أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فاضل سوداني - تأويل الشعر والفضاء الشعري للفن البصري















المزيد.....


تأويل الشعر والفضاء الشعري للفن البصري


فاضل سوداني

الحوار المتمدن-العدد: 2015 - 2007 / 8 / 22 - 09:15
المحور: الادب والفن
    



من اجل ان تصبح الاستعارة رؤية بصرية حياتية للانسان تؤثر على خطابه الفكري والانساني وحساسيته الحياتية، ولاتقتصر فقط على وظائفها المعروفة والمقتصرة في مجال اللفظ واللغة والخطاب الادبي ، يكون من الضروي وضع السؤال التالي : ماهي الوسائل والانساق التي تساعد على ان تكون الاستعارة وبالذات البصرية منها جزء من خطاب بصري مؤسس على فنون تعبيرية بصرية كالمسرح والفن التشكيلي والصورة السينمائية اوالفوتغرافية ؟.
ان عصرنا هو عصر الصورة ، فان الاستعارة البصرية هي رؤية للعالم الموضوعي والمتخيل و تساعد الانسان على فهم الكثير من جوانب الحياة وغموض لغته وموتها في الكثير من الاحيان . ولهذا فانها تتحكم بالخطاب الانساني كلغة وفكر وتصور وتخيل .
فاذا كان الامر على هذه الحال واذا كانت الاستعارة الادبية هي احدى مجالات البلاغة ، فان علم البيان مرتبط بها ويدرسها كاحدى محسنات علم البديع وبالذات محسنات الاسلوب اللغوي واحدى اهم الوسائل لابراز المعنى الادبي وتوضيحه . ولكن ماذا عن المحيط الذي يسكنه الانسان ككائن حياتي ؟ اذ ان ( الاستعارة من الادوات المهمة جدا في محاولة الفهم الجزئي لما لا يمكن فهمه كلية : احاسيسنا وتجاربنا الجمالية وسلوكاتنا الاخلاقية ووعينا الروحي ، ومجهودات الخيال هاته لا تخلو من بعد عقلي ، فهي تستعمل الاستعارة ، وتستخدم ماهو عقلي ايضا .) (جورج لايكوف ومارك جونسن . الاستعارات التي نحيا بها)
اذن هل يمكن القول بامكانية تأسيس حقل آخر تحت عنوان بصريات الاستعارة او الاستعارة البصرية ؟ . اذ اضافة الى دور الصورة كلغة فرضتها التكنولوجيا المعاصرة والطموح الامتناهي للانسان وشمولية تفكيره ، وتعلمه الشك في كل شئ بعد ان فرضته مفاهيم وفلسفات كل من ماركس وفرويد ونيتشه ، فان الامكانيات التاويلية للاستعارة في وقتنا الحاضر ، لابد ان تكون كبيرة. حاضرة في الحياة لاننا نعيش في غابة من الاستعارات و الرموز .
(فاذا ساعدتنا نظرية الاستعارة بوصفها تحليلا تمهيديا يفضي الى نظرية الرمز ، فان نظرية الرمز في المقابل ، ستتيح لنا توسيع نظرية الدلالة ، باتاحتها لنا ان نضمن فيها ليس المعنى اللفظي المزدوج فقط، بل المعنى
اللالفظي المزدوج ايضا .) كما يؤكد بول ريكور في نظرية التاويل .
وبما ان الاستعارة البصرية مرتبطة بالاسلبة أي الاختزال والتكثيف في الرؤية والفكر التعبيري واللغة وامكانية مسك الجوهر في الضاهرة او الاشياء ، فان هذا يساعدنا على ان نتوصل الى غنى الكثير من المعاني والصوربادوات قليلة .. فكرية ولفضية.ويمكننا ان نطبق هذا المفهوم على الفنون البصرية من
خلال الامثلة في هذه المجالات التي ستصبح كبراهين لتثبيته،كما نطمح في هذه الدراسة .
وهذا يحتم دراسة بعض الابعاد التأويلية للا ستعارة كوسيلة لغنى اللغة التعبيرية في الفنون البصرية المختلفة وبالذات في المسرح و التشكيل والصورة الفوتغرافية من اجل ان نتعرف على امكانيات الاستعارة البصرية ليس فقط كوسيلة تغني النص الادبي وانما البصري ايضا استنادا الى قدرتها التأويلة .

الاستعارة وتأويل الفضاء في المسرح البصري
تدفعنا الإمكانياتها التأويلية للاستعارة البصرية في الفنون الى التاكيد بانها تهتم بالبعد الزماني وليس المكاني فقط ، لان الاستعارة اساسا تأويل زماني .فالعرض المسرحي البصري المعاصر مثلا يمنحنا امكانية استخدام الاستعارة البصرية كوسيلة لتأويل الفضاء المسرحي وذلك من خلال وسائل ولغة غير ادبية وانما من خلال مكونات الخطاب والصور البصرية ، اضافة الى مفردات لغة بصرية خاصة مثل التي ندعوها في المسرح : بلغة الذاكرة البصرية المطلقة لجسد الممثل في الفضاء ( أي توضيح العلاقة بين الاستعارة التاويلة والذاكرة البصرية للجسد التعبيري ) . ولا يمكن اغفال الاستخدامات التعبيرية للون كذاكرة استعارية بصرية ، وكذلك الصوت و الايقاع في الفضاء المسرحي الذي يعمق ويخلق التأويل الايقاعي الاستعاري اضافة الى الانساق الاخرى التي تكون العميلة الابداعية .
ومجموع هذه الوسائل او الانساق تشكل وجودا بصريا للغة ابداعية ، وتكون كذلك استعارة تخلق مفردات لغة تاويلية بصرية لا تعتمد على الكلمة فقط ، وانما تعتمد على لغة بصرية في الفضاء لا تُسمع فقط وانما ترى وهي التي ندعوها بالبعد الرابع الذي هو تأويل ولغة بصرية تعتمد على ميتافيزيقيا الصورة البصرية او الهذيان الابداعي البصري ، ان البعد الرابع في المسرح او الفنون البصرية عموما هو رؤيا تكتب بلغة الصورة والتداعي الحر وتاثير الاستعارة البصرية التي تساهم بشكل كبير في غنى تاويل الخطاب اللغوي الادبي او البصري .فيخلق لنا حالة من الانبهار يحدث نوعا من ضاهرية الروح .
وبالتاكيد فان هذا سيستخدم كمكونات وعناصر بلاغية واستعارية لغنى تاويل اللغة البصرية و سيساعد على الوصول الى بلاغة وغنى الاستعارة في النص او العرض المسرحي البصري اوفي لغة الفن التشكيلي او السينمائي او فن الصورة سواء كانت فوتغرافية او سينمائية . لذلك فان بلاغة الاستعارة البصرية واستخدامها في خلق تنوع الاساليب وغنى المتن الواحد ، وسيخلق هذا وجودا بصريا للغة والخطاب الابداعي ،و سيمنحنا ايضا امكانية تعبيرية جديدة ، مما سيساعد القارئ او المشاهد على ان يكون متفاعلا مع مايقرأ او يشاهد .
وتاكيدا على فكرتنا هذه سنورد امثلة مختلفة للعروض المسرحية و للوحات التشكيلية والصورة الفوتغرافية .
ان المناهج التي اكدها واكتشفها اساتذة المسرح اسلبت وكثفت العمل الفني وجعلت من حركة الجسد استعارة وذاكرة بصرية بدون اللجوء الى الشرح اللفظي .او انها ملئت فضاء العمل الفني بالرموز والدلالات فضاء لخشبة المسرح اضافة الى فضاءآت للوحة التشكيلية او الصورة الفوتغرافية .
فوجود الممثل في الفضاء في علاقة ابداعية ـ ديناميكية مع قرينه الممثل الآخر او المادة او الشئ هو من اجل انتاج معنى محدد وصورة هي في الاساس استعارة بصرية. ويمتلك جسد الممثل وذاكرته طاقة ابداعية سرية يمكن تحقيقها من خلال مساعدة وإستيعاب عملي لمفاهيم ستانسلافسكي ( خاصة في الفعل الفيزيقي ) واكتشاف برتولد برشت المهم في تأثير التغريب . وكذلك انتونين آرتو في افكاره حول (مسرح القسوة ) وغروتوفسكي في مفهوم ( المسرح الفقير والممثل المقدس ) مايرهولد (في البيوميكانيكا و معنى الافعال الفيزيكية في الفضاء) وروبرت ولسن( والصورة او التشكيل ومسرح مابعد الحداثة ) و مفاهيم كل من كانتور وجوزيف شاينا (في الصورة والآفاق التشكيلية في المسرح ) وما نطمح له في تكثيف الفضاء الابداعي من خلال استخدام حركة الجسد وطقوس الوجد الصوفي في مفهومنا حول البعد الرابع .

الاستعارة وذاكرة الأشياء المطلقة .
وفيما يخص الاشياء واستخدامها كإستعارة بصرية في الفنون فان هذا يفرض سؤالا مهما وهو :
هل يمكن ان تساهم البلاغة و الاستعارة في منح الاشياء التي تستخدم في الفضاء الفني تاويلا بصريا يجعلها غير ساكنة كما هي عليه في الواقع ، بل حية وديناميكية ومعبرة ؟ ومنحها بعدا استعاريا جديدا ، من خلال استخدامها كونها استعارة بصرية ؟.
وكمثال تطبيقي على هذا يمكن اعتبار نص مسرحية الكراسي ليوجين يونسكو نصا بصريا ينطبق عليه مفهومنا عن ذاكرة الأشياء المطلقة كإستعارة بصرية في المسرح . فالكراسي في هذه المسرحية والتي يمتلا بها فضاء المسرح ،خلقت هذيانها الوجودي وذاكرتها البصرية عندما منحها المؤلف بعدا استعاريا آخر بعيدا عن وظيفتها الحياتية . مما أعطى للممثل امكانية التعامل معها بشكل ومعنى مختلفين أدى الى ان تحقق وجودها الميتافيزيقي الجديد ( وليس الواقعي )، بحيث بدت وكأنها مجموعة من الناس الذين دعاهم الزوجان ( بطلا المسرحية ). وعندما حضر الضيوف غير المرئيين إلا من قبل الزوجيين للاستماع الى وصيتهما التي يعلنان فيها كيفية انقاذ العالم ، تحولت الكراسي الى ضيوف و جمهور للمستمعيين ، ولاجل خلق الكوميديا السوداء فان المؤلف جعل الزوج صاحب الوصية اخراسا واطرشا .
وبهذا فان الكراسي ( الضيوف ) خلقت وجودها المكثف او حضورها الصرف على خشبة المسرح ، وكذلك امتلكت وجودا آخر يوحي بالوجود البشري عندما تعامل معها الممثل بدلالات اخرى . وفي ذات الوقت أوحت بغياب الآخر ( ألإنسان )غيابا ملحاً واحتلت دوره التعبيري تقريبا واصبحت هي البشرعندما بدت و كانها استعارة بصرية عن الخواء الانساني والعدم ،وهذا مايؤكد عليه يونسكو ذاته. ( المهم هو ان الكراسي الفارغة ترمز الى غياب الناس والامبراطور والمادة وتهافت الحقيقة والفراغ المطلق ) .
وللتدليل على استخدام الرؤيا الفنية التي تحيل الى دلالات ورموز واستعارات جديدة نجده في( الارستقراطيون ) أحد عروض المخرج الروسي أوخلوبكوف التي عبر فيهاعن عاصفة ثلجية :( أن المسرح يمتلك أدوات صوتية عديدة للإيحاء بالعاصفة ، ولكن في عرض للمخرج أوخلوبكوف هذا كان مجاز العاصفة قد عبر عنه بغزو من قبل مهرجي كرنفال ، فتيان وفتيات "ممثلون في مآزر زرقاء "يتراشقون بقصاصات ورق صغيرة وهم يقفزون محدثين ضجيجاً . هذا الكرنفال الذي يبدو كالزوبعة ـ كان إشارة واستعارة لعاصفة عنيفة) اذن الكرنفال البشري بالوانه اصبح استعارة مجازية عن العاصفة وحل محلها.

مايرهولد والاستعارة البصرية .
يستطيع الممثل في المسرح أن ينتج معنى ودلالات واستعارات جديدة إذا تعامل مع المكان ومكوناته تعاملا استعاريا طبعا . وحسب الذاكرة الجسدية للممثل والرؤيا البصرية للمخرج فان خشبة المسرح الفارغة من أي معنى يمكن أن تصبح مكانا وفضاءا مملوءا بالرموز و تتحول إلى ساحة معركة أو بحر ، سجن .. الخ
إذن الحديث عن عمل الممثل يدفعنا إلى التأكيد على أهمية الاستعارة البصرية في الزمان والمكان الابداعي وكذلك عن رمزية الإشارة وما خلف الإيماءة التي تشكل جوهر عمله أيضا في إنتاج المعنى . لهذا فان اكتشافات المخرج مايرهولد وأفكاره حول مفهوم التركيبية ونظريته التي أطلق عليها البيوميكانيكا ، تصب في مفاهيم السميولوجيا المعاصرة وألاستعارة البصرية . حيث عمل ميرهولد على اكتشاف معاني ودلالات بعيدة عن معانيها في الواقع من خلال علاقة الممثل بالمكان والزمان والاشياء وذلك من خلال تاكيد الغني التاويلي للاستعارة البصرية .
فالوعي الفني المستقبلي لمايرهولد آنذاك حتم عليه استخدام التركيبية بدون أدوات ديكورية ، وحل الممثل محلها. فتعامله معها هو الذي يحدد المكان ويوضح المهمات . فالممثل هو الذي يخلق بعدا استعاريا جديدا للأدوات والأشياء من خلا ل كون الحركة دلالة إستعارية في الفضاء .
وكان مايرهولد يتميز بقدرته العالية في كيفية استخدام طاقات الممثل سميولوجيا . ففي مسرحية
( موت تاريلكين نشاهد الممثل يغدو جيئة وذهابا كالسجين ، لكنه ليس في سجن ، وانما في بناء خشبي أسطواني لا يشبه السجن في أي حال ، لكن من خلال حركة الممثل وتعامله مع المكان ندرك ان وظيفة هذا البناء هو" زنزانة " ).
وبالتأكيد فان الاستخدام الصائب للمفهوم السميولوجي ـ الدلالي وفهم المسرح على انه فضاء لتعدد المعنى من خلال الاستعارات البصرية . كل هذا سيمنح آفاقا جديدة لتشكيل اللغة التعبيرية للممثل والمخرج والمؤلف ، إضافة إلى تأشير الإمكانيات في اكتشاف فضاء آت أخرى لتشكيل مفاهيم نقدية جديدة .

الاستعارة التشــكيلية البصرية
يمنحنا الفن التشكيلي الكثير من المفردات والوسائل التي تجعل من الاستعارة وسيلة غنية تدفعنا لدراسة مكونات اللوحة وذاكرة اللون وأسرار اللغة البصرية التعبيرية . فمثلا عمد فان كوخ استخدام الاشياء بمفهوم استعاري قلما نصادفه فهو حاول ان يحول الكراسي او الاحذية التي رسمها كاستعارات بصرية للتدليل على وجود الكائن الانساني ، وكذلك محتويات المقاهي الليلية التي يبدو الانسان متظرا في احدى زواياها كمن يكون تائها او فاقدا لذاكرته لكن مفروض عليه ان ينتظر المجهول وقد يكون انتظاره ابديا.
في لوحته مقهى ليلي وهي احدى المقاهي التي تعمل حتى الصباح في فرنسا و يلجأ لها الغرباء التائهون ينتظرون بلا هدف بسكونية غريبة فيشعرون بالوحشة في مدينة غريبة لدرجة يترى لنا بان الإنسان يتحطم ويتمزق في هذا المكان . وبمعنى اخر ان الانسان الذي بلا هدف هو تائه حاتما فينتظر العدم في الزمان الذي لايرحم والمكان الغريب .
اما في لوحة مقهى في الليل فان اللون الاصفر يفرض وجوده وكثافته ، فهو يشع لدرجة الربط بينه وبين النور لانه يقوم بتأكيد الوجود او مكونات الحياة والتركيز على الاشياء وإظهارها ليوجدها لذاتها ، وبهذا فان النور (الذي يبدو هنا عدوا للزمن ) لا ينفصل لا عن الانسان ولا الحياة ، انه يدخل معهما في فرضية الوجود على عكس الزمن الذي يفرض تآكل الموجودات والاشياء تدريجيا . من هذا المنطلق قام كوخ بتكثيف اللون الأصفر طامحا ان يأخذ سمات نور ملتهب كما هي المعرفة . وبالرغم من اكتظاظ فضاء اللوحة ، إلا اننا نشعر بالخواء الروحي ليس في داخل الإنسان فحسب بل أيضا ذلك الخواء الذي يخلقه المكان ومكوناته ، فالأبواب والنوافذ الخضراء مشرعة في ظلام أزرق مخضر شاحب . وما يؤكد هذا الخواء هو ان كراسي المقهى ومناضدها تشعرك بوحدتها وعزلتها وتشيئها كما في مقدمة اللوحة ، وكأن جلاسها قد غادروها تواً للذهاب الى الفردوس او الى جحيم آخر .
اما البشر في اللوحة وبالرغم من حركتهم التي توحي بأنهم أحياء و يتكلمون فيما بينهم ، الا انهم يبدون وكأن هنالك سرا او فاجعة ستشيع في المكان لذا فمن السهولة ان نشعر بسكونهم ووحدتهم وعزلتهم ، مما يوحي وكأن هنالك قوة ما ستسلب وجودهم ، ويؤكد هذا تلك العربة المنبثقة من ظلام البرزخ الكثيف في العمق ، وكأنها عربة الموت التي لابد ان يطغي ضجيج حوافر خيلها على كل الأصوات الحية.
و بما أن الألوان لدى كوخ اصبح لها معادلها الاستعاري ورموزها التأويلية ـ الميتافيزيقية ، لذا فان هذا السقف الازرق الموحش الذي يهيمن على عالم اللوحة يبدو كأنه سماء الأبدية ، فليس النأي السديمي للنجوم هو الذي يتلألأ فيها بل تبدو وكأنها ألأمل وقد تحول الى ثريات بيضاء معلقة في سماء قد تبدو قريبة من الإنسان إلا انها نائية جدا عنه .و في عمق اللوحة المضئ بالازرق تتجه الفتاة ذات الرداء الاحمر نحو هوة الموت الجحيمي الذي يتكثف في ظلام دامس يعبر عن المجهول في ذاكرة الانسان. اذن اللوحة هي استعارة بصرية وكانها (ترتيلة حب حزينة لسكان المدينة والعالم ) .
في لوحة نجوم الليل فوق رونه سينعكس ضوء النجوم التي تشبه الثريات على صفحة البحيرة الهادئة بشكل مشع وكأنها توهجات نار متوحشة تتلألأ خارجة من الماء ويلغي الفنان كل ملامح موجودات اللوحة ماعدا عجوزان(رجل وامرأة ) يسيران في مقدمة اللوحة باتجاه المشاهد وكأنهما تائهان او مغموران سعادة بعد ان تذكرا ماضيهما عندما وقفا على جرف البحيرة قبل لحظات .انها استعارة عن ثريات الماضي كمرايا تتلألأ في خريف هذين العجوزين .

ذاكرة الاشياء .. إستعارة بصرية متوهجة.

كذلك فان الاشياء كالاثاث ومزهريات عباد الشمس الوحشي والاحذية والكراسي و التي تبدو اشياء جامدة ، كانت ذات علاقة حميمية واستعارة بصرية في فن فان كوخ . ومن خلال هذا يمنحها استقلاليتها فتمتلك حركتها وإيقاعها ومعناها الجديد .
ففي لوحة كرسي بول غوغان التي رسمها كوخ إكراما له وابتهاجا بحياتهما المشتركة التي عاشاهالفترة قصيرة في البيت الاصفر في مدينة آرلس جنوب فرنسا ، يمكن ان نلاحظ في خطوطه وحركية الوانه ، سمة من الاحتفالية والاستقرار الذي استشعره كوخ عند انتقال غوغان للعيش معه ، وقد عبر الفنان عنه من خلال هارمونيا اللوحة وطغيان اللون الاخضر الذي يوحي بالامل . وغبطة الموضوع هذا تشعرك بحنين الفنان للصداقة التي تشع بنورها من شمعة معلقة في خلفية الفضاء الأخضر ، ومضاعفة هذا التاكيد بشمعة اخرى على الكرسي وبجانبها كتابين ، إنها المعرفة غير المحدودة والوعي المكثف اللذان يخلصان العقل من محدود يته وسكونيته وبؤسه ويخلصان الروح كذلك من سجن جسدها . ويكون هذا الامر اكثر تجليا عندما يوضعان على قاعدة كرسي خضراء توحي بأحلام تمناها فان كوخ كثيرا و أرادها ان تكون بمثابة الحصانة الداخلية ضد ضيقه وتذمره وقرفه من الحياة وخشونة الواقع انها استعارة بصرية عن حميمة الصداقة التي تشع بالمعرفة ، انها نورالعقل والاكتشاف الذي يحمي الانسان.
ويمكن كذلك اكتشاف التعبير عن تشئ الإنسان من خلال التعبير عن حاجاته وتحولاتها كأستعارة بصرية ، فالفنان يعبر عن الكائن البشري من خلال حذاءه ومزهرياته او حاجياته اليومية التي يستخدمها لكنه يمنحها بعدها الميتافيزيكي الذي يحررها من واقعيتها . ونظرة مقارنة للوحة كرسي فان كوخ الشهيرة ولوحة كرسي غوغان نكتشف الفروق السايكولوجية والاستعارية وايقاع التعامل مع الحياة والغموض والتعقيد من جانب ، والبساطة والتفائل من جانب آخر .
اما لوحة (الحذاء ) الشهيرة ( والتي رسمها فان كوخ مرات و باوضاع مختلفة ) فان الفنان وضع فيها كل إمكانياته التقنية وتجاربه في اللون وتماسك الموضوع ، فهو حذاء متفرد في خصوصيته وبعده الاستعاري ، ففي الوقت الذي يعتبر استعارة عن بؤس الانسان ، إلا انه مرسوم بإتقان وجمالية عالية لدرجة يمكن مقارنتها مع أية لوحة أخرى عن حياة جامدة رسمها فنان من عصر النهضة يتقن صنعته . لكن هذه اللوحةكانت تثير غضب طبقة المجتمع المسيطر لانهم يكرهون اتلك الاشياء التي تؤشر عن البؤس المصيري ، فهم لم يتعودوا أن يعلقوا في صالوناتهم لوحة لحذاء بائس ( كطبيعة جامدة ) وكاستعارة عن بؤسهم الذاتي.
إضافة الى لوحة الكرسي ولوحة ( غرفة النوم ) الشهيرة وكذلك لوحاته الأخرى ، اراد فان كوخ من خلالها التعبير استعاريا عن وجود الإنسان وتحولات أشياءه التي نعتبرها دائما اشياء تعكس الحالة الاجتماعية والنفسية للإنسان و في ذات الوقت تمتلك اسطوريتها ومثيولوجيتها المطلقة ، وهذا مايفرض العلاقة الهذيانية والهمس الوجودي بين إمكانيات التاويل للشئ كإستعارة والفنان الذي يجعلها جزءا من وسائله الابداعية ليعبر من خلالها عن سمو وسقوط الانسان في مرحلة معينة . لكن يظل كرسي فان كوخ وسريره الخشبي يقلقاننا كوجود استعاري وكأشياء لها اسطوريتها المطقة في الفن البصري .



#فاضل_سوداني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- دلالات الصورة في المسرح البصري ( رؤيا تطبيقية )
- النص البصري وتداعيات الذاكرة المطلقة في مسرح ما بعد الحداثة
- قدسية الشبق في طقوس الخصب الرافديني
- في الشبق الالهي المقدس و لازورد اللغة
- الآلهة عشتار و طقوس الحزن الجماعي لقيامة تموز العراقي
- تصورات العراقيين القدماء عن متاهات العالم الأسفل
- بصريات الممثل ..الى فاضل خليل
- برشت و التراث الشعبي في المسرح العراقي والعربي
- مات الفريد فرج لكن صدى حواره مازال يتردد
- الرحلة الضوئية .. طقس مسرحي عن العنف وأمل الانسان
- المسرح العراقي و مفهوم المسرح الملحمي
- هيمنة المراكز الثقافية وإلغاء ثقافة الآخر
- هل مازال العراق يلتهم شعراءه
- الفردوس المفقود في لوحات الفنان العراقي عباس الكاظم
- تحولات الاشياء في فن المنفى
- خمس ساعات فقط في ظهيرة الزمن
- لورنا سليم زهرة الأسرار تتألق في الشمس العراقية
- د. سوداني :بيان حول ذاكرة الجسد في المسرح البصري
- ظهيرة الخروج
- سرية الإبداع بين المخرج والمؤلف في المسرح العربي


المزيد.....




- فنانة مصرية شهيرة: سعاد حسني لم تنتحر (فيديو)
- وفاة المخرج ميشائيل فيرهوفن وساسة ألمانيا يشيدون بأعماله الف ...
- -الماتريكس 5-.. حكاية المصفوفة التي قلبت موازين سينما الخيال ...
- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فاضل سوداني - تأويل الشعر والفضاء الشعري للفن البصري