرفة مدى الكوارث الإنسانية التي حلت ببني البشر بعد الحرب العالمية الثانية. ولا احد يعرف حتى الوقت الحاضر لمَ تجري تعتيمات على منطقة الشرق الأوسط وحال الحروب فيها؟ هل إن هذه المنطقة خارج الوعي العلمي و الإعلامي العالمي؟ أم أن إمبراطوريات الإعلام التي يهيمن عليها دهاقنة المال اليهود الصهاينة لا تريد فتح ملفات قريبة من الجرائم التي تقترفها إسرائيل يوميا بحق الشعب الفلسطيني والتي اقترفتها ضدّ شعوب عربية أخر؟ وتطال الحال أيضا المأساة التي يعيشها الشعب العراقي بدءا من بداية الحرب العراقية الإيرانية ومرورا بالمقابر الجماعية وحرب المفخخات والأحزمة الناسفة في الشوارع.
كتب الرئيس الأميركي السابق بيل كلنتون في مذكراته الرئاسية عن مدة ولايتيه، معترفا بعدم اهتمام الإدارة الأميركية والأمم المتحدة وقتذاك بما يكفي لمعالجة قضية الحرب الأهلية في رواندا، وعدّ ذلك من الأخطاء الكبرى بالنسبة له شخصيا ولإدارته على مدى ثماني سنوات. كما أنه لم يتوان عن اعتبارها عقدة ذنب ترافقه دائما، لكنه - وهذا ما يثير الدهشة أيضا- لم يشر ولو بطرف عين إلى الشناعات الكبرى التي اقترفتها إدارته بحق أطفال العراق حيث قضى أكثر من مليون طفل موتا بسبب قرارات دولية عمل هو شخصيا على إذكائها وهي كما يعرف جيدا لم تؤثر على النظام السياسي الدكتاتوري السابق، إن لم تكن قد منحته قوة أضافية لكبح جماح العراقيين والحيلولة دون استمرار معارضتهم.
كانت الطفولة العراقية حربا خفية أخرى للولايات المتحدة وحلفائها ذبحت بها البراءة ذبحا هادئا بعيدا عن عين العالم المؤثرة إلى حدّ بعيد. ولم تأخذ ما يكفي من النظر التاريخي والسياسي بسبب ضعف الإعلام العربي والعالمي وغفوته الطويلة واهتمامه بالأخبار العامة التي تتعلق بالإثارة كوجبات هامبرغر سريعة. فثمة تعتيم دائم على الجرائم التي تقع في منطقة الشرق الأوسط ؟ وثمة ما يكفي من قصف الوعي المنظم لهذه المنطقة الساخنة من العالم وصولا إلى حالة اللاوعي التام المستمر. وكمثال على استمرار الخرق للذهنية العربية من خلال منهجية الحروب الفوضوية يمكننا أن نتساءل: هل نجح الإعلام العربي في توثيق الحرب اللبنانية - الإسرائيلية في تموز 2006 أخيرا؟ وهي حرب شوهدت على شاشات التلفاز أكثر مما قرئت عنها في الكتب. فهل استطاعت القنوات العربية الفضائية الكثيرة التي زادت على المائتين حتى الآن - ولما تزل تتوالد يوميا - أن تخرق جلد الحرب العفن فعلا الذي يمارس يوميا ضدّ الإنسان العربي؟ ولتقدم إلى وعيا معقولا يتناسب وطبيعة التحديات التي تواجهه؟ أم إنها اكتفت بإبراز أكداس الدمار وجثث القتلى في العراق ولبنان وهي ما انفكت تسترسل مذكرة العالم في كلّ مرة "بمذبحة قانا" بعد كلّ غارة إسرائيلية وحشية فحسب دون ان تعمل على إبراز المذبحة القائمة أو تلك التي ربما ستقوم ضد المدنيين؟
ربما يحسب المراقب العادي لتوصيل فعل الحرب الحديثة: أن ثمة قناة واحدة تنقل الحال، وما عدد القنوات العربية تلك إلا محض تعددية إدارية ضرورية. وتجد في الوقت نفسه ثمة توصيفات تمتلك بعض الاختلاف بين السي أن أن والفوكس نيوز والبي بي سي .. لكن القنوات العربية خاصة متشابهة في ردود أفعالها بإزاء منهجية الحرب على العراق. لم تتعلم القنوات العربية بعد من التوازي الذي كان عليه الإعلام الحكومي العربي منذ حرب 1967 وحتى يومنا هذا. فقدمت للذهنية العربية واحدة من طرق منهجة الحرب الواحدة وأسهمت في تغييب الوعي العربي من جديد.
وإذا كانت الحكومات المليئة بروائح الحروب المطبخية القادمة على الشرق الأوسط تحاول قصف وعي الإنسان الغربي والأميركي من خلال تغييب صور هول الحرب على البشرية وما تفعله القنابل العنقودية والفراغية والقنابل غير نووية من زنة مئات الأطنان، فإن الإعلام العربي وقت الحرب وما بعدها يصر على إبقاء "حالة اللاوعي" قائمة، وما يقدمه هو مجرد صور فوتوغرافية تمحى من الذاكرة بعد المشاهدة الأولى. لم يخسر هانيبال الإسباني الأصل والقرطاجني المحارب وحده في حربه ضدّ روما لأن القائمة طويلة وما تزال تنتظر أسماء جديدة.
بالتالي كان تعبير " الفوضى البناءة " في منهجيته الحربية والذي صمم في معهد " أميركان انتربرايز " إذ يعتبر قلعة المحافظين الجدد والمهتم بصياغة مشروعات بوش السياسية للشرق الأوسط، يلخص ستراتيجية كاملة أعدت للمنطقة العربية تهدف إلى إجراء " حملة طويلة من الهندسة الاجتماعية " ومن الصعب أن نرى بان هذه الهندسة بعيدة عن منهجة الحرب والفوضى التي ستشاع فا أثنائها وبعدها وهي تفرض بالقوة على شعوب المنطقة. وكما يرى المفكر الستراتيجي مايكل ليدن العضو البارز في المعهد، فإن " التدمير البناء هو الصفة المركزية " وإن " الوقت قد حان كي تصدر الثورة الاجتماعية" هذه الثورة ليست ببعيدة عن إثارة الانتماءات العرقية والطائفية والجهوية، من أجل إعادة صياغة المنطقة العربية كصفحة اولى عبر تغيير لا يشمل النظم السياسية فقط، بل الجغرافية السياسية كذلك؛ انطلاقاً من رؤية خاصة تقود إلى " تصميم جديد لبناء مختلف ".
وتستند هذه الرؤية إلى تراث المستشرق برنارد لويس الذي لا يستطيع أن يرى الوطن العربي إلا كونه تجمعاً لأقليات دينية وعرقية عاجزة عن العيش معا ولذلك لابدّ لها من" الكنتنة" في كيانات دويلات تتخذ طابع الوطنية الجزئية. وإذا كان الشعار هو " قضية الديمقراطية " المرتبطة بمصالح أميركا، فإن تحقيقها كما يفترض لويس، يرتكز على الاستخدام الصريح للطائفية في إطار تلك الستراتيجية. بحيث أن التنوع الطائفي والديني والإثني الذي يسكن المنطقة العربية يصبح في حالة تناقض مستحكمة؛ الأمر الذي يفرض أن يتشكل كل دين و طائفة وإثنية في تشكيل سياسي خاص بها، وصولا إلى اكبر مقدار من "الدمقرطة"، وحسب وضع كل دولة عربية قائمة.
ومن هنا يتحول التنوع إلى كارثة اجتماعية قبل أن يكون كارثة سياسية واقتصادية لأن الديمقراطية كحل اجتماعي بالدرجة الأولى هي منتِج " التدمير الخلاق" من وجهة نظرهم وهي ليست خيارا شعبيا سلميا. فنشر الديمقراطية هو الشعار العام الذي حكم السياسة الأمريكية منذ احتلال العراق في 2003، واستناداً إلى " نظرية الدومينو " التي تعني تدحرج النظم واحدة بعد الأخرى في حالة سقوط النظام الإرتكازي فإن العراق هو مركز العمل في الشرق الأوسط. وانطلاقاً من المفاعيل التي أحدثها سقوط النظام في العراق وإعادة رسم الجغرافية السياسية التي تشكلت منذ الحرب العالمية الأولى فإن إعادة الخارطة السياسية للشرق الأوسط يتلاءم مع طبيعة الفوضى البناءة القادمة التي يراد لها أن تتخذ – أيضا- طابع الحتمية التاريخية كما كانت الماركسية.
فالموافقة علي تحويل الدولة إلى دويلات مدن او أحياء أميبية ليست جديدة علي الولايات المتحدة الأمريكية، فالأفكار الولسنية – نسبة إلى الرئيس الأميركي وودر ويلسون - في تقرير المصير أعاد إحياءها الأمريكان منذ عام 1918 بعد الحرب العالمية الأولي، واعتبرت طريقة لتسوية مشاكل الدول في بداية القرن الماضي ومنهجية لها مقابل الانهيارات القديمة للإمبراطوريات الألمانية والروسية والنمساوية والمجرية. ويمكن استناداً لحق تقرير المصير الوارد في المبادئ الأربعة عشر الولسنية إجراء استفتاء عند الضرورة للسماح للجماعات الاثنية بتقرير المكان الذي تنتمي إليه. وفي التقرير الأميركي لشهر نوفمبر 2006م (Measuring Stability) يوضح الوضع في مناطق العراق كمنهجة دائمة للفوضى البناءة ومن خلال استطلاعات الرأي، فالسؤال الأول: ما مدي الثقة بأن الحكومة تستطيع أن تحسن أوضاع العراق، في عام 2006م في الفترتين يوليو وأكتوبر كانت الإجابة: الموصل يوليو 75% وانخفضت في أكتوبر إلى 25%، وكركوك في يوليو 50% والثانية 50%، تكريت وبعقوبة 25% في الفترتين، وبغداد كانت 100% في يوليو وفي أكتوبر 75%، والفرات الأوسط 100% يوليو وانخفضت إلى 75%، والجنوب كانت 100% في يوليو وانخفضت في أكتوبر إلى 75%. فانخفاض الثقة بالحكومة على العموم سوف يؤدي إلى التفكير بمنهجية ما من اجل الخروج من المأزق الذي أوجدته الولايات المتحدة وحليفاتها أصلا. وتظهر الإحصاءات على العموم فشلا ذريعا في مواجهة الفوضى الدائمة في العراق. لكن قوى الاحتلال في الوقت نفسه لا تعير أهمية كبيرة لذلك الفشل المتواصل في منهجية الحرب الفوضوية التي تشنها تماما مثلما بفي هانيبال لا يعير أهمية تذكر لفشله في حربه الفوضوية ضدّ روما. وبقي تساؤله قائما: من الأسوأ الرومان أم القرطاجيون؟

























تفجير الوعي: العراق إنموذجا






















تعدّ منطقة الشرق الأوسط منذ بداية التاريخ نقطة جذب غامضة لعموم الغزاة الكبار، فما أن تكتمل عناصر القوة في الدولة التوسعية حتى تحاول السيطرة على عموم منطقة الشرق الأوسط؛ هكذا هو شان الإمبراطوريات القديمة كالبابلية والآشورية والفارسية والأموية والعباسية وأخيرا العثمانية التي بدأت على تخوم أوربا ثم استدارت نحو الشرق الأوسط. وليس غريبا إن الغزاة العالميين جميعا كانت هذه المنطقة محطّ أنظارهم إذا ما توافرت لديهم شروط القوة والتوسع وسبل السيطرة. فالأسكندر المقدوني جاء بجحافله إليها من اليونان وصولا إلى الهند، وهولاكو، وجنكيزخان، والحملات الصليبية في بداية الألفية الثانية، ونابليون بونابرت غازي مصر والشام 1798- 1801 والهيمنة البريطانية الفرنسية الاستعمارية على العديد من بلدان الشرق الأوسط في العصر الحديث، ثمّ جورج دبليو بوش أخيرا.
ثمة مقولة ستراتيجية قديمة تقول: إذا أردت السيطرة على العالم لابدّ من وضع اليد على منطقة الشرق الأوسط. لا تعود أهمية هذه المنطقة في الوقت الحاضر إلى وجود أهم مصدر للطاقة فيها ألا وهو النفط، لكن إلى موقعها الجغرافي الرابط بين قارات العالم القديم، وهو العامل الحاسم على الرغم من جميع التطورات التكنولوجية المتعلقة بثورة الاتصالات الكبرى، والتطور الحاصل في تنقل الجيوش وتعبئتها للقتال كما تشير إلى ذلك العقيدة العسكرية الأميركية لما بعد الحرب الباردة.
وتعد بلاد ما بين النهرين (ميسوبوتميا) كما يطلق عليها الغربيون مركز منطقة الشرق الأوسط ونقطة تمحوره، وليس اعتباطا أن يكون العراق موضع "اللقاء الستراتيجي" فيها. ولا يمكن تفسير مجيء الغزاة إلى منطقة الشرق الأوسط "بالرغبة الغامضة" التي تسوقهم إلى "سحر الشرق" كما يحاول ذلك بعض المستشرقين والرحالة الغربيين بمقدار ما يتوافر في هذه المنطقة من ثروات مادية فضلا عن يسر طرق التجارة والمواصلات إليها.
فالوصول إلى هذه المنطقة يعني "فائض موت جديد" في الشرق الأوسط؛ كتب الفيلسوف الفرنسي الراحل ميشيل فوكو ذات يوم واصفا الحرب العراقية الإيرانية 1980 - 1988 التي طال أمدها بأنها " فائض الموت على ضفاف الخليج" وكان يريد بذلك كبر الفظائع الإنسانية التي رافقت تلك الحرب الضروس واستمرارها بمراقبة دائمة من المجتمع الدولي. ولو أن العمر قد امتد بفوكو حتى قيام الولايات المتحدة بغزو العراق عام 2003 لأصبحت لدية فكرة كاملة عن فائض الموت العالمي الذي تمكّن من هذا المكان. فصندوق (باندورا)(*) لما تنضب هداياه بعد في منطقة الشرق الأوسط. والوعي المهدور إبان الحرب العراقية الإيرانية أصبح حجمه كونيا.
كانت منطقة الشرق الأوسط محط بحث دائم في الجامعات ومراكز البحوث على مدى مئات السنين في أوربا، حيث تكللت جهود الاستشراق بأهم النتائج عنها. وحينما أزاح المفكر ادوارد سعيد الستار عن الدوافع الكامنة وراء حركة الاستشراق منعت كتبه بقرار من الكونغرس الأميركي فقد كان ادوارد سعيد الأميركي الجنسية والفلسطيني الأصل؛ يرى بان منطقة الشرق الأوسط سوف تكون هي نقطة التمحور العالمي الجديدة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي دائما.
وإذا كانت الحروب القديمة قد شنت للاستيلاء على روح عالم الشرق الأوسط فإن كلا الحربين العالميتين الأخيرتين قد شنتا من اجل إعادة توزيع المستعمرات في الشرق الأوسط على نطاق واسع أيضا، والوصول إلى منطقة الشرق الأوسط حيث أرسلت ألمانيا النازية جيوشها إلى منطقة العلمين الليبية وصولا إلى الإسكندرية والقاهرة في محاولة نابليونية أخرى. كان جميع الغزاة القدماء والجدد يحملون في جعبهم ما يكفي من الفوضى إلى هذه المنطقة التي طالما عرفت بالتنظيمات القانونية والتشريعية والروحية.
ولم يكن ثمة احد ينتظر مقدارا كبيرا من الفوضى البناءة التي تجتاح العالم المعاصر الآن كالمؤرخ البريطاني أرنولد توينبي الذي عكف على دراسة وثائق كثيرة قديمة وحديثة ومعاصرة في مكتبة المتحف البريطاني، فحاول من خلال نظريته الشهيرة "التحدي والاستجابة" تقديم تفسير مستقبلي هو الأقرب إلى المعقولية عن مصير العالم وحركته التاريخية، في عمل جاد ومضنٍ لوضع بديل ما غير محدد المعالم عن نظرية المادية التاريخية التي جاء بها كارل ماركس (1818 – 1883م) الذي عكف في النصف الثاني من القرن التاسع عشر على كتابة تاريخ الطبقات ومصير العالم في سفره الاقتصادي رأس المال حيث رأى بان الشيوعية هي المرحلة النهائية لفوضى الإنتاج الرأسمالي في العالم. العالم الذي سيؤول إلى الفوضى العارمة، والحرب، ثمّ العالم الذي سيجد نفسه بحاجة إلى التنظيم ثانية: هذا الجدل الدائم والدائر بين الفوضى والتنظيم؛ هما الدافعان الأساسيان لحركة العالم، وليس التناقض بين وسائل الإنتاج وعلاقات الإنتاج كما تحاول تفسير ذلك الماركسية. بيد ان توينبي لم يكن ينتظر هذا الحجم المروع من الفوضى التي تجتاح العالم من أقصاه إلى أقصاه في واحدة من المشاهد الفاقدة للرؤية في ظل هيمنة إمبراطورية كبرى للولايات المتحدة ولما يزل عالم اللسانيات " نعوم تشومسكي" يكيل لها اللعنات الفكرية من حين لآخر.
فالفوضى في فلسفتها هي نتاج للحرب؛ والحرب نفسها نتاج للفوضى أيضا، وهي لا تكمن في النزوع الإنساني لرفضها فحسب، ولا في تقبل وجودها كحالة مرافقة لعموم الحركة البشرية منذ بدء الحضارة الإنسانية؛ بيد أنها في مفهومها العام وفي صلب انطلاقتها المعاصرة بعد الحرب العالمية الثانية تعود إلى "الحركة الشتراوسية" على الأخص، بنشوء تلك العلاقة الحميمة بين ليو شتراوس وشخص روسي مهاجر إلى فرنسا يدعى " أليكسندر كوجيف " حيث كان الأخير حتى نهاية حكومة فيشي النازية إبان الحرب العامية الثانية من أكبر المتعاونين معها، وكان يرى إن (فوضى العالم) لا يمكن تنظيمها إلا من خلال التصورات النازية وحدها والتي ثبت خطلها الفكري والتطبيقي حيث كلفت البشرية ما يزيد على (70) مليون ضحية دون أن تستطيع تحقيق "السلام النازي" الاستعلائي في أوربا أو العالم. حاولت الشتراوشية أن تفجر الوعي الإنساني على انتظار لملمة شتاته.
ثم اختفى كوجيف عن الأنظار ليؤسس بعد ذلك الحركة الفاشية الجديدة في فرنسا، ثمّ عاد ليؤسس الحركة الفاشية الدولية؛ وهو يعد قائد أكبر حلقة فاشية في القرن العشرين. من الصعب ملاحقة ومعرفة النشاطات السرية التي اضطلع بها كوجيف بعد ذلك، وطبقاً لما ذكره المتخصّصون بفكر الفيلسوف ليو شتراوس، الذي يُعد واحدا من اكبر ملهمي أساطين "المحافظين الجُدد" في المجال المؤدلج. فالسلطة الحقيقية لا يمكن ممارستها – من وجهة نظرهم- إذا ما بقي المرء في حالة ثبات وسكون دائمين، أو حافظ على الوضع الراهن؛ بل على العكس، ينبغي العمل على تدمير كل أشكال المقاومة للثبات. والفكرة باختصار: إغراق الجماهير الفقيرة بالذات (بالفوضى) كيّ تتمكن (الصفوة) من ضمان استقرار وضعها. هكذا يمكن ان يدمر الوعي الإنساني وهكذا يمكننا فقط لملمة أجزائه. ولا يمكننا أن نفهم معنى الصفوة إلا في كبار الرأسماليين المهتمين بصناعة الأسلحة على نحو خاص والتهيئة الكاملة لعسكرتهم. وحسب رأي الخبراء بفكر ليو شتراوس، بهذا العنف فقط يُمكن أن تندمج المصالح الاستعمارية للولايات المتحدة مع المصالح الاستعمارية الجديدة لإسرائيل.
وعلى الرغم من الانحسار العام الذي أصاب تلك الحركة بعد الحرب العالمية الثانية إلا أنها لم تلبث أن عادت بوجه أكثر أهمية في استنهاضها من قبرها التاريخي، وخاصة بعد السقوط المدوي للإتحاد السوفيتي السابق عام1991. ولذلك كان عقد التسعينات من القرن الماضي هو من أهم المدد الزمنية التي بزغت فيها رؤى الفوضى البناءة. وهنا تجدر الإشارة إلى أن بول وولفويتز مهندس الحرب على العراق عام 2003 ونائب وزير الدفاع الأمريكي السابق دونالد رامسفيلد، ومدير البنك الدولي الذي خرج بفضيحة قانونية، هو أحد تلامذة "ألان بلوم" الذي عرف بكونه أحد قادة الحركة الشتراوسية الأمريكية، والساعد الأيمن لليو شتراوس نفسه.
وتشير التقارير أن أبرز أعضاء الحركة الشتراوسية الفاشية الأميركية الجديدة من صقور الإدارة الأمريكية في البيت الأبيض هو ديك تشيني نائب الرئيس الأمريكي، ودوغلاس فيث، وريتشارد بيرل, وجون آشكروفت، وكوندا ليزا رايس إضافة إلى الداعية المثير إلى ما يعرف ب " الحرب العالمية الثالثة ": روبرت كاغان الذي أشتهر بطروحاته المتقدمة في هذا المجال، والتي عاد ليكررها أخيرا قائد القوات الأميركية في الشرق الأوسط جون أبي زيد أخيرا مثل درس ثانوي حيث لاقت رواجا إعلاميا كبيرا منذ شهر تشرين الثاني من عام 2006. تركز أفكار كاغان على الوعي المشوش بالمستقبل خاصة.
والأخطر من هؤلاء جميعا, هم أولئك الصحفيون الذين يسيطرون على الإعلام الأمريكي باعتباره من أكثر الصناعات الكبرى أهمية في التأثير في الرأي العام ابتداء، من "روبرت مردوخ" ونهاية بالعشرات النشطين الذين يكتبون في وسائل الإعلام التي يمتلكها ويديرها "اللوبي الصهيوني" في الولايات المتحدة وغيرها من الدول الأوربية.
فالحرب العالمية الثالثة التي بشر بها جون أبي زيد قائد القوات الأميركية في الشرق الأوسط في حالة استشراء الإرهاب على نطاق أوسع ما هي في مضمونها النهائي إلا حربا تضليلية تشنها الولايات المتحدة ضدّ شعوب الشرق الإسلامي بالدرجة الأساس.
ومن هنا فإن الولايات المتحدة لن تدخر وسعا في تقديم المعونات إلى كوريا الشمالية مقابل تنحيها عن تطوير أسلحة نووية، أما إذا تعلق الوضع بإيران، فهي لا تدخر وسعا في تحشيد الرأي الأوربي لتوجيه سلسلة من العقوبات لها، أو الشروع بتوجيه ضربة عسكرية لها إذا لزم الامر. فالفوضى في موازين العلاقات الدولية تضرب إطنابها، لكنها فوضى بناءة من وجهة النظر الاميركية تصبّ في بحر المصالح الكبرى للولايات المتحدة في العالم.
لن أناقش هنا دور "المؤامرة" حيث تجري عملية تغييب للخطط الإسرائيلية والأميركية بدعوى محاربة نظرية المؤامرة في تنفيذ الفوضى البناءة، ولا القول "بالثورة الدائمة" على الطريقة الأميركية، لأن مفهوم الثورة قد تعزز بما لا يحب اليمين المحافظ الأمريكي أن يراه قائماً أو مستمراً في الشرق الأوسط أو غيره. ونعرف الآن بالتأكيد أن ما حدث في المجر ورومانيا وجورجيا وأوكرانيا وكاد يحدث في روسيا حين خرج عشرات أو مئات الألوف في مظاهرات ملونة كان بتخطيط وتمويل أمريكي بحت. وقد اتهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتن جهات خارجية بتمويل المعارضة لنظامه في روسيا. كان الهدف، ليس فقط إسقاط حكومات بعينها أو أنظمة حكم شيوعية تعارض الرأسمالية، ولكن أيضاً تدمير مؤسسات وأفكار وقيادات استقرت طويلاً في محاولة لتنظيم الوعي الإنساني، ولن تكون ذات فائدة لأغراض الغرب، وبخاصة الولايات المتحدة.
تحتاج الحروب دائما إلى أسباب مباشرة لشنها، فهل كان ضرب البرجين التجاريين في نيويورك عام 2001 هو السبب لمباشر لشنّ حرب عالمية طويلة الأمد على العالم الإسلامي أم هو المقدمة لها فقط؟ وهكذا فقد جاء احتلال أفغانستان والعراق كصفحتين مباشرتين في هذه المقدمة الصعبة. واستنادا إلى دستور الولايات المتحدة، فإن الرئيس الأميركي يملك صلاحيات إعلام الحرب على الرغم من هذه الصلاحيات تتعلق بالكونغرس، ولكن على وفق قانون صلاحيات الحرب الأمريكي لعام 1973 War Powers Resolution of 1973 يمكن لرئيس الولايات المتحدة إرسال الجيوش إلى دولة أجنبية لمدة 60 - 90 يوما دون الرجوع إلى الكونغرس. وفي 3 أكتوبر 2003 حصل جورج دبليو بوش على موافقة الكونغرس بعد خلافات عديدة مع أعضاء الكونغرس من الحزب الديمقراطي على إرسال الجيش الأميركي إلى العراق.
واصدر مجلس الأمن القرار رقم (1441) الذي دعي إلى عودة لجان التفتيش عن الأسلحة إلى العراق وفي حالة رفض الأخير التعاون مع هذه اللجان، فانه سيتحمل "عواقب وخيمة". هكذا كانت اللعبة الدبلوماسية – في البداية- تتمحور في كلمتي "عواقب وخيمة" كمبرر لشن الحرب. ولم يذكر كلمتي "استعمال القوة" في القرار (1441) وعندما وافق عليه مجلس الأمن بالإجماع لم يكن في تصور الدول المصوتة عليه آنئذ إن "العواقب الوخيمة" كانت محاولة دبلوماسية مبطنة من الولايات المتحدة لشرعنه الحملة العسكرية على العراق. ومن الجدير بالذكر إن السكرتير العام للأمم المتحدة كوفي عنان كان قد صرح بعد سقوط بغداد: إن الغزو كان منافيا لدستور الأمم المتحدة؛ ولكن بعد فوات الأوان.
وعند صدور القرار أعلنت كل من روسيا و الصين و فرنسا وهم من الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن إن القرار (1441) لا يعطي الصلاحية باستعمال القوة ضد العراق، وكان هذا الموقف هو الموقف الأمريكي و البريطاني نفسيهما في بداية الأمر، لكن موقف الولايات المتحدة تغير بعد ذلك.. ويعتقد بعض المراقبين إن الولايات المتحدة كانت مصممة على استهداف العراق عسكريا بغض النظر عن إجماع الأمم المتحدة أو عدمه، وان لجؤها للأمم المتحدة كانت محاولة لكسب شرعية دولية للحرب على غرار حرب الخليج الثانية.
الولايات المتحدة 250.000 (83%)
بريطانيا 45,000 (15%)
كوريا الجنوبية 3,500 (1.1%)
أستراليا 2,000 (0.6%)
الدنمارك200 (0.06%)
بولندا 184 (0.06%)

حتى أن مثقفا فرنسيا كبيراً مثل جان بودريار الذي كتب كتاباً قال فيه: إن حرب الخليج لم تقع! وهذا بالفعل عنوان كتابه عن حرب الخليج الثانية. وبعيدا عن مجمل التأويلات لطبيعة مفهوم الكتاب عن الحرب، فقد شرح برهان غليون المهتم بشؤون الشرق الأوسط: أن ما أراده بودريار حقيقة أن يقوله لنا بهذا العنوان المثير للدهشة، ليس إنكار حصول واقعة حرب الخليج على الأرض، بل القول: إن رواية الولايات المتحدة لهذه الحرب تجعل هذه الحرب كأنها لم تقع، بسبب التعمية الكبرى التي حدثت فيها، والوسائل العديدة في تزييف المعلومات، ولأنها منعت حصول صورتها الحقيقية كحرب في الوعي الإنساني كما حدث لدى حروب سابقة كثيرة كحرب فيتنام والكوريتين. فالحرب مرتبطة بالقتل والدمار والفوضى ولم تقدم غير صور تلفزيونية للمتلقي؛ هي حرب اقرب إلى الألعاب الالكترونية الطفولية.
لم تعرض علينا الحرب غير صورها المأخوذة عن الجو غالبا والتي تحكمت بتعميمها ونشرها الإدارة الأمريكية العسكرية على شكل رسومات هندسية وخطوط ودوائر مستمدة من المجسمات الحاسوبية أساسا تبين إصابة الأهداف بدقة بالغة ولم تظهر مقتل شخص واحد ولا دمار مبنى؛ هذه الصور لا تعني شيئاً بالنسبة للحرب الواقعة فعلا. إنها تقنية وليست حرباً بمقدار ما تعني الحرب القتل المشخص العنيف والدمار العشوائي. لذلك فقد غيبت الحرب واقعيتها عن الذهن الغربي على نحو متعمد، في حين كان الوعي العربي كعادته التقليدية متفرجا ومجترا لأحداث أكثر من كونه فاعلا فيها وهو يجلس قبالة التلفاز.
أما على الصعيد القانوني فقد كانت بريطانيا - على سبيل المثال- وحتى قبل أيام من بدء الحملة العسكرية تحاول الحصول على قرار دولي صريح، وبلا غموض، يشرّع استخدام القوة على الضد من الإدارة الأمريكية التي بدت قبل أيام من بدء الحملة غير مبالية كثيرا بالحصول على إجماع دولي. ويعود هذا إلى الاختلاف الشاسع في وجهتي نظر بين الشارع البريطاني و الأمريكي تجاه الحرب إلى تقدير نتائجها الفعلية على الساحة الدولية، فعلى الضد من الشارع الأميركي الذي كان أغلبه لا يمانع العمل العسكري نسبيا لقي توني بلير رئيس وزراء بريطانيا معارضة شديدة من الشارع البريطاني وحتى في صفوف حزبه حزب العمال نفسه.وإذا كانت منطقة الشرق الأوسط (العراق وأفغانستان) هما نقطتا العمل في الوقت الحاضر فإن الحرب الكونية الثالثة لا شك بأنها لن تكتفي بهذه البلدان، إذ لا بد من إخضاع جميع الدول "المتمردة" أو تلك التي تحاول أن تبدي نوعا من الرغبة بالاستقلال في قراراتها السياسية. ومن هنا فإن من الصعب توقف عجلة الفوضى في منطقة الشرق الأوسط خصوصا.
وتظهر إحدى الوثائق المتعلقة بالعراق أن الولايات المتحدة في حربها على العراق لم تكن تمتلك ما يكفي من المعلومات على الأرض وكثير من هذه المواد موجودة في وثيقة سرية تمّ إعدادها على يد ضباط أميركيين، وهي تكشف عن الكيفية التي حارب الرئيس السابق صدام حسين وآمروه بها. وللحصول على هذه المعلومات التي تدخل كمادة تاريخية عن الحرب حيث تم استجواب (110) قائد عسكري وضابط، حيث دعي بعضهم إلى حفلات عشاء سخية لجعلهم يتكلمون عن أسرار الحرب؟ بينما تم استجواب آخرين في مراكز الاعتقال بمطار بغداد أو في سجن أبو غريب. وقال طارق عزيز نائب رئيس الوزراء السابق ضمن أحد التقارير للمحققين الأميركيين: «قبل بدء الحرب بأسابيع قليلة، كان الرئيس صدام حسين ما زال يعتقد أن الأميركيين لن يستخدموا قواتهم البرية؟؟ وظن أنهم لن يحاربوا على الأرض، لأنها ستكون مكلفة للأميركيين». وقال سلطان هاشم أحمد الطائي وزير الدفاع الأسبق, وهو من القادة المهمين خلال الحرب العراقية الإيرانية، كما أنه كان رئيس الموقعين في خيمة صفوان عام 1991 لوقف إطلاق النار بين العراق والتحالف الدولي: "أنا في الواقع أصبحت مساعدا لقصي، وأقوم فقط بجمع وتوصيل المعلومات له" جاء ذلك في جلسة استجواب أميركية أولية أشار فيها إلى ابن صدام الأصغر قصي الذي كان قائدا لقوات الدفاع عن بغداد والمنطقة الوسطى من العراق وهو يعمل بإمرته على الرغم من رتبته العسكرية الكبيرة. لقد كانت القوات العراقية قد وقعت في ما يكفي من الفوضى العسكرية والنكوص في اتخاذ القرارات المناسبة.
و كدليل على حجم تلك الفوضى الكبيرة فقد اختير من الرجال ممن هم ليسوا بكفء من اجل حماية بغداد خاصة حيث اختار صدام العميد برزان عبد الغفور سليمان مجيد التكريتي وهو ابن عم لصدام ومقرب له، كي يقود قوات الحرس الجمهوري الخاص التي تعد من قوات النخبة الذهبية في الجيش العراقي وقد جهزت بشدة على الرغم من سني الحصار الاقتصادي الذي فرض على العراق بعد حرب الخليج الثانية. وعلى الرغم من أن العميد برزان لا يمتلك أية خبرة ميدانية- كما يعرف ذلك زملاؤه- وسبق له أن فشل في كلية الأركان العسكرية، وكان معروفا عنه الإدمان على الكحول، إلا انه اختير لذلك المنصب الخطير. وحينما سئل وزير الدفاع السابق سلطان هاشم الطائي عن مهارات ذلك القائد، ضحك بشدة على سؤال المحقق الاميركي. مع ذلك، فإن قائد الحرس الجمهوري الخاص كان موضع مراقبة دقيقة من قبل رجال مخابرات النظام السابق، فقد قال العميد برزان للمحققين الأميركيين: إنه كان يتقلد أخطر عمل في العراق دون أن يكون مؤهلا له؟ وأضاف: «كانوا يراقبونك حينما تذهب إلى الحمام. وكانوا يستمعون لكل شيء تقوله، ويتجسسون على كل شيء». ومن الصعب على العموم العمل في وسط محاط بالشكوك الدائمة. لكن طبيعة النظام العراقي السابق بنيت على تلك الفكرة القريبة من الفوضى إلى حدّ بعيد.
وكانت المفاجأة بالنسبة إلى أولئك القادة والآمرين العسكريين المكلفين بخوض معركة بغداد التي أريد لها أن تكون حاسمة، هو ما اكتشفوه يوم السبت الخامس من نيسان من أن بعض القذائف التي أطلقتها القوات الأميركية على مناطق الرضوانية ليل الخميس ويوم الجمعة 3-4 نيسان 2003 كانت من القذائف والقنابل غير المعروفة، ويعتقد أنها من أنواع القنابل النووية التكتيكية. وتأكد كبار العسكريين من الحرس الجمهوري والجمهوري الخاص أن جثث المقاتلين في هذه المنطقة قد صهرت بالكامل، ولم يتبق منها سوى الهياكل العظمية. وهنا برز الإرباك على أولئك القادة، فاتخذ رئيس الأركان لقوات الحرس الجمهوري الفريق الركن سيف الدين فليح الراوي قرارا بسحب الكثير من ألوية الحرس الجمهوري من مواقعها بغية إعادة التنظيم، وأنهم سيبلغون بالمواقع التي سيتم تمركزهم فيها.
وبعد أن أعطيت الأوامر بذلك، ذهب الفريق سيف الدين الراوي إلى "قصي" في مقره البديل الذي كان عبارة عن غرفة إمام جامع بلال الحبشي في ساحة قحطان قرب مستشفى اليرموك مخبرا إياه بأهمية إعادة تنظيم قوات الحرس شبه المنهارة بسبب ما تعرضت له من قصف كثيف واستخدام القنابل النووية التكتيكية، وانه في حال شيوع خبر استخدام القوات الأميركية لهذه القنابل فإن الحرس الجمهوري في مجمله سينهار مما يعرض البلاد إل مخاطر جمة. لذلك أمر ألوية الحرس في الرضوانية والمطار وفي أبو غريب واليوسفية القريبة من الرضوانية بالانسحاب بغية إعادة التنظيم. وهنا سأله قصي: وبأمر من فعلت ذلك؟ فأجابه الفريق الراوي: بأمري أنا. فما كان من قصي إلا أن بادره بكلمات حادة مثل "خائن .. جبان"
ويُعتقد أن الفريق سيف الراوي كان قد أعطى الأوامر بإعادة التنظيم من دون الرجوع إلى قصي بصفته مشرفا على الحرس الجمهوري، لأن الأخير لا خبرة عسكرية له، ومن الصعب التأكد من قدرة الاخير على القيام بصنع قرارات سليمة وحده. وفي واقع الأمر كان قصي يتنقل بين أماكن وجود أبيه التي لا أحد يعلم بها سوى ثلاثة أشخاص وهم: عدي وقصي والفريق عبد حمود. وبالطبع كان لا يمكن الاتصال الهاتفي بقصي، لأن ذلك يمكن أن يجعل الاستدلال على مكان وجوده أمرا سهلا بالنسبة إلى القوات الأميركية مما حال دون اتخاذ قرارات صحيحة. فاجتهد الفريق الراوي بإعطاء أوامر الانسحاب بغية إعادة التنظيم حيث نال أوصاف الخيانة والجبن من قصي، وهو أراد من خلال عملية إعادة هيكلة القوات المنسحبة دفعها من جديد إلى المعركة مستنهضا بذلك تجارب لم يعد لها أهمية كبيرة إبان الحرب العراقية الإيرانية.
وتظهر تلك الحادثة على العموم مدى الإرباك الذي أصاب القيادة العسكرية وقتذاك بسبب تسلط ابن صدام عليها حيث كانت المشادة التي حدثت بين قصي والراوي قد ترجمت بين أفراد الحرس الجمهوري والخاص على أن قصي قد أمر بإعدام الراوي مما وضع القادة و والآمرين والضباط والمراتب في وضع حرج للغاية وأضعف المعنويات إلى حدّ كبير ومهّد لخيوط الهزيمة السريعة بعد ذلك.
كانت الفكرة الفوضوية الأولى "الممنهجة" تكمن بالدرجة الأساس حول الجيش العراقي وقد اتخذت في ما عرف بمؤتمر لندن للمعارضة العراقية، حيث بدأت أفكار قيام كيان عراقي هش يكون بحاجة إلى الآخرين " الاميركان خاصة" لحمايته من جيرانه أو لصد القلاقل التي يمكن أن تحدث في داخله أيضا. ولذلك فقد كان القرار الأول لسلطة الاحتلال هو حلّ الجيش العراقي. كما إن وجود جيش قوي يكون عماد الوحدة الوطنية دائما حيث كان الجيش طوال تاريخه رمزا للدولة العراقية التي تم اجتثاثها هي الأخرى؛ لكي يحققوا أهم ما يقلق "الجيران" من قيام جيش عراقي قوي. لكن قوى الاحتلال قد عملت – دون أن تتأكد من نتائج عملها الفوضوي- على تحويل الجيش العراقي السابق إلى أداة معادية لحظة اتخاذ قرار حله.


ما العمل؟ تقرير بيكر هاملتون كمحاولة نظر لردم هوة الفوضى

تحاول الإدارة الأميركية أن تتدارك طبيعة الفوضى التي تجتاح عملها في العراق ومنطقة الشرق الأوسط من خلال محاولة تلمّس طرق أخرى أكثر عقلانية. فليست لجنة بيكر - هاملتون الوحيدة التي كلفت بدراسة أوضاع العراق والشرق الأوسط بعد الغزو الأميركي عام 2003، لكن هذه اللجنة تكثفت عليها الأضواء بسبب طبيعة الشخصيات المشتركة فيها ودورهم السابق في صناعة القرار السياسي في الولايات المتحدة. فحظيت بكثير من الاهتمام الإعلامي حتى إن مقرراتها قد أجلت أكثر من شهر لكي لا تؤثر على نتائج الانتخابات النصفية التي خاضها الحزبان الديمقراطي والجمهوري، فأثبتت نتائجها فوز الحزب الديمقراطي حيث كانت عبارة عن استفتاء أولي و حيّ على سياسات الإدارة الأميركية.
ومن الأفكار المهمة للجنة بيكر – هاملتون: أنها درست العراق ما يقرب من تسعة شهور، والتقت بشخصيات كثيرة فيه من مستويات مختلفة. وهي في الوقت نفسه لم تقترح "حلا سحريا" للقضية العراقية، ولم تأت إلا بمصالح الولايات المتحدة، في وقت غابت إلى حدّ ما مصالح الشعب العراقي الأساسية، ولم يشر من قريب او بعيد إلى تحمل مسؤولية "الأخطاء" التي اقترفت بحقه منذ 2003 وحتى عشية الإعلان عن توصيات لجنة بيكر هاملتون.
كانت اللجنة قد وصفت أوضاع العراق بالخطيرة جدا والمتدهورة على نطاق واسع. ووصف الرئيس بوش التقرير بالشديد أو القاسي، لكنه سوف ينظر به. فكيف يمكن لبوش أن ينظر وفي أية زاوية من المقترحات التي قدمتها اللجنة، وعلى وفق أي منظور؟ هاهو قد أعلن صراحة أن على الولايات المتحدة أن تغير من ستراتيجيتها في العراق، فمن سيتحمل أخطاء الستراتيجية السابقة التي دفع ثمنها باهضا أبناء الشعب العراقي وحدهم، حتى أكد تقرير للأمم المتحدة باستشهاد لا يقل عن (650) ألف عراقي منذ 2003 ووقت إعداد التقرير في العام 2006. أسئلة تحتاج إلى إجابات واضحة، لم تحاول اللجنة الولوج فيها بأية حال من الأحوال، وكأن القضية العراقية قضية الوجود الأميركي في العراق فحسب، وليس هذا الكم الهائل من القتلى الذين يدفعهم العراق على مذبح ستراتيجية الصقور في الفوضى البناءة.
من الصعب في الوقت الحاضر تقرير طريقة النظر التي سيعتمدها بوش لحلحلة مشكلات العراق المزمنة بعيني بيكر هاملتون هذه المرة، بعد أن عجز المنظرون السابقون من الصقور المتساقطين كرامسفيلد وجون بولتون ممثل الولايات المتحدة في الأمم المتحدة السابق وولفويتز عن تقديم تصورات كافية للخروج من العراق منتصرين. ولذلك فإن الرئيس بوش سيحاول هذه المرة إشراك اكبر مقدار ممكن من القوى الأميركية في النظر إلى المسألة العراقية دون أن يتزحزح عن مقولاته الدائمة السابقة: بأن الثوابت في العراق هي الحرب على الإرهاب، وهو يرى بطبيعة الحال إن العراق هو الخط الأول لها.. فهل سيتزحزح بوش عن رؤاه التي أورثه إياها الصقور الجدد في إدارته في اللحظة الأخيرة من الانتخابات القادمة؟ هذا ما ستفرضه حياة الميدان في العراق وما يمكن أن تكسبه هذه الإدارة للمناورة به انتخابيا.
المشكلات التي تعصف بالعراق الآن وفي وقت قادم اكبر من أن تحلها او تحلحلها لجنة قابلت كثيرا من المعنيين بالشأن العراقي في الداخل، وعملت على تقديم تصورات هي الأقرب إلى الواقعية حتى الوقت الحاضر، ووصفت أحيانا بالبرغماتية، كما أنها لم تقترح حلولا عملية معينة وخاصة ما يتعلق بتقديم جدول زمني لانسحاب القوات الأميركية من العراق. فعن أية واقعية توصف بها هذه اللجنة التي تركت قضية الانسحاب إلى "الظروف" التي يقررها القادة الميدانيون على وجه التحديد. وتعد هذه النقطة بحدّ ذاتها من المفاصل الأساسية التي كان يتوجب على اللجنة أبداء رأي حاسم ومحدد فيها، لكن الصيغ التي قدمتها حول ضرورة الدعم اللوجستي للقوات العراقية, والملاحق الواردة في التقرير بهذا المجال يظهر توجسا (ما) حول مدى إمكانية حكومة نوري المالكي في معالجة التحديات الإرهابية التي تواجه البلاد يوميا وتعصف بما تبقى من النسيج الاجتماعي العراقي التقليدي.
ربما من أهم ما تحمله هذه اللجنة المعنونة ب "إلى الأمام" وهو شعار أقرب إلى اليسارية منه إلى تطلعات اليمين المحافظ؛ هو هذه الشخصية الدبلوماسية الخبيرة في الشؤون الدولية على نطاق واسع، جيمس بيكر، التي عنيت بمشكلات الشرق الأوسط منذ وقت طويل إبان مرحلة الأزمات العربية الكبرى، منذ أن كان الرئيس رونالد ريغان قبل أكثر من ربع قرن. وكذلك الخدمات والاستشارات التي قدمها بيكر إلى بوش الأب إبان إدارته الأسبق. لكن، هل يكفي وجود شخصية كبيكر كافيا لكي نعقد العزم و الأمل على وجود حلّ ما إلى الأوضاع الدموية والشائكة والمزمنة في العراق؟
الشخصيات التي عملت في هذه اللجنة هم من الحزبين الرئيسين في الولايات المتحدة، الجمهوري والديمقراطي، متساوية العدد، وهي تضم بين طياتها جيم باكر الذي يعد مهندس اتفاقات مدريد المعقودة بين الرئيس ياسر عرفات والحكومة الإسرائيلية عام 1992، والتي تعدّ واحدة من المقاطع المفصلية في السياسات الشرق أوسطية. وعلى الرغم من أن قرارات اللجنة غير ملزمة للإدارة الأميركية الحالية، إلا أنها تكوّن وجهة نظر قائمة ومهمة في ظل كونغرس يسيطر عليه الديمقراطيون. لذلك فقد وقعت اللجنة تحت هاجس الحل الإقليمي القريب أو البعيد على حدّ سواء، وعكست تصورات دبلوماسية عديدة في هذا المجال تتناسب وطبيعة الأعمال التي مارسها أعضاؤها من الطرفين. ولا شكّ بان الرفض الإسرائيلي الذي جاء على لسان أيهود اولمرت رئيس وزراء إسرائيل يمثل الحد الأقصى من القصور في الرؤية لمتغيرات الواقع الشرق أوسطي.
من هنا، فإن لجنة بيكر هاملتون قد عنيت كثيرا بقضايا الشرق الأوسط وخاصة القضية الفلسطينية باعتبارها مركز معظم التوترات في المنطقة ومبعث قوة الفوضى فيه . بيد أن هذه اللجنة لم توصٍ إلا بالعودة إلى الحوار.. والحوار لا يعني انسحاب إسرائيل إلى حدود عام1967؟ و كان التصور الإقليمي حاضرا في ذهنية اللجنة بقوة، إلا أنها لا تستطيع بطبيعة الحال أن تقدم ما يكفي لحل أو خلخلة المشكلات الإقليمية بسبب تعلقها برواسب دولية وحواجز يصعب على لجنة بيكر هاملتون تخطيها.تضمنت اللجنة (79) توصية على مستويات ثلاث رئيسة:
1- توصيات داخلية تتعلق بالأوضاع الخاصة بالقوات الأميركية في العراق، حيث تضمنت ضرورة قيام القوات الأميركية "بالاختفاء" وراء القوات العراقية التي ستتصدى بنفسها للقوى الإرهابية؛ وهي أفكار سبق للرئيس بوش أن وافق عليها إبان لقاء "بوش – المالكي" في عمان شتاء عام 2006. ويرى الأميركيون إن هذه الخطة سوف تحقق التقليل إلى أقصى حدّ ممكن من الخسائر البشرية التي تتكبدها القوات الأميركية في العراق؛ ذلك الهاجس الغريب في الاحتلال بلا خسائر بشرية " عقدة فيتنام"؛ لكن الخسائر تضاعفت على نحو خطير في المدة الأخيرة. كما أنها تقترح في الوقت نفسه تزايد الدعم اللوجستي للقوات العراقية، وما يتعلق بقدراتها على مواجهة الإرهاب الذي يفوق غالبا مستوى التسليح لها. هذه الحال تؤكد على تغيير في الستراتيجية الأميركية في العراق التي أثبتت فشلها الدائم بسبب التصورات الخاطئة والمسبقة والروح المتعالية التي درج عليها من يعرف بالصقور الجدد في البيت الأبيض، والخطط الناقصة، وسؤ النظر إلى مستقبل العراق من قبل الإدارة الأميركية الحالية.
لذلك تحاول اللجنة بهذا المقدار أو ذاك تغيير المهمة الأساسية للأميركان في العراق، واستبعاد "الحل العسكري" الذي طالما راود دونالد رامسفيلد وعده طريقا كافيا لإلحاق الهزيمة بالإرهابيين على مستوى العالم من خلال العراق الذي صمم كمغناطيس جاذب لهم، وأن ترمم هذه اللجنة ما أفسدته الإدارة الجمهورية بما يتعلق بالقرارات الخاطئة "الستراتيجية" المتعلقة بالحرب على العراق ومبررات الهجوم عليه. لكن رامسفيلد قد غادر الإدارة العسكرية وتركها لروبرت غيتس الذي لا يتوانى عن التذكير بأهمية الحل السياسي المصاحب للحل العسكري أو يتقدمه أحيانا.
ولا شكّ بأنها لا تقترح - كما يحاول الرئيس بوش فكرة إتمام المهمة والنصر المتكررة دائما في خطابه السياسي- وهي تحاول الخروج بأقل ما يمكن من الخسائر الأميركية في العراق دون أن تعلن تحقيق (نصر) ما هنا أو هناك؛ هذه الفكرة تضع الحرب على العراق أمام مصير تاريخي، لا يقل أهمية عن المصير التي لحق بالقوات الأميركية في فيتنام؛ ففي العراق يحاول تقرير بيكر هاملتون -على العموم- تجنب هزيمة سياسية تصاحب الهزيمة العسكرية والخروج بما تبقى من فشل الفوضى.

2- توصيات على مستوى إقليمي، وهي تتعلق بفتح باب الحوار مع سوريا وإيران لحل المشكل العراقي. ولطالما حاولت الإدارة الأميركية الحالية تجنب ذلك. بيد أن السؤال المهم: هل إن الحوار مع هاتين الدولتين منتج ومثمر ويمكن أن يفضي إلى حلول عملية؟ من الصعب التكهن بذلك في الوقت الحاضر, لأن كلا الدولتين لهما ستراتيجيات لا تتعامل مع الشأن العراقي من خلال المصالح العراقية البحتة. ولذلك فإن المشكل العراقي لا تسهم في صنعه الضغوطات الإقليمية، إذا جاز التعبير، بمقدار ما يترشح عن الفرقاء العراقيين أنفسهم من خلافات شتى يمكن التسرب من خلالها لوضع أجندات إقليمية تحفظ مصالح هذه الدولة أو تلك. ولا شكّ بان دعاة "التوازن الإقليمي" في العراق من القوى قصيرة النظر وهي تضع نفسها أمام مهام غير وطنية بالمحصلة النهائية.
ومن هنا فإن الحلول الإقليمية غير ذات جدوى كثيرا إذا ما وجدت القوى السياسية العاملة والفاعلة على الساحة العراقية برامج عمل "عملية" يمكن من خلالها الخروج بالعراق من محنته. إن تقرير بيكر هاملتون يفتح الباب على مصراعيه ليس لبرنامج إقليمي بل إلى " تدويل" القضية العراقية. ولا غرو بان تصريحات الأمين العام للأمم المتحدة الأخيرة في وجود مؤتمر دولي عن العراق يأتي متزامنا مع الإعلان عن تقرير بيكر هاملتون حيث وجد رفضا شديدا من كثير من القوى السياسية الفاعلة على الساحة العراقية التي وجدت في ذلك المؤتمر المزعوم تقويضا حيا لجهودها الكبيرة وحيث لم تستطع الخروج بالعراق إلى برّ أمان في مستوى النظر.
وهكذا فإن تقرير بيكر هاملتون لم يضع يده تماما على المشكل الرئيس الذي تعاني منه القضية العراقية ألا وهو طبيعة المقررات التي وظفها بول بريمر ومعاونه "نوح فيلدمان" لتكون مواد دستورية مترشحة عن قانون إدارة الدولة نفسه، وخاصة المواد المتعلقة بالنظام الانتخابي النسبي الذي حمل إلى البرلمان ما يكفي من القوى التي يصعب أن ننظر إلى إنها تمثل حلا عمليا لمشكلات العراق ما بعد 2003.

3- توصيات مستقبلية: وهي من الأهمية بمكان حيث أن اللجنة قد أوصت على نحو واضح بحجب الدعم السياسي والاقتصادي عن الحكومة العراقية في حالة عدم تمكنها إحراز تقدم ملموس في الملف الأمني أو المصالحة الوطنية. ولا احد يدري ما النتائج المترتبة على حجب هذا الدعم؟ فهل إن هذه التوصيات هي بمثابة تهديدات مبطنة حول إمكانية الخوض في حلول تعود بالعراق إلى المربع الأول في العملية السياسية؟ وإذا كان الأمر على هذا النحو فمن يتحمل نتائج الأخطاء التي كلفت الإدارة الأميركية حوالي تريليون دولار منذ احتلال العراق.
ومن المفيد التذكير بان اللجنة قد أكدت على نحو لا لبس فيه على ضرورة بقاء العراق موحدا كدولة ومجتمع بغض النظر عن طبيعة تلك الوحدة سواء في ظل حكومة مركزية أو فدرالية. ومن هنا فإن اللجنة قد أظهرت - مرة أخرى- عجزها عن استشراف مستقبل واضح عن العراق، فليس من المعقول أن يترك مصير العراق إلى تمنيات عائمة؛ بل كان على اللجنة أن تؤكد على ضرورة وحدة العراق كشرط أساسي للسلام الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط، وان مثل هذا الأمر لا يمكن حدوثه إلا بعودة العراق كقوة إقليمية عربية للتوازن؛ وهذا ما لم ترده اللجنة بطبيعة الحال ولم تحاول الإشارة إليه ولو من طرف خفي في الأقل. لكنها لم تنس أن تذكر بضرورة قيام دولة عراقية وحكومة قادرة على كبح جماح الإرهاب، ثم حليفة للولايات المتحدة طبعا.


























مستقبل عالم الفوضى: عسكرة العولمة









الهيمنة الأميركية على عالم المستقبل

تعدّ ظاهرة العولمة Globalization واحدة من أهم الظواهر لفتت نظر الباحثين المعاصرين في شؤون مستقبل العالم. وكان روبرت كندي قد كتب: بان المستقبل يكمن وراء الأفق، لكنك تستطيع السيطرة عليه. كانت تلك المقولة مصداقا لإمكانية السيطرة على المستقبل من خلال معرفة اتجاهات الحاضر الصحيحة. فهل تستطيع الولايات المتحدة من خلال العولمة السيطرة على المستقبل الإنساني بفعل إحداث أكبر مقدار من الفوضى الاقتصادية فيه؟
مرت العولمة – على قصر مدة ظهورها الرسمي الكبير بعد الحرب الباردة تقريبا – بتطورات أساسية من ضمنها بداية نزعة العسكرة militarization التي تعد الجانب المستقبلي لها حيث تعد تلك الحالة النتيجة النهائية التي تنسف معظم الخطاب العولمي الحالي. فالحرب على العراق على سبيل المثال تعدّ العتبة الأولى – من وجهة نظرنا - التي ستقود العولمة نحو عسكرة الشرق الأوسط والعالم. فثمة علاقة وطيدة بين الستراتيجية الأميركية في هذه المنطقة والهدف النهائي للعولمة؛ وهو تحويل العالم إلى قرية أو مزرعة أميركية.
ويرى بعض الباحثين الغربيين: أن على مفكري الجنوب من الكرة الأرضية – اليسار الجديد خاصة - الكفّ عن ترديد "المقولات" الشرقية الجاهزة عن الهوية والاستقلالية والخصوصية، وان يبتعدوا عن أساليب ما يعرف بالتفكير النمطي liner القديم ذي البعد الواحد والولوج في منظومة فكرية جديدة في إقامة علاقة متبادلة فكرية تتسم "بالسوقية markets" على وجه اخص: أي جعل المعرفة والثقافة خاضعة لقوانين العرض والطلب ومعاملات الفوضى الاقتصادية, ومن ثم فسح المجال لأمركة الفكر مثلما هو الاقتصاد المفتوح لديها. لذلك فقد بدأت حملة إعلامية شرسة على ماعرف برواد التفكير القديم من الطبقيين الرافضين في جنوب الكرة الأرضية من اجل سحق رؤية الفكر والهوية الوطنية التي تعد من أكثر الأفكار ضعفا أبستمولوجيا لكنها مستهواة من الجميع أيضا.
ومن هنا فإن قدرة ما سوف تنهض من جديد لمواجهة الاستغلال الطبقي على مستوى كوني هذه المرة مما يحفز على ضرورة الانتقال إلى مستويات أعلى من الفكر تتناسب وطبيعة التحديات الطبقية الجديدة. ولذلك فإن القوى الاستغلالية الجديدة سوف تظهر ما يكفي من تزييف للحقائق وتمويه دائم للقضايا ذات الطابع الإنساني. ولغرض تحقيق تلك الحال لابد من إحداث سلسلة من الهزات العسكرية الكبرى على الطريقة اليابانية: بعد انتهاء الحرب العالمية الثاني وما تبعها من قيام الولايات المتحدة الأمريكية بإلقاء أول قنبلة نووية على هيروشيما وناغازاكي حيث وقف العالم متسائلا عن السر في استخدام هذه القوة الجبارة المشوبة بوسائل الفناء الجماعي للشعوب الأخرى؟ وعما إذا كانت تلك القوى العسكرية الهائلة ستكون على المدى القريب ستراتيجية عالمية هي اقرب ما تكون إلى "قيصرية روما القديمة" المدججة هذه المرة بموت ساحق للغرماء والخصوم؟ ربما ستلجأ الولايات المتحدة وقوى التحالف الرأسمالي المالي العسكريين إلى أكثر من أحداث 11 سبتمبر للتعمية.
وعلى الرغم من إن تلك "التطابقية " التي حاول العديد من الباحثين والمؤرخين خاصة تكوين نوع من التماثلات القديمة – الجديدة, إلا أنها لم تكن – على العموم- غير تصورات فردية جزئية مسبقة لم تخضع إلى التحليل العلمي غالبا, لكنها في الوقت نفسه عكست - منذ وقت مبكر- تطلعات الولايات المتحدة في أن تكون قوة وحيدة لقيادة العالم, ومن ثم فرض تصوراتها وطريقة حياتها على الشعوب والأمم المغايرة. يمكننا متابعة ذلك الوضع بدقة في ما كتبه نعوم تشومسكي عالم اللغات حول مستقبل الولايات المتحدة القيصري.
تلقف الفكرة القيصرية من الجانب المظلم بعد ذلك فرانسيس فوكوياما- أمريكي الجنسية ياباني الأصل- فوضع أطروحة حول نهاية التاريخ، حيث عدّ فيها الولايات المتحدة بداية جديدة للتاريخ الإنساني، ثم جاء بعده صامويل ب هنتنغتون أستاذ العلوم السياسية في جامعة هارفارد ليقدم ورقة عمل حول نظرية "صراع الحضارات" لتصبح فيما بعد محط سجال فكري في ملف مهم أعدته مجلة Foreign Affairs المعنية بالشؤون الدولية في عام 1991. وتعد تلك الظاهرة الفكرية "غير الأصيلة" التي عرفت فيما بعد بصدام الحضاراتClash Of Civilization نوعا من الادلجة غير المباشرة في عسكرة العولمة, حيث إن أهم نتائج الصدامات الحضارية هو الصدامات العسكرية وفرض الهيمنة الاقتصادية على الدول والشعوب المهزومة التي يتوجب عليها أن تكون خارج التاريخ لأنها لا تستطيع اللحاق بركب العولمة. وهكذا سوف يبدأ التصنيف بدلا عن شعوب مستعَمرة وأخرى مستعمِرة، إلى شعوب متعولمة وأخرى غير متعولمة.
وبعد نصف عام من الهجوم على برجي التجارة العالميين في نيويورك عام 2001 أعلنت وثيقة صادرة عن الإدارة الأمريكية الجديدة تؤكد التحولات الستراتيجية في العالم على النحو المذكور آنفا, وهي تطالب بتطبيق برنامج نووي خاص ضد دول ما يعرف بمحور الشر: العراق- إيران- كوريا الشمالية- ثم فاجأت أفغانستان طالبان الولايات المتحدة بكونها البادئة بالضربة، لتبدأ واحدة من أشرس معارك التاريخ الإنساني المعاصر. وقد يطال الوصف الاستباقي دولا أخر كسوريا وفنزويلا أيضا. تمثل تلك السياسة مدى التخبط الأعمى الذي أصاب الإدارة الأميركية بعد الهجوم على البرجين, وإمكانية لجوئها إلى اعنف الردود على مستوى العالم. فقد كانت الضربة غير المفاجئة للبرجين محاولة من قوى تعد شبحيه بنظر المعنيين بصنع القرار الأميركي لثني الولايات المتحدة الأميركية عن الهيمنة على العالم. لكن الهدف الكبير والتاريخي بالنسبة لها يستحق المجازفة بالكثير.
أنفقت الولايات المتحدة المليارات من الدولارات على عسكرتها العولمية بعد نهاية الحرب الباردة، فكلفة الوجود الأميركي في الخليج العربي – على سبيل المثال – على وفق إحصائيات مركز المعلومات الستراتيجية العالمية Center for strategic إن الولايات المتحدة أنفقت عام 1991 وهو عام الحرب على الخليج الثانية أكثر من 346 مليون دولار على قواتها العاملة في تلك المنطقة الساخنة في العالم, ثم وصلت إلى(2) بليون دولار في عام 1998, وكانت نسبة صيانة الأسلحة والمعدات فيه تبلغ 60% أي بمعدل يفوق كلفة إنتاجها.
عملت السعودية والكويت ودول خليجية أخر على سدّ النفقات الأميركية من خزينة الدولة ومن ما يعرف بصناديق الأجيال. كما إن التقديرات الأولية تشير إلى إن الولايات المتحدة قد يصل مقدار ما أنفقته على الحرب في العراق وأفغانستان من 300- 400 مليار دولار: هذه الأرقام الفلكية لم يشهد لها التاريخ مثيلا، وهي تتناسب وطبيعة عولمة المستقبل. من هنا فان العولمة الاقتصادية تستخدم جميع الوسائل في فرض هيمنتها على المناطق التي تشهد قلقا عسكريا دائما من خلال عسكرة العولمة نفسها، فان التلاحم بين العسكر و رأس المال ليس ظاهرة جديدة, فالعولمة بدأت بالتداخل مع العديد من ميادين الحياة وشؤونها, فبدأت بالإعلام ثم الاقتصاد ثم محاولة وضع برامج اجتماعية عولمية في طور التكوين تخدم مصالح الاقتصاد المتعولم، وانتهت بالعسكرة مؤخراً إذ تستند عسكرة العولمة على قواعد ثلاث على وفق رؤية شريحة كبيرة من الباحثين:

1- استخدام الجيوش العائدة لمختلف الدول لتطبيق عقيدة عسكرية واحدة تعتمد الولاء للمركز الرأسمالي والشركات الصناعية الحربية الكبرى المتحكمة فيه والانضواء تحت قيادة مركزية موحدة تكون الولايات المتحدة الأميركية غالباً عصبها الوحيد.
2- قيام استعدادات قتالية وتجهيزات لتنفيذ سياسات قسرية وصولا إلى فرض ما يعرف بدبلوماسية استعمال القوة أو التهديد بها كالنموذج الليبي الذي تخلى طوعا عن أسلحة الدمار الشامل لديه، أو حالة إيران حيث تقبع البوارج الحربية وحاملات الطائرات أمام سواحلها من اجل ردعها أو استخدام القوة فعليا ضدها إذا لزم الأمر. وعرف المبدأ ب Reaching Globally Reaching power fully " أي الوصول إلى أنحاء العالم بقوات متفوقة.
3- يلاحظ من خلال النظر في قواعد العقيدة الأميركية الجديدة ضرورة التركيز على المركزية, وأهمية سرعة الانتقال إلى الأهداف خارج الولايات المتحدة الأميركية, مما يؤكد استمرار ستراتيجية الولايات المتحدة الأميركية في الهيمنة على العالم, وهي لا تكف عن إقامة نوع من الاصطفاف الدولي معها

ومن المناسب أن نذكر إن الهيمنة الأميركية تطال الدول المتحالفة معها عسكريا, لأنها تفرض عليها عقيدة عسكرية واحدة بدلا عن عقائدها العسكرية المحلية "القديمة" وهي تعتمد مبدأ استثمار التكنولوجيا العسكرية كقوة ساحقة, ومحاولة تدمير "العدو" دون التماس به, أو قبل حدوث أي تماس مباشر معه أولا. وهذا ما أفصحت عنه عمليات احتلال العراق. وكان التطبيق العملي للعقيدة العسكرية الأمريكية قد تفعل على نحو واضح بعد عودة الجمهوريين إلى البيت الأبيض بوقت قصير’, تحقيقاً للهدف الأميركية النهائي في وضع العالم تحت سيطرته الشاملة والتحكم في مفاصله الاقتصادية الأساسية
وبعد وقت قصير من انتخاب الرئيس جورج دبليو بوش عام 2000 طلب من وزير دفاعه السابق دونالد رامسفيلد أن "يتحدى" الوضع القائم في البنتاغون، وان يعمل على تفعيل ستراتيجية حربية للقرن الحادي والعشرين الذي افترض مفكرو الولايات المتحدة الرسميون بان يكون قرناً أميركيا بحتا. هكذا سوف تكون العقيدة العسكرية الأميركية عملياً على ركائز ثلاث- كما وضعها- رامسفيلد أيضا وهي : المركزية, السيطرة على العالم, التفوق الدائم.
لابد للتفوق أن يكون مزيجاً من العلم والتكنولوجيا والموارد الاقتصادية لتامين حاجة القوات المسلحة الأميركية. وكانت خطة الرئيس بوش تقتضي على العموم جعل سيطرة الولايات المتحدة على العالم لأجل غير مسمى بقوله عام 1999: " إن احد أهدافنا الرئيسة هي نقل النفوذ السلمي الأميركي عبر العالم وعبر الزمن " ولا يمكن تحقيق ما يعرف " بالنفوذ السلمي " ما لم يكن معززاً بقوة عسكرية هائلة. هذه النظرة هي وليدة التفكير النازي في وجه كم وجوهها وهي نتاج الشتراوسية الجديدة. وأثبتت أحداث احتلال أفغانستان والعراق ذلك على نحو لا يقبل الشك؛ إذ لم تحدد الولايات المتحدة سقفاً زمنياً لانسحابها من العراق أو انسحاب دول التحالف من أفغانستان. إن تلك النظرة الجديدة في الهيمنة على العالم لم تكن وليدة وصول الرئيس جورج بوش إلى الحكم في ذيل القرن العشرين, بل في بداية العقد الأخير منه، وقبيل نشوب حرب الخليج الثانية أيضا، حينما تفردت الولايات المتحدة بالعالم بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.
بيد أن تلك الستراتيجية تعززت على نحو واضح منذ احتلال العراق للكويت ونشوب حرب الخليج الثانية, فقدم في عام 1992 تقريراً سرياً إلى البنتاغون تحت عنوان ( توجهات عامة لسياسة الدفاع( 1992-1994) وتبنى صياغته عام 1992 وهو يتضمن أهم التحديات التي تواجهها الولايات المتحدة الأميركية وسبل مواجهتها عسكرياً لأعدائها المفترضين.
ومن المناسب أن نذكر إن معظم تلك التقارير التي بنيت علها الستراتيجية الأميركية الجديدة تتهم العراق ونظام صدام حسين السابق بامتلاكه قوة نووية – فضيحة اليورانيوم المهرب إلى العراق عبر النيجر - وصواريخ عابرة للقارات يمكن تجهيزها برؤؤس نووية, وكذلك امتلاك العراق لترسانة كبيرة من أسلحة الدمار الشامل لم يثبت وجودها. وقد اتخذ من هذا العامل سبباً مباشر للغزو الذي قامت به الولايات المتحدة. بيد أن نتائج الاحتلال أثبتت خلو العراق من هذه الأسلحة مما يدعونا إلى أن نبحث في الأسباب غير المباشرة لعسكرة العولمة التي تمثل العقيدة العسكرية الأميركية الجديدة أهم خصائصها.

الاقتصاد والعسكر ورجال السياسة

لم يكن ارتباط العسكر بالشركات الاقتصادية الكبرى جديداً, لكن, الملاحظ في العقد الأخير من القرن العشرين بالذات ازدياد الارتباط على نحو وصل إلى التنسيق العام, فدك تشيني نائب الرئيس بوش و كوندليزا رايس مستشارة الأمن القومي الأميركي سابقا ووزيرة الخارجية وأعضاء آخرون في إدارته هم مستشارون أو أعضاء في شركات عسكرية ومدنية. هذه التوليفة الفوضوية في الاتجاهات تحتاج إلى نوع من التنسيق بينها يحافظ على اندفاعاتها وروح التنافس بينها أيضا. ويخشى على العموم في أن يتحول النظام الديمقراطي في الولايات المتحدة إلى تهديد منطلقاته الأساسية ووجوده في حالة تعمق العلاقات المصلحية والتخطيطية بين إدارات الشركات الكبرى والهيئات العسكرية. كما يخشى في الوقت نفسه على النخب السياسية صانعة القرار من ان تتحول عن السياسة العامة إلى السياسات الخاصة ذات النزعات الضيقة كلما توغلنا عميقا وبشكل متسارع في اتجاهات التوليف بين النخب السياسية والصناعية والمالية المختلفة. ومن ثم انعكاس تلك المخاوف على التقسيمات الإقليمية في العالم، وبخاصة تلك النخب السياسية الموالية تقليدياً إلى الغرب والولايات المتحدة باعتبارها دون التحديات القائمة حتى الوقت الحاضر، وما يمكن أن يطرأ على وجودها السياسي من تغييرات في حالة استمرار عمليات "التعولم" الاضطرارية.
ان النخب السياسية الأميركية هم من الأغنياء دائماً, ففي عام 1964 اظهر إحصاء السكان في الولايات المتحدة بان 29% فقط يديرون البلاد لصالحهم وهم من الأغنياء. ولكن بحلول عام 1992 كان 80% يرون بان البلاد تدار من قبل الأغنياء. وتتفق النخب الإدارية الغنية مع الطبقة العسكرية الأميركية في الولايات المتحدة والبلدان الرأسمالية الأخرى بنسب متفاوتة, إلا إنها تتداخل على نحو كبير في الولايات المتحدة بالذات.
وللنظر في تركيبة حكومة الرئيس بوش الحالية, فان كبار المسؤولين من أمثال كولن باول ودك تشيني وهم من العسكريين. كانت الحكمة الأساسية للأميركيين : " إن الولايات المتحدة لن تحميك عسكرياً مالم تسايرها اقتصادياً " ويبدو إن هذه القاعدة ستكون حاضرة في القرن الحادي والعشرين بعد محاولة الولايات المتحدة أن تكون "شرطي العالم " لكن إفلاس الشركات الأمريكية المتوالي وضع الإدارة الأمريكية والعسكر في قفص الاتهام أيضا.
فشركة الطاقة الأمريكية انرون Enron تساهم بنسبة 20% من الغاز والكهرباء والبنى التحتية في الولايات المتحدة وهي التي أدخلت الجمهور الأمريكي في جو عاصف من التساؤلات حول علاقة رجال السياسة بالشركات وعلاقة أولئك بصناعة التكنولوجيا العسكرية المتقدمة. والاتهام الرئيس الموجه في الفضيحة الكبرى هو للرئيس جورج دبليو بوش شخصياً الذي تربطه علاقة شخصية برئيس شركة انرون "كينت لي" حيث تبرع الأخير بمبلغ 50 مليون دولار إلى حملة الرئيس بوش الانتخابية, في حين بلغت خسائر انهيار الشركة حوالي 31مليار دولار, وسببت بذلك خسائر فادحة للمستثمرين لعشرات الالآف من المواطنين الأمريكيين بعد تضليلهم في عملية طويلة الأمد وخداعهم بأرباح الشركة الآيلة للإفلاس. ومن المفيد في هذا المجال أيضا التذكير بالفضيحة المالية التي طالت واحدا من أهم رموز الصقور في الولايات المتحدة بول وولفويتز الذي ترك العسكر ليلتحق مديرا للبنك الدولي باعتباره من أهم مراكز القرار الاقتصادي في الولايات المتحدة والعالم حيث لم يتوان الأخير في خرق قواعد البنك من خلال منح صديقته رواتب لا تستحقها مما اضطره إلى الاستقالة.
إن إفلاس شركة انرون لا يعد حدثاً عابراً في سجل الولايات المتحدة الاقتصادي, بل هو يكشف عن الوجه الآخر لآليات النظام الأمريكي القائم على قوة الرأسمال وفوضى تحالفاته, ويوضح هشاشة ذلك النظام أكثر من أي وقت مضى. فدرس انرون يظهر مدى التداخل بين التكنولوجيا المتطورة باعتبارها من مرتكزات العقيدة العسكرية الأمريكية وقوة الاقتصاد
ولم تكن شركة انرون على اتصال بالرئيس بوش وحده, بل قامت بالاتصال بدك تشيني نائب الرئيس ووزيري المالية أونيل والتجارة إيفانس وكان سعر السهم في انرون قبل الإفلاس يتراوح 86-31 دولار في حين يصل سعر السهم بعد الإفلاس إلى "70 سنتاً" فقط. إن انهيار انرون لا يعكس طبيعة الفوضى الاقتصادية التي تنتاب الاقتصاد الأمريكي فحسب, بل تؤكد أيضاً عمق الفساد الإداري الناتج عن هذا النظام.
ولذلك فان ما عرف بالحرب على الإرهاب التي أعلنتها الإدارة الأمريكية على المنضمات الإرهابية كالقاعدة – التي تعد من صنيعتها إبان الحرب ضد السوفيت- هي في مضمونها محاولة لوضع حول خارجية لمواجهة فساد سياسي داخلي ومرض اقتصادي مزمن, عبد ان أستنفد النظام معظم خياراته الداخلية.
وطال إفلاس انرون شركات أخرى كشركة "ارثراندرسون " للخدمات المحاسبية لاتهامها بالتواطؤ مع انرون والتلاعب في البيانات وإتلاف عدد كبير من المستندات والوثائق الخاصة بالشركتين. كما اعنت مؤسسة " وورلد كومWorld Com وهي ثاني شركة اتصالات في العالم عن إفلاسها تحت وطأة فضيحة مالية تقدر ب 8ر7 مليار دولار وجبل من الديون بلغ 41 مليار دولار. وطال مسلسل الفضائح شركة زيروكس العالمية باعتبارها اكبر منتج لتقنيات التصوير في العالم, والتي يعتمد عليها الجيش الأميركي في تصنيعه العسكري. وبلغ الاتهام أيضاً شركات أخرى مثل ميريل لينش المالية ومؤسسة كلوبال كروسينج وشركة اديلفيا للاتصالات وكويست وكمونيكا شنز وهي تعد ثاني اكبر شركة (كابل) في الولايات المتحدة.
وفي سؤال للمفكر الاقتصادي الدكتور سمير أمين حول علاقة عسكرة العولمة والمشكلات الكبرى التي يعاني منها الاقتصاد الأمريكي, أجاب: بان الولايات المتحدة تحاول فرض مشروع الشرق أوسطي, وهو مشروع أمريكي_ إسرائيلي مضمونه فرض الليبرالية بالمعنى الأمريكي على حكومات الشرق الأوسط, والعربية خاصة, ويرى سمير أمين : إن عسكرة العولمة تأتي بالقوة العسكرية والاحتلال مع طرح المشروع الشرق أوسطي الذي تحول في الإعلان الأمريكي الأخير إلى (مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي يمثل ستراتيجية جديدة للولايات المتحدة من حافات المحيط الأطلسي إلى بنغلاديش) ثم تم التراجع التكتيكي عنه إلى الشرق الأوسط الجديد. ولإسرائيل دور أساسي في عملية السلام Peace process في الشرق الأوسط وكذلك في أنابيب السلام Peace Pipe التي اشمل تبادل غاز ونفط الخليج العربي مع المياه التركية _ الإسرائيلية. كل تلك الخطط لا يمكن تنفيذها إلا من خلال تفكيك الوحدات السياسية في الشرق الأوسط" عمليات الفوضى البناءة". فهل تريد الولايات المتحدة التعويض عن الخسائر الاقتصادية والفضائح المالية بالتغطية على كلّ ذلك من خلال الحروب التي تشنها بين الفينة والأخرى؟
وبناءاً على تلك الأفكار التي تقودها الولايات المتحدة فان عسكرة العولمة في الشرق الأوسط هي محاولة لإدماج إسرائيل في المنطقة ومنحها وزناً إقليميا كبيرا. ومن الخطأ التفكير المسبق - كما حدد سمير أمين - بأن 95% من الشعب العراقي وشعوب الشرق الأوسط هي رافضة للنموذج الأمريكي, بل إن الأوضاع السياسية والاقتصادية الناتجة عن عمليات الحرب على الإرهاب هي التي ستحدد مواقف تلك الشعوب والحكومات, ومن الخطأ استباق الأحداث أيضا.

العولمة البديلة

العولمة في مضمونها النهائي هي نتاج العالمية Internationalism وهي ظاهرة طبيعية رافقت النزعة الإنسانية منذ القرن التاسع عشر, ورغبة البشرية في التقارب وتبادل المصالح وبناء عالم جديد على أساس من السلام والمصالح المشروعة المتبادلة وفكرة العالم السوق أو العالم المصنّع – في أصلها – منذ القرن السابع عشر, وعبر عنها مؤرخو الرأسمالية ب (الرأسمالية الطوباوية) مثلما كان يدعو كارل ماركس الشيوعيين الذين سبقوه بالدعوة بالشيوعيين الطوباويين أيضا.
بيد أن فكرة العولمة في القرن الحادي والعشرين تتجاوز الطروحات الأوربية الأولى بكثير فالانطلاقة القديمة من وجود عالم واحد لا يرغب به عولميو الولايات المتحدة الآن, وهم يقسمون العالم إلى" تجمعات وظيفية", ولا يميلون إلى إنشاء" ناد يضم الجميع.. ", والمساعي الأمريكية لا تختلف كثيراً عن المضامين الأوربية للعولمة أيضا : فكلاهما تهدفان إلى احتواء المنطقة والنفاذ إلى أسواقها,( والنظام الإقليمي) المزمع إقامته في العالم الإسلامي على سبيل المثال مصداق لذلك, وكذلك( الحوار الأوربي المغربي 5+5) الذي يتكون من أربع دول أوربية ( فرنسا واسبانيا والبرتغال وايطاليا مع جزيرة مالطا ) بإزاء خمسة من دول المغارب العربي دليل على توجهات " التجمعات الوظيفية " وتتركز توجهات العولمة على نحو أساسي من منطقة الشرق الأوسط والمغرب العربي في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين.ويرى شمعون بيريز رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق: بان اتفاقية أوسلو سوف تكون فجراً للسلام ؟ وهي هدية متميزة وغير متوقعة وفرصة نادرة لتغيير مسار التاريخ..؟ إن تلك الأمنيات في وجود شرق أوسط بديل يكون حاضنة لتيار العولمة لم يحدث بسبب السياسات الإسرائيلية لحكومات اليمين "كتلة الليكود" وكذلك لانتشار تيار التشدد الديني في الأراضي المحتلة وطرح نفسه، كتيار وحيد، يمكن من خلاله تحرير ارض فلسطين, وما أعقبه من اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000م، بل إن هذا الوضع ما كان ليتخذ مداه الحالي لو أن السياسة الإسرائيلية اتسمت بنوع من الواقعية والبرغماتية بدلا عن التشدد الذي دأبت عليه باعتبارها قوة ردع دائمة في المنطقة مما أوقع البلاد العربية والإسلامية في أتون من القوى الإرهابية التي وجدت لها متنفسا دائما وسط التشدد الإسرائيلي وعدم الرغبة في تحقيق السلام.
وهكذا أصبح الطريق ممهداً بعد أحداث سبتمبر أن تتحول العولمة نحو التيار العسكري لتشن الولايات المتحدة وحلفاؤها خلال عشر سنوات ثلاث حملات على يوغسلافيا وأفغانستان والعراق. ليست الولايات المتحدة الأميركية كسواها من المستعمرات السابقة، لأنها، بعد نيل استقلالها وتوطيد أركانها، باشرت سلسلة من التدخلات العسكرية، بشكل تضاعف إلى حد كبير في القرن العشرين. رغم ذلك، لم تبن الولايات المتحدة إمبراطورية استعمارية على غرار سالفاتها الفرنسية والبريطانية وإنما اعتمدت على جولات التدخل في هذا البلد أو ذلك، لإسقاط حكومة هنا، وحماية "مصلحة قومية حيوية" هناك. وعلى الرغم من أن هذا التدخل التزم في البداية دائرة إقليمية، فحصر مجاله في الأميركيتين وفقا لمبدأ مونرو، ألا أنه سرعان ما امتدّ التدخل في غضون الحرب الباردة وما تلاها ليشمل مختلف القارات في العالم.
وترى وكالة الاستخبارات الأميركية كما نشرت صحيفة الغارديان في 15/11/2001- مذكرة قبل شهر واحد من أحداث 11 أيلول بان حالة الركود الاقتصادي المتزايد في الولايات المتحدة تحتاج إلى وضع للخروج منه من خلال نشر ثقافة التسلح على المستوى القومي الأمريكي وعلى مستوى العالم/ الجنوب- أيضاً إن عسكرة العالم_ كما تحدد المذكرة – ضروري لاستمرار نظام العولمة الذي يحقق – وحده – في هذا القرن مصالح السياسات الأميركية ويحكم قبضتها على العالم
ويرى الكاتب الدكتور محسن خضر في عرضه لعسكرة العولمة الأميركية : بان الولايات المتحدة ترنو من خلالها – وكما حددها المفكر مالكولم أكس – عودة الدجاج إلى قنه, وليبيض في أماكن محددة – كما هو معروف, وفي هذه الافتراضية غير المعقولة لو مضى بوش ألان في حل القضية الفلسطينية لأمكن تجاوز عسكرة العولمة الحالية..؟!
وفي النظر إلى أصل هذا الافتراض المسطح ولا يمكننا أن نبسط عسكرة العولمة على هذا النحو لأن المشروع الأميركي المتعلق بالشرق الأوسط الكبير يتجاوز القضية الفلسطينية وحدها على الرغم من أن طرح "مشروع خارطة الطريق" يعد واحد من المحاولات لحلها, بيد أن خطوات جادة في هذا المجال لم تتخذ بعد بسبب تصلب الموقف الإسرائيلي وحكومة الرئيس ياسر عرفات التي لا تزال تمارس آليات قديمة في التعامل الدولي أو مستجدات الأحداث.
حاول المشاركون في المنتدى العالمي حول العولمة والتجارة العالمية والمنعقد في بيروت في 8/11/2001 أن يقدموا مشروعاً "معقلناً " في رفض النزعة الأميركية للسيطرة على العالم, وإنهاء الوجود الأميركي في البلدان العربية, كما رفضوا في الوقت نفسه المنطق الإسلامي المتطرف, وبدأوا بوضع خطوات على طريق حكومات وطنية يمكن أن تستجيب إلى مطالب شعوبها وممثلي المجتمع المدني فيها, فضلا عن تعزيز المثل والقيم الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية. ثم أعلنوا رفض منطق الحرب ومنطوق صراع الحضارات؛ وهي محولة لإقامة رؤية واقعية لعولمة بديلة ممكنة وقائمة على تضامن الشعوب
وعلى الرغم من إن تلك" الدعوة " تتسم بالإنسانية والنظر إلى الواقع الآني, إلا إنها تفتقر إلى وضع الآليات المناسبة لذلك؛ فان المؤتمرين لم يحددوا الكيفيات التي يجري بها التضامن بين الشعوب؛ ومن سيقوم بدعم ذلك ..؟ الحكومات في الشرق الأوسط أم مؤسسات المجتمع المدني التي لا تملك حرية العمل على نحو كاف؛ أما الحكومات فهل لا تزال تعمل بالأنظمة الشمولية ..؟؟
إن مفهوم العولمة البديلة لا يصمد أمام النقد المتأتي من بنى العولمة نفسها, حيث تؤدي العولمة إلى ازدياد الفجوة بين الدول المتقدمة "الشمال" والدول النامية والفقيرة "الجنوب" والبلدان التي تكيفت مع العولمة كانت هي الأشد تأثراُ بالأزمات المالية كالأزمة التي عصفت بدول النمور الأسيوية. كما إنها ستؤدي إلى وقوع دول الجنوب في مزيد من المديونية مما يجعل من الصعب وضع بديل للعولمة في الوقت الحالي على الأقل.

ما الحل إذن...؟

كيف يُدافع عن إنسانية الإنسان في مواجهة أشكال الفوضى الاقتصادية والعلمية؟ يرى جان كلود غيبو Guillebaud Ciaude Jean ضرورة إحداث ما يسمى ب "انقلاب العالم" لوضع بديل خاص به في مواجهة العولمة؛ هذا الانقلاب هو مزيج من ثورة المعلوماتية التي نحتها فيليب داريفوس والثورة الاقتصادية الشاملة. لكن فكرة انقلاب العالم غير واضحة تماماً, وربما تحيلنا مرة أخرى إلى أفكار الفلاسفة الاشتراكيين في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، إن لم تكن تستخدم عودة الروح إلى المذهب الفوضوي الذي أفل نجمه منذ بدايات القرن العشرين.
ويمكننا أن نرى مرتكزات مستقبل العولمة من خلال:
* توحيد العالم بواسطة رأسمالية السوق Market Capitalism وإلغاء الحواجز الكمركية بين الدول.
* تصاعد حالات الحروب واستخدام العنف والتهديد بالإبادات الجماعية كما يحدث الآن في العراق, وما يتطلبه من توريد للسلاح وتوسع لسوقه التي بدت اقل انتشاراً منذ نهاية الحرب الباردة 1945 – 1991
* محاولة الولايات المتحدة الإبقاء على تفوق آلتها الحربية, وأدلجة أعمالها العسكرية إلى حد ما:
الدفاع عن حقوق الإنسان . الإصلاح السياسي للأنظمة التقليدية .
* استمرار هشاشة الاقتصاد الأوربي وتدهور أوضاع الاقتصاد الياباني كمنافسين رئيسيين للاقتصاد الأميركي .
*اعتماد مبدأ تجزئة الكتل الجغرافية الكبيرة والتي على إثنيات متعددة. وإذا كنا قد حددنا انه لا بديل – عن العولمة وهي قوة اقتصاد عسكرية قادمة, فان, من الأفضل للدول التكيف مع , وهو انجح أسلوب في مواجهتها في الأقل
السؤال الأبرز والاهم الذي يطرح كيف نقطع الطريق على الفوضى المفتعلة في العالم والشرق الأوسط خاصة؟ يتم ذلك من خلال قطع الطرق عبر ما يسمى يمكن أن نطلق عليه بـ " المقاومة الحضارية " في الوقت الحاضر: أي الإقدام على إصلاحات سياسية واقتصادية في منطقتنا ذات مغزى عميق، وتعطى الأولوية للإصلاحات الاقتصادية على السياسية دون إهمال الأخيرة. فمن الصعب إقناع الناس بجدوى التغيير بعيدا عن توفير الخبز والحياة الإنسانية الكريمة وسط تزايد مستمر لقطاعات المهمشين اجتماعيا في مختلف أنحاء العالم.
هذه الإصلاحات يجب أن تكون نابعة من "الداخل" وليس ذات أجندات خارجية كما يحدث في هذه المرحلة من العلاقات الدولية في أكثر من بلد. تبدأ الإصلاحات في تحرير اقتصاد البلاد من التبعية للخارج، وتخليص البلاد من سلبيات الاقتصاد وحيد الجانب، وتحقيق التنمية المستدامة بما يسهم في رفع معدلات النمو الاقتصادي وزيادة الدخل القومي. ويجب عدم الإضرار بالاستحقاقات الاجتماعية. أما الإصلاحات السياسية فتتجلى ببناء دولة المؤسسات وتكريس سيادة القانون، وتعزيز المسار الديمقراطي عبر احترام الرأي الآخر، والفصل بين السلطات الثلاث ووضع قانون ناظم للأحزاب الوطنية وإطلاق يد السلطة الرابعة " الإعلام " عبر المكاشفة والشفافية البناءة، ثم إطلاق مؤسسات المجتمع المدني التي تعمل وفق القواعد والثوابت الوطنية؛ كل ذلك يتمّ على قاعدة الحوار الوطني وليس على قاعدة الفرض والإجبار من الخارج.
لكن أسلوب فرض الإصلاحات من الخارج بقي هو الوسيلة شبه الوحيدة في أجندة التغيير؛ ففي المؤتمر الصحفي في وزارة الخارجية في الحادي والعشرين من يوليو 2006، سُئِلَت كونداليزا رايس عن المبادرات التي تعتزم أخذها معها لإحلال السلام في لبنان أجابت: "ليس لديَّ اهتمام بالدبلوماسية من أجل إعادة لبنان وإسرائيل إلى الوضع السابق وأعتقد أن مثل هذا سيكون خطأً... ما نراه هنا، بمعنى من المعاني، هو تطوّر الولادة العسيرة لشرق أوسط جديد، وأيّاً كان ما نقوم به، يجب أن نكون على يقين من أننا ندفع نحو شرق أوسط جديد لن يؤدي إلى القديم" (أ.هـ) فهناك رؤية من واشنطن تؤكِّد إن ما يحدث اليوم في لبنان لا علاقة له بأي شكلٍ من الأشكال باستعادة الجنديين اللذين أسرهما حزب الله. فاللب الجوهري في الهجوم تنفيذ نظرية "الفوضى البنّاءة" التي تمت رعايتها وتغذيتها منذ زمن طويل.
والإرادة الإسرائيلية التي نشاهدها تعمل على تفكيك لبنان مثلما تعمل الإدارة الأميركية على تفكيك العراق تحاول إنشاء دولة مسيحية صغيرة في لبنان بدلاً عن الدولة التقليدية مع ضم جزء من أراضيه إليها، ليست خطة جديدة بالنسبة إلى إسرائيل من اجل الحصول على عمق ستراتيجي إلى ضفاف نهر الليطاني حيث يمكن تأمين إسرائيل. وكان ديفيد بن غوريون عام 1957 مؤسس الكيان الإسرائيلي في رسالته الشهيرة التي نشرت كملحق في مذكراته الصادرة بعد وفاته، قد أصر على دفنه في صحراء النقب، ليذكّر الإسرائيليين دائما بمشروعهم الاستيطاني الذي أنطلق منذ عام 1948، ثم أضيفت فكرته هذه إلى مشروع استعماري واسع للشرق الأوسط كتب عام 1996 تحت عنوان: (الكسر النظيف) وهي ستراتيجية جديدة لتأمين إسرائيل: تلك الوثيقة، التــي كتبتها مجموعة من مفكري المحافظين الجدد (IASPS) قد هُيئت من قبل فريق من الخبراء جمعهم "ريتشارد بيرل" ثم أعطيت للمتطرف بنيامين نتنياهو. هذه الأفكار تمثل أطروحات فلاديمير جابوتينسكي شخصيا، وتدعو الوثيقة إلى: إلغاء اتفاقيات السلام في أوسلو، والقضاء على السلطة الفلسطينية الهشة في رام الله بعد إشعال حرب سياسية بين فتح وحماس وتجزئة الأراضي الفلسطينية بين غزة حماس والضفة الغربية فتح وصولا إلى ضم ما تبقى من الأراضي الفلسطينية( يهوذا والسامرة) إلى إسرائيل، بعد إحداث اكبر عملية تهجير للسكان العرب على غرار ما حدث بعد حرب عام 1948 ولن يمكن ذلك إلا بعد "حرب مؤقتة إستباقية " يمكن من خلالها للرأي العام العالمي هضم العملية برمتها. ثم القضاء على الأنظمة المتشددة تجاه إسرائيل كنظام صدام حسين حيث تم تحقيق ذلك عام 2003، وكذلك نظام سوريا، ونظام إيران الإسلامي الشيعي، وتفكيك العراق إلى دويلات طائفية وعرقية متصارعة، ولتتطوع إسرائيل لاستكمال وضعها كقاعدة أساسية في (مشروع حرب النجوم) الذي كان من تصميم مدة الرئاسة الريغانية والذي حصد على المستوى الستراتيجي عموما انهيار الاتحاد السوفيتي السابق. فهل يمكن بعد تلك الحرب الافتراضية الجديدة دخول العالم إلى حيز جديد من العلاقات الدولية ما بعد سبتمبر (آخر)؟
وجاءت محتويات الوثيقة في الخطاب المهم الذي ألقاه بنيامين نتنياهو أمام الكونغرس الأميركي في اليوم التالي لاستلامه لها مباشرة. فجميع عناصر الوضع الأمني المستقبلي في الشرق الأوسط موجودة في تلك الوثيقة، بما فيها المطالبة بضم القدس الشرقية إلى دولة إسرائيل، حيث يتم الاعتراف بها كعاصمة نهائية للدولة العبرية. وهذا الرأي يلتقي مع موقف الإدارة الأمريكية المُتمثِّل بالسيطرة على المناطق الغنية بالنفط التي حددها المفكر الستراتيجي الأميركي زبينغو بريجينسكي وبرنارد لويس والمعروف ب "قوس الأزمة". وبمعنى آخر القوس الممتد من خليج غينيا إلى بحر قزوين المار بالخليج، حيث يتطلب إعادة تعريف للحدود والدول والنظم السياسية: "إعادة تشكيل الشرق الأوسط الكبير" بعد ذلك؛ إذا ما أردنا استخدام تعبير جورج دبليو بوش.أما الشرق الأوسط الجديد الذي تدعو له كونداليزا رايس باعتبارها "القابلة المأذونة" التي تتولى شؤون مراقبة ولادته العسيرة. فالفكرة بسيطة إلى حدّ ما وهي تتلخص في استبدال الدول الموروثة عن انهيار الإمبراطورية العثمانية بكيانات أصغر تتسم بأحادية الطابع العرقي والطائفي، وتحييد هذه الدويلات بجعل كل واحدة منها ضد الأخرى على نحو مستمر. وبعبارة أخرى: الفكرة تتضمن إعادة العمل بالاتفاقيات السرية المبرمة عام 1916 بين الإمبراطوريتين الفرنسية والبريطانية، اتفاقيات سايكس - بيكو، وإقامة سيطرة أنكلو ـ ساكسونية مُطلقة على المنطقة. لكن من أجل تحديد الدول الجديدة، لا بد أولاً من تدمير الدول القائمة حاليا. هذا ما تقوم به إدارة بوش وحلفاؤها منذ خمس سنوات بحماس متواصل لا نظير له مِن قِبَل السَحَرة المتمرسين في عملهم على النتائج المترشّحة عن السياسات العملية التالية:إن الأراضي الفلسطينية المتبقية بعد حرب الأيام الستة عام 1967 تم تقليصها بنسبة 7% مما يمهد الطريق لسيناريو الإفراغ الكامل بعد ذلك. وقطاع غزة والضفة الغربية مفصولان بجدار، والسلطة الفلسطينية من الممكن زجها في حرب بين الفصائل المختلفة حتى يتم إضعاف مواقفها الوطنية ومحق قدراتها على حشد بعد عربي أو إسلامي، فضلا عن قيام إسرائيل بسجن عناصر قوتها ووضعهم في حالة أسر يصعب الفكاك منها. و
هكذا لم يَكُن لدى دو فيلبان وزير خارجية فرنسا السابق شيئاً يقوله لمحاوريه في بيروت سوى كلمات عاجزة لا تقوى على الثبات أمام الأحداث الفوضوية الجسام التي ستعصف بلبنان. وبعبارة أدق، أن مشروع (تدمير لبنان) الذي كان قد قُدِّمَ من "تساهال" إلى إدارة بوش قبل العام 2006 بقليل، وطبقاً لما أفادت به جريدة سان فرانسيسكو كرونيكل هو جار على قدم وساق، وقد أعدّ بعناية وأن حادث اختطاف الجنديين الإسرائيليين الذي اشتعلت الحرب بسببه ما هو في مضمونه النهائي غير "فبركة" لتدمير بلد عربي يعتاش على اقتصاد السياحة بالدرجة الأساس. لقد كانت رؤية الهجوم على الأعداء المحتملين كحرب استباقية فوضوية تعدّ جوهر مناقشات سياسية جرت في المنتدى العالمي السنوي الذي نظَّمه معهد أمريكان إنتربرايز في السابع عشر والثامن عشر من يونيو 2006 ببلدة بيفر كريك. لقد اجتمع بنيامين نتنياهو وديك تشيني مطولا مع ريتشارد بيرل وناتان شارانسكي، لإعداد خطة الهجوم على لبنان من خلال إحداث اكبر مقدار من الفوضى فيه. وبعد بضعة أيام مُنِحَ الضوء الأخضر من البيت الأبيض للعمل ضده. فوزارة الدفاع الأمريكية هي التي تشرف على عمليات (تساهال) العسكرية، وهي التي تُحدِّد الأسس الإستراتيجية واختيار الأهداف إلى حدّ بعيد. فالدور الرئيسي يلعبه الجنرال بانتز كرادوك بصفته قائداً عاماً للقيادة الجنوبية هو دليل حيّ على ذلك. ومثلما ظهر خلال عملية عاصفة الصحراء، وقيادته القوات البرية التابعة لحلف شمال الأطلسي في كوسوفو، فإن كرادوك وهو اختصاصي بالمدرعات حيث تتم عملية تلافي القذائف الجديدة الخارقة للدروع الحالية. كما أنه هو الرجل الذي يحظى بثقة دونالد رامسفيلد وزير الدفاع السابق، وقد كان رئيساً لفريق مستشاريه، ومن أجل رامسفيلد قام بنفسه بإعداد معسكر غوانتانامو. ومن المزمع في الوقت نفسه تعيينه قائداً للقيادة الأوروبية وحلف شمال الأطلسي أيضا. لكنه من المسؤولين غير المباشرين عن الخلل الكبير الذي واجهنه الدبابات الإسرائيلية في حرب تموز أيضا. وفي موقعه الجديد هذا يمكن أن يُستدعى لقيادة القوات التي تعمل في أفغانستان والسودان – كقوة دولية- وقوة حلف شمال الأطلسي التي قد يتم نشرها في جنوب لبنان. لقد تعلَّم جنرالات إسرائيل والولايات المتحدة كيف يتعرفون على بعضهم الآخر منذ حوالي ثلاثين عاما في ظل جو من إشاعة الفوضى في الشرق الاوسط، وذلك بفضل اللقاءات المُتبادلة التي ينظمها المعهد اليهودي لشؤون الأمن القومي (JINSA) وهو مؤسسة تفرض على كبار العاملين فيها متابعة جميع الحلقات الدراسية والندوات المتعلقة بأفكار وأطروحات ليوشتراوس. وربما قد تنتج لنا رؤى الفوضى البناءة في وقت لاحق مزيدا من الطروحات القديمة الجديدة حول تغيير العالم ، وكذلك مزيدا من الحروب في الوقت نفسه مما يضع العالم أمام حافة الهاوية.
خاتمة
العولمة والفوضى البناءة تتمظهران على نحو دائم في عسكرة هي بمثابة الشكل النهائي لنظرية لفوضى البناءة. ومن أهم ظواهر القرن الحادي والعشرين هي انتشار حمى التسلح والتسلح النووي خاصة, وهي مشكلة كبرى ستتفاقم على المستوى العالمي لتخلق فوضى عارمة ربما يصعب السيطرة عليها مثلما هو الحال الذي واجه العالم عام 1939 حيث نشبت الحرب العالمية الثانية وانتهت عصبة الأمم ككيان هش غير قابل على تنظيم العلاقات الدولية. وهي أوضاع ستواجه دول الجنوب وتتطلب التكيف مع المستجدات الخطيرة الدولية. في وقت تجد فيه دول الشمال الصناعي ما يكفي من الوقت لتنظيم عالم الجنوب على وفق مصالحها في عصر ما بعد الحرب الباردة. وتجد في منطقة الشرق الأوسط مجالها الحيوي التطبيقي من خلال طروحات غير مكتملة تتمثل في الفوضى البناءة التي تعد الذراع العملي والنظري للعولمة الأميركية المعاصرة.
وعسكرة العولمة هي من أوضح صور العولمة الحالية المتمثلة بالمراحل الأولية للفوضى. فثمة عولمة اقتصادية وعولمة إعلامية وعولمة ثقافية , إلا إن عسكرة العولمة هي من أخطرها على الإطلاق حتى الوقت الحاضر . وجاءت عسكرة العولمة (عمليا) في أعقاب أحداث البرجين العالميين في نيويورك عام 2001 , وما أعقب ذلك من الإعلان عن شن الحرب على أفغانستان و العراق ومن ثم احتلال كلا البلدين المسلمين. وإذا كنا قد رصدنا جانباُ من جوانب عسكرة العولمة الحالية , فإن الأحداث القادمة في منطقة الشرق الأوسط سوف تؤكد من جديد استمرار هذا الأسلوب . ولذلك لابد من متابعة عسكرة العولمة والقيادة الأمريكية لها بما يخدم محاولات تفهمها واتخاذ أساليب علمية ومحددة بإزائها.
ومن التجارب القريبة التي لم نعيشها طويلا بل داهمت عقولنا وحولت بريق اللحظات إلى حمى من الموت والدهشة، ومجانية بـ"الشهادة" أو إزهاق الأرواح، نطلق السؤال الأول: هل الطبقة الوسطى هي الضحية الأخيرة لعمليات "الفوضى" كما ينظر لها المحللون اليوم؟ ربما ستستمر اجتياح الفوضى للعالم العربي والإسلامي عقودا من الزمن من وجهة نظرنا وهي تشبه في تكوينها إلى حدّ ما تلك الحروب الرعناء التي شنت على العالمين العربي والإسلامي إبان بداية الألفية الثانية. بيد أن من الصعب إجراء مقاربة أولية في الوقت الحاضر فالحرب التي تشن الآن هي في بدايتها. وما مفهوم الفوضى البناءة إلا محاولة أولية أيضا من وجهة نظر أميركية لتفهم طبيعة الصراع العسكري والإعلامي الجاري في منطقة الشرق الأوسط والذي يراد له أن يتحول إلى صراع فكري في الوقت نفسه، وتلك مرحلة أكثر تقدما لكن الولايات المتحدة والغرب عموما تحث الخطى في هذا الاتجاه من اجل وضع نوع من الايدولوجيا لأعمالها العسكرية الكبيرة وما الفوضى البناءة إلا واحدة من هذه الطروحات الأولية في السياق نفسه.










بعض المراجع والهوامش المهمة:

(*) صندوق بندورا أسطورة يونانية قديمة: تظهر بندورا صندوقا مليئا بالهدايا الجميلة للأطفال لكنها ما أن تفتحه حتى تنطلق منه جميع أنواع الشرور مما يوقع الأطفال بالرعب.
(**) وثيقة كيفونيم: كشف النقاب لأول ونشرت مرة في مجلة كيفونيم الإسرائيلية عام 1982 حيث أصدرتها المجلة الصهيونية العالمية. وهي تتضمن مشروعا لتفتيت العالم العربي والإسلامي الذي رأت الوثيقة ضرورة إعادة تجزئته بما يتفق والطوائف والأقليات والأعراق فيه وبان يتم تحويل العراق إلى كانتونات. للمزيد من المعلومات ينظر، مجلة أيام عربية: Thursday, August 31, 2006: http://www.elmasryeen.blogspot.com
- بوب ودوورد، بوش محاربا، مكتبة العبيكان 2002 ترجمة: د. سمير القاضي
- السفير بول بريمر ، عام قضيته في العراق، النضال لبناء غد مرجو، دار الكتاب العربي، ترجمة عمر الأيوبي ،2006 م
- إستراتيجية التدمير، آليات الاحتلال الأميركي للعراق ونتائجه (الطائفية- الهوية الوطنية - السياسات الاقتصادية) مركز دراسات الوحدة العربية، سلسلة كتب المستقبل العربي(49) يونيو
2006
_ مراجعة الملفات المتعلقة على الموقع http://www.almulaf.net
- د. محمد الرميحي، حتى لا تتحقق أهداف الفوضى البناءة، مجلة حوار العرب، العدد12، السنة الأولى، نوفمبر / تشرين الثاني 2006 ص ص 5-15
- ليستر ثرو، مستقبل الرأسمالية ترجمة : فالح عبد الكريم حلمي، بغداد: بيت الحكمة، 2000م
- صامويل هنتنغتون، لعبة الحضارات، بيروت مركز الدراسات الستراتيجية والتوثيق، 1995.
- شمعون بيريس، الشرق الأوسط الجديد، ترجمة: محمد حلمي عبد الحافظ، الأردن، الأهلية للنشر والتوزيع، 1994.
- Merriam-Webster Dictionary
- Concise Oxford Dictionary, ninth edition.
- http://www.voltairenet.org/ar



#رياض_الأسدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- اليانكي
- الدب الروسي ورقصة العرضه
- تبغدد.. إلى هيلاري: متى تحكمنا نساؤنا؟
- الغاء الآخر.. نظرة في التاريخ القديم
- تقريربيكر هاملتون:محاولة نظر ناقصة
- الحرب على العراق مقدمة لحرب عالمية ثالثة؟
- القدامة العربية بين الديمومة وظاهرة التقليعة الفكرية
- حديث إلى كريم مروة والظاهرة العراقية
- الحروب ككولاج غير قابل للصق
- روزا باركس.. لا مكان لها في حدوس نوستر أداموس
- ماذا وراء إحياء اللغة اللاتينيةعالميا؟
- عمى أيديولوجي جديد
- علمني كيف اخدم بلادي..في السيرة العلمية والوطنية للعالم العر ...
- مهنة يصعب التقاعد عنها
- القوي والجبار.. كتاب مادلين اولبرايت الجديد
- قراءة في البيان الأول لثورة 14 تموز 1958 العراقية
- تحت خوذة منخوبة
- يوسف الصائغ من الشيوعية إلى الفاشية ..لماذا غير خطّ سيره؟
- إحمد ربك كاكا كمال كريم لست شروقيا
- تعال إلى انسية زارالولو


المزيد.....




- مصدر عراقي لـCNN: -انفجار ضخم- في قاعدة لـ-الحشد الشعبي-
- الدفاعات الجوية الروسية تسقط 5 مسيّرات أوكرانية في مقاطعة كو ...
- مسؤول أمريكي منتقدا إسرائيل: واشنطن مستاءة وبايدن لا يزال مخ ...
- انفجار ضخم يهز قاعدة عسكرية تستخدمها قوات الحشد الشعبي جنوبي ...
- هنية في تركيا لبحث تطورات الأوضاع في قطاع غزة مع أردوغان
- وسائل إعلام: الولايات المتحدة تنشر سرا صواريخ قادرة على تدمي ...
- عقوبات أمريكية على شركات صينية ومصنع بيلاروسي لدعم برنامج با ...
- وزير خارجية الأردن لـCNN: نتنياهو -أكثر المستفيدين- من التصع ...
- تقدم روسي بمحور دونيتسك.. وإقرار أمريكي بانهيار قوات كييف
- السلطات الأوكرانية: إصابة مواقع في ميناء -الجنوبي- قرب أوديس ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - رياض الأسدي - نظرية الفوضى البناءة