|
نقد العقل المسلم ح 26
سهيل أحمد بهجت
باحث مختص بتاريخ الأديان و خصوصا المسيحية الأولى و الإسلام إلى جانب اختصاصات أخر
(Sohel Bahjat)
الحوار المتمدن-العدد: 2157 - 2008 / 1 / 11 - 05:35
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
أما النقطة الأُخرى حول التبعية الإقتصادية التي نشأت في ظل الدول الإسلامية التي تكونت خلال القرن العشرين ، فهي تبعية منطقية ، بل إن تبعية إسبانيا إلى العالم الإسلامي كانت أقرب شبها بما يُصطلح عليه بالإستعمار لأنّ الفاتحين الجدد فرضوا حتى لغتهم على المحكومين ، فلماذا لم يستطع الشرق الإسلامي التخلص من هذه التبعية؟! و هل كان بمقدورهم أن يفعلوا شيئا من هذا القبيل ، و المسألة المطروحة ها هنا تشبه وضع العربة أمام الحصان ، فالمسلمون كانوا أصلا متخلفين و لم يكن لديهم أصلا شيء إسمه "إقتصاد" ، بالتالي لم يكن الغرب بحاجة إلى أن يجعلهم تابعين له ، بل هم ساروا في طريق التبعية لعدم امتلاكهم أيا من أسباب التطور. إن سبيل التطور و الإقتصاد الناجح ليس مسألة أمور فنية فقط ، كامتلاك أدوات التوزيع و الإنتاج ، بل هو يعتمد أساسا على "الإنسان" و وزنه القِيَمي و حريّته ، فلا إقتصاد ناجح بدون أفراد أحرار ، و لهذا السبب كانت نتيجة كل الإقتصاديات الصناعية غير الديمقراطية "الإتحاد السوفيتي ، الإمبراطورية اليابانية و ألمانيا النازية" هو الإنهيار و الفشل ، و لو كان السيد الصدر أرهق عقله العبقري الجبّار في خلق ديمقراطية في عمق الفكر الإسلامي ، لكان باستطاعته حينها أن يتحدث عن إقتصاد قوي في بلاد المسلمين. في النقطة الثالثة و التي تتعلق بمحاولات ذاتية لأهل البلاد الإسلامية في تطبيق ذات المنهج الأوروبي و محاولة منافسته فيما بعد و هذه المحاولات التي انتهت على ما يبدو بالفشل ـ و للأسف لم يضرب لنا الشهيد الصدر أي مثال واقعي ـ و يعزو السبب إلى اتخاذهم ذات المنهج الغربي الرأسمالي ، غير أن الصورة لم تكتمل ، و كما قلنا ، فالمسألة ليست "افتقار إلى أدوات أو آليات الإقتصاد الناجح" بقدر ما هو مشكلة "الإستعمار الداخلي" و حكومات الأقليات المستبدة التي تحرص على إبقاء الشعب فقيرا لكي لا يتمرد على الطبقة الحاكمة ، و كان الصدر نفسه ضحية لأحد أنماط الحكم الطائفية الإستبدادية ، و أنا حقا حائر في ترك السيد الصدر إشكالا خطيرا كهذا دون أن يبحثه و بعمق. و السيد الصدر يشير إلى أن العلاقة "السيئة" بين الشعوب المسلمة و الدول الأوروبية الإستعمارية لم تستطع السير باتجاه التكامل بسبب الشكّ من نيات الآخر الذي كان مستعمرا ذات يوم ، يقول السيد الصدر: " فهناك مثلاً الشعور النفسي الخاص الذي تعيشه الأمة في العالم الإسلامي تجاه الاستعمار الذي يتسم بالشك والاتهام والخوف نتيجة لتاريخ مرير طويل من الاستغلال والصراع، فإن هذا الشعور خلق نوعاً من الإنكماش لدى الأمة عن المعطيات التنظيمية للإنسان الأوروبي وشيئاً من القلق تجاه الأنظمة المستمدة من الأوضاع الاجتماعية في بلاد المستعمرين وحساسية شديدة ضدها وهذه الحساسية تجعل تلك الأنظمة حتى لو كانت صالحة ومستقلة عن الاستعمار من الناحية السياسية غير قادرة على تفجير طاقات الأمة وقيادتها في معركة البناء فلا بد للأمة إذن بحكم ظروفها النفسية التي خلقها عصر الاستعمار وانكماشها تجاه ما يتصل به أن تقيم نهضتها الحديثة على أساس نظام اجتماعي ومعالم حضارية لا تمت إلى بلاد المستعمرين بنسب" اقتصادنا ص 9. إن هذا الكلام يحوي جزءا من الحقيقة ، و لكن تبقى جوانب أُخرى غير مستكشفة ، فرفض الشرق الإسلامي للغرب "الإستعماري"!! كان رفضا عاطفيا أكثر من كونه "فكريا" ، كما أن هناك تجارب لشعوب "هونج كونج ـ إيران ما قبل الثورة ـ مثالا" سارت في طريق تطوير إقتصادياتها و أنظمتها السياسية و الإجتماعية ، و المشكلة أيضا ، أن الأنظمة الحاكمة في عالمنا الإسلامي ـ بما فيها إيران الإسلامية ـ تنتهج دائما سياسات "عاطفية" قائمة على شعارات "تحرير فلسطين" ، "رمي اليهود في البحر" ، "الموت لأمريكا"!! و غيرها من الشعارات العبثية التي حولت إقتصاديات هذه الدول تعيش كل يوم أزمة جديدة مع الإقتصاديات الجبارة ، كما أن ما يُسمّى بالإقتصاد الإسلامي يعاني من عقبات كبيرة ، خصوصا و أنه لا يختلف كثيرا عن الإقتصاديات الإشتراكية و التي توجّه من السلطة العليا في الدولة ، و هي غالبا ما تجتمع خيوطها في يد "الولي الفقيه" أو المجموعة المعممة التي تتحكم بشؤون النظام. نعود إلى السيد الصدر حيث يقول: "عملية التنمية الاقتصادية ليست عملية تمارسها الدولة وتتبناها وتشرّع لها فحسب وإنما هي عملية يجب أن تشترك فيها وتساهم بلون وآخر الأمة كلها. فإذا كانت الأمة تحس بتناقض بين الإطار المفروض للتنمية وبين عقيدة لا تزال تعتز بها وتحافظ على بعض وجهات نظرها في الحياة فسوف تحجم بدرجة تفاعلها مع تلك العقيدة عن العطاء لعملية التنمية والاندماج في إطارها المفروض" إقتصادنا ص 11 – 12. إن مصطلح "الأمة" ها هنا لا يبدو لي أنه يوافق كلمة "شعب" ، لأننا إذا ترجمناها إلى "الشعب" فإن ذلك لن يختلف عن النظام الديمقراطي الرأسمالي الذي يصيغ فيه الشعب بعض القوانين التي تمنع ملاّك رؤوس الأموال من إنجاز بعض الصفقات التجارية و الصناعيّة إذا ما كانت ستضرّ بمصالح الدولة و الشعب ، و خير مثال على ذلك أن حكومة الولايات المتحدة الأمريكية و هي رأس الهرم الديمقراطي الرأسمالي تستطيع أن تمنع بعض أضخم الشركات من إنجاز بعض الصفقات مع دول تسبب الضرر للولايات المتحدة ، من هنا ـ و نعود إلى تعريف كلمة "أُمّة" الواردة في الإقتباس ـ و أظن أن السيد الصدر يعني بها قيمومة "رجال الدين" الّذين يُمثلون "الأمّة" حسب تنظيره للإقتصاد الإسلامي ، و قد استنتجت ذلك من خلال عباراته التالية التي وضّح فيها أن الإقتصاد يجب أن لا يُناقض أو يصطدم بـ"العقيدة"!! و هذا لا يتم بدون رجل الدّين. إن الإقتصاد "المؤدلج" ، سواء كان قوميا أو ماركسيا أو إسلاميا ، فإنه لا يستطيع مجارات التطورات في الأسواق الحرة ، لأن التاجر أو مدير الشركة لا يستطيع إمضاء أي صفقة مهمة خوفا من أن تناقض "الفتوى الشرعية" أو "الخط الدّيني للدولة" ، كما أن التنظير و السياسة الآيدولوجية للأنظمة "القومي الإشتراكي و الإسلامي" يعرقلهما سلسلة الأزمات التي يتسبب بها الخطاب الآيدولوجي ، أمثلة ذلك واضحة في فشل إيران "الإسلامية" في تسويق بضاعتها في الأسواق العالمية بسبب الأزمات التي يسببها قادة النظام ، فتارة هناك أزمة "سلمان رشدي" و تارة أخرى اتهامات بـ"دعم الإرهاب" و تصدير أسلحة إلى حزب الله و حركة حماس الإرهابية ، و أخيرا الأزمة التي تتعلق ببرنامج إيران النووي ، فلم يعد العالم يصدق تصريحات التهدئة الإيرانية بعد كل التصريحات النارية للمرشد "علي الخامنئي" و رئيس جمهوريّته "نجاد". كما أن تحكيم "الشريعة" و "الأحكام الإسلامية" ليس كافيا لترسيخ أيّ إقتصاد ، يقول السيد الصدر: وخلافاً لذلك لا يواجه النظام الإسلامي هذا التعقيد ولا يمني بتناقض من ذلك القبيل بل إنه إذا وضع موضع التطبيق سوف يجد في العقيدة الدينية سنداً كبيراً له وعاملاً مساعداً على إنجاح التنمية الموضوعة في إطاره لأن أساس النظام الإسلامي أحكام الشريعة الإسلامية وهي أحكام يؤمن المسلمون عادة بقدسيتها وحرمتها ووجوب تنفيذها يحف عقيدتهم الإسلامية وإيمانهم بأن الإسلام دين نزل من الشماء على خاتم النبيين (ص). وما من ريب في أن من أهم العوامل في نجاح المناهج التي تتخذ لتنظيم الحياة الاجتماعية احترام الناس لها وإيمانهم بحقها في التنفيذ والتطبيق" إقتصادنا ص 12. فما دامت التنمية "مؤطّرة" و "مقولبة" وفق قوانين معينة ، فذلك ليس إلا عصيّ أُخرى موضوعة في الدواليب الإقتصادية ، فما يُسمّى بـ"الشريعة" هي غالبا آراء شخصية تعود إلى الفقيه أو رجل الدّين و بالتالي فهي مليئة بالآراء المتعددة و التي تناقض بعضها بعضا و لا تتفق إلا نادرا جدا ، و أعتقد أن مايُطلق عليه السيد الصدر تعبير "الإقتصاد الإسلامي" يعني بها دائرة أوسع من المذهب الشيعي ، و المذاهب السُّنّيّة وحدها تتناقض بين بعضها البعض و يُكفـِّر أحدُها الآخر ، فكيف لهذه المذاهب أن تتفق مع النظرية الشيعية و هي لا تتسامح بينها فضلا عن غيرها ، المشكلة ها هنا أنه من الخطأ أن نعامل السوق و الإقتصاد و قوانينه و كأننا نتعامل مع آلة محدَّدة الاتجاهات و العمل ، دون أن نربط هذه الثقافة بعوامل المجتمع الثقافة و الدينية و السياسية ، فإذا مان دين أو مذهب من المذاهب يتعامل مع التجارة و الإقتصاد نظرة مليئة بالحذر و الخوف مما يسمّيه البعض "الاختراق أو الغزو الثقافي"!! أو الخوف و الحرص على "هوية الأُمّة و أخلاقها" ، فإن هذه الإقتصاد محكوم عليه بالفشل مقدّما و لا يمكن له إلا أن ينتهي بالفشل الذريع و العودة إلى نقطة الصفر. و الأمر المهم الآخر ، هو إغفال حقوق الأقليات الّتي لا تؤمن بـ"الإقتصاد الإسلامي" من غير المسلمين و الملحدين ، إذ يؤمن المواطن المسيحي و اليهودي أن لا مشكلة ـ مثلا ـ في بيع الخمر و المسكرات ، بينما الإسلاميون يمنعونها ، بل و يُعاقبون عليها ، و هناك سبب آخر للحكم على أن أي إقتصاد "إسلامي" بالفشل ، هو عدم تمثيله لكل قطاعات المجتمع ، فهناك في بلداننا الإسلامية مسيحيون ، يهود ، صابئة ، و حتى ملحدون لا يؤمنون بأي دين فضلا عن الإسلام ، و علينا أن لا نغفل أيضا أننا سنخسر استثمارا كبيرا لمستثمرين من دول بعيدة قد يجدون في قوانيننا "الفقهية" سداً أمام استثمار أموالهم ، بينما الإقتصاد الحرّ يوفـِّر حتى للمتدين أن يتعامل مع الآخرين وفق شريعته و دينه ، كأن يتعامل مع بنوك لا تتعامل بالربا ، و هو ما أقرته بنوك عالمية جذبا لرساميل المتدينين ، مما أفقد "البنوك الإسلامية" أي ميزة على تلك الرأسمالية. يقول السيد الصدر: " وهب أن تجربة للتنمية الاقتصادية على أساس مناهج الاقتصاد الأوروبي استطاعت أن تقضي على العقيدة الدينية وقوتها السلبية تجاه تلك المناهج فإن هذا لا يكفي للقضاء على كل البناء العلوي الذي قام على أساس تلك العقيدة عبر تاريخ طويل امتد أكثر من أربعة عشر قرناً وساهم على درجة كبيرة في تكوين الإطار النفسي والفكري للإنسان داخل العالم الإسلامي. كما أن القضاء على العقيدة الدينية لا يعني إيجاد الأرضية الأوروبية لتلك المناهج التي نجحت على يد الإنسان الأوروبي لأنها وجدت الأرضية الصالحة لها والقادرة على التفاعل معها" إقتصادنا ص 12. لا يمكن لنا أن نستخدم هذه النظرة العقائدية في تحليلنا للنظام الإقتصادي الرأسمالي ، لسبب بسيط ، و هو أن الرأسمالية لا تتبنى أي آيدولوجية أصلا ، فهي ليست "مسيحية" أو "يهودية" ، و قد تعدّى هذا النظام الغرب كمركز و انتشر في دول جنوب شرق آسيا "اليابان" ، "كوريا الجنوبية" ، "تايوان" و "ماليزيا" ، و حتى "جمهورية الصين الشعبية" الّتي تتبنّى "الإشتراكية" هي "رأسمالية مُقنَّعة" ، فلماذا يدخل الجميع و بنجاح في هذه التجربة و نكون نحن الإستثناء؟!. و لماذا لا نقل أن الأرضية الناجحة تتوفر لإنجاح التجربة في بلادنا إذا أضفنا إلى "الرأسمالية" نظاما ديمقراطيا كاملا يقوم على التعددية الحزبية و الفكرية و العقائدية. و كإضافة توضيحية حول اختلاف الأرضية البشرية و النفسية في التعامل مع الإقتصاد بين "العالم الإسلامي" و "الغربي" يقول: " فهناك في الواقع أخلاقية إسلامية تعيش بدرجة وأخرى داخل العالم الإسلامي وهناك أخلاقية الاقتصاد الأوروبي التي واكبت الحضارة الغربية الحديثة ونسجت لها روحها العامة ومهدت لنجاحها على الصعيد الاقتصادي. والأخلاقيتان تختلفان اختلافاً جوهرياً في الاتجاه والنظرة والتقييم وبقدر ما تصلح أخلاقية الإنسان الغربي الحديث لمناهج الاقتصاد الأوروبي تتعارض أخلاقية إنسان العالم الإسلامي معها وهي أخلاقية راسخة لا يمكن استئصال جذورها بمجرد تمييع العقيدة الدينية" إقتصادنا ص 12 ـ 13. أود أن أضيف إلى ما قاله السيد الشهيد نقطة أهم تتعلق بالفوارق بيننا و بين الغرب ، إن الفارق بين الأرضيتين ليست مجرد اختلاف ديني و عقائدي ، فالإختلاف الأكثر تجذُّرا هنا هو أن مجتمعاتنا لا تؤمن بالحرية و كل مواطن يجعل من نفسه "ضابط مخابرات" يتجسس على الآخرين ، رغم أن السيد الصدر وضع نصاب عينيه هذا الإختلاف ، ليس لأنه يرفض التجربة الإقتصادية لمجرد العاطفة ، بل لأنه يعتقد أننا لن نستطيع النجاح في ما أسماه "المعركة ضد التخلف" ما لم نستجب للشروط الموضوعية و مراعاة المنطق السائد في مجتمعاتنا ، لكنني أعتقد أنّ هذا ما سيزيد المشكلة تعقيدا و سيعني هروبا للأمام ، لأننا ما لم نعلم مجتمعاتنا و مواطنينا ثقافة "الحرية" و "احترام الرأي الآخر" ، فإن كل مشروع إقتصادي محكوم عليه بالفشل ، كما أننا إذا تعاملنا مع عقلية مجتمعنا بالإستجابة لشروطه الضيقة ، فإن ذلك يعني أننا نشجّع مجتمعنا على أن يوغل في تعصّبه و انغلاقه و سنخسر الوقت أكثر من أي شيء ، فلا بأس من أن يتعرضنا مجتمعنا "الإسلامي" لضربة ثقافية ، يفيق منها قويا و واعيا ، فذلك أفضل من الإنعزال على طريقة الهنود الحمر الذين انقرضوا أو كادوا بمجرد رؤيتهم للإنسان الأبيض. يقول السيد الصدر: " إن الإنسان الأوروبي ينظر إلى الأرض دائماً لا إلى السماء وحتى المسيحية بوصفها الدين الذي آمن به هذا الإنسان مئات السنين لم تستطع أن تتغلب على النزعة الأرضية في الإنسان الأوروبي بل بدلاً عن أن ترفع نظره إلى السماء استطاع هو أن يستنزل إله المسيحية من السماء إلى الأرض ويجسده في كائن أرضي" إقتصادنا ص 13. أود ها هنا أن أعلق على هذه العبارات التي حاول السّيّد الصّدر من خلالها أن يجعل "أوروبا" مكانا له ظروفه و عقليته الخاصة المتلائمة مع "الرأسمالية" كنظام ، بالتالي و لأنّ الإنسان الأوروبي ذو منطق "أرضي ـ مادّي" ، فقد حول المسيحية من دين سماوي إلى دين أرضي ، و حقيقة أنني مستغرب من هذا الاستنتاج ، فالأديان الّتي كانت قائمة على "التثليث" و "نزول إبن الإله إلى الأرض و موته فداءا للبشرية" ، هذه العقائد و الثقافات الّتي سبقت المسيحيّة ، كانت سائدة في الشّرق الأوسط ، "الكنعانيّون" ، "الفراعنة" ، "البابليون" .. و "عودة إيزيس إلى الحياة" في الأساطير الفرعونية كانت أشهر من أي أُسطورة أُخرى ، بالتالي فإن فرض نمط معين من التفكير على بقعة أرضية ما ليس بالإستنتاج السليم ، خذ مثلا أديان الشرق القديمة كعبادة "عشتار" ، "رع" ، "بعل" و غيرها من الآلهة ، كانت تتسم بحفلات جنسيّة جماعية يُشارك فيها آلاف النساء و الرجال من غير حرج ، بل إن الإحتفال بالتحول الصّيفي في "بابل القديمة" كان يصاحبه احتفالات تتخللها علاقات جنسية و بشكل علني ، لكن طبيعة شعوب المنطقة تغيرت منذ ظهور المدّ الدّيني الأول "اليهودية" ثمّ "المسيحية و الإسلام" ليتحول الشرقي إلى شخص مختلف تماما ، بينما حدث في الغرب عكس ذلك تماما حيث أن "الجنس" و الحياة المادية هي من أكثر الأمور الطبيعية في الحياة. إذا لماذا حدث ذلك؟ أعتقد أن للأمر علاقة بـ"ردود الفعل" ، فالشرق و حينما كان يتعامل مع موضوعة "الجنس" على أنها "متعة" لا أكثر ، أصابه و من خلال أجيال من الوعظ و التقريع ردُّ فعل غير متناسب ، بمعنى أنه بدلا من تنظيم هذه العلاقة الجنسية للإستفادة من ميزاتها و دفع أضرارها ، حولها إلى "حرام" و "ممنوع" و تم تضييقها في أضيق الحدود ، مما جعل شخصية الشرقي "المسلم تحديدا" شخصية إنطوائية و "مكبوتة". أما في الغرب فقد حدث العكس ، فقد كان الأوروبي القديم يعيش في مجتمع تسوده القِيَم العشائرية و القبلية ، ثم انتقل من العشيرة التي تضيّق على المسائل الأخلاقية إلى نظام "الكنيسة" و "البابوية" التي تعاملت بصرامة مع مسألة العفة و كانت النتيجة أن حصلت ردّة فعل قوية و معاكسة باتجاه الحرية المطلقة. و أخشى ، بل هذا ما نرجوه ، أن الشرق الإسلامي ـ و هم ليسوا استثناء في القوانين البشرية ـ سيحدث له ردّ فعل مماثل باتجاه التخلص من كل تقليد و إعادة دور العقل في صياغة المفاهيم الدينية و الاجتماعية. يقول السّيّد الصدر: " كما أن انقطاع الصلة الحقيقة للإنسان الأوروبي بالله تعالى ونظرته إلى الأرض بدلاً عن النظرة إلى السماء انتزع من ذهنه أي فكرة حقيقية عن قيمومة رفيعة من جهة أعلى أو تحديدات تفرض عليه من خارج نطاق ذاته وهيأه ذلك نفسياً وفكرياً للإيمان بحقه في الحرية وغمره بفيض من الشعور بالاستقلال والفردية الأمر الذي استطاعت بعد هذا أن تترجمه إلى اللغة الفلسفية أو تعبر عنه على الصعيد الفلسفي فلسفة كبرى في تاريخ أوروبا الحديثة وهي الوجودية إذ توجت تلك المشاعر التي غمرت الإنسان الأوروبي الحديث بالصيغة الفلسفية فوجد فيها إنسان أوروبا الحديث أماله وأحاسيسه." إقتصادنا ص 14. إن مسألة الإلحاد في الغرب و تحول التيار الثقافي و العقائدي الغربي نحو رفض "الدّين" في تفسيره الذي حاول الهيمنة باتجاه تعليل كل شيء ، ليس مسألة تتعلق بجينات أو مورّثات الإنسان الأوروبي و الغربي ، بل هي تتعلق بالدور السّلبي الذي لعبه الدين في القرون الوسطى و خصوصا هيمنة "البابوية" في روما و استغلال رجال الدين لإسم المسيح و الكرسي الرسولي في روما للحصول على المزيد من السلطة و النفوذ و وقف أي نوع من العقلانية يصطدم مع مصالح الإكليروس و المجامع الكنسية ، و كان من الطبيعي أن تظهر حركة الإصلاح الدّيني (Religion Reformation) خلال القرن 16 الميلادي ، إنقلب على إثره العالم الأوروبي إلى معسكرين ، كاثوليكي و بروتيستانتي ، و نتج عن صراع الفكرتين "نزع السلطة عن البابوية مقابل هيمنتها الشاملة" سقوط ملايين القتلى و الجرحى ، بل إن ربع سكان ألمانيا كانوا قد قتلوا بفعل هذه الحرب في بداية القرن 17 و بالتالي كان من الطبيعي أن يتوصل العقل الأوروبي إلى صياغة جديدة لدور الدين في الحياة ، صحيح أن التعامل مع الدين كان يتحول في فترة من الفترات إلى تعامل متطرف ضد الدين بسبب التراكم السّيء الذي تركه الدين في تاريخ العقل الأوروبي ، و لا يعني هذا أن الغرب أو أوروبا تحديدا لم تحاول البحث عن نظرية بديلة ، فكانت أن تنازعت القومية الشوفينية "النازية و البلشفية" على السيطرة و الهيمنة على العقل الأوروبي ، و مقابلها أيضا كانت "الشيوعية الماركسية" تحاول تقديم نفسها كبديل للفراغ الذي تركه الدين ، أثبتت القومية فشلها خلال الحرب العالمية الثّانية و اندحار النازية الهتلرية ، ثم تلاها الإتحاد السوفيتي و المعسكر الشرقي في نهايات القرن العشرين ، و استقر الأمر أخيرا ، في التنظير الأوروبي لمفهوم "الدولة" ، على أن تكون الدولة جهازا محايدا للحكم و لا يشعِرَ أي مواطن بأن هناك تمييزا ضده ، و لحُسن حظ الجاليات العربية و المسلمة في أوروبا و الغرب أن السلطة هناك لا تقيس الأمور بمقاييس دينيّة ، و إلا لكانوا طُرِدوا من هناك منذ أحداث 11 سبتمبر 2001 و تفجيرات لندن و مدريد. إذا فالعقل الأوروبي ، حاله كحال كل مجتمع إنساني ، يعكس طوال تاريخه ردود فِعل معينة على مواضيع خارجية معينة ، فلا يمكن لنا أن نجاري النازية فنقول أن لكل عرق أو شعب تركيبة جينية مُعيَّنة تجعله يفكر بطريقة ما "يبدو الأمر كحتمية عقائدية" مما يوصلنا إلى الإقرار بنظرية "نيتشة" التي انتهت بالفكر الألماني إلى الحزب القومي الإشتراكي "النازي" ليقودهم هتلر نحو الموت الشامل. بل إن ردود الفعل البشرية في الرفض الخفيف أو الرفض العنيف و المتطرف يبقى نتيجة لتراكمات معيَّنة و يتوقف أيضا على نوع و درجة التجربة التي تم خوضها. لكن السّيد الصدر بالمقابل و حينما يحدثنا عن تركيبة الفرد "المسلم" في مجتمعه لا يبدو لنا إن كان يذمّ الفهم السيء للدين إلى حدّ أن الكسل كان يقنع بلباس التقوى و الزهد ، بالتالي يبدو لنا المسلم الشرقي كائنا أقرب إلى عالم الأموات و لا يملك رغبة حقيقية في الحياة و هو بانتظار الموت على كلّ حال ، و لا يَهمُّ بعد ذلك ما إذا كان الحكم الذي يعيش في ظله هذا المسلم ، ديمقراطيا أم دكتاتوريا إستبداديا! لأنه فقد الرغبة في الحياة على كُلّ حال. يقول السّيّد الصدر: " وهذه الغيبية العميقة في مزاج الإنسان المسلم حددت من قوة أغراء المادة للإنسان المسلم وقابليتها لأثارته الأمر الذي يتجه بالإنسان في العالم الإسلامي حين يتجرد عن دوافع معنوية للتفاعل مع المادة وإغرائه باستثمارها إلى موقف سلبي تجاهها يتخذ شكل الزهد تارة والقناعة أخرى والكسل ثالثة. وقد روّضته هذه الغيبية على الشعور برقابة غير منظورة قد تعبر في وعي المسلم التقي عن مسؤولية صريحة بين يدي الله تعالى وقد تعبر في ذهن مسلم آخر عن ضمير محدّد وموجّه وهي على أي حال تبتعد بإنسان العالم الإسلامي عن الإحساس بالحرية الشخصية والحرية الأخلاقية بالطريقة التي أحس بها الإنسان الأوروبي". إقتصادنا ص 16. هذه العبارات ذات المغزى ، توضح لنا و إلى أبعد الحدود ، مدى ذوبان "الفرد" كذات إنسانية في نقيضها "الجماعة" ، بالتالي فالشبه بين مجتمعاتنا المسلمة و مجتمعات الحيوان "النحل" ، "الزنابير" ، "النمل" و غيرها ، شبها كبيرا ، هذا إن لم تكن مجتمعاتنا أكثر جمودا ، فالنحل و منذ آلاف السنين ينفذ مهامه بشكل آلي متكرّر و دون أن يطرأ عليها أي تغيير يُذكر ، بالتالي فلا أمل من تغيير أو تطوير هكذا مجتمع ، و لا داعي أيضا أن يرهق المفكّرون أنفسهم في خلق "فلسفات إقتصادية" ، بينما ثنائيا الفرد و المجتمع لا يملكان الرغبة في الحياة ، و هي الرغبة الأساس لأي إقتصاد ، و كما قال الصدر حرفيا "و هي ـ يقصد ضمير و عقل المسلم ـ على أي حال تبتعد بإنسان العالم الإسلامي عن الإحساس بالحرية الشخصية و الحرية الأخلاقية بالطريقة التي أحس بها الإنسان الأوروبي"!! إنها كلمات كبيرة و مؤلمة و تمسُّ الحقيقة ، و بينما كان من المنتظر أن تتحول إصهارات ثقافة رفض الظلم و الطغيان التي زرعها الحسين بن علي و روّاها بدمائه و أبناءه في عمق عالمنا الإسلامي إلى ثورة "عقلية" و أساسا لحرية تجعل من الإنسان إنسانا يحب الحياة لنفسه و لغيره ، إلا أن المؤمنين بالثورة رضخوا للعقلية القائمة و خلقوا لمجتمعاتهم "ثوابت" و "هويات" و "تقاليد" يجب الدفاع عنها كما دافع أبو سفيان عن قِيم العشيرة و القبيلة ، "هُبل" ، "اللات" ، "العُزّى". الإقتصاد المطروح من قبل السيد الصدر كبرنامج متكامل ، لا يمكن تطبيقه إلا في ظل شعب فيلسوف يكون أفراده نسخا أخرى تشبه عبقرية الصدر و هذا غير ممكن طبعا ، و قبل أن نتحدث عن أي إقتصاد لا يملك حرية ليبدي رأيه في أبسط مشاكله الحياتية فضلا عن السياسيّة و الإقتصاديّة ، لذلك كان الأولى لو كانت صيغة البحث الذي صاغه الشهيد الصدر تحت عنوان "حريّتنا" قبل أن تكون "فلسفتنا" أو "إقتصادنا" ، إذ أن التعايش مع الطغاة من قبل هذه الأمة "الإسلامية"! هو أكبر دليل على فشل هذه الأمة ، و بالطبع فإن الصدر لم يستطع أن يكون مثلهم و فضّل الموت حرّا على أن يعيش ذليلا لطاغية سفـّاح. يقول السيد الصدر: " وقد عزز فكرة الجماعة لدى الإنسان المسلم الإطار
العالمي لرسالة الإسلام الذي ينيط بحملة هذه الرسالة مسؤولية وجودها عالمياً وامتدادها مع الزمان والمكان فإن تفاعل إنسان العالم الإسلامي على مر التاريخ مع رسالة عالمية منفتحة على الجماعة البشرية يرسخ في نفسه الشعور بالعالمية والارتباط بالجماعة. وهذه الأخلاقية التي يعيشها إنسان العالم الإسلامي إذا لاحظناها بوصفها حقيقة مائلة في كيان الأمة يمكن الاستفادة منها في المنهجة للاقتصاد داخل العالم الإسلامي ووضعه في إطار يواكب تلك الأخلاقية لكي تصبح قوة دفع وتحريك كما كانت أخلاقية مناهج الاقتصاد الأوروبي الحديث عاملاً كبيراً في إنجاح تلك المناهج لما بينهما من انسجام" إقتصادنا ص 16 – 17. فليعذرني الإسلاميون و حزب الدعوة خصوصا إن أبديت تحفّظاتي على تعبير "أُمّة" ، فهي تبدو لي كلمة ضبابية و غير واضحة ، كما أن الواقع ينفيها ، فامتدادا من إندونيسيا و حتى موريتانيا و مالي ، لا توجد دولة إسلامية تعيش نوعا حقيقيا من الاستقرار و الإنسجام ، و إن وجد شيء من ذلك فهو ظاهري و يخفي تحته كثيرا من القسر و الإكراه ، بمعنى أنه إتحاد يتجاوز حتى الإجبار إلى "الإرهاب" ، بينما العراق الجديد الذي يتم صياغته بعد الإطاحة بالطاغية صدّام ، فهو يحاول خلق أول تجربة من نوعها ، و لكن ها هنا لا بد من إتحاد إجباري "بصيغ قانونية" و ليس الإتحاد الإجباري على طريقة الدول العربية الطائفية. فمنطقتنا تفتقد "الإنسجام القائم على الحرية" ، و لا إنسجام بدون الديمقراطية و حرية الإختيار ، و أي إنسجام يظهر إلى السطح تحت حراب الدكتاتورية و أنظمة البوليس هو إنسجام كاذب و ينفرط عقده بمجرد ضعف الدكتاتور أو موته ، من هنا كان اللازم لتوفير بيئة إقتصادية التهيئة لها عبر توفير الحرية و اختيار "صيغة تعايش" بين الشعوب يكون التفكير الحرّ أساسها ، أما الإنسجام الديني و المذهبي أو القومي فهو إنسجام "صوري" لا "جوهري" ناتج عن إختيار حرّ للأفراد الذين يشكلون المجموع.
#سهيل_أحمد_بهجت (هاشتاغ)
Sohel_Bahjat#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نقد العقل المسلم ح 25
-
نقد العقل المسلم ح 24
-
نقد العقل المسلم ح 23
-
نقد العقل المسلم ح 22
-
نقد العقل المسلم الحلقة الحادية و العشرون
-
نقد العقل المسلم الحلقة العشرون
-
نقد العقل المسلم الحلقة التاسعة عشرة
-
نقد العقل المسلم الحلقة الثامنة عشرة
-
نقد العقل المسلم الحلقة السابعة عشرة
-
نقد العقل المسلم الحلقة السادسة عشرة
-
نقد العقل المسلم الحلقة الخامسة عشرة
-
نقد العقل المسلم الحلقة الرابعة عشرة الإسلام و الإرهاب ..
...
-
نقد العقل المسلم الحلقة الثالثة عشرة
-
نقد العقل المسلم الحلقة الثانية عشرة
-
نقد العقل المسلم الحلقة الحادية عشرة
-
نقد العقل المسلم الحلقة العاشرة
-
نقد العقل المسلم الحلقة التاسعة
-
نقد العقل المسلم الحلقة الثامنة
-
نقد العقل المسلم الحلقة السابعة
-
نقد العقل المسلم الحلقة السادسة
المزيد.....
-
“ماما جابت بيبي”.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على القمر الصنا
...
-
الإعلام الحربي للمقاومة الإسلامية في لبنان يعلن تنفيذ 25 عمل
...
-
“طلع البدر علينا” استقبل الآن تردد قناة طيور الجنة الجديد 20
...
-
إعلام: المرشد الأعلى الإيراني يصدر التعليمات بالاستعداد لمها
...
-
غارة إسرائيلية على مقر جمعية كشافة الرسالة الإسلامية في خربة
...
-
مصر.. رد رسمي على التهديد بإخلاء دير سانت كاترين التاريخي في
...
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف تجمعا لقوات الاحتلال الاس
...
-
القائد العام لحرس الثورة الاسلامية اللواء حسين سلامي: الكيان
...
-
المقاومة الإسلامية في لبنان: مجاهدونا استهدفوا تجمعا لقوات ا
...
-
قائد حرس الثورة الإسلامية اللواء سلامي مخاطبا الصهاينة: أنتم
...
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|