|
ثراءُ أيامك .. يا أبا آزاد !
عبد الجبار السعودي
الحوار المتمدن-العدد: 2191 - 2008 / 2 / 14 - 11:55
المحور:
سيرة ذاتية
في يوم الخامس والأربعين على الرحيل ..
على غير عادتي ، وأنا المفجوع برحيلك القسري عنا وعن أهلك ومحبيك و زملاءك وأصدقاؤك وحتى الذين خاصموك و أحبوك مرغمين ، على غير هذا كله ، تريثتُ كثيراً وطويلاً ، لكي أكتب بعض مما تجود به الذاكرة و خزين الكلام عن رفقة الأيام و شجونها معك ! توقفت عند هذا وذاك وحدّثت نفسي عما ستؤول اليه الأيام والأحداث وما سيُقال ، لو أني رثيتك لاحقاً ! فلم أجد ضيراً من هذا كله ، فلا مناسبة ولا حدثاً ولا خطباً ما ، يجعلني أنسى كل أيام صحبتنا الخالدة مع بعض، وأيام صداقتنا التي تجاوزت كونك ( نسيبــاً ) لي ، ومن عائلتي الكبيرة التي أنجبت ما أنجبت من رجال ونساء تحتفظ لهم الأيام بالشواهد والأحداث وبكل ما قدموه لأهلهم المندائيين و للمجتمع الذي عايشوه و لوطنهم الذي لازموه في المحن .. وما أكثرها ليومنا هذا !
أتوقف اليوم ، وبعد هذه الأيام الثقال على رحيلك ، مستذكراً شواهد السنين وأيامها وما تركتهُ في سنوات تحصيلك الدراسي التي حدثتنا عنها بشوق كبير وأنت تتلمذ على يد المفكر والمؤرخ الكبير الراحل مصطفى جواد وهو يضع بصماته وأفكاره في طريق أجيال عديدة ، كنت أنت أحد الذين أنتزعوا من تلك الرحلة العامرة معه ، شرفاً كبيراً ، يفخرُ به كل الذين عاصروه و زاملوه ونهلوا منه ثمار الفكر والعلم والمعرفة .
أتوقف عند سيرتك المطعمة بالفرح والحزن يا أبا آزاد ، ولست بحاجة الى من يفيض عليّ بالذكريات الجميلة والعذبة عنك وعن عطاءك الثر والكبير في رحلة عمرك المهني التي كنت أعيشها قريباً أو أصغي اليها خلال ساعات لقيانا التي صاحبتك فيها لسنوات طوال .. ولا أهرب ! أتذكر جيداً زوايا البيت الكبير، العامر بالحكايا الجميلة والمشوّقة .. أتذكر تلك المكتبة الوفيرة ، التي عبثت أصابعك بوريقات كتبها ، ولم تترك زاوية في حديث مكتوب أو جملة مكتوبة ، إلا وكنت منتصراً أو باحثاً عن معانيها و معلــّقاً عليها ! شجرة التين وثمارها القرمزية اللون.. وشجرة ( النبق ) الحلو المذاق ! و ظلال ( سوباط ) العنب الذي لا بعده من ( سوباط ) ! أتذكر كل ذلك الخزين من المعرفة الذي كنت تضعه أمامي ، لكي أنهل منه معرفة وعلماً وتراثاً كبيراً .. أو جواب عن ( حيرة ) ما .. أو سؤال ما ! خذ هذا لتقرأه ، أنه ( نهج البلاغة ) للأمام علي بن أبي طالب ، فهو يزيدك قوة في فن الخطابة والكتابة والمعاني العميقة ! اياك وأن تنسى صفحات مؤلفات ( العقد الفريد ) لأبن عبد ربة القرطبي الأندلسي ، ففيه ، ما فيه من كنوز و دُرر.. كما أطلق عليه ؟ ! إيــّاك يا جبار أن تنسى ما حفظته الأيام عن الجواهري وما كتبهُ في سفره ِ الذي لا ينتهي ، أنه أبن الوطن البار وأبن الأنتفاضات المجيدة ؟ لا تقل أن ما كـُتب عن موسى بن جعفر الكاظم و هذه المؤلفات التي تشاهدها أمامك، أنه لأمرٌ لا يهمني ، لكوني مندائياً ؟ خذ أمامك وأقرأ و تصفح الأسطر ومعانيها .. ولا تخجل في سؤال مـــا ..! وكن منيعاً أمام من يحاورك في مناسبة ما أو في خطب ٍ أو حدث ٍ ما .. ، فلكي تعرف ماضي ما مضى ، أقرأ عن صفحات وتأريخ الآخرين وما تجود به تلك الأيام ، طالع و تمعن في كل ذلك، لكي تبني معرفة عن أقوامنا التي عاشرت و زامنت تلك الحقبة من التأريخ ! لا تخذل نفسك يا أبني ( هكذا كنت تسميني ) ! كن منتصراً على نفسك ولا تتردد ! لا تتردد في القراءة ! هكذا كنت أستمع و أصغي لتلك الكلمات والنصح وأنا أصغرك بسنوات كــُثر .. لم أجد فارقها عنك ، يبعدني ، بل يزيدني ألتصاقاً وحنيناً و شوقاً إن أبتعدتُ يوماً ما .. ! وحين تجمعنا أيام ( كرصة ٍ ) أو عيد ٍ أو نحر خروف في هذه المناسبة أو تلك ، وغيرها من الطقوس التي كنت أقاسمكم أياها ، كنت أصغي فيها لتعليقاتك الشيقة وأنت تضرب الأمثال والحكايات الموثقة عن هذا الحدث أو غيره .. وحين كنت أسأل عن معنى ذلك و مصدره كما أوصيتني ، كنت تنهرني ضاحكاً : مو كَتلك .. أقرأ ! أما عن زملاءك في مهنة التعليم ، فقد أصبحت لي معرفة وصحبة بهم من خلالك ، فهذا أستاذ ... ، وهذا أستاذ ... ، وذاك أستاذ ... ، وهذا فلان ! وكنت تحدثني عن رحلتك الشيقة معهم وعن مواقف طريفة ، ليست بعيدة عن همومك المتواصلة ، وما أكثر غرابتي و فخرنا جميعاً ، أن أسمع منك وأعرف عنك ، أن بعضاً من هؤلاء وآخرين كانوا يأتون اليك وهم المسؤولين عن تدريس مادة الدين الأسلامي في مدرستك ، لكي تفسّر لهم معاني الأيات القرآنية والأحاديث الدينية ، ليشرحوها لاحقاً للطلبة في حصصهم التدريسية !! كنت تعود الينا حينها غاضباً ومتألماً ، وكانت تساؤلاتنا لهكذا واقع مرير، تزيدنا أصراراً على أن نتعلم ! أما المدارس التي تعددت خدمتك فيها وأنت مبعداً من مدينة الى أخرى ، فقد كانت إداراتها تعرف أصرارك وعنادك على أن لا تخضع لتقييم أحد ٍ مــا ! فقد كنت واثقاً في مقدرتك على العطاء ، فلم تقبل يوماً ما مفتشاً تربوياً يدخل اليك في حصتك التدريسية ، لكي يطالع ما أنت عليه من أداء ! ولا حتى ذلك ( المسؤول الرفيع ) الذي زار مدرستك يوماً ما ، لكي يرى من هو ( أبو آزاد ) المندائي هذا الذي يفسّر القرآن وآياته الكريمــــة ! فقد كنت تنهرهم جميعاً، هم والزائرين إن فعلوا ذلك ! وكانوا لذلك صاغرين ومحترمين معاً !
لو تتسع الأوقات ورغم المواجع ، لكي أكتب الكثير ، لما ترددت يا أبا آزاد ! لكني أعرف أن جدل الكلمات وتلاحقها سوف لاينتهي عند هذه المحطة أو تلك .. ففي ثنايا السطور التي أختطتها سنوات حياتك الشقية والبهية ما يلهب الصفحات التي لا عدّ لها ! وأخيراً .. في لحظات فراقك الأخيرة والأليمة وأنا أنحني أمامك وأمام تلك العيون الغائرة، كنت أترقب كل تلك الأنفاس التي لم تعد تقوى على أسترجاعها و حتى .. لحظات .. غفوتك الأبديـــــة ! و وفاءاً لك يا صديقي ، ولكي ( تأخذ معك ) بعض، مما أوجبتنا به الطقوس ، فقد ألبستك بيديّ ، ذلك القماش الأبيض ( هاود ماني ) ، بكل تفاصيله الدقيقة من ثوب و شروال وأكليل آس وهميانة وأكليلة وغيرها ، والتي كنتَ تحفظ أسماءها عن ظهر قلب ، كما حفظت فنون لغتك العربية و دروبها ! و رغم أني حبست دموعي في لحظات موجعة و وسط أجواء البيت العصيبة حينذاك ، أحتراماً لهذا الكيان الذي أفارقه ولهذا التأريخ المجيد ، لكني وأنا أواري جسدك التراب وأنزل الأرض وحيث سريرك الأبدي الفاني و في غربة موحشة وقاسية أجبرتنا الأيام و شجونها عليها ، أنهمرت دموع الوفاء لك يا أستاذي الجليل ، وقبلتُ .. جبهتكُ مودعاً ! لا أبتغى إلا عونـــــاً من قادم الأيـــــام ، لكي أعود لذلك البيت الذي تركتهُ أنت مرغماً، لكي أنفض الغبارعن تلك الخزائن والدُرر التي طالعتها نظراتك و قلـّبت فيها الصفحات والكلمات حتى أصبحت مناراً للكثيرين بما فيهم خصومك !
سيبقى وفاءنــــــا لكم ، كما أردتـــــــــم ، في رحلة العمر والزمن المتكســّر هذا .. يا أبــا آزاد !
تلميذك .. عبد الجبار السـعودي
* * * * الفقيد حنون حطاب ( ابو آزاد ) من مواليد 1932 من محافضة ذي قار. استاذ اللغة العربية ، تخرج من دار المعلمين العالية سابقا سنة 1959 . تتلمذ على يد العلامة الكبير والمفكر الراحل مصطفى جواد . وخلال مدة خدمته البالغة 28 عاماً، تخرجت على يديه أجيال كثيرة ، تدين له بالأمتنان. كان يحب اللغة العربية كثيراً وعالمها الواسع الجميل ، وكان متمكناً منها حتى سميّ في المدارس العديدة التي خدم بها في العديد من المحافظات بـ ( الموسوعة العربية ) ، وكانوا يستعينون به لتفاسير القرآن الكريم ، وهو الصابئي الذي كان يحفظ ( نهج البلاغة ) عن ظهر قلب ومجلدات ( العقد الفريد ) وكل كتب الاديان السماوية ومنها الديانة المندائية. وكان يعتز بنفسه بانه مندائي في كل المحافل والمناسبات التي تجمعه مع الآخرين . في مرحلة ما من حياته المهنية تعرض الى اضطهاد كثير حاله حال الكثير من الوطنيين المندائيين وأبناء الاقليات الاخرى، حتى انه أعتقل وأبعد عن محل اقامته في مدينة الديوانية الى المنطقة الشمالية في ستينيات القرن المنصرم ، ثم أعيد الى مدينة الحلة ، ثم الى بغداد ! و رغم عذابات التنقل والترحال هذه، كان يحب وطنه العراق كثيرا وكانت تربطه به روابط قوية تزيدها المعرفة التي نهل منها الكثير ، إذ كان يردد ( انا لا استطيع ان اترك العراق الى آخر يوم من عمري )، ولكنه تركه مجبرا و مرغماً على ذلك ، وكانت له مقولة يكررها دائما : ( ماكو مثل عراكنـــــا .. عراك ) ! كانت لديه مكتبه عامرة تضم كتباً كثيره الى أدباء وشعراء وكتباً دينية كثيرة ومعاجماً ، وكان مغرماً بالشعر العربي وخاصة الشعر القديم ، وشعر الجواهري الذي لا ينسى تريد أبياته ومقاصدها في الكثير من المناسبات والأحداث اليومية. توفي في مدينة بروكسل البلجيكية يوم 27 – 12 – 2007 و وري الثرى في يوم 31-12-2007 .
#عبد_الجبار_السعودي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
انه الوطن .. انها الأمانة !
-
متى تُثلج صدورنا أيها السيد .. مون ؟
-
حتى لا يسرق ( عبد الشط ) حليب الأطفال وأمانيهم !
-
أنتَ الشاهد .. يا ديسمبر !
-
رغيف الخبز .. يا حكومتنا الموقّرة !
-
فضيحة عرعوري ..و بلبول القوري
-
تسيورة !
-
مو وردْ .. طلع دغل...إ.
-
طبّت البواخر !
-
يوم التاسع من تموز .. بأنتظار صوت المثقفين العراقيين
-
عمال النفط .. ( أبو ضامن ) يناديكم !
-
قراءة في كتاب .. عمائم ليبرالية في ساحة العقل والحرية
-
مُديراً ، أم وزيراً مندائياً ؟
-
محطة إستراحة .. في يوم العمال العالمي !
-
محطة إستراحة .. في يوم العمال العالمي !
-
قدّح المشمش .. يا - حكومة !
-
خسارة الميناء .. والعيون المتعبة !
-
أحزان مندائية
-
حمامة - هنوة - المذبوحة
-
أيها النمل الذي .. ستأكلنا !
المزيد.....
-
بريطانيا: تنظيما داعش والقاعدة يشكلان تهديدًا للمملكة المتحد
...
-
احتفظت بجثة ابنها الراحل لشهرين.. هذا ما كشفته مذكرات ليزا م
...
-
بعينين دامعتين.. سيلين ديون تعبر عن تأثرها بأداء كيلي كلاركس
...
-
بعد 67 عامًا على تشييده.. هدم فندق شهير في لاس فيغاس بطريقة
...
-
مايا هاريس... أخت كامالا وصانعة استراتيجيات حملتها من وراء ا
...
-
-كانوا محترقين-.. غزة: 16 قتيلا و17 مصابًا في هجوم على مستشف
...
-
لماذا يعود الحديث عن انتخاب رئيس للجمهورية بقوة في لبنان؟
-
من بينهم المرجع الشيعي علي السيستاني.. من هم الزعماء الذين و
...
-
لمناقشة العلاقات بين البلدين.. الرئيس الفنلندي يتوجه إلى الص
...
-
تجارة المعابر.. كيف يستغل الجيش السوري مأساة العائدين من لبن
...
المزيد.....
-
سيرة القيد والقلم
/ نبهان خريشة
-
سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن
/ خطاب عمران الضامن
-
على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم
/ سعيد العليمى
-
الجاسوسية بنكهة مغربية
/ جدو جبريل
-
رواية سيدي قنصل بابل
/ نبيل نوري لگزار موحان
-
الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة
/ أيمن زهري
-
يوميات الحرب والحب والخوف
/ حسين علي الحمداني
-
ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية
/ جورج كتن
-
بصراحة.. لا غير..
/ وديع العبيدي
-
تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون
/ سعيد العليمى
المزيد.....
|