أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - عقيل الناصري - القاعدة الاجتماعية لثورة 14 تموز















المزيد.....


القاعدة الاجتماعية لثورة 14 تموز


عقيل الناصري

الحوار المتمدن-العدد: 2044 - 2007 / 9 / 20 - 12:11
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
    


 أن التحليل الجدي " للطبقات مهمة في غاية الصعوبة، إذ أنه يستلزم ،من ناحية، فهم الاتجاهات والمعيقات الموضوعية للبنية أو البنى الاجتماعية التي تشكل الطبقات جزءاً لا يتجزأ منها ويستلزم من ناحية أخرى، الضلوع في معرفة كمية هائلة من التفاصيل وخصوصاً تلك المتعلقة بالأفراد والعائلات الذين لهم تأثير اقتصادي وسياسي فعلي وبالعلاقات المتبادلة فيما بينهم [1]".  وما يزيد من صعوبة التحليل هو الظروف المادية الملموسة لماهية منطلق التحديث، الذي يحدده السيسيولوجي القدير د. فالح عبد الجبار في البلاد العربية مقارنةُ بما كان عليه في أوربا التي أنطلق فيها " التحديث من الوجود الاجتماعي أولاً, من وسائل التعامل مع الطبيعة وبتحديد أدق عبر الانتقال من الحرفة اليدوية القروسطية البليدة إلى المانفكتورة الحديثة, أنه انتقال محفوف بانبعاث ابسمولوجي (معرفي) علمي تطبيقي (الفيزياء, الرياضيات .. الخ) سرعان ما شق طريقه إلى الفلسفة (أي مجال الفكر الاجتماعي) الحاضنة الشاملة لكل العلوم الطبيعية والاجتماعية عهد ذاك.كان بطل التحديث الفعلي: المنتج البرجوازي وكان حليفه الفكري رجل العلوم الطبيعية والفيلسوف اللذين كانا في أحيان كثيرة شخصاً واحداً. انطلق التحديث في بلداننا من ميدان الفكر الاجتماعي ولم يشق طريقه إلى الوجود الاجتماعي وكان بطله التاجر القروسطي, بمحدوديته التاريخية والفكرية والمقيدة بدولة مركزية مالكة لكل شيء ومانعة بالتالي لظهور المنتج البرجوازي المستقل... وفي مجرى التطور أنبثقت شروط نشوء المنتج البرجوازي، لكنها ظلت كسيحة وأنتقلت مهمات المنتج إلى الدولة، التي تبرز اليوم في بلداننا كمالك ومنتج وراعٍ اجتماعي. وهذا الدور محضها حقاً شاملاً جعلها سيدة المجتمع المدني الذي أنجبته، وليس نتاج هذا المجتمع الذي خلقها في أوربا  [2] ", وهذا ما ميز العهد الملكي منذ تأسيسه ومن ثم ظهور نواتات النمط الرأسمالي إلى الوجود منذ نهاية الاربعينيات وتأسيس غرفة التجارة والصناعة وسريان فكرة التعامل الاقتصادي بين المؤسسات رغم ما يكتنف ذلك من كونها "حداثة تقليدية، أو بتعبير هشام الشرابي هي (مجتمع بطريكي حديث)، أما بديلها الديني المطروح فهو تقليد محدّث. وينطوي الأثنان، بقدر ما يتعلق الأمر بالبنيان السياسي، على بذرة نفيهما الخاص وتجاوزهما الذاتي من داخلهما، طالما أن البنية السياسية الواحدية ليست نتاج منظومة فكرية، بل نتاج علاقة محدودة وخاصة جداً بين المجتمع المدني والدولة.  [3] ".
 لقد احتاجت أوربا أكثر من 200 سنة حتى تنتقل إلى ما هي عليه من حيث استتباب التبلور الطبقي ذو البعد الرأسمالي، واحتاجت سنوات أضعاف ما ذكر حتى انتقلت من العبودية إلى الإقطاعية. كما كانت العلاقات الاجتماعية والثقافية والروحية والنظم السياسية في تغيير مستمر وصراع حاد طال كل المكونات الاجتماعية وأعمق بكثير مما نحن عليه في العراق الجمهوري من حيث المدة الزمنية والكلفة الاجتماعية، إذ كان من تكاليف التطور الأوربي، الصراع الطبقي الحاد بالمفهوم العام، كلفها حروباً داخلية وخارجية وانتهاكات فضة  للفرد وحقوقه الطبيعة والمكتسبة وتسلط دكتاتوريات قمعية استبدادية المظهر والجوهر. وفي الوقت نفسه كان هذا التطور نتاج نضال الطبقات والفئات المستَغَلة لأجيال طوال.
كانت الأفكار  الدينية ملائمة للتحول إلى المجتمع الإقطاعي.. في حين كانت الأفكار العلمانية التحررية (التي هي ليس نقيض للفكر الديني) تمثل الا لهام الروحي لمرحلة الانتقال من الاقطاعية إلى الرأسمالية. وعند تحليل التاريخ السياسي الأوربي في اتجاهه العام، سنلاحظ بالذات تلك الأزمة البنيوية التي رافقته والمتمثلة في طبيعة تركيب السلطة السياسية وعلاقاتها بالطبقات الاجتماعية المتناقضة المصالح والرؤى المستقبلية. وفي كيفية حل هذه التناقضات ذات الطابع التناحري.
توضح صيرورة التطور التاريخي البشري أن مجتمع العبيد كان ذو وعي ميثولوجي، في حين كان المجتمع الإقطاعي في علاقته بالعالم دينياً، أما الوعي السائد في المجتمعات الرأسمالية فهو ذو طبيعة صنميه وتؤكد تجليات الوعي هذه على أن العام أكثر من الخاص والتي جميعها تصنع وعياً مزيفاً لا يختلف في بنيته إلا بالمظهر الخارجي حسب. وسيكون أكثر تشوها في المجتمعات المتخلفة ذات الأنماط المتعددة، حيث يقترن الوعي الميثولوجي بالديني وكلاهما بالصنمي، مما يؤدي إلى كبح دور الوعي الاجتماعي باعتباره قوة دافعة للتطور نتيجة هذا التداخل المتعدد الأبعاد سينعكس في الرؤى غير الواقعية وتلك الميتافيزيقية التي ستكبح التطور  طالما أن الاقتصاد وأوالية صيرورته لم تصل بعد [ إلى الكائن بذاته] في مثل هذه المجتمعات. أن الظرف الموضوعي للعراق الملكي أدى، بالإضافة إلى عوامل سيسيولوجية/اقتصادية في بعدها الزمني، إلى تخلف القوى المنتجة وبالتالي عدم تبلور الطبقات الحديثة وتخلف المؤسسات الاجتماعية وهشاشة مكوناتها وقدرتها على إعادة إنتاج ذاتها وتطويرها على وفق سنن التطور.  وبصورة عامة توضح تاريخية النظام السياسي للعراق الحديث لغاية الجمهورية الثانية (شباط 1963-مايس 2003)، أنه لم يكن محكوماً من قوى دينية صرفة ولا علمانية صرفة، بل خليط مشترك من هذه القوى. وعليه لم يُخلق وعياً اجتماعياً نقياً يتوائم مع طبيعة السلطة وفلسفتها.
كما أن واقع العراق بعد 14 تموز كان " شديد التعقيد والتشابك من جهة، ومن جهة ثانية هنالك عناصر قوة وضعف كامنة في تركيبته الاجتماعية وكأنها وحدة النقيضين.. ومن جهة ثالثة أن الظاهرة العراقية الحديثة يكتنفها، كما أكدنا سابقاً، تعزيز لدور العامل الخارجي على العامل الداخلي، وفي أسوء الأحوال يلعب هذا العاملان دورين متساويين من حيث التأثير على جوهر وماهية الظاهرة العراقية [4]". لقد عاضدت ثورة 14 تموز, التي هي بمثابة انقطاع تاريخي ناجم عن عوامل داخلية بحته، مركزية الدولة العراقية التي رنت إلى وحدة السوق  وتبني الانتاج المادي وخاصةً الصناعي منه، اللذان يمثلان قوة العضد المادي لها وقد اقترنة بتاسيس المنطلقات العلمانية. وتاريخيا كانت منطقتنا ومنها العراق، تنزع منذ التاريخ السحيق نحو الدولة المركزية القوية ومؤسساتها العنفية المادية والروحية.
 كانت ثورة تموز بهدمها للبنى شبه الإقطاعية القائمة على الاقتصاد الزراعي/الحرفي، و الكمبرادوري والريعي، فإنها كانت تنحو اقتصاديا نحو تعددية الأنماط الاقتصادية، وخاصةً الحديثة منها، وبناء القاعدة المادية لاقتصاد السوق الموحد، مما فسح المجال موضوعياً لإزالة قوى التلاحم القديمة أو يغير من وظائفها ويستدعي إلى الوجود قوى اجتماعية جديدة.. وهذا ما تحقق في الواقع العراقي بعد ثورة 14 تموز إذ فسح المجال اكثر فاكثر للمنتجين البرجوازيين (منطلق التحديث الجديد) وتوسعت قاعدتهم العددية في المدينة أو الريف ضمن قانون الإصلاح الزراعي, وإن كانت ليس بدرجة كبيرة نظرا للظروف التي تسود العالم الثالث وتبعيته للدول الرأسمالية المتطورة والضعف البنيوي لقوى التحديث فيه، الذي أنعكس في أحد أوجهه في طبيعة السلطة السياسية وصراع القوى الاجتماعية.هذه الظروف، وغيرها، أناطت بالدولة الدور الأراس في عملية التحديث باعتبارها أكبر مالك ومنتج في الوقت نفسه، وهذا في بعض نواحيه مرتبط ب " الأشكال التكنولوجية الحديثة للإنتاج، تطلبت أن تقوم الدولة مقام مالك ومنتج جماعي يضفي عليها سلطاناً أشد من سلطان الدولة المركزية الغابرة في العصور الخوالي أو سلطان الدولة المركزية الخراجية في القرن التاسع عشر...[5] ". 
 تكونت الدولة المركزية على أنقاض المجتمع الزراعي المتشظي، " وقد استندت عند انبثاقها عام 1921على ثلاثة عناصر أساسية اندمجت مكوناتها الأرأسية في كُلِّ موحد لتمثل قاعدة الحكم الجديد المنطلق نحو مركزة ذاته، الرغم التناقضات الكامنة بين مفردات كل عنصر من هذه العناصر من جهة، وبين هذه العناصر ككل من جهة ثانية؛ وللمحدودية التاريخية لأفق تطور بعض هذه العناصر من جهة ثالثة؛ ولاختلاف وأهمية دور كل عنصر في سياق توطيد الحكم وإعادة إنتاج قاعدته الاجتماعية على وفق منطق تطوره الداخلي من جهة رابعة؛ و طموح كل عنصر منها، فِراداً، لتوطيد مكانته على حساب العناصر الأخرى من جهة خامسة .. وهذه العناصر هي:
1-  قوى الاحتلال الأجنبي والكادر الإداري المرافق لها.
2-  القوى الاجتماعية المحلية المتكونة من:
-       المدينية: وتتمثل بالأشراف والعوائل الأرستقراطية القديمة والتجار والملاكين.
-       الريفية: وتتمثل بمجموعة القبائل والعشائر ومنظومة قيمها.
-       الدينية: وخاصةً الإسلامية (السنية) واليهودية.
   3- الإرث المعنوي للملك المعين، ومجموعة الضباط العراقيين في الجيش العثماني[6] ".
 وكانت هذه الطبقات والفئات غير ثابتة نسبياً، وعلى الأخصً في بدايات تأسيس الدولة، واستمرت لفترة طويلة. طالما أن البنية الطبقية لا تتسم بالاستقرار من ناحية المبدأ.
لقد أصاب هذه القاعدة الاجتماعية بعض من التغييرات في سياق صيرورة تطورالانماط الاقتصادية وتوطيد بنى مؤسسات الدولة " ونتيجة لعدد من العوامل، فقد كانت هناك حركات سريعة نسبياً للدخول إلى الطبقات المذكورة والخروج منها، ومن بين هذه العوامل: التشكل السريع لمؤسسات الدولة الملكية، والكساد الاقتصادي العالمي عام 1929، وسياسات تسوية الأراضي بين العامين 1932-1938، وحالات النقص الشديد في التزويد السلعي والتضخم اللولبي خلال الحرب العالمية الثانية والسنوات التي تلتها مباشرةً، والهجرة الجماعية لليهود في في أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات، والتدفق المفاجيء لأموال النفط بعد العام 1952... وكذلك فقد كانت هنالك تحولات مفاجئة جرت داخل هذه الطبقات صعوداً وانحداراً... وفي الوقت نفسه فإن بعض العناصر الطبقية كانت تتقدم من ناحية وتتراجع في أخرى.... [7] ".
 كما جرى تبدل في أولوية دور كل عنصر من هذه العناصر. إذ أندثر دور قوى الاحتلال كمكون رئيسي في تأسيس الدولة وقاعدتها، وازدادت مكانة مؤسسة العرش وخاصةً بعد التعديل الدستوري عام 1943، وتعاضد دور النخبة العسكرية وخاصةً بعد تبلورها منذ النصف الثاني من الثلاثينيات حتى أمست لها الدور الأكبر في التأثير على القرار المركزي للدولة.. كما أن العلاقات شبه الإقطاعية بلورت مكانتها الاجتماعية والسياسية عبر توطيد علاقاتها بالعنف المادي والمعنوي عبر قوانين التسوية وسريان مفعول قانون دعوى العشائر. إذ أن "... إثراء الكثير من شيوخ العشائر أصحاب الأراضي على حساب رجال عشائرهم الذي أدى إلى إضعاف الروابط العشائرية وبالتالي أضعاف مواقعهم الاجتماعية. وبكلمات أخرى فإن هؤلاء المشايخ كانوا في طريقهم إلى البروز كطبقة، وإلى التحلل كمجموعة اجتماعية ذات منزلة تقليدية... [8] ". في الوقت نفسه توطد النمط الكمبرادوري منذ مطلع الخمسينيات وبعد تعديل اتفاقية النفط، وحلول مجموعة اجتماعية  بعد هجرة التجار اليهود. هذا الحراك في الأولويات  والمكونات للقاعدة الاجتماعية لم يجددها في الجوهر.. إذ بقيت في حالة أقرب إلى السكون منها إلى التغيير المنتظر والمتوافق مع المهام الجديد التي تطرحها الحياة. رغم تطورها النسبي مقارنة بما كانت عليه الحالة الاجتماعية في المرحة العثمانية.
 " وفي العقدين الأخيرين من العهد الملكي، في الأربعينات والخمسينيات، رصت هذه العناصر صفوفها مبينة مصالحها المشتركة في المواضيع الهامة، أي في أمور مثل إعفاء طبقتهم من الضرائب والاستبعاد الفعلي عن المناصب المهمة في الدولة، ثم وقبل أي شيء أخر، في الدفاع عن النظام الاجتماعي الذي يجنون الفائدة منه جميعا ...[9] ". في الوقت نفسه لم تكن القاعدة الاجتماعية للحكم الملكي تملك أكثر من مظهر السلطة المدعم بقوى العنف، لأنهم " قد فقدوا منذ مدة كل شروط وجودها الحقيقي، أي ثقة وإخلاص القطاعات الأوسع من العناصر الواعية سياسياً في الجيش وبين المواطنين عموماً. وبكلمات أخرى فإن الانقلاب نجح بهذه السرعة وهذا الحسم لأنه كان يعبر عن توجه عام في المجتمع...[10] ". 
 جاءت ثورة 14 تموز لتحدث انقلاباً جذرياً في طبيعة السلطة وفي جوهر الأنماط الاقتصادية وتراتيبيتها.. وكان من عاقبة ذلك خلق نظام اقتصادي جديد تناظره علاقات جديدة، على كافة الأصعدة تجسدت بالأخص في انبثاق الأنظمة وأنساق اقتصادية حديثة، كحالة تقريرية، وفي ريادة طبيعة الأنماط الملائمة لواقع تطور العراق الحديث آنذاك وتمثلت في:
- رأسمالية الدولة الوطنية؛
- الإنتاج السلعي الرأسمالي؛
- الإنتاج السلعي الصغير والحرفي؛
- النمط التعاوني؛
-  وكذلك النمط الخاص (الكونيالي) في القطاع النفطي ذات الطبيعة الريعية.
لقد وجدت هذه الأنماط, ذاتها التطورية وانطلاقتها الحديثة مع هذا التغيير الجذري. كما أنها, مثلت النقيض التناحري لعلاقات الإنتاج شبه الإقطاعية التي طردها التغيير من مسرح الحياة الاجتصادية على وجه الخصوص, بعد ان استنفذت مقومات إعادة انتاج ذاتها بما يلائم الواقع المادي واصبحت معيقة للتطور بمفهومه العام. ولهذا كانت الثورة بحق قد جاءت بأكثر من مجرد تغيير في الحكم، بل شمل النظام السياسي وفلسفته برمته، كما أثرت بعمق في مصائر الطبقات الاجتماعية، إذ دمرت إلى حدٍ كبير من السلطة الاجتماعية للمؤسسات التقليدية وكبار
 
الإقطاعيين وأصحاب الأراضي الكبار في المدن.. في وقتٍ تعزز فيه نوعياً الفئات الوسطى والعمال وتغيير نمط حياة الفلاحين نتيجة لانتقال ملكية الأراضي  ولإلغاء قانون العشائر وشمولهم بالقانون المدني. في الوقت نفسه لابد من التركيز على " الحقيقة الأساسية جدا ًوهي أن الثورة، بنسفها بنية السلطة القديمة والتركيبة الطبقية القديمة، أخلت بالتوازن الدقيق القائم بين المجتمعات العرقية والطائفية المختلفة في العراق، واساساً بين العرب والأكراد وبين الشيعة والسنة والناجم عن عدم التساوي في التطور الاجتماعي لهذه المجتمعات أساساً [11] ".  
وعليه وبالتناظر مع هذه الأنماط الاقتصادية التي شرعت السلطة الجديدة بتبنيها عملياً ومع النظرة الموضوعية الأعمق في إطارها التاريخي الطبيعي، نقول أن القاعدة الاجتماعية للحكم الجديد ا لتي يمكن أن نطلق عليه [الكتلة التاريخية]، قد بدأت ملامح تشكلها  قبيل الثورة وكانت تجمعها مصالح عليا مشتركة ورؤى فلسفية متقاربة في عمومياتها وإن كانت متعارضة ومتقاطعة في جزئياتها. وعبرت عن ذاتها وتوجهها ومصالحها الاجتماعية  من خلال ائتلافها السياسي ضمن جبهة الاتحاد الوطني التي كانت جبهة عريضة من القوى السياسية ذات التشخيص المشترك  لطبيعة المرحلة ومهامها والتي ضمت أحزاب كل من : الوطني الديمقراطي والشيوعي العراقي والبعث العربي والاستقلال وعدد من السياسيين المستقلين. كما عقد الحزب الديمقراطي الكردستاني علاقة ثنائية مع الحزب الشيوعي. كانت هذه الجبهة تعبيراً عن نضج الظرف الذاتي للثورة.
مثلت هذه الكتلة القاعدة الاجتماعية للحكم للجمهورية الأولى والتي ضمت طبقات وشرائح اجتماعية عديدة كان لبعضها دور عضوي، متباين نسبياً، في تحقيق هذه المهام وفي إعادة انتاج ذاتها المستقبلية والتي جمعتها مبادئ رئيسية عامة مستوحات من ماهية الثورة باعتبارها " ثورة تحرر وطني في جزء من أمة مجزأة، فهي إذن ثورة وطنية موجهة ضد الاستعمار، و ديمقراطية موجهة ضد الإقطاع والاستغلال، وقومية باعتبارها جزء من الثورة العربية العامة ملزمة بالاتجاه في سيرها التاريخي الحتمي نحو تحقيق الوحدة السياسية للأمة العربية [12] ". وكان النظام الجمهوري؛ الاستقلال الوطني (السياسي والاقتصادي)؛ الوحدة الوطنية العراقية ؛ الانتماء إلى الأمة العربية، بمثابة الأهداف الوطنية المشتركة لهذه القوى الاجتماعية. إن سعة هذه الأهداف بمفرداتها المتشعبة والمركبة وما يستنبط منها، لا يمكن أن تنجزها طبقة أو فئة واحدة مهما كانت. لذا كان لابد من قيام جبهة عريضة من القوى السياسية ذات التشخيص المشترك للمهام الاجتصادية والسياسية المطروحة آنذاك.. فكانت جبهة الاتحاد الوطني. أما من الناحية الطبقية فيمكن ترجمة هذه القوى ب:
-       الفئات الوسطى المدنية منها والعسكرية؛
-       البرجوازية الوطنية والصناعية خاصة منها؛
-  البرجوازية الصغيرة المدينية على وجه الخصوص؛
-  العمال والفئات الفقيرة والكادحة في الريف والمدينة؛
 هذه الطبقات والفئات في عمومياتها مثلت القاعدة الواسعة لسلطة 14 تموز.. مع الإقرار بأن الفئات الوسطى قد لعبت الدور الأكثر تأثيراً في صياغة القرار المركزي وإقراره ومن ثم تنفيذه. في الوقت الذي لعبت الطبقات الدنيا (العمال وفقراء المدينة والريف وبعض من شرائح البرجوازية الصغيرة) دور الضاغط من الأسفل نحو تعميق مسيرة الثورة ذاتها. رغم أن ثورة 14 تموز كانت تحاول قدر الإمكان التعبير عن مطاليب الفئات الفقيرة والكادحة وحكمت لهم لكنها لم تحكم بهم[13]. وهو تعبير عن عدم تجذر الثورة بما يكفي لاشباع طموح هذه الفئات وهذا نابع من طبيعة السلطة السياسية للثورة التي لعبت الفئات الوسطى دوراً تقريرا تقريبا، ومن تطور القوى المنتجة آنذاك ومن ماهية الوجود الاجتماعي وهشاشة البنية الطبقية. يخالف هذا الموقف القوى السياسية الرديكالية/اليسارية، التي كانت تعبر عن مصالح هذه الفئات لكنها في الوقت نفسه قد " انطلقت دوما من تفاؤل معرفي وتاريخي، مفترضةً أن الأشياء كفيلة بأن تتغير نحو الأفضل بعد فترة وجيزة، وذلك بفضل النشاط السياسي الذكي والبارع، لكن اتضح أن السياسية ليست هي الأساس في إحداث التغيير في حياة البشر. وبسبب الاعتقاد بأن السياسية، لا الأسس المادية الاجتماعية هي التي تغير الواقع، تمزقت بنية الأمل السياسي المعاصر...[14] ".
كما أن هذه القاعدة الاجتماعية قد تميزت بالتداخل المتصارع بين متطلبات تكريس ذاتها على وفق طبيعة علاقاتها الاقتصادية الجديدة (روابط اقتصادية مع السوق العالمية، رفع مكانة الفردية والملكية الخاصة، روافد فكرية جديدة..الخ)، وبين منظومة القيم الاجتماعية التي تربط قيمة الإنسان بالنسب وعراقته و تمسكه بالدين ومتطلباته. كما أنها أخذت تتحارب بصورة غير متبصرة، في بعض أوجهه على الأقل، ولم يبقى مدى لم يذهب إليه، حتى أمسى هذا النزاع حقيقة مركزية في التاريخ العراقي المعاصر والتي لا تزال ذيوله إلى الوقت الحالي، كما كان مأساوياً وحاسماً إلى حد كبير.. مما ساهم في تدمير الذات الحزبية لهذه القوى وذات الثورة وضياعها وقد نبع هذا الصراع بين العراقويين والقومانيين (بالمفهوم التخصصي وليس الاحتقاري) بشقيهم الناصري والبعثي،من تضارب الرؤى لواقع مستقبل العراق ومن الظروف السائدة آنذاك ليس في داخل العراق حسب بل في داخل المنطقة وخاصةً مع الناصرية التي دفعتها أنويتها إلى تبني فكرة الاندماج الفوري معها و " أملت دفع البعثيين للعراق باتجاه وحدة لم يكن العراق مستعداً لها لا موضوعياً ولا نفسياً [15] ". وتزامن ذلك بالتطابق مع الانقسامات الطبقية والعرقية والدينية. 
 
 
 
 
 
 


[1] - بطاطو، ج. الأول، ص. 21، مصدر سابق.
[2] - د. فالح عبد الجبار، معالم العقلانية والخرافة، صص. 33-34، مصدر سابق.
[3] -  المصدر السابق، ص. 35.
[4] - للمؤلف، الكتلة التاريخية، جريدة القاسم المشترك، العدد40 في 22/2/2004، بغداد.
[5] - د. فالح عبد الجبار، معالم العقلانية والخرافة. ص. 48. مصدر سابق.
[6] - للمؤلف، الجيش والسلطة،، ص. 30، مصدر سابق.
[7] - بطاطو، الجزء الأول، ص. 22، مصدر سابق.
[8] - المصدر السابق، ذات الصفحة.
[9] - المصدر السابق، ص. 30.
[10] - المصدر السابق، ص. 115.
[11] - بطاطو، الجزء الأول، ص. 117، مصدر سابق.
[12] - إبراهيم كبة، هذا هو طريق 14 تموز،ص. 14، مصدر سابق.
[13] - هذا الموقف الأخلاقي عبر عنه قاسم في الكثير من خطبه على مدى زمنية حكمه، إذ أظهر اهتماماً كبيراً جداً بالجماهير الواسعة من العمال والفقراء وقد خاطبهم في احدى خطبه بالقول :" إني واحد منكم ... انتم عائلتي وقبيلتي... عندما انظر في وجوهكم تصيبني قوة ما وانقاد إلى مساعدة الكادحين في كل مكان..." مستل من بطاطو ،ج.1، ص. 150، وفي ساعة الانقلاب يوم 8 شباط أترسل قاسم خطابه ليذاع من الإذاعة، لكن لم يذيعه سكرتيره جاسم العزاوي المشرف على الاذاعة والتلفزيون آنذاك، والذي جاء فيه:" يا ابناء الشعب، أنني عبد الكريم قاسم،، وإننا أقوى وأشد عزماً في سبيل الفقراء...". راجع نص الخطاب في كتابنا، عبد الكريم قاسم في يومه الأخير، ص.340، مصدر سابق.
[14]  -رضا الظاهر، موضوعات نقدية في الماركسية والثقافة،ط.2، ص.11، الرواد المزدهرة، بغداد 2007.
[15] - بطاطو، الجزء الأول ، ص. 177.



#عقيل_الناصري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- - البيئة والمنطلقات الفكرية لعبد الكريم قاسم: (4-4)
- البيئة والمنطلقات الفكرية لعبد الكريم قاسم: (3-4)
- البيئة والمنطلقات الفكرية لعبد الكريم قاسم: (2-4)
- - - البيئة والمنطلق الفكري لعبد الكريم قاسم: (1-4)
- من تاريخية الجمهورية الأولى: ثورة 14 تموز وردود الفعل الإقلي ...
- من تاريخية الجمهورية الأولى: ثورة 14 تموز وردود الفعل الإقلي ...
- من تاريخية الجمهورية الأولى: ثورة 14 تموز وردود الفعل الإقلي ...
- من تاريخية الجمهورية الأولى: - ثورة 14 تموز وردود الفعل الإق ...
- من تاريخية الجمهورية الأولى: واقعة قصر الرحاب ومقتل العائلة ...
- من تاريخية الجمهورية الأولى: واقعة قصر الرحاب ومقتل العائلة ...
- من تاريخية الجمهورية الأولى:واقعة قصر الرحاب ومقتل العائلة ا ...
- مرثية الروح.. في وداع الدكتور عطا الخطيب
- 14 تموز_ العطاء الدائم، مقابلة
- دراسات في التاريخية الفعلية للتغيير الجذري : ثورة 14 تموز وا ...
- من وثائق الجمهورية الأولى النيرة، تموز 1958- شباط 1963 ، 2-
- من رسائل عبد السلام عارف الى عبد الكريم قاسم
- وثيقة تاريخية: وصايا عبد الكريم قاسم أثناء الحرب الفلسطينية ...
- قراءة في: ثورة 14 تموز وإخراجها القسري من الحياة:
- مقابلة صحفية للدكتور عقيل الناصري
- دراسات في التاريخية الفعلية للتغيير الجذري في 14 تموز(5-5) - ...


المزيد.....




- بسبب متلازمة -نادرة-.. تبرئة رجل من تهمة -القيادة تحت تأثير ...
- تعويض لاعبات جمباز أمريكيات ضحايا اعتداء جنسي بقيمة 139 مليو ...
- 11 مرة خلال سنة واحدة.. فرنسا تعتذر عن كثرة استخدامها لـ-الف ...
- لازاريني يتوجه إلى روسيا للاجتماع مع ممثلي مجموعة -بريكس-
- -كجنون البقر-.. مخاوف من انتشار -زومبي الغزلان- إلى البشر
- هل تسبب اللقاحات أمراض المناعة الذاتية؟
- عقار رخيص وشائع الاستخدام قد يحمل سر مكافحة الشيخوخة
- أردوغان: نتنياهو هو هتلر العصر الحديث
- أنطونوف: واشنطن لم تعد تخفي هدفها الحقيقي من وراء فرض القيود ...
- عبد اللهيان: العقوبات ضدنا خطوة متسرعة


المزيد.....

- الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات / صباح كنجي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل ... / الحزب الشيوعي العراقي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو ... / الحزب الشيوعي العراقي
- المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت ... / ثامر عباس
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11 / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3 / كاظم حبيب


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - عقيل الناصري - القاعدة الاجتماعية لثورة 14 تموز