أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عصام عبدالله - البابا شنودة والكاردينال جيرسن















المزيد.....

البابا شنودة والكاردينال جيرسن


عصام عبدالله

الحوار المتمدن-العدد: 2146 - 2007 / 12 / 31 - 10:56
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


يعيد التصريح الأخير للبابا شنودة الثالث إلي الواجهة من جديد السؤال حول طبيعة العلاقة الملتبسة بين الدين وعلم النفس ، بين الأمراض الروحية والنفسية والعقلية ، بين سلطة الكاهن والمحلل والطبيب النفسي . فقد صرح البابا في عظته الأسبوعية الأخيرة ، بأن على من يعاني مر ضا نفسيا اللجوء للكهنة ، وذلك في معرض رده على سؤال لسيدة تعاني من الوسواس القهري قالت أنها طافت بالعديد من الأطباء النفسيين دون جدوى .
ويبدو أن الذي يجمع بين الكاهن والطبيب النفسي ليس هو " المريض " ولا " طبيعة الأمراض نفسها " بالطبع ، أو طريقة العلاج ، وإنما هو شيئ آخر جري التنازع عليه تاريخيا ، ولم يحسم الصراع حتي الآن ، ألا وهو " كرسي الاعتراف " .
ففي العام 1976 أصدر الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو الجزء الأول من كتابه " إرادة المعرفة " أبان فيه كيف أنتقل " كرسي الأعتراف " من الكاهن إلي المحلل والطبيب النفسي ، ليثبت أن نشأة العلوم الانسانية في القرن التاسع عشر لم تكن بفعل التطور الطبيعي للعلم ذاته ، بقدر ما كانت إرادة سياسية قصدية للغرب ، الذي حاول ضبط انفلات المجتمع وتنظيمه في قوانين صارمة ، من خلال التعرف علي أحلامه وطموحاته وتطلعاته وأمراضه واحباطاته وهواجسه أيضا، بعد أن غيب كرسي الاعتراف منذ القرن السابع عشر.
كان " سر الاعتراف " يمارس في أوروبا العصور الوسطي ، علي نطاق واسع في الكنيسة الكاثوليكية ، قبل ظهور البروتستانتية ( أي المحتجين علي ممارسات رجال الدين ) التي ألغت الواسطة بين الإنسان وخالقه بإلغاء سلطة الكاهن الروحية عبر سر الاعتراف ، في العديد من المناطق والدول الأوروبية التي انتشرت فيها . ويبدو أن ممارسة عملية الاعتراف هذه كانت وسيلة ناجعة في عموم أوروبا للتعرف علي أمراض المجتمع وللتنفيس النفسي ، فضلا عن إراحة الضمير المتعب والمثقل بالذنوب . وحين غاب أو غيب هذا الكاهن أصبح البديل الضروري في أوروبا العلمانية هو المحلل والطبيب النفسي ، حيث يجلس إليه المريض ويبوح بكل ما يخالجه من هواجس وأفكار .
أول من جمع بين الكاهن وعالم النفس في العصر الحديث ، وأبرع من خبر الطبيعة السيكولوجية للمتدينين ، هو الكاردينال " جان جيرسين " الذي شغل منصب مدير (كلية اللاهوت) في أوروبا ، وأصبح هو الرقيب على الأخلاق في عصره ، وكان عقله الحصيف والمدقق الأكاديمي أليق العقول – حسب هويزنجا – للتمييز بين التقوى الحقة والهوس الديني .
كان كاهن اعتراف فذ ، وعالمًا سيكولوجيًا بفطرته ، وكان ذا حاسة مرهفة بالأسلوب ، شغوفًا بسلامة العقيدة. ومن أقواله المأثورة :"إن العالم يقترب من نهايته، وهو كعجوز خرف معرض لجميع أنواع الخيالات والأحلام والأوهام التي تقتاد كثيرًا من الناس إلى أن يضلوا عن طريق الصدق".
"ليس ثمة شيء أخطر من التبتل الديني المقترن بالجهل ، فإن المتبتل المسكين يستدعي أمام مخيلته جميع أنواع الخيالات والصور دون أن يؤتى القدرة على التمييز بين الصدق والخداع".
"إن لحياة التأمل أخطارًا عظيمة، فإنها عادت على كثير من الناس بالسوداوية أو الجنون".
هكذا استطاعت حدة ذهن جيرسين السيكولوجية، أن ترسم داخل إظهارات التقوى، خط التقسيم الفاصل بين ما هو مقدس محمود وما لا يمكن قبوله. فلم يحاول رجال الدين قبله مواجهة ذلك، بيد أنه كان من اليسير عليه، بوصفه لاهوتيًا محترفًا أن يفرق بين الذيوع والانحرافات وبين العقائد (الدوجما). فقد صرح بأنه "ما من فضيلة تلقى في أيام الانقسام التعسة هذه إهمالاً أكثر مما يلقاه التعقل والتدبر" وكأنه كان يستبق عصرنا ويتحدث عن عالمنا العربي والإسلامي .
كانت المؤسسة الدينية في العصور الوسطى (تتسامح) إزاء تزيدات دينية كثيرة، شريطة ألا تؤدي إلى ظهور البدع سواء في الأخلاق أو المذاهب الدينية. وكان الانفعال المفرط لا يعد عندها مصدر خطر طالما بدد نفسه في الخيالات المقترنة بالغلو أو النشوات.
على أن هذه العاطفة نفسها سرعان ما أصبحت خطيرة، بمجرد أن أراد أصحابها غير قانعين بحبس أنفسهم في دائرة تدينهم الخاصة تطبيق مبادئهم على الحياة الكنسية والاجتماعية معا .. هنا فقط اضطرت الكنيسة للتبرؤ من هؤلاء المتعصبين المرضى .
لقد كانت الحاجة ماسة لشخص مثل "جيرسن" لإدراك أنه هنا وبالتحديد كانت العقيدة مهددة بخطر خلقي وعقائدي . والواقع أن "جيرسين" سبق "اسبينوزا" و "وليم جيمس" و"فرويد" و"يونج"، و " لاكان " وغيرهم ، إذ كتب رسالة إلي بابا الفاتيكان حمل فيها على الخرافات بوجه عام ، إذ كان على بينة من الأساس السيكولوجي الذي تقوم عليه العقيدة، وفي رأيه أن المعتقدات التزيدية تنجم عن اضطراب عقلي إنها اضطراب في التخيل ناتج عن إصابة في المخ ترجع بدورها إلى أوهام شيطانية ، حسب الفهم السائد آنذاك .
لقد كانت الكنيسة في حذر دائم خشية أن يختلط الصدق الاعتقادي بهذه المجموعة من المعتقدات السهلة، حتى لا يؤدي عظم وفرة الخيالات الشعبية الشائعة إلى المساس بمنزلة الله .
لكنها لم تستطع الصمود ضد هذه الحاجة الماسة إلى منح شكل ملموس لجميع الانفعالات المصاحبة للفكر الديني. إنه كان ميلاً لا يقاوم لتحويل اللا محدود إلى محدود، ولتحطيم كل الأسرار الخفية. وأصبحت أعلى أسرار العقيدة مغطاة بقشرة من التقوى السطحية، حتى الإيمان العميق تحول إلا معتقدات طفيلية، كاعتقادهم (مثلاً) بأن الإنسان لا يمكن أن يصاب بالعمى أو يضربه الفالج يوم الاستماع إلى القداس، أو أن الإنسان لا يكبر سنه أثناء الوقت الذي يقضيه في حضور القداس.
كانت الحياة كلها مشبعة بالدين إلى درجة جعلت الناس في خطر دائم من انعدام القدرة على التمييز بين الأشياء الروحية والأشياء الزمنية. فإن حدث من ناحية أنه أمكن رفع جميع تفاصيل الحياة اليومية "العادية" إلى مستوى "مقدس"، فإن كل ما هو "مقدس" يغوص من ناحية أخرى منحدرًا إلى مستوى الأشياء العادية"، بحكم اختلاطه بالحياة اليومية. وكأن الخط الفاصل بين الأشياء الروحية والزمنية يكاد أن ينعدم ، فكثيرًا ما حدث أن ظهرت صكوك الغفران بين جوائز اليانصيب" .
لكن الأخطر من ذلك أن الناس كانت لديهم قابلية شديدة على الفوران فجأة إلى درجة عالية لا مثيل لها من الانفعال الديني، تلبية لكلمة متحمسة تصدر عن واعظ هنا أو فتوي هناك ، وهو ما حدث في نهاية العصور الوسطى في أوروبا ، ويحدث بالفعل في مطلع الألفية الثالثة في الحديقة الخلفية لأوروبا !



#عصام_عبدالله (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مستقبل الأقليات في الشرق الأوسط
- في ذكري ابن رشد
- المفارقة التاريخية
- الحكمة الجماعية
- الشرطة الدينية
- أرض الأحلام
- باقة ورد إلي الحوار المتمدن
- أصل الدستور الأمريكي
- في اليوم العالمي للفلسفة ..
- أحذر الديموقراطية القادمة !
- هل الحداثة إرادة سياسية ؟
- ضبط الكلمات .. العولمة نموذجا
- كيف أصبحت الإمارات رمزا للتسامح ؟
- الدولة القمعية
- شعار التنوير
- الأسس الفلسفية لليبرالية
- مسائل تخص العقل والإيمان
- أليست فكرة جديرة بالتمثل ؟
- ماذا بقي من الدولة ؟
- آخر .. ما بعد الحداثة


المزيد.....




- أكسيوس: واشنطن تعلق العقوبات على كتيبة -نيتسح يهودا-
- آلام المسيح: كيف حافظ أقباط مصر لقرون على عادات وطقوس أقدس أ ...
- -الجماعة الإسلامية- في لبنان تنعي قياديين في صفوفها قتلا بغا ...
- الجيش الإسرائيلي يعلن اغتيال قيادي كبير في -الجماعة الإسلامي ...
- صابرين الروح جودة.. وفاة الطفلة المعجزة بعد 4 أيام من ولادته ...
- سفير إيران بأنقرة يلتقي مدير عام مركز أبحاث اقتصاد واجتماع ا ...
- بالفصح اليهودي.. المستوطنون يستبيحون الينابيع والمواقع الأثر ...
- صابرين الروح.. وفاة الرضيعة التي خطفت أنظار العالم بإخراجها ...
- مشاهد مستفزة من اقتحام مئات المستوطنين اليهود للمسجد الأقصى ...
- تحقيق: -فرنسا لا تريدنا-.. فرنسيون مسلمون يختارون الرحيل!


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عصام عبدالله - البابا شنودة والكاردينال جيرسن