تاريخ الشعوب ليس تاريخ ملائكة وشياطين كما تحاول ذهنية الثنائيات تصويره أو كتابته، بل هو مثل أي تاريخ آخر مليء بالفجوات والألوان والمواقف والنماذج والمناطق الرمادية التي لا حدود لها. إنه تاريخ التنوع والكائن البشري الشديد التعقيد والمراوغة، فليس هناك شر مطلق أو خير مطلق، هناك نسبية واحتمالية وطيفية وقد يكون الانسان شريرا في موقف ولكنه طيبا في آخر، وينصح علماء النفس الكبار ومنهم بول هوك في كتابه القيم والممتع ( ابق رأسك عاليا) وفي العربي ترجم إلى( التقييم الذاتي) بأن يتجنب المرء تقييم نفسه والآخرين بناء على سلوك أو موقف أو خاصية واحدة لأن الانسان يختزن ملايين الخواص المتناقضة أو المتناحرة وعادة ما تستند هذه التقييمات إلى تحيزات مسبقة( ومن العبث القول أن برميلا واحدا من التفاح فاسد بسبب تفاحة واحدة فاسدة). كما أن مسألة تقييم الأشخاص تختلف من بلد الى بلد ومن شخص إلى شخص نظرا لاختلاف انظمة القيم والمعايير كما ان السمات( اللطف والحقارة والظرف) تتغير نفسها على نحو متواصل ومن غير المنطقي والاخلاقي والموضوعي حبس الناس في خزائن لعشرات السنوات والعودة إلى مواقف وحالات في ظرف معين، في تاريخ معين ونسيان كل هذه الفاصلة من الزمن، فمفاهيم النزاهة والأمانة والشرف تختلف من مكان لآخر ومن شخص لآخر ومن مرحلة لأخرى.
وفي كتابه ( تحدي التغيير) يقول تيري لندن الصادر سنة88( قيم أفعالك ـ لا ذاتك ـ وحاول أن تحسن العمل).
ومن هذا المنطلق المفتوح سنحاول تأمل ظاهرة عراقية متواصلة تجنبتها الثقافة السياسية العراقية المؤدلجة التي اشتهرت بالعموميات والشعارات وثقافة الحيطان وتجنبت جهلا أو عمدا تلك المناطق المعتمة والمظللة التي تكون المشهد النهائي والأساسي والجوهري ، ربما لأن من عادة المشرقي أن يركز على الصورة، الاعلان، الواجهة، وينسى الظلال السرية التي تكون الحدث وهذه يعرفها كتاب الرواية على نحو أفضل.
إن تاريخ تأسيس الدولة العراقية أوائل العشرينات من القرن الماضي هو مثل أي تأسيس آخر، مع خصوصيات تاريخية وسياسية معروفة، لأن الذين يكوّنون الدولة هم أولا وأخيرا بشر ينطبق عليهم ما ينطبق على الكائن البشري من عوز ونقص وضعف وقوة وشهامة وتبدل وطمع ونزق وعدوان ولطف وتحول وجمود وموت وتفسخ وندم وأمل، رغم أن طبيعة المجتمعات التقليدية تسجن الناس في خانات ومواقف على نحو أبدي وهذا اعتداء على حرية الفرد في أن يتطور نحو الأفضل.
إن تناول تطور لصوص الدولة العراقية في مراحل تشكلها وحتى اليوم يمر بأزمنة عراقية مختلفة ومتقاطعة أحيانا مع أن الزمن العراقي جوهرا هو زمن واحد على المستوى الفكري لأنه لم تحدث قطيعة معرفية مع العصور ولا الأزمنة الغابرة ومازلنا حتى اليوم نتعايش ونتجاور ونفكر ونطبق ما يرسمه لنا الموتى.
الدولة العراقية ليست نفسها في كل الحقب فهي انتقلت من دولة العائلة المالكة إلى دولة العسكر والعقداء ثم دولة الحزب، الأسرة، العصابة، وانتهت دولة رجل واحد.
كما أن لصوص السياسة مروا بأربعة أزمنة وكل مرحلة لها رمزها الأسطوري:
1ـ الأولى: لصوص سنوات التأسيس/ رمزها المرحوم نوري سعيد الذي ظهر انه لا يملك مالا ولا طيانا أكثر مما يملك اليوم حراس أي زعيم حزب سياسي في العراق في زمن الاحتلال.
2ـ لصوص سنوات العسكر والثكنات/ طاهر يحيى عدا فندق دنانير الذي لا يسكنه اليوم أي شحاذ وربما شركة واحدة أو معمل فالرجل مات شر ميتة في سجون الفاشية بعد إذلال طويل وصل درجة إجباره على الرقص وكنس السجن الخ... وهو أمر ليس غريبا على جلاوزة الأمن والمخابرات.
3 ـ لصوص سنوات الفاشية/الدكتاتور وحاشيته، والدكتاتور( لا أحب أن اسميه!) تزحلق على مراحل ولم يكن لصا منذ اليوم الأول وحكم العائلة لم يتأسس من اليوم الأول كما هو اليوم في العراق، بل استمر سنوات بعد مشاريع لا تنكر.
4ـ لصوص حقبة ما بعد الفاشية. أو ما يعرف في الفكر المجالسي العراقي في ثلوج القطب الشمالي أو حافة بحر البلطيق أو في مضيف الشيخ الجديد ماسنجر: بحقبة محمد محسن الزبيدي رمز سنوات التغيير!
وهؤلاء نزلوا كما لو بالمظلات على البنوك والمؤسسات وسرقوا كل شيء ، كل شيء، بدون أن يقدموا مكسبا واحدا ولو من الناحية الشكلية كأنهم لصوص وهم في المرحلة المنوية!
كما أن تاريخ لصوص السياسة يمر حتما بتاريخ لصوص المجتمع وفي حالات يتداخل الاثنان حتى يصبح التفريق محالا كما هو اليوم خاصة وان السياسة عندنا يندمج فيها الاجتماعي والسياسي والعائلي والشخصي والديني في ظل الغياب الأسطوري للدساتير والحريات والقوانين والثقافة السياسية والمرجعيات ـ عدا الدينية المتناحرة ـ والمجتمع الصناعي وهو شرط حيوي للتحول والنمو وبلا صحافة حرة ولا مجتمع أهلي منظم طوعا الخ.. والذين ينظّرون ـ من التنظير ـ للديمقراطية في العراق أنما يكتبون قراءاتهم القادمة من بنية معرفية واجتماعية وفكرية أخرى، فهؤلاء لا يعيشون في مجتمعهم إلا على نحو عضوي لأنهم يجهلونه تماما.
إن تاريخ السياسة في العراق هو تاريخ بغداد حصرا لأن المدن الأخرى كانت ديكورا لا أكثر ولا أقل. لذلك فإن الحياة البغدادية بما فيها من عادات وتقاليد ونماذج بشرية وأعراف ومعايير شكلت التيار الرئيس ـ لا أقول الوحيد ـ في الحياة السياسية العراقية بصورتها اليوم.
ومن المفيد دراسة تاريخ هذه المدينة العريقة، وهي مدينة يتجاور فيها الأسطوري والجمالي والواقعي والسحري والخرافي والموت والعنف على نحو مرئي عبر العصور. لكن تاريخ بغداد الذي يعنينا هنا ليس تاريخه النشأة والتكوين بل هو تاريخ بروز ظاهرة لصوص السياسة في العراق.
وهنا يجب عليّ التذكير بكتاب استثنائي عن هذه العاصمة العريقة هو( بغداد في العشرينات) للسيد عباس البغدادي وكتب مقدمته الروائي عبد الرحمن منيف وهو كتاب موسوعي عن هذه المدينة في بدايات القرن الماضي لا يقل قيمة إن لم يكن يتجاوز الكتب التاريخية الكبرى مثل ألف ليلة وليلة ومذكرات الرحالة القدماء. وهذا الكتاب لا غنى عنه للباحث والفنان والمهندس والسياسي والنشال والمؤرخ والقارئ العادي وهو يتعرض لتاريخ ظهور وتطور الحرف والمدارس والمحلات والعوائل واللصوص والزعماء والأندية والشحاذين والشقاوات ـ الفتوة ـ والأزياء والأطعمة والنقود والشوارع والجسور والمقاهي والملاهي والجوامع والاحتلال الانكليزي والعادات والتقاليد وحوادث ذلك الزمان الحافل بكل ما هو جميل وعذب وعنيف وجديد ومدهش ومخيف ومتناقض.
ورغم أن السيد عباس البغدادي تجنب الخوض في السياسة على نحو مباشر ـ الكتاب طبع سنة 93 ـ وهو كان حيا بعمر 85 على ما أتذكر، إلا أنه كتاب يجد فيه السياسي والعالم والباحث والروائي والمقاول والمهندس ضالته المنشودة. إنه كتاب قيامة مدينة في بداية قرن.
ورغم ان الكاتب لم يتطرق مطلقا لظاهرة نشوء لصوص السياسة وتحدث عن ظاهرة اللصوص العاديين الظرفاء، إلا القارئ المتفحص يخرج، كما سيخرج المهندس المعماري، كما سيخرج المصرفي والشاعر كذلك، بفهم واسع لكثير من الظواهر وتاريخ تطور بغداد اليوم.
إن بغداد مدينة محاصرة برموز وقوى علنية وشبحية دينية واسطورية، سياسية وتاريخية، ويشكل النهر أحد أهم معالم هذه المدينة الساحرة وهو الراوي الكبير لحكاياتها المدهشة منذ زمن الشطار والعيارين والصعاليك و شعراء ملوك الليل والساحرات والقصور والجواري والرحلات النهرية الملكية والأميرات الساحرات حتى الانقلابات العسكرية الدموية وتاريخ الأحزاب( الثُورية!)التي قضت على ربيع هذه الساحرة وأدخلتها في ريف شتوي اصفر كريه.
لم تكن الدولة العراقية عند التأسيس دولة لصوص كما صارت من بعد، أو لم تكن اللصوصية من سماتها العلنية الصارخة كما هي اليوم، بل كانت هناك، رغم أن البشر في كل زمان ومكان ليسوا ملائكة وليسوا شياطينا، قطعا لصوصية مستترة لكن هيبة الدولة كانت حاضرة في شخص ملكها المجلوب من الخارج( قدر عراقي يتكرر!) وربما يعود الأمر في ظني إلى تأخر حقبة الفورة النفطية الذهبية التي دمرت بغداد والعراق والمنطقة وندفع ثمنها اليوم وغدا وحتى لقرون قادمة على هذا النحو أو ذاك.
كان هناك لصوص كما في أي زمان ومكان، لكن هؤلاء كانوا مثل اقرانهم ورفاقهم لصوص المدن الأخرى العراقية، نتاج واقع طبقي اجتماعي شرع ينفتح على هوة تناقضات عميقة في مجتمع ساكن جامد تقليدي.
لذلك نجد أن هؤلاء، ومنهم من يدمج حرفة اللصوصية بالشقاوة، أي "الجدعنة" في العامية المصرية، حافظوا على مستوى معين من القيم والمعايير الأخلاقية دون تجاوزها إلا في حالات خاصة ولنوع معين من اللصوص( الصغار!) المنبوذين في مجتمع اللصوص( الكبار!) الذين يحتكمون في سرقاتهم إلى مراجل وأخلاق وعادات وأعراف: لا يجوز سرقة أرملة، أو عجوز، لا يمكن ضرب مريض، لكن يمكن سرقته، ليس شرفا أن تسرق طعام جائع، هذه ليست من الرجولة، يمكن السطو على غنم الشيخ، هذه شجاعة وشرف، لا تقتل مسروقا فقيرا، هذا سلوك لصوص جبناء، لا تسرق جارا، هذا عار، مت دفاعا عن بنت المحلة بدون معرفة أو قرابة دم، هذه شهامة، قاتل حتى الموت من أجل شرف امرأة مستجيرة حتى لو سرقتها أمس( وقد قتل فعلا كثيرون من شقاوات المحلات الشعبية دفاعا عن نساء أو رجال من ابناء المحلة!)، لا تسرق جامعا، هذه يفعلها اللص الخسيس، لا تسرق ضريح ميت، لا تقتل طفلا في كل الأحوال حتى في حالة مواجهة هذا خزي الخ.. الأعراف التي لها قوة القانون والإلزام الصارم.
إن مفهوم ( الشقاوة) هو مفهوم شطاري عياري قادم من زمن الصعاليك والقرامطة الذين يعدون أنفسهم أصحاب رسالة أخلاقية حيث كانوا يهاجمون قوافل الأغنياء ويسرقون المال والطعام ويوزعونه على الفقراء. لكن طبعا مثل أية ظاهرة بشرية تخرج عن مسارها وتنعطف،كما يحدث حتى في الأحزاب السياسية التاريخية العريقة، تحول قرامطة العصر العباسي إلى شقاوات محلات و"قهاوي" ظرفاء يحتفظون ببقايا تقاليد ذلك الزمن القرمطي الجميل والساحر و الشاعري والثوري الحقيقي.
وكان قرامطة بغداد معروفين في الأحياء وفي النوادي والمقاهي وفي الشوارع وسباقات الخيل ولهم تقاليد ولغة اشارية من خلال الأزياء وطريقة ارتداء الثياب والسترة والعرقجين و"الزبون" والصاية، والنعال أو الحذاء والحزام.
إن طريقة لبس كل هذه الأشياء كان لغة خاصة توحي وترسل رسائل إلى الآخرين على نحو صامت وفعال ومؤثر، ودراسة سيميائية اللغة الاشارية عند العفطية ـ كلمة عربية فصحى ـ تحتاج إلى وقت نأمل أن نحصل عليه، وهذه الدراسة كانت لا شك ستدهش علماء اللغة والسيمياء الكبار أمثال كولد ليفي شتراوس ورولان بارت وتودورف وامبرتو ايكو وجماعة مدرسة فرانكفورت وغيرهم.
إن الحزام ، عند صعاليك بغداد، لغة خاصة موحية ودقيقة، فوضع الحزام مثلا على الجانب الأيسر مع ارتفاعه على جهة اليمين يقول ان صاحبه (مسقّط!) ومستعد لإطلاق النار أو استعمال السكين في أية لحظة إذا استفز، ويقابله وضع العرقجين إلى الخلف قليلا والجبهة بارزة، وهو يؤدي نفس معنى وضع السترة على الكتف الايسر أو الأيمن وحملها بإصبع واحد وهذه تعني: إن الأخ بايعها بقشر بصل!
أما الحذاء الذي يصرج ـ يخرج صوتا ـ فهذا كان لأعيان بغداد أو في الأقل الطبقة المتوسطة، ولا يصح حسب العرف، لعربنجي أن يستخدمه هذا اذا كان قادرا على شراء حذاء أو حتى الحلم به( مثل كاتب هذه السطور يوما!) من هذا النوع.
إن العباءة هي الأخرى أنواع، وأقمشة، تلبس حسب التصنيف الطبقي المراتبي، وليس من المعقول ان يرتدي "شقي" أو لص شهم مثل هذه العباءة لأنها تتنافر مع المظهر العام، أي مظهر شخص حامل دمه بيده ويطوف به على المقاهي والملاهي. إن الوقار يتنافر مع اللصوصية.
ربما لهذا السبب ظهر لنا السيد محمد محسن الزبيدي أول رئيس ولص عراقي غير منتخب في مشهد الافتتاح بعد سقوط بغداد بملابس بسيطة ليذكرنا بتقاليد الصعاليك والشطار واللصوص الأوائل !.
وكان ظهور هذا الشخص بعد انهيار الفاشية اعلانا صريحا وظريفا وتاريخيا، لو كنا نفهم، ببداية مرحلة جديدة من تاريخ لصوص السياسة في العراق يخجل منهم اللصوص القدماء الشجعان الظرفاء.
ويشكل ظهوره أيضا إغواء لا يقاوم للمخرج السينمائي الذي سيتعرض لهذه المرحلة "الوردية" وللروائي كذلك في جعله مشهدا استهلاليا رامزا إلى بداية تاريخ جديد من حرامية السياسة.
وهنا أدعو أخي غير الحبيب، بتعبير نيتشة، المخرج قاسم حول في أن نتعاون معا في المقبل من الأيام على تصوير هذا الحدث التاريخي إذا قبل المخرج حول مشاركة روائي متواضع مبتدئ مثلي!
وسيكون رائعا ومفيدا أن نتابع ظاهرة هذا الرئيس الجديد، وصعاليكه، والذين أرسلوه كطليعة لحقبة عيارين جدد واعلان عن زمن عراقي منفر يخجل منه صعاليك بغداد في كل الأزمنة.
وليس غريبا، والمشاهدون لا شك يتذكرون، كيف أن السيد الزبيدي كان يضع سترته على كتفه معلقة بإصبع واحد وتلك كات لغة، سيمياء، على أن المرحلة القادمة من تاريخ العراق ستجعل العراقي يركض خلف البصقة حتى صحراء الربع الخالي وهي تقفز أمامه كالكنغر!
وليس عجيبا للمؤرخ، ولا للروائي، ولا للساحر، ولا للمشعوذ أيضا، أن يظهر في إثره الأستاذ انتفاض قنبر على شاشات التلفاز وهو يهجم على محاوره الكهل ويضربه( الدكتور نظمي!) في إعلان، لو كنا نفهم، أو نعقل، أو نفكر، أو نتدبر، عن نوعية الثقافة السياسية الديمقراطية القادمة.
وفي المشهد الواسع والكبير والافتتاحي يتقدم (مناضل!) مصرفي ليعلن بداية تاريخ وهو في ثياب الكاهن!
***************
لصوص الأزمنة الاربعة2
اللصوصية في السياسة العراقية كما في غيرها ليست مؤسسة لها تنظيمها السري أو العلني وقواعد عملها وقنواتها ومكاتبها وقضاتها وحراسها وجيشها وسماسرتها فحسب، بل هي مناخ يحتضن هذه الظاهرة التي تتقلص كثيرا في دول المؤسسات وأنظمة الرقابة وليس هناك من ينجو منها إلا القلة النادرة الذين هم أكبر من الدولة وأكبر من الصندوق، والمرحوم عبد الكريم قاسم كان يوزع راتبه الشخصي على الفقراء لأنه كان في أعماقه أكبر من الدولة ومن أموالها وكان على يقين أن المال العام حرام ولهذا السبب ظل ينام بين وزارة الدفاع وبين منزل شقيقه حتى اليوم الذي حمل سريره وانتقل إلى وزارة الدفاع نهائيا بعد حادثة المنشورات التي وضعها احد الأطفال تحت وسادته بتدبير من خصومه السياسيين، ولنا أن نتساءل هنا كيف يستطيع طفل أن يدخل غرفة نوم رئيس دولة ويضع تحت وسادته منشورات سياسية معادية؟!
ولعل أغنية سلمية مراد كما أظن (الفندي عيوني الفندي/ الله يخلي صبري صندوق أمين البصرة) كانت تشير إلى بدايات الانبهار الشعبي بظاهرة أمين الصندوق أو بكلام أدق بدايات نشوء النظام الاداري المالي في القرن العشرين وهو نظام يشكل أمين الصندوق واجهته العلنية أمام الرأي العام لذلك حازت شخصية السيد صبري مدير التنظيم المالي أو أمين صندوق البصرة على شعبية كبيرة في الخيال العام حتى وصلت إلى الأغاني اليومية.
في بدايات تأسيس الدولة العراقية كانت ظاهرة التنظيم الحزبي ظاهرة جديدة على الرغم من أن هناك حديثا عن جمعية هنا وعصبة هناك شكلت فيما بعد نواة لأحزاب سياسية .
ولكن هذا لا يعني أن السلطة كانت طليقة تماما في التصرف بالمال العام فهناك، رغم كل المساوئ، مجلس النواب ودوائر الرقابة المالية وبذور صحافة وطنية ملتزمة بقضايا الناس وحقوقهم كما أن شعراء كالرصافي والزهاوي وملا عبود الكرخي وغيرهم شكلوا صداعا يوميا للدولة ورموزها ونقد تجاوزاتها علنا بدون خوف او حرج ولم تكن هذه المواقف تمر دائما بلا سجن أو تهديد أو مصادرة لكن من المؤكد أن الدولة في بدايات تأسيسها أثبتت فعلا سعة صدرها وانها قابلة للتطور السلمي نحو دولة وطنية مؤسساتية دستورية تعددية.
وقد يكون حادث توسل الملك فيصل الاول بوزير المالية اليهودي ساسون الذي شارك في بناء الاقتصاد العراقي في تلك الحقبة وانقذه من الانهيار وإصراره على تقاضي أسعار النفط بالجنيه الإسترليني رغم معارضة بريطانية قوية، دليلا على نوع من الرصانة السياسية، وهذه الحادثة تدل بلا أدنى شك أن الملك لم يكن طليقا في المال العام وانه محكوم بقانون.
على مائدة طعام الملك التي يقابله فيها الوزير النظيف تظاهر الملك خجلا انه يعاني من آلام كثيرة في جسمه بسبب سيارته القديمة( تلميح للوزير على ضرورة تبديلها!) ويبدو أن الوزير الداهية التقط الرسالة المشفرة والمبطنة فقال وهو يمسح بوزه بمائدة ملك العراق:( ليس الأمر بيدي يا سيدي!).وليس الوزير نظيفا أيضا فحسب، بل أن الملك نفسه كان مدركا لمعنى القانون والمال العام واحترام موقف وزيره الشجاع.
لكن السطو واللصوصية مع نمو الدولة أخذت أشكالا متعددة بالابتكار والشطارة والحيلة والالتفاف على القانون مثل كل ظاهرة مدمرة أخرى بلا نقد ولا كشف ولا فضح ولا تعرية ولا مساءلة وتعاون السياسيون الكبار( والحاشية طبعا) مع المؤسسة الإقطاعية العريقة والمنظمة في تكوينات تقترب من شكل الدولة العام من زعيم وجيش ورواتب وخدم وقضاء قبلي وأحكام وسجون.
بعض زعماء القبائل العراقية كان يخصون عبيدهم لكي لا يكون احتكاكهم بالنساء مقلقا( دائما تسبب النساء قلقا كبيرا حتى في زمن الاحتلال!) وأنا أعرف احد هؤلاء المخصيين شخصيا وكيف أنه قتل الشيخ في صراع على كرسي مجلس النواب بتحريض من شيخ آخر( ولدت في نفس العام وهو علامة ميلادي الوحيدة!) لكنه لا يعرف أن الانتقام هذا كان في الأساس انتقاما رمزيا من حالة الخصاء الجنسي، بعد الخصاء الاقتصادي والأخلاقي والوجودي، الذي عوقب به على جريمة متوقعة ومتخيلة ومتوهمة.
للتاريخ أن ظاهرة خصاء العبيد ليست ظاهرة عربية أو اسلامية أو شرقية بل هي في النشأة والتكوين ظاهرة أوروبية نشأت في القصور الملكية الكبرى ثم الكنائس للمنشدين الصغار كي يظل الصوت فتيا ،لكن مثل أي شيء آخر ينسى الاوروبيون تاريخهم ونصبح نحن أول من أسس هذه الظاهرة وغيرها رغم أن الاسلام أول من حرر العبيد قبل لنكولون بقرون طويلة وان التمايزات اللونية قائمة حتى اليوم في المخيلة البيضاء والمركزية الغربية.
حين لا يجد السياسي العراقي تلك الأيام من يحميه من الخصوم السياسيين الموجودين والمحتملين، أي حين لا يكون مسنودا من البلاط، أو الوزارة، أو الجيش، أو سلطة الاحتلال، كان يلجأ في سلوك دفاعي وقائي اجتنابي إلى شقاوات مشهود لهم بالكفاءة والجسارة والوحشية والقتل بدم بارد بلا سؤال.
ورغم أن ظاهرة الاغتيال السياسي في العراق لم تكن معروفة في ايام تأسيس الدولة إلا في حدها الضيق جدا، نظرا لتقاليد الزاد والملح والشاي والطعام والصداقة والخوف الشرعي من القانون، وان هذه الظاهرة انتشرت وصارت سلوكا" ثوريا" في زمن نشوء الاحزاب الايديولوجية، إلا أن بعض هؤلاء الزعماء كانوا قد استخدموا بعض تلك النماذج المتصعلكة الشقية التي تربط بين القتل وبين المرجلة في سلوك انتشائي مرضي. وكان الاغتيال غالبا ما يتم على خلفية فضائح مالية ، سرقات، أو صراعات سياسية على مناصب، وليس مستبعدا ان الشقي( الفتوة، الصعلوك، الشقاوة) كان يقوم بمهمتين في آن واحد على مستويين مختلفين دون أن يدري بتداخلهما مثل صاحبه العبد المخصي: اغتيال الرجل واغتيال صورته النفسية الكريهة في داخله لأنه رمز تدهوره الاجتماعي.
الرصاصة التي قتلت الشيخ قتلت في آن واحد صورته الداخلية المنفرة في داخل العبد المخصي، لكنها لم تلغ لا الخصاء الجسدي ولا الاقتصادي لأن ذلك يتم عبر مشروع للتغير كبير.
والرصاصة التي يطلقها الشقي على جسد السياسي بدفع وتحريض من غريمه تقتل الجسد لكنها لا تقتل المبدأ. لذلك خرج الاثنان: العبد والشقي خاسرين من رهانات السياسة صفر اليدين: الأول صار راعيا أو خادما أبديا أو متسولا والثاني انتهى في مقبرة أو سجن وظلت المؤسسة التي ظلمتهما تنتج كل يوم مخصيين جدد على صورة مغايرة.
أحد هؤلاء الشقاوات، على ما يذكر الاستاذ عباس البغدادي، كان أسمه عباس هيزي، وكان هذا من أظرف تلك النماذج المتصعلكة الشقية لكنه لم يتورط بجريمة قتل سياسية أو يستأجر، رغم أن سلوكه قاده في النهاية إلى مصير حزين.
كان عباس هيزي يعطي انطباعات خطيرة بلغته الاشارية بالزي والحركة( سيمياء العفطية!) حين يمر من أمام مقاهي شارع الرشيد وهو كثيرة على الجانبين تبدأ بالمقهى البرازيلية وتمر بمقهى المربعة صعودا نحو ساحة الميدان مرورا بمقهى البرلمان وحسن عجمي، وكان حين يسمع بوقوع جريمة يضع سترته على كتفه( علامة الخطر!) ويحملها بإصبع ويمر مسرعا من أمام المقاهي الحاشدة وحين كانوا ينادونه من المقاهي( تفضل أبو خضير أجلس!) كان لا يلتفت( وهي رسالة أخرى سيميائية!) لكي يعطي انطباعا بانه ذاهب في مهمة خطرة وكانوا يعرفونه جيدا( نفاخ بزاخ!) ويتظاهرون بأنهم لا يعرفون، لكنه يرد عليهم وهو على سرعته: شكرا أخوان. عندي شغل مهم.
والدكتاتور الهارب يحمل تقاليد هؤلاء وخطابه السياسي يتضمن هذا النوع من التهديد الذي عرف به وهو من تقاليد الشوارع الخلفية الذي يشكل مكونه النفسي والثقافي والسياسي حيث نقل معه إلى السلطة كل تقاليد الشقاوات بل أردأ من ذلك لأن هؤلاء يخجلون من قتل المريض والطفل العجوز.
ولعلنا نذكر تهديده بحرق نصف اسرائيل!
أو على الأمريكان أو يحملوا معهم نعوشهم!
رواد المقاهي يعرفون جيدا ان (أبو خضير!) بلا شغل عنده ولا عمل وأن هذا الاستعراض اليومي فارغ، وحين يصل عباس إلى مكان الجريمة يسأل الجمهور المحتشد: أخوان هم سألوا عني؟!
وهذه رسالة اخرى مبطنة على أنه شريك في هذه الجريمة، أي بالتعبير العراقي كان يلطخ نفسه بدم القتيل على بياض. وحين يسأله أحد الخبثاء: عندك اصبع في الموضوع؟!
يرد عباس بلامبالاة لكن بحذر مفتعل: لا ماكو شي. سويناله جرة أذن!
وبسبب هذا الكذب وقع عدة مرات بين يدي الشرطة وخرج بعد تعذيب وجلد حتى وقوع جريمة قتل سياسية تظاهر بأنه صاحبها على طريقته السابقة وخرج من السجن حطاما وفقد القدرة على النطق وتوارى من الشارع والمقهى والحياة حتى ظهر لنا خلفه على صورة كاتب سياسي في القرن الواحد والعشرين ليعيد إنتاج ذلك الانفصام الاخلاقي والنفسي القديم وتلك الشيزوفرينيا المستمرة بين المطالبة بنقد العقل السياسي على الورق وبين هستيريا من نقد تاريخ اللصوص في الواقع!