أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - سهيل أحمد بهجت - نقد العقل المسلم ح 32















المزيد.....



نقد العقل المسلم ح 32


سهيل أحمد بهجت
باحث مختص بتاريخ الأديان و خصوصا المسيحية الأولى و الإسلام إلى جانب اختصاصات أخر

(Sohel Bahjat)


الحوار المتمدن-العدد: 2180 - 2008 / 2 / 3 - 11:31
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


و ليس بِدَعا من القول أنّ النّزعات الدّينيّة تنامت بشكل خطير منذ الثّورة الإيرانية 1979 ، و ربّما كان الغرب محظوظا حينها فقد هيأت ثورة الملالي فرصة كُبرى لإسقاط الشّيوعيّة ، لكن هذه النظرية "الإسلاموية" قد خلقت دفعا هائلا باتجاه الصراع الدّيني ، بل إنّ الولايات المتحدة نفسها مهددة الآن بالتحول إلى دولة مسيحية كردود فعل من الإرهاب الإسلامي.
إنّ النظرية الإسلامية لا تعدو أن تكون نظيرة خصميها الكبيرين "الشّيوعيّة" و "القوميّة" ، فهي تدِّعي أنها تفسير كامل و شامل لكل تفاصيل الحياة ، بدءاً بالحكم و انتهاءاً بأصغر و أدق تفاصيل الحياة الشّخصيّة ، و لو أنّ مطالب الإسلاميين اقتصرت على طلب "حماية" من نوع ما لطقوس و شعائِر دينيّة و لحريّة الاعتقاد الدّيني !! لكان أمراً معقولا و مقبولا ، لكنهم هنا يُطالبون بخلق "دولة شموليّة" تتدخّل في كُلّ شيء ، تتغنى بالحُرّيّة لكنها تقمعها من جهة أُخرى ، يقول السّيّد الصدر مُعقِّباً على الاقتباس السابق:
" وقد حمل الاسلام المشعل المتفجر بالنور, بعد أن بلغ البشر درجة خاصة
من الوعي, فبشر بالقاعدة المعنوية والخلقية على أوسع نطاق وأبعد مدى,
ورفع على أساسها راية إنسانية, وأقام دولة فكرية, أخذت بزمام العالم ربع
قرن, واستهدفت إلى توحيد البشر كله, وجمعه على قاعدة فكرية واحدة ترسم أسلوب
الحياة ونظامها. فالدولة الاسلامية لها وظيفتان: إحداهما تربية الانسان
على القاعدة الفكرية, وطبعه في اتجاهه وأحاسيسه بطابعها, والأخرى مراقبته
من خارج, وإرجاعه إلى القاعدة إذا انحرف عنها عملياً.
ولذلك فليس الوعي السياسي للاسلام وعياً للناحية الشكلية من الحياة الاجتماعية
فحسب, بل هو وعي سياسي عميق, مرده إلى نظرة كلية كاملة نحو الحياة والكون والاجتماع
والسياسة والاقتصاد والاخلاق فهذه
النظرة الشاملة هي الوعي الاسلامي الكامل". فلسفتنا.
في كلمات سابقة شبّه الإنسان في التجربة الغربية بالأجهزة أو الآلة ، بمعنى أن المادّيّة ستطبع المجتمع بطابع واحد و تجعل الجميع يفقدون أحاسيسهم و علاقاتهم كبشر ، لكن ها هنا نحن مع إعلان صريح بأنّ على المجتمع أن يتحوّل إلى جماعة من الرّوحانيّين و الغرق في "الشعائر و الطّقوس" الدّينيّة و الّتي ستنتهي حتما بنمط واحد من التفكير و يكون الفرد أو الأفراد مجرّد تكرار مُمِلٍّ للعقل الدّيني السّائد ، بل إن عباراته واضحة لا تحتمل التّأويل في جعل الإسلام دينا و نظريّة شُموليّة لا أمل معها في أي تعدُّديّة فكريّة ، و أيّ مسٍّ بهذه المنهجيّة "الشُّموليّة" سيُرَدُّ عليها بنظرية تآمر أكيدة ، لأن أيّ نقد للمُعتقدات السّائدة سيكون مواجهة مع الدّولة و مع الله ، و هذان خصمان كفيلان بإفشال أي عملية نقد ، إنّ جرّ المُقدّس إلى ساحة الدّولة و النظام السياسي كفيل بالقضاء على الطرفين ، فالدّين سيتحول حينها إلى "كهنوت" يحول حياة المجتمع إلى سجن تحت الرّقابة ، و الدّولة إلى أداة بيدِ هذا "الكهنوت".
و مهما نظّروا و نظّرنا للمسألة الدينية و ربطناها بعوامل اقتصاديّة و اجتماعية ، فلن نخرج إلا بهيمنة فريق صغير "نخبة من العمامات" شبيهة بنخب الشيوعيّة و النظريّات القوميّة الّتي تنظر للآخر دوما على أنه خائن و خطير يجب احتواؤه أو القضاء عليه ، بينما نجد السّيّد الصّدر يقول عن الدّيمقراطيّة الرأسمالية بأسطر قليلة من كلامه الّذي اقتبسناه آنفاً:
" والنظام الرأسمالي الديمقراطي ليس منبثقاً من عقيدة معينة عن الحياة
والكون ولا مرتكزا على فهم كامل لقيمها التي تتصل بالحياة الاجتماعية وتؤثر فيها.
وهو لهذا ليس مبدأ بالمعنى الدقيق للفظ المبدأ, لأن المبدأ عقيدة في
الحياة ينبثق عنها نظام للحياة". فلسفتنا.
فهذه الكلمات عبارات صريحة واضحة لا لبس فيها في أن الدّيمقراطيّة القائمة على الحريات الفرديّة و الاجتماعيّة ليست نظرية "شموليّة" و هي بهذا المعنى لا تفرض نفسها على أحد و لا تقوم بوضع تفاصيل حياة الآخرين و حياة المجتمع لأنها "شخصيّة محايدة" و هي بهذا المعنى لا تفرض ديناً أو معتقدا على أحد ، اللهم إلاّ أن تفرض على الجّميع مفهوم واحدا هو "حريّة المعتقد و حريّة الإرادة" ، و حتى تلك القرارات المتشدّدة تجاه الدّين كانت ردّ فعل طبيعي من العلمانيين تجاه الهيمنة "باسم الله و الدّين" بمعنى أوضح أن العلمانيّة الحقيقيّة ليست ضدّ الدّين بقدر ما هي ضدّ استغلال طرف ما للقداسة الدّينيّة للهيمنة على السّلطة و المجتمع ، ففي تركيا العثمانيّة كان شيخ الإسلام ـ و هو أعلى سلطة فقهيّة في الدّولة ـ يُفتي حسب هوى السّلطان العُثماني و حاشيته و حريمه ، فكان يحلّ للسلطان مثلا أن يقتُل كلّ إخوته و حسب "فتوى شرعيّة" لكي يحصل انتقال سليم للسلطة ، بل إنّ أحد سلاطين آل عثمان قتل 19 من إخوته في يوم واحد لكي لا ينافسه أحد على السلطة و بفتوى شرعيّة (أنظر كتاب: شرفنامة ج 1) ، و نجد أن كاتبا "إسلامويّا" مثل زياد محمود أبو غنيمة لا يجد أي عيب في أن يكتب مقالا مطولا في تبرير كل هذه الجرائم.
و لكن يا ترى هل تحتاج "الدّولة" بمفهومها العام إلى فلسفة شاملة تملك كل الأجوبة لكل الأسئلة!! و لماذا يكون هذا ضروريا ما دام الإنسان ـ و الدّين نفسُهُ يُقرُّ بذلك ـ ضعيفا و حقيرا ضئيلا في هذا الكون اللا متناهي!! و ما علاقة بناء الدّولة كشبكة علاقات ضخمة بمفاهيم و صياغات دينيّة مختلفة من دين إلى آخر و من شخص إلى شخص! و لماذا لا تكون الدّولة كائنا غير مقدس بالشكل الّذي تكون فيه أقرب إلى شركة علاقات عامّة منها بـ"وكيل لله على الأرض" ، و يحاول السيد الصّدر حينما يبدأ بمناقشة الفكر الفلسفي للماركسيّة أن يبدأ من حيث بدأ كل الفلاسفة الحديثون الّذين يبنون الفلسفة على مصادر الإدراك البشري للمعرفة ، لكن الخطأ كُلّ الخطأ هو أن السّيّد الصّدر و بعد أن نقض النظريّة الماركسيّة "الشّموليّة" طرح مكانها نظريّة شموليّة أخطر ، فالشّيوعيّة نظرية مادّيّة و من السهل هدمها لأنها لا تستند إلاّ على زعم تاريخي بأنّ الإنسان الأول كان "شيوعيا" و لا يمتلك أفراده إلا ما يحتاجه ، أما النظرية الإسلاميّة فهي "مقدّسة" و من الخطر العبث معها.
يقول السّيّد الصّدر:
" تدور حول المعرفة الانسانية مناقشات فلسفية حادة تحتل مركز رئيسياً في الفلسفة
وخاصة الفلسفة الحديثة, فهي نقطة الانطلاق الفلسفي لاقامة فلسفة متماسكة عن الكون
والعالم, فما لم تحدد مصادر الفكر البشري ومقاييسه وقيمه
لا يمكن القيام بأية دراسة مهما كان لونها.
وإحدى تلك المناقشات الضخمة هي المناقشة التي تتناول مصادر المعرفة ومنابعها
الأساسية بالبحث والدرس, وتحاول أن تستكشف الركائز الأولية
للكيان الفكري الجبار الذي تملكه البشرية فتجيب بذلك على هذا السؤال:
كيف نشأت المعرفة عند الانسان, وكيف تكونت حياته العقلية بكل ما تزخر به من أفكار
ومفاهيم, وما هو المصدر الذي يمد الانسان بذلك السيل من
الفكر والادراك؟؟
إن الإنسان ـ كل إنسان ـ يعلم أشياء عديدة في حياته وتتعدد في نفسه الوان من
التفكير والادراك, ولا شك في أن كثيراً من المعارف الانسانية ينشأ
بعضها عن بعض, فيستعين الانسان بمعرفة سابقة على تكوين معرفة جديدة.
والمسألة هي أن نضع يدنا على الخيوط الأولية للتفكير, على الينبوع العام للادراك
بصورة عامة". فلسفتنا.
إنّ البحث عن فلسفة متكاملة متماسكة لا غموض فيها و لا تناقض و تجيب على كُلّ سؤال!! هو ضرب من الخيال ، بل إنّه لا يقلّ خيالا عن أي نظرية مادّيّة ـ في مفهوم مادّيّة القرن العشرين ـ الّتي آمنت أنّ الإنسان حلّ محلّ الله ، فالإنسان ليس إنسانا طالما لم يكن هذا الكائن المليء بالأخطاء و العيوب و الجهل "كلّما زاد علمي ، زاد علمي بجهلي" ، من هنا فإن أي محاولة لخلق تكامل من نوع ما هو بحد ذاته نقص ، فالنظريات العلمية و الفلسفية في تغيُّر مُستمر يواكب اطلاع الإنسان و توسُّع ثقافته ، فقد سارع الإنسان إلى الدّين في عصور الظلام ، ثم بدأ يشُكُّ حينما اتّسعت معرفته و مداركه ، ثم عاد إلى الشّكّ في ثقافته و نظريّاته العلمية منذ ظهور نسبية أينشتاين في منتصف القرن العشرين و عادت نزعة التّديُّن بقوة ، لكن هل أن هذا سيستمر و كأنها الحتميّة النهائيّة للتاريخ؟ أم أن ثمّة تجارب بشرية ستعيد ردّات الفعل القويّة ضد الدّين ، هذا يتوقف على أسلوب تعاملنا و ملائمتنا بين الدّين كمُقدّس متكامل و الإنسان ككائن جاهل قد يُسيء إلى نفسه عبر الاستخدام الخاطيء للدّين و النظام السّياسي ، الإنسان في طبعه كائن محبٌّ للحريّة و الإنطلاق ، حتّى المُتديِّن الّذي يطمع في الجّنّة هو طامع في حُريّة جنسيّة و تحلُّل من الأخلاق سيحصل عليهِ حينما يحصل على الخلود.
إنّ الإدراك هو أن الأنا تدرك نفسها و محيطها عبر حواسها و ذاتها الّتي تثبت بما لا يقبل أي برهان خارجي أن الذّات موجودة "أنا أُفكر إذاً أنا موجود" ٍو هذه العبارة المشهورة للفيلسوف الفرنسي الكبير رينيه ديكارت تضع الرّكيزة الأولى لهذا التفكير المنطقي ، غير أنّ الذّات ما أن تبدأ في التفكير بما هو خارجها حتى تبدأ صيغ الشّكّ تطغى أحياناً على اليقينيات ، و لو لا الشّكّ الفلسفي ما كنا هنا لنتكلم عن ضرورة أن تكون الدّولة كائنا عقليّا مُحايدا لا يسمح لأي طرف بأن يطغى على الآخرين خارج أساليب الإقناع و النقاش الموضوعي و العمل الاجتماعي ، و لا يمكن أن نجعل من ذواتنا الحُرّة عذرا أو مُبرِّرا لأن نسجن أنفُسنا ، فإسلام الأمس ليس كإسلام اليوم أو الغد ، و كذلك هي الأديان الأُخرى في مساراتها ، تجد أنّ الدّين ليس له وجود خارجي عن معتنقيه ، فالمؤمنون بأي دين من الأديان كأفراد هم من يُجسّد هذا الدّين أو ذاك ، فالإسلام مثلا ليس لهُ وجود خارجي عن المسلمين و باستطاعة هؤلاء إظهاره جميلا أو قبيحا ، متسامحا أو عنيفا.
هناك حالة تنافُر بين الطّرح العام في كتاب "فلسفتنا" الّذي يبدأ بنقد الفرديّة في المذهب الدّيمقراطي الغربي و العقليّة الجمعيّة المتطرفة في الماركسيّة ، إذ ينقُض السّيّد الصدر النظريّة الماركسيّة من الأساس حينما يُشير إلى أنها كمذهب ألغت الفرد و طموحاته و الإنسان بدون طموح و حب الذّات لا معنى لهُ ، لكنه عاد و انتقد دور الفرد في الأنظمة الغربيّة في محاولة لخلق مجتمع يُزعَمُ أنّه متوازن بين التطرفين ، لكن هذا التّوازن غير موجود في النّظريّة الإسلاميّة فضلاً عن تطبيقاتها ، من هنا فإننا ندرك أنّ التوازن المفقود في النظام الإسلامي المزعوم يعود إلى سببٍ بسيط و هو أن للدّولة دورا في تنشأة الفرد نشأةً دينيّة و الدّولة غالبا ما تلجأ إلى تبني نظريّة دينيّة بعينها أو تكييف الدّين بحيث يُلائم ذوق و مصلحة الطبقة الحاكمة و امتيازاتها ، لذلك تُمثّل العلمانيّة الحل الأنجع لكل هذه التعقيدات و الفوضى الدّينيّة و السّياسيّة ، و لو أن الإسلاميين لم يُفكِّروا عبر نظريّة "الصّراع" لربّما كان بإمكانهم حينها إخراج نظريات تتلائم و حاجة النّاس للحريّة ، و الخطأ الّذي وقع فيه السّيّد الصّدر هو انتقاده للحُرّيّة بمفهومها الغربي و إظهارها بمظهر "السّيّء" لمجتمعاتنا الّتي لا تعرف أو تذُق الحُرّيّة أصلاً ، هذا الخطأ كرره الصّدر الثاني أيضا حينما كان ينتقد المفهوم الغربي للحريّة في خطبة الجمعة في ظلّ نظام البعث الّذي كان لا يعرف إلاّ لُغة القهر و تدمير أيّ بوادر تفكير تعدّدي أو مؤمن بالحُريّة ، و لو كان بديل القهر و الطُّغيان هو قيام نظام حُرُّ على النّمط الغربي لكان ذلك جديرا بالتّضحية و لكن ما العمل مع عقليّة تؤمن بالصّراع.
إنّ محاولة إيجاد حلول لمجتمع يئن تحت وطأة الكبت و القهر و تعطيل عضلات التفكير لا يتمُّ عبر إيجاد "نظام شمولي" ، لأن مجتمعات لم يختبر أفرادها الحُرّيّة و ليس لهم تراثٌ ديمقراطي أو متسامح ، لا يمكن أن تنجح بدون إطلاق الحُرّيّات الكاملة ، إن قضيّة التّوازن بين الفرد و المجتمع و الدّولة هي مسألة أساسيّة لحلِّ أيِّ إشكال في واقعنا ، لكن التّوازن في المسائل الإعتباريّة ـ غير المادّيّة المحسوسة ـ هو أمر أقرب إلى المستحيل ، فالموضوع ليس بسيطا كأن تشتري وزنا معينا من مادّة مأكولة أو مشروبة !! بل هو توازن قائم على فهم فلسفي يحاول كشف العلاقات المخبوءة وراء ما هو موجود على أرض الواقع ، لكنّني أميل إلى أُحَطِّم هذا التّوازن لصالح الفرد "فردنا" كردٍّ على مفهوم "فلسفتنا" ، لأنّ المجتمع و إن خسِر في الظّاهِر بعضا من تحفّظاته لصالح الفرد! إلى أنّ المجتمع نفسه كـ"مجموع أفراد" سيستفيد من حرّيّة أفراده ، و هذا يُشبه كمثال و تشبيه إعطاء دواء يُقويِّ خلايا الجسم فتكون النتيجة أنّ الجسم كُلّه ينشط بفعل نشاط خلاياه.
طوال عِدّة صفحات مُتتالية ، يُناقِش السّيّد الصّدر النظريات الفلسفيّة حول منابع العقل و الإحساس من حيث هيَ مصادِر للعلم الإنساني بمحيطه بغية الحصول على حكم واقعي على الأشياء ، بدأً من نظريّة المُثُل لـ"أفلاطون" و مرورا بنظريات "ديكارت" و "كانت" حول إيجاد مبرّرات فطريّة لبعض الأفكار ، و انتهاءا بـ"النظريّة الحِسّيّة" الّتي روّج لها "باركلي" ، "هيوم" و ناصرها الشّيوعيّون و الماركسيّون ، لكن السّيّد الصّدر لم يطرح سؤالا أهمّ ، و هو ذاتهُ الأمرُ الّذي فعله الماركسيون ، و السؤال هو: أنّنا نطرح كلّ هذه النظريات جانبا و لا شأن لنا بقيمتها أو بنصيبها من الحق و الباطل ، لكن أليس هناك جواب منطقي يقول أنّ كلّ هذه تجارب "شخصيّة" و أنّ كلّ واحد من هؤلاء الفلاسفة ، و الصّدر واحد منهم ، قد رأى جانبا ـ جزءا ـ قطعة ـ من الحقيقة و الواقع المحيط بنا كأفراد !! من غير المُمكن إذا إيجاد العقل الفلسفي الكّلّي و النّظام الّذي لا عيب فيه!! فالإنسان و حَسَبَ المنطق و الأديان و التّاريخ ، حيثُما كان تكون المشاكِل ، و حيثُما تكون المشاكل يكون الإنسان هناك ، بل إنّ كلمة "مُشكلة" لا وجود لها بِدون الإنسان ، و من المستحيل خلق مجتمع "الفلاسفة" على نمط نظريّة أفلاطون و الفارابي في "جمهوريّة الفلاسفة" أو "أخلاق المدينة الفاضِلة" لأنّ هكذا مُدُن لا توجد إلا في عالم خيالي في رؤوس الحالمين فقط.
إذا كانت دولة من الدّول أو نظام من الأنظمة السّياسيّة و الاجتماعيّة لا يخلو من المشاكِل و شيء من الفوضى ، فإن النظام الدّيمقراطي اللبرالي الرّأسمالي هو أخفُّ الأنظمة ضرراً ، لأنّه و ببساطة يترك للإنسان أن يُعوِّض عن مشاكله و يُعالج أخطاء الدّولة و المجتمع بالحُرّيّة الّتي رسخت في شخصيّتهِ و يكون حينها مرتاحا على الأقل و رغم كُلّ مشاكِلِهِ لأنَّهُ يُفكِّر في إيجاد حلول لها من دون خوف أو رقابة ، و نحب هنا أنّ نطرح سؤالا ملحا لمن يؤمنون بمنهج موجّه كما هو حال القوميين و الماركسيين و الإسلاميين: فلماذا نفترض أنّ الفرد ـ و هو جُزْءٌ من كُلّ ـ سوف يكون خطرا على المجتمع و يدمّره !! بينما نتجاهل الماكنة أو الآلة الضخمة "الدّولة" و الّتي هي تجسيد للمجتمع ، حينما تسحق الشّعب كُلّه عبر سحقِ أفراده و تدميرهم لإذابتهم في الكُل ، إنّ الإنسان ـ ككائن مُجرد ـ لا وجود له إلا في مخيّلتنا ، فمنذ الطّفولة و من خلال رؤيتنا المتكرّرة للبشر و الأفراد ، نكون تصوّرا اسمه "الإنسان" ، و هذا التصور كتصورنا لنوع البقر و الحصان و النبات ، هي مجرّد عموميات أو تشابه الأفراد في صفات معينة ، كل البشر يشتركون في صفات كالوجه و الأنف و الأذرُع و ما إلى ذلك من صفات ، لكن ليس كلُّهُم بيضا أو سودا أو سُمرا ، و من هنا نكون فكرة مفادها أن الصفات بين الموجودات هي أشبه بالهرم ، فالإنسان و الكلب و البلوط و الجبل هي أسماء موجودات ، لكن بمجرد أن نبدأ تصنيفا آخر فنتحدث عن الأحياء و الجمادات ، نكون قد حذفنا الجبل من الموضوع ليقتصر على الثلاثة الأولى ، و حينما نتحدث عن الحيوان الوحيد الّذي يؤلف الكتب ، نكون قد أبقينا على الإنسان فقط ، و من الصعب على الأفراد إدراك هذه المقارنات من دون قابليات عقلية و تربية اجتماعية ، فكان لزاما أن نمنح كُلّ فرد إمكانيّة إن يخوض تجربته الذاتية لاستكشاف المحيط أو أن يتجاهل محيطه باختياره الشخصي.
يقول السّيّد الصّدر ما خلاصته أن "المذهب العقلي" هو ما يستند عليه الفلاسفة الإسلاميون و أن "المذهب الحِسّي" هو ما استند عليه الماركسيون و فلاسفة مادّيّون آخرون ، و كأنّ كُلّ الفلسفات غير الإسلامية هي "لا عقليّة" أو تقف بالضّدّ من المنطق العقلاني ، و هذا خطأ بالتأكيد ، لأنّه لا يوجد مُنظِّر فلسفي لا يزعم أنّه يحاول أن يكون منطقه "عقلانيّا" و واقعيّا ، لكن الاعتراض يكمُن في كيفيّة نظر هذا العقل إلى الكون و الحياة ، و حتّى النّازيّة الّتي أرادت القضاء على كل ما لا ينتمي إلى العرق الآري و الأبيض ، كان يزْعُم أنّه منطقي و عقلاني تماما ، و لو كان الإسلاميّون عقلانيين حقّا لكان عليهم إتاحة الحُرّيّة المطلقة للتفكير الحُرّ و بدون رقابة ، لكنّهم للأسف ـ حالهم حال الماركسيين ـ ينظرون إلى الأمور من أعلى و من فوق ، و لا يمكن أن يكون المرء عقلانيّا و منطقيّا مهما بحث في الفلسفة لأنّه ببساطة ينظر إلى العقل من فوق و من علياء.
نحن مع السّيّد الصدر حينما يتحدّث عن الماركسية و نقده لمحاولتها فرض مفهوم واحد عام عن المادّة و إنكارها أيَّ دور للعقل بمعزل عن التجربة المادّيّة ، فهناك مساحات و طاقات مخبوءة و مكنونة في الإنسان لم تستكشف بعد ، لكن هناك خطأ يوقع الإسلاميّون أنفُسَهم فيهِ و هو أنّهم يعزلون عالم "الروحانيّات" عن عالمنا الواقعي ، مع أنّ هناك أحاديث تروى عن النّبي محمّد تجعل من الرؤيا الصّادقة ـ الأحلام الّتي تستكشف الماضي أو المستقبل أو الحاضر البعيد ـ جزءا من اثنين و سبعين جزءا من النّبوة ، و هذا يبدوا لأول وهلة و كأنّ النبوة هي أيضا عبقريّة خارقة تفوق الحدّ الطّبيعي للعقل ، و مُنذُ ظهور نسبيّة أينشتين Einstein تغيرت نظرة العلماء إلى المادّة و أصبحت هناك شعرة رفيعة بين المادّة و الرّوح ، فمن كان يصدق أن هذا الكون بكل ضخامته كان في حجم الذّرّة ثم توسَّع حسب نظريّة الإنفجار الكبير ، إن ثنائيّة "المادّة" و "الرّوح" يجب أن تُلغى أو تُطوَّر إلى نظريّة أكثر ثوريّة و أقدر على الملائمة بين كلِمَتين لطالما كانت سبب خلاف و تناقُضٍ بين البشر ، فلا الماركسيّة البالية استطاعت بمفاهيمها الرّجعيّة عن المادّة و الكون و الإنسان أن تخلق مجتمعا يلائم الإنسان الطبيعي ، و لا الإسلام المُسيَّس المُوجَّه بقادر على ذلك ، فكلاهما وضع قانونا عامّا و فرضَهُ على الآخرين ، الماركسيّون مارسوا الدّكتاتوريّة تحت شعار "القانون الطّبيعي المادّي" و "الصّراع الطبقي" ، بينما يمارس الإسلاميّون هيمنتهم و سيطرتهم تحت شعار "النّظام الإلهي" و "الولاية الإلهيّة" ، و لو تأملت قليلا فلن تجد فرقا حقيقيّا بين "مادّة ماركس" و "إله الإسلاميين" ، من هنا لا نستغرب أن يُعْجَبَ رفسنجاني "المُعَمّم" بالتجربة "الصّينيّة الشّيوعيّة"!!.
قد لا نختلف مع السّيّد الصّدر في جملة من المباديء الفلسفيّة كمحاولته إيجاد توازن بين "التجربة" كمقياس للحقائق و المباديء العقليّة الأساسيّة ـ بمعنى أن للعقل مباديء ثابتة يقيس الأمور عليها ـ لكننا نختلف معه في أن عددا من هذه المباديء الفلسفيّة "العقليّة" من الممكن أن يُبنى عليها إلى ما لا نهاية ، و لو كانت هذه المباديء راسخة في العقل البشري و لو كان العقل بمنجاة من خداع الحواس أو الرّغبات لكان لزاما أن يصِلَ كُلّ العقلاء إلى الاستنتاجات نفْسِها ، و من جملة تلك المباديء العقليّة ، مبدأ عدم التناقض ، هذا المبدأ يعمل بشكلٍ مُحْكَم في المسائل المادّيّة الملموسة أو حين تنظر الذات إلى نفسها ، لكن ما أن يبدأ تعامل الإنسان مع ما هو غائب أو غيبي ، حتى يتعطّل هذا المبدأ ، مثلا حينما نجد المسيحي يؤمن بأنّ الله واحدٌ في ثَلاثة أقانيم و لا يجد في نفسه مانعا أن يؤمن بما هو متناقض لعقلنا ، أو حينما يؤمن المسلم بأن نبي الإسلام هو "رحمةٌ للعالمين" ثمّ يُعلن أن غير المسلمين كلّهم في جهنّم مهما كانوا صالحين! ، إذا لا يمكن أن نعترض بالرفض أو القبول للمسائل العقائدية عبر الفلسفة ، فحيثُ يبدأ الإيمان تتوقف الفلسفة ، لذلك نجد الغزالي "السّنّي التّقليدي" ـ تماما كما توماس أكويناس فيما بعد ـ أن يحُطّ من شأن الفلسفة لأنه رآها خطرا على إيمانه التقليدي (نقد الخطاب الدّيني : نصر حامد أبو زيد ص 86).
منطقيا ، كل إنسان فانٍ و النتيجة المنطقيّة أن محمدا أو غيره سيموت ، لكنّ السّيّد الصّدر يؤمن بأن الإمام الثّاني عشر الإمام المهدي حيّ طوال 1100 عام مضت و هذا أمرٌ ممكن إيمانيّا لكنه مستحيل بمنطقنا العلمي البشري ، و مهما حاول الفلاسفة الإسلاميّون فإنهم لن يجدوا مناصا من إيجاد مجال مختلف للفلسفة عن مجال الإيمان الدّيني ، و بمجرّد أنّ السّيّد الصّدر أوجد عبر فلسفته دورا للدّين في الدّولة ‘ يكون قد أدخل المهندس إلى المستشفى ليعمل كطبيب هناك بعد دراسته الهندسة طوال أعوام ‘ و العكس أيضاً صحيح.
إنّ العقل لا يمكن له أن يُبرهن على الأمور الدّينيّة الغيبيّة لسببٍ وجيه و هو أن العقل مُحاطٌ في عالمنا هذا بمظاهر المادّة و تشكُّلاتها و بالتّالي فهو ، على الأغلب ، غير قادر على استكشاف ما وراء هذه المادّة ، صحيح أن رينيه ديكارت و من خِلال كتابه "Meditations" برهن على الحقيقة الفكريّة الأساسية "أنا أُفكِّر إذا أنا موجود I m thinking so I m exist " لكن حتى هذه الحقيقة لا يمكن أن نبني عليها نظاما فلسفيا ينتهي بإلغاء هذه الحقيقة و هي أن من حقّ الإنسان أن يُفكّر بحرّيّة و دون خوف ، من المهم فلسفيا أن ننظر إلى هذا الأساس الفلسفي الدّيكارتي بعقلانية دون أن نسحب عليها صفات الثيولوجيا و الدّين إذ يُصنِّف الأُمور إلى مُقدَّس و غير مُقدَّس فإنه غالبا ما يجُرّ "عباءة التّقديس" لتغطي في النهاية أشياء لا علاقة لها بالدّين ، و كنموذج على ذلك نجد أن "أهل السّنّة" ـ عبيد الحكّام ـ انتقلوا من تقديس النّبي و القرآن إلى تقديس الصّحابة و البخاري و مسلم و أخيرا قدّسوا بني أُمَيَّة و آل العبّاس و آل عُثمان و آل سُعودْ و كُلّ الطغاة الحاليين ، و الشّيعة انتقلوا من تقديس النّبي و آل البيت إلى تقديس كُلّ المراجع بل و كُل لابس عمامة.
إن الأُسُس المنطقيّة الّتي وضعها ديكارت ثم بنى عليها كانت و جان بول سارتر و نظريِّتهِ الوجودية ، ليست استنتاجات حتميّة ، و كلّما أضفنا إلى "الكوجيتو" الدّيكارتي استنتاجا فإنّ الاستنتاج أو النتيجة لا يرقى بالتأكيد إلى درجة اليقين الذّاتي "أنا أُفَكِّر"! بل سيبقى الإنسان إبناً لبيئته و محيطِهِ و سيبقى المسلم و المسيحي و اليهودي كُلّ واحد يستند في عقيدته على المبدأ ذاته "أنا أُفكِّر" ، لكن الفلسفة الناجحة و الّتي أرى أنها ستسود في المستقبل هي أن الحقائق نسبيّة بما فيها الحقيقة الدّينيّة ، هذا إذا كان الدّين قائما فعلا على حقيقة !! فالدّين ضروري بشكل عام ، لكن ما أن تخوض في تفاصيل الأديان حتى يعتورها التناقض و التّضاد و تصبح سبب خلاف مع أنّ المفروض "منطقيا" أن يكون العكس ، و لكي ينتصر أيُّ دين فإنّ عليه أن ينتظر ظهور مخلص مؤيَّد بالمعجزات يعلن صراحة أنّ أحدا من هذه الأديان حقيقي ، أو لربّما يعلن أن كُلّ الأديان هي من منبعٍ واحد و أنّ هذا الخلاف ظاهري فقط.
إنّ نقد الدّين لا يعني بالتأكيد أن الدّين ليس ضروريا للبشر ضرورة الماء ، لكننا بصدد نقد استخدام الدّين لتسخير العقل الجماعي و إلغاء التنوع الّذي هو أجمل ما في المجتمع البشري ، و ماركس مخطيء حتما حينما ينكر وجود الله ـ و أنا أشُكّ أنّ ماركس كان يعتقد حقا بأنّ الله غير موجود و أرجح أنّ موقفه كان رد فعل أكثر منه قناعة ـ ثم يضفي صفاته على المادّة و بالتالي وضع قانونا حيثُ لا يصلح أن يكون و كيف يكون قانون بلا مُقنّن ، كما أن المبدأ العقلي القائل: أنَّهُ لا بُدَّ من عِلَّةٍ أُولى لكل العِلل الكونيّة .."ّ! لا يكفي دليلا لإقامة دولة دينيّة بقدر ما هو سبب فلسفي كافٍ لإعادة الأمل إلى حياة الناس ، و من خلال هذه المقدمات الفلسفيّة البسيطة نعيد الإيمان إلى النّاس و في الوقت نفسه تعود الفلسفة لتكون علما حياديّا حينما تبدأ خلافات النّاس المذهبيّة و الدّينيّة و توزيع النّاس بين الجّنّة و النّار.
إنّ الفرد يُمثِّل حَجَر الزّواية في كُلّ فلسفة ، فبدون التجربة الذاتيّة الشّخصيّة لا يمكن للفلسفة أن توجد ، اللهم إلاّ إذا استفاد الفيلسوف الفرد من خبرات و أبحاث الآخرين و هم أفرادٌ طبعاً ، و كُلمّا كانت نزعة التّشكيك تتنامى!! كان فردٌ كسقراط أو ديكارت يستفيد من تجربته الذّاتيّة ليُثبِتْ أنّ التَّشكيك له نهاية ، و الحقيقة الثّابِتة الوحيدة "فلسفيّاً" هي أنَّ "الإنْسان يَعْقِلُ نَفْسَهُ" و قيمة الوجودات كحقيقة تتضائل بمقدار ما تبتعد عن هذه الحقيقة ، فالإنسان مُدرِكٌ لذاته منذ وجوده في هذا الكون ، بينما علمه بالأشياء ، الله و الآلهة و الأرض و التربة و الزّراعة و التناسل و تربية الأبناء .. إلخ ، علمه بهذه الأمور في تغيُّر مستمر و سيبقى الأمر على هذا المنوال إلى أمدٍ بعيد.

و الإنسان هو كائن التحدّي ، فمنذ اللحظة الأولى لوجوده في هذا العالم و حتى قبل أن يكون له إدراكٌ يُميِّز به بين الأشياء ، فإنِّهُ يعيش حالة التّحدي تجاه الموت ـ إذ يُحاوِل البقاء ـ و تجاه الأُسرة ـ إذ غالبا ما تُفرض على الإنسان كرها عقيدة أو ثقافة أو منهجٌ قد لا يروق له أصلا ـ و تجاه الكبت ـ كثيرا ما تُفرض أخلاقيات معيَّنة على الإنسان لتجعله إنطوائيا و سلبيا ـ و تجاه رغباته ـ أحيانا على الإنسان أن يُضحي ببعض رغباته في سبيل الآخرين.
التحدي الأهم و الأخطر هو أن يحاول الإنسان العثور على نفسه ، أين مكاني أنا كفرد في هذا العالم ، و حتى الماركسية حملت سقوطها بنفسها لأنّ إسم ماركس ـ و هو فرد ـ طغى على الأمم الشيوعية لتصبح "ماركسية" و هذا دليل كاف في أهمية و جوهرية الفرد.
إنّ الإنسان هو محور الكون ـ على الأقل لم يثبت عكس هذا إلى الآن ـ فهو أثمن شيء على هذا الكوكب و هذا الكون ، لكن الإشكال الدّائم القديم المتجدد و التحدّي الأساسي الذي يواجهه الإنسان يبقى هو الإنسان نفسه ، و هذه الإشكالية بدأت تواجه الإنسان بوضوح و شكل صارخ حينما دخلت البشرية في العقل الجمعي ممثلا في "الدّولة" ، الفرد هو كائن عديم القيمة في صلب فلسفة الدولة ، فمن الطبيعي أن تمرّ البشريّة بهذا بهذا الطور ، فإنما نشأت الدولة لسببين أساسيين: أولا ـ الحفاظ على الملكية. ثانياً ـ الحرب الّتي تحمي الملكية و تجلب المزيد من هذه الأملاك. بقي إضافة أمرٍ آخر ، فقد كان الفرد محطما في ظل الدّولة على أساسِ زعمٍ أُخِذَ على أنّه بديهة عقلية و هو أن الإنسان بطبعه ينزع إلى الشّرّ و الإضرار بالآخرين ، بالتالي كانت الدّولة تمثّل الطبيب و الأب الحكيم الّذي يدرك مصلحة أبناءه "الرّعيّة" أكثر منهم ، لكن الفساد و الظلم المترتب على هذا الفهم و الذي كان سائدا و مهيمنا إلى نهاية القرن العشرين ، و أخذ يضعُف منذ أحداث 11 سبتمبر و تداعياتها ، أظهر أن مخاطر إفساد الإفراد و خرقهم القانون في ظل الحُرّيّة هو أفضل من أن تقوم الدولة المستبدة الّتي تتمثل في هيمنة "فرد" أو "أفراد" بكل شيء و من ثمّ زجّ شعوب كاملة في أتون حروب و صراعات لا طائل منها ، من هنا كان الإدراك بأن الدولة "كوسيلة" لإدارة العدل و الملكية و الدِّفاع عن الجماعة قد فقدت مشروعيتها لأنها أفسدت الملكية و حولت الحرب إلى أمر مفروض بالإكراه ، مع أن الحرب يجب أن لا تتجاوز الضرورة القصوى و إلا فقدت مشروعيتها.
كذلك الأمر بالنسبة للدين "الإسلام تحديدا" ، إذ تحول من وسيلة إلى غاية يُذبح في سبيلها الآلاف ، فالدّين و بحجة أنه جاء لفرض العدل و المساواة و حريّة المعتقد ، أصبح سببا للفساد و النهب و التفرقة العنصرية و تبريرا قذرا لبقاء السلطة الفاسدة. من هنا تمثل ثُنائية "الدّولة المُستبدّة" و "الدّين المتطرِّف" عجلتين تديران ماكنة التخلف في العالم الإسلامي ، و ما دام الدين لا يوفر التسامح و الحرّيّة فإنه أصبح عالة لا علاجا ، و لكن من أيّ الطرفين نبدأ التغيير؟! من الدّولة تجاه الدين ؟ كما في التجربة التركيّة و التّونسيّة. أم من الدين إلى الدولة ؟ و هذه التجربة لم تتحقق في العالم المسلم لحد الآن ، بل إن الدين الإسلامي لحدّ الآن يُساهم في هيمنة و طغيان الدولة على الفرد ، و الإسلاميون ـ سُنّة و شيعة ـ يُساهمون في إفشاء هذه النظرية الدّونية للفرد ، و استشهاداتنا بفقرات من مؤلفات السّيّد الصدر هي خير مثال على ذلك.
إنّ محاولات السّيّد الصدر في نقده للنظرية التجريبية و الّتي تنظر إلى الثيولوجيا و علم اللاهوت كأبحاث يغلب عليها طابع "المجهول" أو الغيب الّذي يغلب عليه احتمال الصّدق و الكذب و أنّ المسألة الغيبية ما دامت لا تخضع للتجربة و الحس فلا يمكننا التعامل معها على أنها اليقين الكامل ، يأتي السيد الصدر محاولا تفنيد النظرية التجريبية عبر توضيح أسلوب علمي صاغه التجريبيون على أنّ هذا الأسلوب أو النّهج "التجريبي" يناقض المنهج التجريبي نفسه ، و أنّ المنهج التجريبي نفسه يستخلص حقائق ذهنية معيّنة حتى قبل تعريضها للتجربة ، و ساق السّيّد الصّدر مثالا علميا على ذلك بالقول:
" ولا أدري ماذا يقول الاستاذ آير وأمثاله من الوضعيين عن القضايا التي
تتصل بعالم الطبيعة, ولا يملك الانسان القدرة على التثبت من صوابها أو
خطئها بالتجربة, كما إذا قلنا (إن الوجه الآخر للقمر الذي لا يقابل الأرض
زاخر بالجبال والوديان) فاننا لا نملك وقد لا يتاح لنا في المستقبل أن نملك
الامكانات التجريبية لاستكشاف صدق هذه القضية أو كذبها بالرغم من أنها تتحدث عن
الطبيعة, فهل يمكن أن نعتبر هذه القضية خاوية لا معنى لها مع
أننا نعلم جميعا أن العلم كثيرا ما يطرح قضايا من هذا القبيل على صعيد
البحث قبل أن يملك التجربة الحاسمة بصددها ويظل يبحث عن ضوء ليسلطه
عليها حتى يجده في نهاية المطاف أو يعجز عن الظفر به, فلماذا كل هذا الجهد العلمي
لو كانت كل قضية لا تحمل بيدها دليل صدقها أو كذبها من التجربة
خواء ولغوا من القول؟" فلسفتنا.
هذه القضية لم يثبت صوابها خارجا عن منهج التجربة و الحس ، كما أنّ الفرق شاسع و كبير بين القضيّة العلمية ـ الّتي لا يترتب عليها أثر اجتماعي سياسي اقتصادي غالبا ـ و بين القضيّة الدّينيّة الّتي يمكن أن تتسبب بحرب عالمية يدّعي كُلّ طرفٍ فيه أنه "وكيل الله على الأرض"! فقضية أن يكون الوجه المظلم للقمر مختلفا عن الجانب الآخر أو لا !! لا يترتب عليه ما يترتب على القضية الدّينيّة الّتي تقول مثلا: أن كُل تشريع لا يمُتُّ إلى الشريعة الإلهيّة هو شرك و باطل" فمسألة كهذه يترتب عليها رفض القوانين المدنيّة ، التنظيم السياسي الحديث ، الإنتخاب الديمقراطي و غيرها من المباديء الحديثة ، كما أن ادعاء العلماء بأن الوجه الآخر للقمر بأنه لا يختلف عن الوجه الآخر يعود إلى المعطيات العلمية "التجريبية" السابقة ، بمعنى أن معلوماتنا عن البيئة و الهواء و التربة و الامتداد الجغرافي أنتجت لنا معرفة بالجانب الآخر من القمر.
إن المسألة الدّينيّة ـ حينما يعجز العقل عن إثباتها ـ لا تدخل ضمن "الكذب" أو "اللا حقيقة" لأن المسألة الدينية تتخطى المقاييس التجريبية العلمية المحسوسة إلى الميتافيزيقي الذي يغلب عليه احتمال تعدد الاستنتاجات ، و للسبب نفسه وقع الغزالي في مأزق حقيقي حينما وجد أنه بين احتمالين لا ثالث لهما ، فإمّا أن يكون متديّنا مؤمنا!! أو منطقيا عقليا!! بمعنى أنه وجد أن العقل ـ رغم محدوديته ـ يصطدم بالدين على أنه غير قابل للتصديق ، فانتهى به الأمر أن ألغى دور العقل عبر تشكيكه بالأحاسيس و كونها المصادر الوحيدة إلى العقل ، و هذا ليس بصحيح بدليل أنه ناقض نفسه عبر استدلاله "منطقيّا"! على بطلان "المنطق" و "الفلسفة" و هذه الملاحظة الأساسية خرج بها الفيلسوف العظيم "ابن رشد" في ردّه "تهافت التهافت" ، إن المسألة الدّينية تدخل دوما في تعدد الاحتمالات و احتمال أن يكون هناك أكثر من نتيجة للقضيّة الدّينية الواحدة ، كما أنّ الدّين لكونه تجربة "شخصيّة" لا تتعدّى الفرد لا يمكن للمجتمع أن يتبنّى وجهة نظر واحدة و بالتّالي تتوقف التجربة الدّينيّة عن أن تكون عقلية روحيّة لتصبح لتصبح تقليدا اجتماعيا مقيدة بتجربة واحدة أو قليلة ، من هنا تعود الدّولة كخصمٍ للفرد لتهيمن على كُلّ تفاصيل حياتِه حتى الشَّخصيّ منها.
يستدرك السّيّد الصّدر بالقول:
" وتحاول الوضعية في هذا المجال أن تستدرك, فهي تقول أن المهم هو
الامكان المنطقي لا الإمكان الفعلي, فكل قضية كان ممكنا من الوجهة النظرية الحصول
على تجربة هادية بشأنها, فهي ذات معنى وجديرة بالبحث وإن لم
نملك هذه التجربة فعلا.
ونحن نرى في هذه المحاولة, أن الوضعية قد استعارت مفهوما ميتافيزيقيا لتكميل بنائها
المذهبي الذي شادته لنسف الميتافيزيقا, وذلك المفهوم هو
الامكان المنطقي الذي ميزته عن الامكان الفعلي, وإلا فما هو المعطى الحسي للامكان
المنطقي؟ تقول الوضعية أن التجربة ما دامت غير ممكنة في الواقع,
فماذا يبقى للامكان النظري من معنى غير مفهومه الميتافيزيقي الذي لا أثر له
على صورة الواقع الخارجي ولا تختلف المعطيات الحسية تبعا له, أفلم يصبح
مقياس الوضعية للكلام المفهوم ميتافيزيقيا في نهاية الشوط, وبالتالي كلاما غير
مفهوم في رأيها؟" فلسفتنا.
إنّ النظرية السطحية لمعنى كلمة "تجربة" هو الّذي أدّى إلى هذا الشكل من النقد الموجه إلى ظاهر كلمة "تجربة"! إذ أن التجربة لا تعني ذلك المنطق القديم القائل بأن التجربة ـ و هي أكبر برهان ـ هي نتاج المختبرات فقط ! ذلك أن هناك علوما تجريبية خارجة عن نطاق "المختبر" كغرفة ضيقة فيها بعض الحيوانات أو المواد الكيميائيّة للحصول على نتائج ، و التاريخ خير مثال على ذلك ، صحيح أن التاريخ أيضا ـ و الدّين فيما بعد ـ قد انضم في بعض جوانبه إلى المختبر ، فأصبح بالإمكان إجراء اختبار للحمض النووي المستخرج من المقابر القديمة بل و حتى درجة القرابة بين الهياكل العظمية و عمرها و حالتها الصّحيّة ، لكن هناك حقائق تاريخية لا يمكن أخضاعها للتجربة "كمختبر" إنّما هي خاضعة للمنهج التجريبي "العقلي" ، فالتجربة هي منهج و منطق متكامل يمكن التوصل إلى حقيقته عبر شروط و ظروف معينة ، لكن الدّين و هو ذو بعدين أحدهما أفقي تأريخي و الآخر عمودي "غيبي" لا يمكن التعامل معه بواسطة المختبر ، اللهم إلا في حالات نادرة كما عندما تمّ فحص مخطوطات دينيّة في مختبرات مختصة لمعرفة حيثياتها ، زمن و مكان كتابتها!! من هنا لا يمكن للعقل الحديث أن يقبل أن يصبح الدّين أداة احتكار للحقيقة مع أن الحقيقة الدّينيّة نسبية كأي حقيقة أخرى.



#سهيل_أحمد_بهجت (هاشتاغ)       Sohel_Bahjat#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نقد العقل المسلم ح 31
- نقد العقل المسلم ح 30
- نقد العقل المسلم ح 29
- نقد العقل المسلم ح 28 الفرد و الدّولة
- نقد العقل المسلم ح 27
- نقد العقل المسلم ح 26
- نقد العقل المسلم ح 25
- نقد العقل المسلم ح 24
- نقد العقل المسلم ح 23
- نقد العقل المسلم ح 22
- نقد العقل المسلم الحلقة الحادية و العشرون
- نقد العقل المسلم الحلقة العشرون
- نقد العقل المسلم الحلقة التاسعة عشرة
- نقد العقل المسلم الحلقة الثامنة عشرة
- نقد العقل المسلم الحلقة السابعة عشرة
- نقد العقل المسلم الحلقة السادسة عشرة
- نقد العقل المسلم الحلقة الخامسة عشرة
- نقد العقل المسلم الحلقة الرابعة عشرة الإسلام و الإرهاب .. ...
- نقد العقل المسلم الحلقة الثالثة عشرة
- نقد العقل المسلم الحلقة الثانية عشرة


المزيد.....




- “خليهم يتعلموا ويغنوا ” نزل تردد قناة طيور الجنة للأطفال وأم ...
- فيديو خاص عيد الفصح العبري واقتحامات اليهود للمسجد الأقصى
- “ثبتها الآن” تردد قناة طيور الجنة 2024 Toyor Aljanah لمشاهدة ...
- بعد اقتحامات الأقصى بسببه.. ماذا نعرف عن عيد الفصح اليهودي ا ...
- ما جدية واشنطن في معاقبة كتيبة -نيتسح يهودا- الإسرائيلية؟
- بالفيديو.. مستوطنون يقتحمون الأقصى بثاني أيام الفصح اليهودي ...
- مصر.. شائعة تتسبب في معركة دامية وحرق منازل للأقباط والأمن ي ...
- مسئول فلسطيني: القوات الإسرائيلية تغلق الحرم الإبراهيمي بحجة ...
- بينهم طلاب يهود.. احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين تهز جامعات أمري ...
- أسعدي ودلعي طفلك بأغاني البيبي..تردد قناة طيور الجنة بيبي عل ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - سهيل أحمد بهجت - نقد العقل المسلم ح 32